العلم الاجتماعيّ وعلاقته بالفلسفة: فكرة بيتر وينتش
العلم الاجتماعيّ وعلاقته بالفلسفة: فكرة بيتر وينتش
حسن احجيج
كتب بيتر وينتش سنة 1958 كتيباً صغيراً، استفزازياً وجسوراً، يحمل عنوان فكرة علم اجتماعي وعلاقته بالفلسفة،[1] أثار فيه لأول مرة كيف يمكن للعلوم الاجتماعية أن تخلق تفاعلا مثمراً مع أعمال فتغنشتاين المتأخرة.[2]
إلا أن وينتش كان يهدف إلى الذهاب أبعد مما ذهب إليه فتغنشتاين: فقد كان يعتقد أنه يمكن للعلوم الاجتماعية أن تستخرج من رؤى فتغنشتاين فهماً جديداً وصحيحاً للعالم الاجتماعي. وقد شدد بعض المفكرين المعاصرين على ضرورة قراءة هذا العمل الكلاسيكي من طرف ممتهني العلوم الاجتماعية واستخلاص دروس مفيدة منه.[3]
يشير نايجل بليزنتس إلى أن وينتش قدم في كتابه فكرة علم اجتماعي أطروحتين، سلبية وإيجابية، عن طبيعة الحياة الاجتماعية ودراستها. تتمثل الأطروحة السلبية في مهاجمة التصورات الوضعية في العلوم الاجتماعية التي تهدف إلى تفسير السلوكات الاجتماعية واكتشاف قوانينها على منوال العلوم الطبيعية. وتنطلق هذه الأطروحة من التساؤل حول ما إذا كانت الأفعال البشرية خاضعة لقوانين، وبالتالي حول ما إذا كان بمقدور العلم الاجتماعي تفسير سلوكات الكائنات البشرية. أما الأطروحة الإيجابية، فإنها تطرح طبيعة الواقع الاجتماعي وعلاقة الفلسفة بالعلم الاجتماعي تحت ضوء جديد، وتقدم تصوراً جديداً يرتكز على مناقشة فتغنشتاين لمفهوم “اتباع القاعدة” و”المعنى”.
وبالفعل، يباشر وينتش تحليلاً مفاهيميّاً لـ”حالة أشياء عندما تُسنَدُ لها صفة الاجتماعي”،[4] تحليلا ينطلق من التمييز الذي أجراه فتغنشتاين بين العلم والفلسفة. فإذا كان العلم يرتكز على التحليل التجريبي الذي يكشف لنا عمّا نجهل، فإن الفلسفة ترتكز على التحليل المفاهيمي الذي يذكرنا بما نعلم، أي على توضيح أفكارنا من خلال نقد اللغة العادية التي نستعملها؛ وبعبارة أخرى، إن هدف الفلسفة هو تنظيم الأفكار التي نحملها عما يمكن أن يقال حول العالم، ولذلك فإن نشاطها يتمثل أساساً في إعادة ترتيب الأشياء “المعروفة” سلفاً. وبموازاة ذلك، يرى وينتش أن العالِم يعتبر الواقع حالةَ عالَمٍ يجب تفسير طبيعتها وتحديد أسبابها، بينما الواقع كما تقدمه اللغة العادية يشمل العلاقة التي يقيمها الفرد مع الواقع. وبالتالي، فإن العلوم الاجتماعية تدرس ظاهرةً يحمل الأفراد عنها فكرةً معينةً تؤثر في تكوّن الظاهرة بالشكل الذي توجد عليه.[5]
يرى وينتش أن الفلسفة والعلم الاجتماعي يشكلان شيئاً واحداً. فهو يرفض الفكرة التي تجعل من الفلسفة أداة شحذ أولية تهتم بالمفاهيم في تعارض مع الواقع: ويرفضها لسبب وجيه وهو أن مفاهيمنا غير مفصولة عن الواقع، بل إن المفاهيم تصنع الواقع. فضلاً عن ذلك، إن المفاهيم ذات طبيعة اجتماعية. وفيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية، يعتقد وينتش أن المجتمعات تصنعها أفكار أعضائه: فالمؤسسات والمفاهيم مترابطة فيما بينها ارتباطاً جوهرياً. ومعنى ذلك أن المفاهيم لا تسبق السياقات الاجتماعية في الوجود، لكن وجود هذه الأخيرة يتوقف عليها بالضرورة. وتعتبر فكرة الطبيعة الاجتماعية للمفاهيم الفكرة الفتغنشتاينة المركزية التي يقوم عليها كتاب وينتش. ولذلك يقدر وينتش أن الفلسفة والسوسيولوجيا متشابهتان إن لم تكونا متطابقتين: فهما معاً تعالجان موضوعاً تنصهر فيه المفاهيم والأشياء بشكل معقد، وتدرسان كيف تتشابك المفاهيم مع الواقع. وهما معاً معنيان بفهم المفاهيم وتحليلها.
- التحليل المفاهيمي والتحليل التجريبي
يفتتح بيتر وينش كتابه فكرة علم اجتماعي وعلاقته بالفلسفة بإعلان جسور عن استراتيجيته الفكرية. يعلن وينتش عن نيته إصلاح فكرتنا عن الفلسفة والعلوم الاجتماعية. إذ يرفض محاولات تصوير الفلسفة كعلم رئيسي كوني، ويصرح بأنه لن يقف مكتوف الأيدي أمام تنزيل الفلسفة إلى وضع “عامل بسيط” مكلف فقط بجمع الفضلات المفاهيمية التي تخترق تخصصات أكثر نفوذاً. إن أنصار الاتجاه الطبيعاني والوضعي يريدون استدراج العلوم الاجتماعية إلى الحقل المنهجي للعلوم الطبيعية. لكن وينتش يتوق إلى استلزام العلوم الاجتماعية بالفلسفة.
لكي يوضح وينتش تصوره للفلسفة باعتبارها “عاملاً بسيطاً”، يستشهد بـ”خطاب إلى القارئ”، الذي مهّد به جون لوك لكتابه مقال في الفهم البشري، الذي يقول فيه إنه لطموح كبير أن يأمل المرء، في عصر “الأساتذة” العظماء أمثال نيوتن وهيجينوس، أن يشتغل “عاملا بسيطاً مكلفاً بتنظيف الأرض قليلاً، وإزالة بعض الأزبال الملقاة في طريق المعرفة”.[6] إن وضع الفلسفة باعتبارها “عاملاً بسيطاً” يجعلها تفتقد إلى مجال بحث خاص بها. ويبقى دورها هو تبديد “الالتباسات اللغوية” المؤذية[7] التي تنشأ أثناء عملية الإنتاج الحقيقي للمعرفة في مجال التخصصات التجريبية.
