دراسات وبحوث معمقة

إرادة الوعي الإنساني: تأملات في اختلاف الكينونة

إرادة الوعي الإنساني: تأملات في اختلاف الكينونة

ملاك أشرف

(كاتبة عراقية)

 

 

الكتب التي تُغلفُ نفسها برموزٍ متنوعة، غالبا ما تحمل في طياتها مادة عميقة وجذابة، تختلف جذريا عن الكتب الأُخرى، ورُبما تكون هذه هي الغاية من التغريض، الذي يوحي للقارئ بملامح المضمون، عبر العنوان أو الغلاف وحتى بداية المقدمة والإهداء. تحملُ ألوان أوراق الأشجار رمزية ترتبط بالطبيعة أولا، ومن ثم بتغيرات الحياة التي يمر بها الإنسان؛ إذ تشير هذه الألوان إلى النضج، التغير الانتقال ودورة الحياة، بدءا من الولادة والنمو وصولا إلى التقدم/ الشيخوخة والزوال/ الموت.
كتاب «إرادة الوعي الإنساني» للأكاديمي أحمد عويز يلفت الانتباه في بداياته إلى الطريقة الخاصة للكائن البشري، التي يعيشُ بها في هذا العالم، هذه الطريقة الفريدة المُتعلقة بهِ وحده تحدد كينونته وماهيته، وكأنها بصمة الأصابع غير القابلة للتكرار إطلاقا، إلا أن هذه الطريقة قد ترسمها – في كثير من الأحيان – بيئة الإنسان وبيولوجيا كيانه وزمانه المُكتنز بالتضادات/ الثنائيات، وأبرزها ثنائية الكره والحُب، الخيبة والأمل، والجحود والإيمان، ومن خلال هذه الطريقة نفسها يتجاوز المرء السطحية وكونه كائنا اعتياديا كغيره فحسب، إلى ما هو أعمق وأبعد من ذلك، ليصبحَ كائنا يمتلكُ وجودا ومعنى وفكرا مُتفردا، يُولّد لديه وعيا، مسؤولية ووجدانا حساسا سيمثل كينونته وتحولاته المُستمرة في ما بعد. يبدأ هذا المرء المنغمس في الوجود بتشكيل العالم عبر حضوره، حتى يعيد العالم ذاته تشكيله من جديد، وهنا يتجلى البعد الأول لهذا الكتاب.