يقدّر وينتش أهمية النظر إلى الفلسفة باعتبارها “عاملاً بسيطاً” لأنها تمثل ترياقاً ضد فكرة الفيلسوف بوصفه “عالِماً رئيساً”. إن رؤية “العالِم الرئيس”، التي يمثلها بشكل نموذجي كتاب هيغل فلسفة الطبيعة، تقتضي وضع تخمينات مسبقة بشأن الظواهر الطبيعية في نفس المستوى الإبيستيمولوجي مع النتائج صعبة المنال الخاصة بالبحث التجريبي العلمي. ومع ذلك، بينما ينكر وينتش على الفلسفة حقَّ متابعة الآراء المتعلقة بتفاصيل الواقع التجريبي، يدعي بشكل إيجابي أن “الفيلسوف معنيّ بطبيعة الواقع بما هو كذلك وبشكل عام”.[8] إن دراسة “الواقع بما هو كذلك” لا تحيل إلى نظرية موحدة وكبرى للطبيعة، بل بالأحرى إلى كيفية ارتباط البشر بواقعهم، أو على وجه الدقة، إلى الأساس المفاهيمي لهذه العلاقة.
يسند وينتش للفلسفة مهمة أن تقول لنا كيف يتوصل الناس إلى إسناد معنى للواقع الذي يعيشون فيه وكيف يدركون هذا الواقع. ولما كانت الفلسفة عاجزة عن قول شيء حول أي ظاهرة خاصة تحدث في هذا الواقع، فليس لها الكثير لتقوله عن الشروط العامة التي يجب تطبيقها لكي يبقى هذا الواقع متاحاً للناس. ففي حالة الواقع التجريبي كما تدرسه العلوم الطبيعية، لا يمكن للفلسفة أن “تشرّع ضد انهيارٍ في النظام المنتظم للطبيعة”.[9] إلا أنه “يجب عليها أن تشرّع ضد وصف هذه الوضعية” بواسطة المكونات العادية للواقع التجريبي مثل الأشياء الثابتة وخصائصها. وباختصار، إذا كانت الفلسفة لا تستطيع أن تضمن أن لا تكون علاقةٌ خاصةٌ بالواقع موضوعَ أيِّ تطبيق، فبمقدورها أن تقول لنا شيئاً عن الطبيعة العامة للواقع.
شدد وينتش على أنه يفكر ويكتب باعتباره فيلسوفاً حول موضوع فلسفي ولا يلتزم “بما يُفهَمُ عادةً من مصطلح منهجية” ولا يناقش كيف يجب على العلوم الاجتماعية أن تجري أبحاثها.[10] فكتابُه المذكور أعلاه مساهمةٌ في التفكير الفلسفي في طبيعة العلم الاجتماعي، أجرى فيه وينتش مواجهةً بين فكرتين فلسفيتين تتعلقان بالعلم الاجتماعي، وهاجم فيه ما أصبح يمثل “التصورَ المهيمنَ للعلاقة بين الدراسات الاجتماعية والفلسفة والعلوم الطبيعية”.
يقول وينتش إن “التصورات التي وفقاً لها نفكر عادة في الأحداث الاجتماعية لا تتلاءم من الناحية المنطقية مع المفاهيم الخاصة بالتفسير العلمي [الطبيعي]”.[11] ويتحدى وينتش احتقار العديد من “مؤلفي الكتب المدرسية” للعلم الاجتماعي الذي يرون أنه لم يتخلص من “التأثير السيئ للفلسفة” ليتبنى “مناهج العلوم الطبيعية”.
بيتر وينتش |
ويوضح منذ البداية أنه على الرغم من تحذيره من “طموحات العلم إلى الإفراط في العلمية”، كأن يحل محل الفلسفة أو يحوّل الفلسفة إلى علم، فإنه لا يدافع عن موقف “ضد العلم”، وإنما يدافع عن استقلالية الفلسفة ومعها استقلالية العلم الاجتماعي. وتتمثل أطروحته المركزية في أن الفلسفة والعلوم الاجتماعية متناظران منطقياً وإبيستيمولوجياً، وبالتالي فإن “توضيح طبيعة الفلسفة وتوضيح طبيعة الدراسات الاجتماعية يؤديان إلى الشيء نفسه؛ لذلك فإن كلَّ دراسةٍ للمجتمع جديرةٍ بهذا الاسم يجب أن تكون دراسة فلسفية في جوهرها، وإن كلَّ فلسفةٍ جديرةٍ بهذا الاسم يجب أن تهتم بطبيعة المجتمع البشري”.[12]
يلفت وينتش الانتباه إلى واقعة أن الأسئلة التي يطرحها العلم الاجتماعي تختلف منطقياً عن الأسئلة التي يطرحها العلم الطبيعي. إذ قدم بيتر وينتش موقفاً متطرفاً حول دراسة المجتمعات البشرية: يمكن فهم المجتمعات البشرية فقط “من الداخل”، أي من خلال مفاهيمها الخاصة، كما أن هذه المفاهيم مختلفة جداً عن مفاهيم العلم الطبيعي والتفسير العلي، وبالتالي يمكن أن نعتبر أنفسنا متحررين من شبح الحتمية العلية.
يلحّ وينتش على فكرة أنه لا يحق لعالم الاجتماع أن يدعي أنه ينتج نظريات للفعل الاجتماعي أسمى من التفسيرات التي يقدمها الفاعلون أنفسهم عن سلوكاتهم. وهذه الفكرة هي تلك التي يعبر عنها قول لوتش: “إن حديث الناس بطرق معينة مسألة اكتشاف تجريبي، لذلك لا يمكن لنا أن ندعي فهمَ ما يفعلون ولماذا يفعلونه إلا في سياق الكلام”.[13] إذ يحاجج لوتش على أن تفسير الفعل الاجتماعي تفسير أخلاقي، سواء قام به الفاعلون أنفسهم أو عالم الاجتماع الذي يلاحظ ما يفعلون.
فعندما نسعى إلى تفسير فعل ما، فإننا نتساءل عن “أسبابه”، أي عن “التبرير” (الأخلاقي) الذي يقدمه شخص ما لما يفعل. وعندما نتوصل إلى معرفة المبررات، فإننا لا نعود في حاجة إلى السؤال عن علة حدوثه. وبالتالي، فإن العلوم الاجتماعية لا تعدو أن تكون مجرد إطناب، طالما أنها تحتوي على محاولة الذهاب أبعد من مجرد عمل البحث الوصفي وبلغة الفاعلين العاديين. فالأنثروبولوجيا مثلا، هي “مجموعة من حكايات الرحالة الخالية من أي أهمية علمية خاصة”، وهو ما ينطبق على السوسيولوجيا أيضاً، باستثناء أن الحكايات تكون مألوفة في العديد من الحالات، “وبالتالي تبدو هذه التقارير غير ضرورية وادعائية”.[14]
يرى لوتش أنه ما دامت الظواهر الاجتماعية نتيجة للأفعال الفردية المقصودة، فإنها ذات طابع أخلاقي أساساً. إن هذه الأحكام الأخلاقية قابلة للتحقق بشكل مباشر ويمكنها أن تشكل المادة الأساسية للتحليل الاجتماعي. في الواقع، يحاول لوتش أن يقلب عقيدتين هيوميتين: عدم قابلية العلية للملاحظة، والتمييز بين الوقائع والقيم؛ كما يؤكد على فكرة مؤداها أنه بما أن عالم الاجتماع، هذا الملاحظ الداخلي للأحداث الاجتماعية، يمكنه أن يفلت من تقييدات هيوم، فإن أسسه الإبيستيمولوجية تختلف بشكل جوهري عن تلك الخاصة بعالِم الطبيعة.
كان وينتش منشغلاً في كتابه بتخليص العلوم الاجتماعية من هوس المنهجية وبإعادة التركيز على الأماكن الحقيقية التي تكمن فيها أهمية بحوثها: الأفعال البشرية ذات الدلالة. وبعبارة أخرى، كان وينتش يسعى إلى تحرير الدارس من هاجس تحديد المنهجية، بحيث يمكن له أن ينفق جهوده في تحديد الفعل وفهمه. لم تكن غاية وينتش هي أن يقدم للبحث الاجتماعي منهجاً جديداَ، وإنما كان هو البرهنة على أن لعالم الاجتماع مبرراً معقولاً للبحث عن دليل لعمله في مكان آخر غير العلوم الطبيعية.
يشير وينتش إلى أن خطأ العلوم الاجتماعية هو رغبتها في أن تكون أحد فروع العلم. بينما كان يراها هو أحد فروع الفلسفة. لكن فكرة وينتش شهدت مقاومة كبيرة من طرف الفلاسفة وعلماء الاجتماع على حد سواء. ويرجع فيل هاتشينسون وزملاؤه[15] هذه المقاومة إلى سوء فهم طبيعة الفلسفة كما يطرحها وينتش في بداية كتابه. إذ أن رفض نقاد وينتش الصارم للفكرة القائلة بأن العلم الاجتماعي نشاط فلسفي وليس نشاطاً علمياً يفسرها تقديرهم للفلسفة باعتبارها معرفة أدنى من العلم. يقول وينتش: “يتم الاستدلال كما يلي: إن الاكتشافات المتعلقة بالأمور الواقعية لا تتم إلا على يد المناهج التجريبية؛ فلا عملية فكرية قبلية خالصة كافية للقيام بذلك.
لكن بما أن العلم هو من يستعمل المناهج التجريبية، وما دامت الفلسفة قبلية خالصة، فإنه يبغي التخلي عن دراسة الواقع للعلم. فمن جهة، اعتادت الفلسفة على ادعاء أنها، على الأقل في جزء كبير منها، تدرس طبيعة الواقع؛ ومن ثم، فإما أن الفلسفة التقليدية كانت تحاول أن تقوم بشيء لا تستطيع طُرُقُ بحثِها تحقيقَه أبداً، وبالتالي يجب التخلي عنه؛ وإما أنها كانت مخطئة بشأن طبيعتها الخاصة وبالتالي تنبغي إعادة تأويل معنى دراساتها بصرامة”.[16]
ويضيف وينتش أن هذا الخلط يعود إلى تعدد دلالات مفهوم “الواقع” نفسه: “يمكن التعبير عن الاختلاف بين هدف العالم وهدف الفيلسوف كما يلي: بينما يدرس العالِمُ طبيعةَ أشياء وعملياتٍ واقعيةً معينة، فإن الفليسوف مهتم بطبيعة الواقع بما هو كذلك وفي عموميته. يطرح بارنيت Burnet الموضوع بشكل أفضل… عندما يشير إلى أن المعنى الذي يطرح به الفيلسوف سؤال “ما هو الواقعي؟” يشمل مشكلةَ علاقة الإنسان بالواقع، الشيء الذي يأخذنا بعيداً عن العلم الخالص.
“ينبغي لنا أن نتساءل عما إذا كان لعقل الإنسان أيُّ اتصالٍ بالواقع مطلقاً، وفي حالة ما إذا كان له هذا الاتصال، أيُّ فَرْقٍ سيشكله ذلك في حياته”. إن الاعتقاد بأن سؤال بارنيت يمكن أن يرسخ المناهج التجريبية ينطوي على خطأ فادح يتمثل في الاعتقاد بأن الفلسفةَ قادرةٌ بمناهج استدلالها القبلية على أن تنافس هذا العلم التجريبي في عقر داره. ذلك أنه ليس سؤالا تجريبياً على الإطلاق، وإنما هو سؤال مفاهيمي. إنه يتعلق بقوة مفهوم الواقع. إن الاستعانةَ بنتائجِ تجربةٍ معينةٍ ستستجدي بالضرورة السؤال المهم، حيث سيكون الفيلسوف ملزماً بالتساؤل عن الصفة التي يتم بها قبول هذه النتائج نفسها باعتبارها هي “الواقع”.[17]
يدافع وينتش في البداية على مجال مستقل للبحث الفلسفي، مجالٍ تستجدي فيه الاستعانةُ بالنتائج العلمية السؤالَ (الفلسفي). ثم يدعي بعد ذلك أن العلوم الاجتماعية إما أنها تنتمي إلى هذا المجال وإما أنها قريبة إليه أكثر مما هي قريبة من مجال العلوم الطبيعية التجريبية. ومعنى ذلك أن السؤال يكون سؤالا فلسفياً إذا كان الموضوع الذي يتعلق به ينطوي على سؤال يتعلق بذات معايير سؤال الهوية. إن سؤال ما إذا كان الله موجوداً يختلف عن سؤال ما إذا كان وحيد القرن موجوداً وعن سؤال ما إذا كان يوجد إنسان خفي. هكذا، عندما نسأل هل الله موجود، فإننا نتساءل عن معنى أن يعتبر هو، وعن معنى إمكانية اعتباره موجوداً: هل يجب أن نكون قادرين على رؤيته، هل يجب أن يكون ملموساً، هل يجب أن يكون من الممكن تحديد مكان وجوده؟
هنا تظهر لنا أهمية اللغة في فلسفة وينتش. فمن جهة، يسعى وينتش إلى تجنب فكرة “العامل البسيط” الخرقاء التي تختزل الفلسفة في مجرد وصي على النظافة اللغوية. ومن جهة ثانية، تمثل اللغةُ البنياتِ البشريةَ ويمثل الكلامُ النشاطَ البشري، ويوفران لوينتش نماذجَ فهمِ كل مظاهر الحياة الاجتماعية. ويصل وينتش إلى الرفع من شأن اللغة من خلال المطابقة الفعلية بين الفكر والكلام. وقد أوضح حتى الآن كيف يمكن اعتبار الفلسفة دراسةً لقابلية الواقع للفهم. ويشرح بعد ذلك أن “التساؤل عما إذا كان الواقع قابلا للفهم يعني التساؤل حول العلاقة بين الفكر والواقع”. لكن “المرء الذي يدرس طبيعة الفكرة ينقاد إلى دراسة طبيعة اللغة”.[18] وسرعان ما سنعرف أن اللغة ليست مجرد أحد عوامل الفكر البشري، بل إن كل إدراكنا للواقع يتم من خلال المفاهيم الخطابية التي نتوفر عليها: عندما نناقش اللغة فلسفيّاً، فإننا في الحقيقة نناقش ما يعتبر منتمياً للواقع. إن فكرتنا عما ينتمي لمجال الواقع معطاةٌ لنا في اللغة التي نستعملها. إن مفاهيمنا تحدد شكل تجربتنا للعالم.