ندرك أن التجارب الشخصية لا يمكنها أن تتطابقَ مع تجارب الآخرين وإن كانت خيالية أو أسطورية أو نفسية، وعلى الرغم من معرفتنا بذلك نشعرُ بالملل والتعب من تكرار المشهد أمامنا باستمرار. وهو مشهدُ التشابه، فقدان الأصالة وغياب الهُوية في أوقاتٍ ما، هُناك جانب من حياتنا – رُبما أشبه بغشاء يُحيطُ بما نخفيه – لا يستطيعون رؤيته أو تقليده أبدا.. وسيبقى ذلك الجزء منا مجهولا وغامضا حتى موتنا بالتأكيد!
لا يكتمل نظام العالم إلا من خلال سلسلة الاختلافات والتمايزات، إذ إن التطابق التام لا يُسهم في نهضةِ الأجيال والأُمم، وهذا أشبه بالنظام اللغوي (النحوي، الصرفي، والدلالي..) الذي يعطي لكُل كلمةٍ موضعها المُناسب؛ كما نقرأ في مُقدمة الكتاب بدقةٍ: «سلسلة البصمة الخاصة للكائن الموجود في هذا العالم والمُنتظم فيه، هي أشبه بنظام اللغة المعروف الذي يمنح كُل كلمةٍ في النص مكانة لا يُمكن لغيرِها أن تحل محلها، في ضوء نظامٍ تنتظمُ فيهِ الكلمات»، ما يجعل النص يحقق نصيتهُ ويصبح نصا حقيقيا مؤثرا في المُقابل. يشعرُ القارئ بشدةٍ أن الدافع الرئيس وراء تأليف هذا الكتاب اللافت هو تساؤلات المؤلف حول كيفية التعامل مع العالم اعتمادا على إمكانات الوعي التي تمنحه تلك البصمات الخاصة. ومعرفة هذه الكيفية ستفضي بالإنسان إلى التعايش الوجودي وفهم الكون، مع القيام بأفعالٍ ذات غايات إنسانية صادقة، قد لا تتفق بالضرورة مع تصورات الجميع.
يتمتع المؤلف – في هذا الكتاب – بوعي صافٍ وواضح، والوعي هنا يبدأ من إدراكه لما يكتب، حيث لا يكون التأليف مجرد غاية في حد ذاته، بل وسيلة للإجابة عن أسئلةٍ جوهرية تمس عمق الوجود البشري. وهذا النوع من الكتابة لا يمكن أن يكونَ عبثيا أو اعتباطيا على الإطلاق، إنها كتابةٌ تقول لنا ألا ننظر إلى ما حولنا بعينٍ ضيقة خائفة، أو بعينِ إنسانٍ منفصل بذاته واعٍ بموته، كما أنها تدعونا إلى تجاوز الثقافة السائدة، والتماهي مع الذات والتأمل في تجارب النفي والاغتراب الحاد، هي عبارة عن أسئلة وأفكار يعيها الكاتب نفسه ويقصد تحريض القارئ على التأمل الجيد فيها.
يقول المفكر اللبناني عادل ضاهر، إن إبداع المبدع قطعة من الكاتب، قطعة من حياته، وتجربته، وفكره، ومواقفه إزاء القضايا الكبرى. إن عمله ليس بصفته فردا يبدع في فراغ فكري وقيمي مجردا من شخصيته الفلسفية أو شبه الفلسفية، بل بصفته فردا يبدع تحت تأثير شتى العوامل المكونة لهذه الشخصية، إضافة إلى العوامل الأخرى ذات الطابع السيكولوجي، التي تشكل مع السابقة مكونات شخصية كاملة. ويضيف أن هذه العوامل المجتمعة، تفعل فعلها خفية تحت طبقات الوعي، وتتسرب تأثيراتها إلى ثنايا العمل الإبداعي بصورة لا إرادة للمبدع فيها، وتصبح من المكونات الأساس لهذا العمل، التي لا يمكن الكشف عنها إلا بعد شق الأنفس، حيث إنها ليست معطاة على نحو مباشر حتى للمبدع نفسه. هذه التأثيرات تصبح متحابكة مع عناصر أخرى في نسيج العمل الإبداعي بكليته، وليس هناك أحد، بمن في ذلك المبدع نفسه، ذو سلطة نهائية بخصوص كيفية تبين خيوطها في نسيج هذا العمل.
يجب علينا أن نتحررَ من الفهم العادي للعالم والنظرة التقليدية – النمطية – إلى الأشياء، وحتى من اللغة الكلاسيكية المُترددة – الخجولة – التي لطالما كُنا وما زلنا أسرى لها ولعجزِها. بما أن التحرر «هو سفرٌ دائم عبر الأشياء نحو قلب العالم. هكذا سننظر إلى العالم بوصفهِ حركة دائمة لا تنتهي، وننظر إلى الإبداع بوصفهِ سيرا لا ينتهي، داخل هذه الحركة». يقدم الكتاب مقارنة بين المجتمعين الشرقي والغربي، مُسلطا الضوء على كيفية صياغة البصمة الاجتماعية في المُجتمع الشرقي بطرائق تختلف عن صياغة البصمة الاجتماعية للإنسان، الذي يعيش في المجتمع الغربي، ومن الطبيعي أن يخضع الفرد لهذه الصياغة واللغة التي ينخرطُ في أطرها وعوالمها وحدود مفاهيمها، ومع ذلك يُظهر مضمون الكتاب أننا لن نجدَ بصمتين اجتماعيتين مُتطابقتين تماما على الإطلاق، باستثناء بعض الحدود العامة، ونحنُ نؤيد هذا الطرح المُقارن الذي نسجهُ المؤلف ببراعة.