لقد سعى وينتش من جهة إلى أن يبرهن على التطابق الجوهري بين الفلسفة والعلم الاجتماعي، ومن جهة أخرى إلى أن يبيّن التعارضَ القائم بين العلم الاجتماعي والعلم الطبيعي. ويقيم وينتش هذا التعارض على حجتين: الحجة الأولى مؤداها أن الاقترانات الدائمة ليست كافية أو ضرورية للتفسير الاجتماعي العلمي الذي يتحقق بالأحرى على اكتشاف الترابطات الواضحة في موضوعه[19]. هذا يمكن تأمينه. لكن التعارض المطلوب ينتج فقط عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار أن اكتشاف هذه الترابطات في موضوعه ليست هي هدف التفسير العلمي.
أما حجة وينتش الثانية، فهي تأكيده على أن الأشياء الاجتماعية، بخلاف الوجود المادي الخالص، لا وجود لها اللهمّ من خلال المفاهيم التي يحملها الفاعلون عنها.[20] إضافة إلى أن الوضع الأونطولوجي للمفاهيم ظل غير واضح، فإن التعارض المطلوب لا يتحقق إلا إذا تم التسليم الضمني، مع الاستثناء التفضيلي للفكر ذاته، بأن الأشياء المادية وحدها “واقعية”، بمعنى أن المبدأ القائل “أن تكون موجوداً يعني أن تكون مدرَكاً أو مدرِكاً” يوجد في العلم الطبيعي. هكذا تتوقف النزعة ضد طبيعانية لوينتش كليّاً على النظريات التجريبية للوجود والعلية. والآن إذا كان العلم يستعمل المعيار العلي لوصف الواقع، وإذا كانت القوانين العلية ميولا، فإن التعارض الذي طرحه وينتش ينهار. لكن ذلك لا يستتبع أنه ليست هناك فروق بين العلم الطبيعي والعلم الاجتماعي (وبالتالي أن فكرة وينتش عن العلم الاجتماعي خاطئة كليا). بل يعني ذلك أن تنازل وينتش عن العلم الطبيعي للنزعة الوضعية منعه من موضعتهما.
إن مناقشة أشكال ارتباط البشر بالواقع تقوم على تحليل “نحو” اللغة التي يستعملونها لوصف واقعهم. ولا عجب أن يطلق روي بهاسكار على فلسفة وينتش عبارة “المثالية المتعالية المترجمة لغوياً”.[21] لقد تحولت التخصصات الفرعية التقليدية للإبيستيمولوجيا والميتافيزيقا إلى دراسة كيف نبني العالم المفهوم، وخصوصاً من خلال اللغة التي نستعملها. لكن من الخطأ حسب وينتش الاعتقاد بأن المفهومية والواقع مفهومان واضحان يتم تطبيقهما دائماً بنفس الطريقة: “يحاول العالِم مثلاً أن يجعل العالمَ مفهوماً أكثر؛ لكن المؤرخ والنبي الديني والفنان يقومون بالشيء نسه؛ كما الفيلسوف نفسه. وعلى الرغم من أنه يمكن لنا وصف أنشطة كل أنواع المفكرين بواسطة مفهوميْ الفهم والمفهومية، فمن الواضح أن أهداف كل واحد منهم تختلف هن أهداف الآخرين من نواحي مهمة عديدة”.[22]
هكذا، ستدرس فلسفة العلم كيف يحاول العلماء تفسير العالم، بينما تستكشف فلسفة الدين كيف يسعى المؤمنون الدينيون إلى تقديم فهم مختلف للواقع. وإذا كان وينتش حريصاً على تحذيرنا من الاعتقاد بأن رؤى الواقع المرتبطة بأنشطة بشرية مختلفة “تجتمع في نظرية كبرى للواقع”،[23] فإنه ظل مع ذلك يؤمن بإمكانية دراسة إبيستيمولوجية عامة للمفهومية في ذاتها. هذه الإبيستيمولوجيا سوف لن تستطيع تقطير مجموعة كونية واحدة من معايير المفهومية من الأنشطة المتعددة للبشر، بل ينبغي أن تكون قادرة على “وصف الشروط التي يجب استيفاؤها لكي يوجد معيار للفهم على الإطلاق”.[24]
يتفرغ وينتش لشرح العلاقة التي تربط الفلسفة، وخصوصاً الإبيستمولوجيا، بالعلوم الاجتماعية. فلكي نفهم لماذا يتصرف الفاعلون بالطريقة التي يتصرفون بها، يجب أن نفهم كيف يدركون الواقع. ويرى وينتش أن دراسة كيف يؤوّل الناس الواقع مهمةٌ خاصة بالفلسفة. هذه المهمة ستشمل بالطبع الدور الذي يلعبه الفهم في نشاطات بشرية متنوعة، وعموماً طبيعة المجتمعات البشرية. علاوة على ذلك، يقول وينتش أن العلاقات القائمة بين الأفراد نفسَها “تتخللها… أفكار الواقع”، بل ويصرح بأن “العلاقات الاجتماعية تعبيراتٌ عن الأفكار حول الواقع”.[25] إن كل واحد من أبعاد سلوكنا وحياتنا الاجتماعية متجذر بعمق في أفكار مفهوميتنا. وبما أن دراسة المفهومية نشاط فلسفي، فإن العلوم الاجتماعية ستكون بالضرورة تخصصات فلسفية.
- الفعل الدّال واتباع القاعدة
لقد سبق لوينتش أن تبنى الفكرة الفتغنشتاينية المركزية القائلة إن معنى كلمة هو استعمالها، لكنه أضاف إليها الاتجاه المعاكس: إذا كان المعنى هو الاستعمال، فإن الاستعمال هو المعنى. إذا كان فتغنشتاين يدعو الفلاسفة إلى أن يتساءلوا عن الاستعمال وليس عن المعنى، فإن وينتش يدعو علماء الاجتماع إلى التساؤل عن المعنى وليس عن السبب. فالسلوك الاجتماعي دال بطبيعته: إن فهمه يعني فهم معناه، إذ لا يمكن إلا أن يكون حاملا لمعنى.
ما معنى أن يكون الفعل دالاًّ؟ وكيف يتحول حدث ما إلى فعل بمجرد اكتسابه لمعنى؟ يكون حدثٌ ما ذا معنى نظراً لأنه مُتَصَوَّرٌ من قبل الفاعل بمساعدة المفاهيم المشتركة (يبدو أن وينتش استلهم فكرة المفاهيم المشتركة من فتغنشتاين الذي يتوافق في هذه الفكرة مع دوركايم، حيث يعتبر أن جميع التمثلات جماعية) وكذا من خلال واقع أن المفهمة عملية أساسية للتعرف على الحدث. مثلا: إن الإنسان “يتزوج” ليس فقط من خلال طقوس الأعراس أو عقد القران، وإنما أيضاً، وهو الشرط الأهم في رأي وينتش، نظراً لأنه يتوفر على مفهوم الزواج. فإذا كان يفتقد إلى المفهوم، فإن تلك الحركات الجسدية المتمثلة في الطقس لا يمكن تصنيفها في مقولة “الزواج”. ويستخلص وينتش أن كون الحدث “له معنى” يعني أنه غير ناتج عن علة (cause).
يشدد وينتش على أنه ينبغي للعلوم الاجتماعية أن تحدد موضوعها بدقة إذا أرادت أن تطور مناهج ملائمة. يقول وينتش: “إن معالجة فتغنشتاين لما يعنيه اتباع القاعدة تتم أساساً، ولأسباب واضحة، من خلال التركيز على توضيح طبيعة اللغة. سأبين الآن كيف يمكن لهذه المعالجة أن تسلط الضوء على أشكال أخرى من التفاعل البشري مرتبطة باللغة. إن أشكال النشاط المعنية بالأمر هي بالطبع التي يمكن أن تطبق عليها مقولات مماثلة: إنها الأنشطة التي يمكن لنا أن نقول بشكل معقول أن لها معنى، أي طابعاً رمزياً. إننا معنيون بالسلوك البشري الذي “يسند له الفاعل أو الفاعلون معنى ذاتياً، كما يقول ماكس فيبر. إنني أريد الآن أن أدرس ما تنطوي عليه فكرة السلوك الدال”.[26] يرى وينتش أن دراسة الأنشطة التي تشبه اللغة على ضوء فلسفة اللغة عند فتغنشتاين تمثل حقلا دراسياً مثمراً. فماذا يقصد وينتش بالسلوك الدال؟ يقدم وينتش لتوضيح معنى الفعل الدال مثال “الشخص (ش)… الذي صوّت لصالح حزب العمال في الانتخابات الأخيرة نظراً لأنه يعتقد أن الحكومة العمالية هي الملائمة أكثر للحفاظ على السلم الاقتصادي”. في أوضح مثال للفعل لسبب (reason)، “يكون الشخص (ش) قبل التصويت قد ناقش إيجابيات وسلبيات التصويت لفائدة حزب العمال ووصل إلى خلاصة صريحة: ‘سأصوت لفائدة حزب العمال نظراً لأن هذا التصويت أحسن طريقة للحفاظ على السلم الاقتصادي‘”.[27] إن ذلك “حالة نموذجية لشخص ينجز فعلا لسبب”.
هكذا أصبح انتظام الفعل الاجتماعي يعتبر منذ نشر كتاب فكرة علم اجتماعي انتظاماً تولده القاعدة (rule) وليس انتظاما محكوما بقوانين (law). ولتوضيح هذه الفكرة، ينطلق وينتش من مناقشة مفهوم “الفعل الاجتماعي” عند ماكس فيبر، وخصوصا أهمِّ مكونات هذا الفعل، أي “المعنى الذاتي”. فالفعل، حسب فيبر، يصبح اجتماعيّاً عندما يكون حاملا لمعنى مقصود ذاتيّاً، بمعنى أنه يكون ذا معنى عندما يضفي عليه الفاعلون “معنى ذاتياً”. وما يقصده فيبر بهذه الخاصية هو أن ما يفعله البشر يكتسي معنى عندما يدركون أنهم يفعلونه. ويتوقف هذا المعنى الذي يسنده الفاعلون لأفعالهم على دوافعهم ومبرراتهم لما يفعلونه، مما يعني أن المعنى مشروط بالحالات العقلية للأفراد، والمتمثلة هنا في الفهم الذاتي والدوافع والمبررات.
سبق أن رأينا أن وينتش يريد أن يفهم كيف يرتبط الناس بعالمهم، وأنه ألحق العلوم الاجتماعية بالمجهود الفلسفي. إن الهدف النموذجي لمشروع العلم الاجتماعي كما يفهمه وينتش هو فهم الأساس المفاهيمي لعلاقة الجماعات الاجتماعية بالواقع، وخصوصاً كما تعبر عن نفسها في لغتها، وهو كذلك توضيح أهمية هذه المفاهيم في حياة الناس. غير أن هذه المعرفة ليست هدفاً في ذاتها، بل هي أولا وقبل كل شيء موضوع تأمل أخلاقي: “إن ما نجنيه من دراسة الثقافات الأخرى ليس هو فقط معرفة أن هناك طرقاً مختلفة ممكنة للسلوك، أي أن هناك تقنيات أخرى؛ بل الأهم من ذلك هو أنها تمثل إمكانيات أخرى لإضفاء معنى على الحياة البشرية، وأفكاراً مختلفة حول الأهمية الممكنة التي يمكن أن يكتسيها القيام ببعض الأنشطة بالنسبة لإنسان ما، في محاولة لتأمل معنى حياته ككل”.[28]
يقوم تحليل وينتش على فكرة أساسية مفادها أن الناس كائنات متبعة للقواعد، كائنات تكوّن اللغةُ جزءاً من طبيعتها. لذلك لا يمكن فهم الواقع بمعزل عن المقولات اللغوية. علاوة على ذلك، توجد اللغة في شبكة من الممارسات الاجتماعية التي تعطيها معناها. يكتب وينتش: “إن مقاربة معنى كلمة ما يعني وصف كيف يتم استعمالها؛ وإن وصف كيف تستعمل يعني وصف المعاملات الاجتماعية التي تدخل فيها”.[29]
بالنسبة لوينتش، لا يستطيع نموذج العلم الطبيعي إدراك تعقيد القواعد والمعاني الذي يميز الحياة الاجتماعية. لذا يشدد وينتش على أنه لا ينبغي النظر إلى الثقافة كما لو أنها مكونة من أفراد معزولين مسجونين معاً من قبل القوى المادية. بل يجب النظر إلى التفاعل الاجتماعي كتفاعل بين الأفكار والعلاقات الاجتماعية المترابطة فيما بينها داخلياً. وذهب وينتش إلى حدّ اعتبار “الفهم” أداة للمشاركة في الثقافة وليس أداة لملاحظة الثقافة. وبالتالي فإن معيار صدق الفهم هو النجاح في محادثة أو تفاعل: ذلك أن هذا المعيار يقوم في النهاية على التصورات المشتركة بين الملاحِظ والملاحَظ. يقول وينتش: “إذا كان ما يسمح لك في العلم الطبيعي بتفسير الأحداث التي لم يسبق لك مصادفتها هي معرفتك النظرية، فإن معرفة النظرية المنطقية لن تمكّنك من فهم جزء صغير من الاستدلال بلغة مجهولة؛ يجب عليك أن تتعلم هذه اللغة”.[30]
يحاجج وينتش على أن الفهم (Verstehen) هو المنهج بامتياز الخاص بالعلوم الاجتماعية، وهو الذي يميز أيضاً طبيعة الحياة الاجتماعية. إن فهم النحو الداخلي لمجتمع ما وقواعده وممارساته الاجتماعية مهمة ترجع إلى العلم الاجتماعي. ويعتقد وينتش أن هناك بالفعل وقائع متعددة. لكنها مبنية لغوياً وليس اجتماعياً بواسطة الوعي. وهذا الموقف هو ما يميزه عن فلسفة الوعي الفينومينولوجية، كما يمثلها ألفريد شوتز ومن بعده بيرغر ولوكمان.