لاسيما في قوله إن البيئة المكانية والظروف الزمانية تفرض على الكائن نوعا محددا من السمات الاجتماعية، التي سيحملها جزءا من بصمتهِ النهائية؛ مما تتغير رؤية هذا الكائن لعالمهِ تبعا لتغير بيئتهِ المكانية وتاريخه الزماني الناشئ فيه؛ لذا لا يُمكن أن تتكرر المراحل العُمرية لأشخاص مُختلفين حتى لو وجدوا في بيئةٍ مكانية واحدة، فالزمن قد تغير واختلفت الحقبة، وأن الحنين الذي ينتاب الإنسان إلى الماضي، إنما في الحقيقة يبقى حنينا للزمان لا للمكان فقط – على حد تعبير الكاتب – وعليه لا يُمكنه أن يستعيدَ الزمان، وإن استعاد المكان ذاته يوما ما. وهذا هو مفهوم «نسيج الزمكان» الذي يتمحور حوله الكتاب والذي نميلُ إليه في هذه الدراسة المُوجزة عن مضمونه المُتمايز.

إن فكرة البصمات امتدت لتشمل الأساليب البشرية واللغوية أيضا، ومن هُنا يستحيل أن يتطابق أدب أديب أو شعر شاعر مع أديبٍ وشاعرٍ ثانٍ أبدا، ولعل أبرز الأمثلة التي تمت الإشارة إليها في هذا السياق هما أبو العلاء المعري قديما، وجبران خليل جبران حديثا: «هذا هو معيار التمايز وهو الباني الحقيقي لتمايز البصمات اللغوية بين بني البشر في هذا العالم، فحتى لو انعدم تكرار بصمات الأساليب والتأليف بين البشر، فسيبقى أن ثمة من يأتي ببصمةٍ مُعجزةٍ قد تفوق بصمةِ غيرهِ من المؤلفين، إذا ما كانت طبيعةُ تكوين بصمتهِ وإمكاناتهِ مُختلفة». إذن يكون الاختلاف في قدرات التأليف الفكري نتيجة لاختلاف العقول والإمكانات المعرفية واللغوية معا، ومن هذا المنطلق نرى أن طرائق التأليف في الحقول العلمية والإنسانية غير قابلة للتناسخ والتماثل.. وقد نتفق مع ما ذهب إليه عويز بأن اختلاف البصمات يمتد حتى لمن ينتمي إلى المدرسة الواحدة، سواء أكانت فلسفة مثالية أم تجريبية أم إسلامية أم صوفية وغير ذلك، وإن قصد شخص مجاراة آخر مجاراة ماهرة، فإن تلك المجاراة أو المحاكاة مهما بلغت من ذكاء فستظل نسخة قاصرة وناقصة ومبتورة؛ لأن العمل ينبع من عقل صاحبه وخبرته الشخصية، والتجارب لا يمكن أن تتناسخ أو تتكرر ببساطة، حيث إن الأصل في نظام الكون هو التغير والحركة وليس الثبات والسكون، وعبر هذه الحركة ونوعها الذي يختاره الكائن تتشكل لديه كينونة فريدة وبصمة مُميزة بلا ريب.
في ضوء ما سبق نلحظ أن الإنسان كائنٌ نسبي، وهذا ليس مُجرد إضافة شِعرية مجازية منا، بل هو الواقع الملموس فكُلما أوغلَ في كشف أسرار العالم اكتشف ضآلته وصغره وتفاهته؛ ويعود ذلك إلى أن تفسيراته للعالم تعتمد على سياقات فهمه المتاحة له بسبب نسيج الزمكان وعليه سيبقى إدراكه نسبيا لمُعظم الأشياء والظواهر في نطاق إمكاناته المحددة مهما اجتهد وأعملَ فكره، وهذا جوهر كتاب «إرادة الوعي الإنساني»، عندما أشار إلى أن الإنسان لا يزال عند أعتاب أوجه الحقيقة لا الحقيقة نفسها، وقد يدرك وجوهها، ضمن سياق وجوده وأدواته ومناهجه المُتعلقة ببصمة الزمكان لعالمهِ المادي، المُتغير من زمنٍ لآخر ومن وعيٍ لآخر قطعا: «هُناك تجارب يمكن أن يدركَ فيها الإنسان مقدارا من بعض الحقائق بناء على استيعابهِ وعمق تجربتهِ وصفاء نفسه وقوة تلقيه لذلك الفيض الغامر من العوالم».
يرتبط الوجود العميق بالوعي العميق، كأن يتحقق هذا الوجود بالقراءة أو الكتابة أو الفنون، فهي أنماط تمثل وجود الإنسان في العالم اليوم، وتُبرز عمق صلتهُ بعالمهِ المُتقلب دائما. تنبه الصفحات المُتقدمة من «إرادة الوعي الإنساني» إلى خطر التيه الوجودي الناتج عن حاضر سريع الزوال وعصر يعج بالخسارات والخيبات، يتسلح الكثير من أبنائه بالماضي الذي يلغي حقهم في المعرفة والحُرية والخلاص، وكثيرا منهم لا يدركون أنهم عالقون في سجن النظرة الأحادية والبصمة الاجتماعية الضيقة، وهُنا تكمنُ الإشكالية في وعي لا يمكن أن يحررهم إلا إذا تخلصوا أولا من قيود فقدانه وأقروا بمأزقهم معه، في ظل التعددية الحديثة في اللغات والألوان والأصوات، التي تجعلهم يشعرون في النهاية بتفاهة عالمهم المحدود مقارنة بالعالم الواسع خارج أسوار سجنهم.