هكذا يمكن تلخيص كل هذه الشروط التي وضعها وينتش لتحديد موضوع العلم الاجتماعي كفرع من فروع الفلسفة: إن موضوع العلم الاجتماعي هو السلوك الحامل لدلالة معينة، وهو سلوك توجهه قواعد قائمة اجتماعياً ويحدث في سياق اجتماعي واسع. ويمثل مفهومُ “اتباع القاعدة” الفتغنشتايني حجرَ الزاوية في فلسفة بيتر وينتش. يؤكد وينتش على أن اللغة والفكر بالنسبة لفتغنشتاين يتضمنان اتباعَ القواعد، والقواعد “تفترض وضعية اجتماعية”.[31] يحاجج وينتش على أنه لا يمكن لأي شخص أن يتكلم أو يفكر دون أن يكون عضواً في “مجتمع بشري له قواعد قائمة اجتماعياً”.[32] ويبدو أن وينتش يطرح هذا الموقف كادعاء مفاهيمي: يستحيل منطقياً على شخص أن يتكلم ويفكر بدون انتماء مسبق لمجتمع بشري.
إن القول بأن شخصاً يتبع قاعدة معينة لتحقيق هدف معين يعني وصفَ سلوك هذا الشخص بأبسط وأهم الكلمات. وقد استخلص وينتش أهم دروس فلسفته من تحليل مفهوم اتباع القاعدة ومن اعتبار هذا المفهوم السمةَ التي تميز السلوك البشري. وتتمثل تلك الدروس في الطبيعة الاجتماعية للفعل البشري، وعدم ملاءمة التفسيرات العلية للعلوم الاجتماعية، والاستقلالية الإبيستيمولوجية والتأويلية للممارسات الاجتماعية.
ويمكن أن نلخص خصائص الفعل المتبع للقاعدة حسب كتاب فكرة علم اجتماعي فيما يلي:
- قابلية الخطأ: بمعنى أنه بالنسبة لأي وضعية تُطبَّقُ فيها قاعدة ما، يمكن تصور أنه من الممكن الخطأ في تطبيق القاعدة على الوضعية؛
- الفهم: يجب على الفرد الذي يتبع القاعدة أن يفهم ماذا يفعل أثناء تطبيقه للقاعدة؛
- الانعكاسية: يمكن للفرد المتبع للقاعدة أن يفكر في تطبيقه للقاعدة من أجل تطبيقها في وضعيات جديدة.
ماذا يعني وينتش بقابلية الخطأ للسلوك المتبع للقاعدة؟ تحدد القاعدة ما إذا كان سلوك ما صحيحاً أو خاطئاً في ظروف معينة. ففي ظروف معينة، إذا لم يكن هناك شيء يمكن اعتباره خطأ فيما يمكن لشخص أن يقوم به (مثلا، إذا كان في غيبوبة)، سيقول وينتش أن أفعال هذا الشخص لا يمكن الحكم عليها بالخطأ أو الصواب. يمكن أن نصف الشخص فاقد الوعي والراهب الذي اتخذ نذر الصمت بأنهما معاً “لا يصدران صوتاً”. لكن إذا كانا معاً يصدران نفس الصوت، فإن الراهب وحده يمكن اعتباره ارتكب خطأ بالنظر إلى قاعدة الصمت. فما دام تحديد الصواب والخطأ هو كل ما تتعلق به القاعدة، فلا معنى لادعاء أن الشخص المغمى عليه اتبع القاعدة.
هناك بعد آخر لقابلية الخطأ يتعلق بمضمون القواعد. يجب أن تكون الأفعال مصنفة تبعاً لما إذا تم إنجازها وفقا لقاعدة معينة أو خرقت القاعدة. إذا كانت قاعدةٌ مزعومةٌ تجد دائماً أيَّ شيءٍ يفعله الشخص (ش) صحيحاً (مثلا، قاعدة “يجب على الشخص (ش) إما أن يلتزم الصمت عند دخوله السينما أو لا يلتزم الصمت عند دخوله السينما”)، فإن هذه القاعدة تفقد كل قيمة تصنيفية وليست قاعدة على الإطلاق. يمكن القول إن الساعة تعلن عن الوقت بشكل صحيح أو خاطئ. يمكن إصدار هذه الأحكام وفقاً لسلوك الساعة وليس وفقاً للساعة نفسها. وبما أن الساعة لا تفهم ما تفعل، فإنها لا تتبع قاعدة. لكن الإنسان يطبق قواعد ليقيّم أداء الساعة. ويمكن أن نقول في أقصى الحالات، وعلى سبيل الاستعارة، إن الساعة كانت “تتبع” قوانين الفيزياء. إلا أن الساعة، التي وصفناها على هذا النحو، إذا اشتغلت بطريقة لا تتوافق مع يتوقعه العلم، يجب علينا ألا نقول إنها ساءت تطبيق قوانين الطبيعة؛ بل يجب علينا أن نقول إن سلوك الساعة يتحدى القيمة التنبؤية لرؤيتنا الحالية لهذه القوانين.
إن فهم قاعدة ما يشمل القدرة على التفكير فيما يمكن أن يستتبعه عدم اتباعها. يلح وينتش على أن إمكانية إبطال القاعدة في الفكر تقتضي القدرة على وضع هذه الأفكار محط تنفيذ. وبصيغة أخرى، طالما يتبع الشخص (ش) قاعدة ما، فإن هناك دائماً من حيث المبدأ إمكانية أن يقرر (ش) خرقها.
وأخيراً، عندما يصادف (ش) ظروفاً جديدةً تماماً، سيتراجع وسيتدبر القاعدة التي وفقاً لها يريد أن يتصرف من أجل ابتداع تطبيق جديد. ويجب اعتبار هذه الانعكاسية في اتباع القاعدة امتداداً للفهم. فإذا كان الفهم يقتضي أن يكون (ش) احتمالاً على دراية بمضمون القاعدة المتبعة، فإن الانعكاسية تسمح له بأن يكون له دور في تحديد طبيعة القاعدة نفسها.
يبدو السلوك المتبع للقاعدة كما يتصوره وينتش متجذراً تماماً في العمليات الفكرية للفرد المتبع للقاعدة. إذ يعتقد عادة أن الانعكاسية والفهم يحدثان “داخل عقل” شخص ما. يقول وينتش أيضاً إن تعلم قاعدة يشبه اكتساب مهارة. ويشرح ذلك بأننا لا نتعلم كيف نطبق قاعدة ما من خلال تعلم قاعدة أخرى تتحكم في تطبيق القاعدة الأولى. ذلك أن هذا الإجراء سينتج نكوصاً لانهائياً، حيث سيحتاج كل تطبيق قاعدة إلى قاعدة جديدة. وبالمقابل، يؤكد وينتش أن تعلم تطبيق قاعدة (مثلا قاعدة حسابية) يعني “تعلم فعل شيء ما”.[33] على الرغم من أنه يمكن أن يكون من الصعب التوفيق بين البعد الفكري للقواعد باعتبارها مواضيع للتبصر الفكري وبعدها الأكثر عملية باعتبارها مهارات، فإن هذا البعد الأخير يرتبط طبيعياً بالفرد البشري. ويمكن أن نستخلص من مناقشات وينتش ثلاث أطروحات تتعلق بالطبيعة الاجتماعية لاتباع القاعدة:
- إن أي قاعدة قادرة على التحكم في أنشطة أي شخص (س) يجب مبدئياً أن تكون قابلة للتعلم (أو قابلة للاكتشاف) من قبل أي شخص آخر (ز).
- يمكن اعتبار شخص ما (س) أنه يتبع قاعدة فقط إذا كان هناك أشخاص آخرون يتحققون من صواب تطبيق الشخص (س) للقاعدة.
- سوف يكون الشخص (س) عاجزاً عن تطوير قدرته على اتباع القواعد بدون الاستفادة من التفاعل مع أشخاص آخرين.
إن تصور وينتش ما بعد فتغنشتايني لأهداف العلم الاجتماعي يركز على أنه عندما تحدث المشاركة في نوع عام من النشاط، يستند المشاركون إلى القواعد التي تُعَدُّ “فعلَ نفسِ النوعِ من الأشياء” ذاتِ الصلة بهذا النشاط. ذلك أن مجموع المشاركين تعلموا هذه الأنشطة بنفس الطريقة، وبالتالي فإن القواعد التي يمكن أن يعتمدوا عليها تستند إلى سياق نشاط مشترك داخل جماعة اجتماعية معينة.[34] هكذا يبدو أن وينتش يهتم بالكيفية التي تتم بها إعادة إنتاج انتظامات السلوك القائمة من خلال الاستناد إلى قواعد مشتركة. فبدلا من طرح أسئلة تتعلق بالممارسة الاجتماعية كعملية إعادة إنتاج اجتماعي، يقترح وينتش قبول “أشكال الحياة” كما هي. يعتقد وينتش أنه يجب على علماء الاجتماع أن يدرسوا أنماط السلوك بهدف فهمها، بمعنى بهدف معالجة طبيعة الظواهر الاجتماعية. وهنا تصبح القواعد المشتركة ذات وجاهة سوسيولوجية باعتبارها معايير لتحديد هذه الأنواع من النشاط وتوضيحها.[35]
بالنظر إلى اهتمام وينتش بقضايا المعنى، لن يفاجئنا اعتباره من طرف المهتمين مدافعاً عن المقاربة التأويلية في العلوم الاجتماعية. إن اعتقاده بأنه يجب على العلم الاجتماعي أن يعالج فقط السلوك الحامل للدلالة قاده بالضرورة إلى مهاجمة أي إمكانية للتفسير والتنبؤ السوسيولوجييْن اللذين يتساوقان مع رغبة المذهب الوضعي في علم موحد للطبيعة والثقافة. يحاجج وينتش على أن الفعل الدال لا يقبل التنبؤ. إذ يرى أن الفكرة القائلة إن الأفراد يتصرفون بطريقة دالة (أي يتبعون قاعدة) تقتضي أنه بمقدورهم اختيار التصرف بطريقة مختلفة (اتخاذ قرار بعدم اتباع القاعدة). إن الشخص الذي ينتج سلوكاً دالاّ “له خيار التصرف بشكل مختلف نظراً لأنه يفهم الوضعية التي يوجد فيها وطبيعة ما يقوم به (أو العدول عن التصرف).
إن فهم شيء ما ينطوي على فهم نقيضه أيضاً: إنني أفهم ما معنى أن أتصرف بنزاهة نظراً لأنني أفهم ما معنى أن لا أتصرف بنزاهة. لهذا السبب يعتبر السلوكُ الناتجُ عن الفهم سلوكاً له بدائل”.[36] إن القول بأن شخصاً اتبع قاعدة يعني ضمنياً أنه كان قادراً على عدم اتباع القاعدة، سواء بخرقها (أي التصرف وفق قاعدة أخرى) أو بالعدول عن التصرف تماماً. بمعنى أن الحديث عن سلوك شخص ما بأنه سلوك دال يعني في ذات الوقت أن هذا الشخص كان بإمكانه التصرف بطريقة مختلفة. وهذا بالضبط، في رأي وينتش، هو الموضوع الحصري للعلم الاجتماعي. وهو بالضبط ما سيدفعه إلى رفض إمكانية وجود قوانين علية وحتمية في العلوم الاجتماعية.
لا تقوم حرية اختيار الفرد بالنسبة لوينتش على قدرته على اتباع القاعدة أو خرقها، بل على فكرة أنه ونحن على تخوم اتباع القاعدة، لا يمكن لنا أن نتنبأ كيف سيطبق الشخص القاعدة عندما يواجه ظروفاً جديدة: “حتى وإن كان (س) [الملاحظ الخارجي] يعرف بيقين القاعدة التي يتبعها الشخص (ش)، لا يستطيع التنبؤ بيقين ماذا سيفعل (ش): هنا ينشأ سؤال ماذا يقتضيه اتباع قاعدة، مثلا في ظروف مختلفة كثيراً عن أي ظروف سبق أن طٌبِّقَتْ فيها تلك القاعدة. فالقاعدة هنا لا تحدد أي نتيجة محدَّدة للوضعية، وإن كانت تحدد مجموعة البدائل الممكنة؛ إن ما يحدد هذه النتيجة في المستقبل هو اختيار واحد من هذه البدائل واستبعاد البدائل الأخرى- إلى أن يصبح من الضروري مرة أخرى تأويل القاعدة على ضوء شروط جديدة”.[37]
ومن جهة أخرى، يوجه وينتش نقداً شديداً لاعتماد فيبر على المنهج التفسيري للفعل الاجتماعي الذي يعتبر الفهمَ نتيجةً لعمليةٍ يمكنُ تعليلُها علمياً. ذلك أن فيبر إذا كان يرجع الفعلَ لدافعه، فإن الدافع لا يوجد في مكان داخل الفرد (داخل ضميره أو عقله)، بل إن له وجوداً في العالم الموضوعي يمكن تحديده بالاعتماد على نموذج تفسير احتمالي، وذلك من خلال بناء “نماذج مثالية” للأفعال البشرية تسمح بتفسيرها.[38]
يدعي وينتش أن “التصورات التي انطلاقا منها نفكر عادة في الأحداث الاجتماعية غير متلائمة منطقياً مع المفاهيم الخاصة بالتفسير العلمي”.[39] وقد استخلص وينتش هذا الادعاء من أطروحات فتغنشتاين حول “اتباع القاعدة” و”المعنى” و”الفهم” و”التأويل” و”شكل الحياة” و”اللغة العادية”. إذ يحاجج وينتش على أن “المعنى الذاتي” للفعل والفعلَ ذاتَه والأفعالَ المتبادلةَ تتحكم فيها قواعد: “إن كلَّ سلوكٍ ذي معنى (وبالتالي كل سلوك بشري) محكومٌ بفعل طبيعته بالقواعد”.[40] وانطلاقا من هذه المقدمة، يستخلص وينتش، بخلاف النظرية الاجتماعية الكلاسيكية لماركس ودوركايم، أن العلاقات الاجتماعية لا توجد في استقلال عن “الأفكار” والتصورات التي يحملها الفاعلون حول ما يفعلونه وكيفية القيام به.[41]
يلخص نايجل بليزنتس[42] آراء وينتش المتعلقة بهذا الموضوع في أربعة نقط:
- ينتج كلُّ فعلٍ بشريٍّ ذي معنى من اتباع الأفراد للقواعد؛ وبالتالي فإن هذا الفعل لا يخضع للتحليل العلّي ولا توجد “قوانين” تحكم السلوك الاجتماعي؛
- يجب على الدراسات الاجتماعية أن تتخلى عن التحليل العلّي، وبالمقابل أن تتبع تحليلاً يهدف إلى إدراك “هدف أو معنى ما يُقَالُ وما يُفْعَل في الحياة الاجتماعية”؛[43]
- عندما تتم دراسة الجماعات أو المجتمعات الاجتماعية- “نماذج الحياة الاجتماعية”[44]- المختلفة عن تلك المألوفة لدى الملاحظ، فإن معايير وجاهة وتقييم القواعد يجب أن تكون هي نفسها التي تشتغل في الحياة الاجتماعية المدروسة؛
- يجب على الدراسات الاجتماعية أن تحترس من الدافع إلى نقد ما تدرسه: “ليس مسموحاً للدراسات الاجتماعية أن تفرض اعتباطيّاً معاييرَها الخاصة من الخارج”.[45]
خلاصة:
لذا يجب على دارسي الحياة الاجتماعية أن يتبنوا موقفَ “بحثٍ غيرِ ملتزم بعقيدة“.[46] ويحيل هذا المطلب الأخير إلى مهاجمة وينتش لطموح العلم الاجتماعي إلى صياغة تفسيرات للواقع الاجتماعي على نموذج العلوم الطبيعية. وعلى الرغم من أنه كان يهدف إلى الدفاع على استقلالية الفلسفة واستقلالية العلم الاجتماعي، فإنه شدد على وجود تناظر منطقي وإبستمولوجي ونظري بين الفلسفة والبحث الاجتماعي،[47] وبالتالي فإنهما يهدفان إلى نفس الشيء.
هكذا فإن أية دراسة وجيهة للمجتمع يجب أن تكون دراسة فلسفية، كما أن أية فلسفة وجيهة يجب أن تهتم بطبيعة المجتمع البشري.[48] فالفلسفة والعلم الاجتماعي يدرسان معا الممارسات الاجتماعية، وبالتالي فإنهما يختلفان عن العلم الطبيعي. إن مهمتهما هي “وصف الشروط التي ينبغي توفرها لكي يكون هناك معيار للفهم بشكل عام”؛[49] ومعنى ذلك أنهما يسعيان إلى توضيح مفهوم “الفهم” الملائم لمفهوم “المجتمع البشري”. إن العاِلم الاجتماعي، حسب وينتش، لا يهتم بفهم الواقع الاجتماعي فقط؛ بل بما أن العلاقات الاجتماعية “متشبعة بالأفكار حول الواقع” وتعتبر في الواقع “تعبيرات عن الأفكار حول الواقع”، فإن “فهم الواقع” يوجد في قلب “مفهوم الواقع الاجتماعي”. وبالنتيجة، فإن فهم العلم الاجتماعي للمجتمع يستلزم “بحثا في طبيعة معرفة الإنسان للواقع وفي الاختلافات التي تميز الحياة البشرية بفعل إمكانية هذه المعرفة”.[50] هكذا، عندما نشر بيتر وينتش كتابه فكرة علم اجتماعي وعلاقة بالفلسفة سنة 1958، فإنه كان يسعى، باعتباره فيلسوفاً، إلى أن يبرهن على أن كتاب بحوث فلسفية لفتغنشتاين[51] يمكن أن يستخدم كدليل مهم للتفكير في طبيعة العلم الاجتماعي، وانتهى إلى الانتصار للفلسفة على حساب العلوم الاجتماعية، معتبراً أن الفلسفة أولى بدراسة الحياة الاجتماعية مادام جوهرها هو “المعنى” و”الفهم” و”اتباع القواعد”.
بيبليوغرافيا:
Bhaskar, R.A., The Possibility of Naturalism, 3rd ed., London: Routledge, 1998.
Descombes, V., «The Philosophy of Collective Representations», History of the Human Sciences, 13(1), 2000.
Gunnell, J., Social Inquiry after Wittgenstein and Kuhn: Leaving Everything As It Is, New York: Columbia University Press, 2014.
Hutchinson, P., Read, R., and Sharrock, W., There is No Such Thing as a Social Science: In Defence of Peter Winch, Farnham: Ashgate, 2008.
Louch, A. R., Explanation and Human Action, New York : University of California Press, 1966.
Lynch, M., «A New Disease of the Intellect?», History of the Human Sciences, 13(1), 2000.
Ogien, A. , Les forms sociales de la pensée. La sociologie après Wittgenstein, Paris, Armand Colin, coll. “Individu et société”, 2007.
Pleasants, N., Wittgenstein and the Idea of a Critical Social Theory: a Critique of Giddens, Habermas and Bhaskar, London: Routledge, 1999.
Weber, M., Economie et société, T. 1, Paris, Pocket, [1922] 2003.
Winch, P., «Mr. Louch’s Idea of a Social Science», Inquiry, 7(2), 1964.
Winch, P., The Idea of a Social Science and Its Relation to Philosophy, 2nd ed., London : Routledge, [1958] 1990.
Wittgenstein, L., Philosophical Investigations, Oxford: Blackwell.
الهوامش:
[1] Winch, P., The Idea of a Social Science and Its Relation to Philosophy, 2nd ed., London: Routledge, [1958] 1990.
[2] Pleasants, N., Wittgenstein and the Idea of a Critical Social Theory: a Critique of Giddens, Habermas and Bhaskar, London: Routledge, 1999, p. 33.
[3] Descombes, V., «The Philosophy of Collective Representations», History of the Human Sciences, 13(1), 2000; Lynch, M., «A New Disease of the Intellect?», History of the Human Sciences, 13(1), 2000.
[4] Winch, P., «Mr. Louch’s Idea of a Social Science», Inquiry, 7(2), 1964.
[5] Ogien, A. , Les forms sociales de la pensée. La sociologie après Wittgenstein, Paris, Armand Colin, coll. “Individu et société”, 2007, pp. 17-18.
Winch, P., The Idea of a Social Science…, op. cit., pp. 3-4.
[13] Louch, A. R., Explanation and Human Action, New York : University of California Press, 1966, p. 175.
[15] Hutchinson, P., Read, R., and Sharrock, W., There is No Such Thing as a Social Science: In Defence of Peter Winch, Farnham: Ashgate, 2008.
[16] Winch, The Idea of a Social Science…, op. cit., p. 8.
[21] Bhaskar, R.A., The Possibility of Naturalism, London: Routledge, 3rd ed., 1998, p. 146.
[22] Winch, The Idea of a Social Science…, op. cit., p. 9.
[26] Winch, The Idea of a Social Science…, op. cit., p. 45.
[28] Winch, «Mr. Louch’s Idea of a Social Science»…, op. cit., p. 321.
[29] Winch, The Idea of a Social Science…, op. cit., p. 9.
[38] Weber, M., Economie et société, T. 1, Paris, Pocket, [1922] 2003, p.8.
[39] Winch, The Idea of a Social Science…, op. cit., p. 95.
[42] Pleasants, Wittgenstein and the Idea of a Critical Social Theory…, op. cit., p. 45.
[43] Winch, The Idea of a Social Science…, op. cit., p. 115.
[47] Gunnell, J., Social Inquiry after Wittgenstein and Kuhn: Leaving Everything As It Is, New York: Columbia University Press, 2014, p. 1.
[48] Winch, The Idea of a Social Science…, op. cit., pp. 1-3.
[51] Wittgenstein, L., Philosophical Investigations, Oxford: Blackwell, 1953.