على الرغم من تنوع العوالم البشرية واختلافها، لا بُد من التمسك بقيم الوجود الصافية، والفضائل السامية والمبادئ الرفيعة أي تقبل التنوع الطبيعي من دون أن يتحول إلى مدعاة للقطيعة، أو دافع للكراهية البائسة، أو فرصة للتمييز والعنصرية وفقا لرأي المؤلف. الذي يرى أن الفضاء الفسيح في العالم حمل علاقاتٍ هائلة غير مُكتشفةٍ ولا مفسرة بشكلٍ كافٍ نتيجة لما أحدثه الوعي من واقعٍ متشابك وعلاقات مترابطة ببعضها بعضا. فالوعي هو الأصل بينما يُعد الواقع امتدادا له، لا يمكن فصله عنه مهما تعددت صوره. والأدب بدوره يعيد صياغة هذه الصور بطرائق مؤثرة، فاعلة، وخالدة في آنٍ واحد.
«العالم بأشخاصهِ وأشيائه، فكُل بيتٍ وركنٍ وزاويةٍ وكرسي وباب وشُباك وسقف، وكُل ورقةٍ أو قصاصةٍ وقلمٍ ومحبرةٍ.. تبقى شاهدة على القيم الإنسانية لذلك الموجود الإنساني الذي استعملها في صناعةِ بصمة الموجود الإنساني الحقيقي لا المجازي» يقول أحمد عويز.
قدرة الإنسان على فهم ذاته هي قدرتهُ على فهم علاقة الآخرين معه ومع العالم واحتمالاته الوجودية، فالوعي ولد الذوات، وهذه الذوات أنتجت قيما إنسانية سامية وأسهمت في نشوء الحكمة والمعرفة والمثالية، كما أسهمت في طرد الخطيئة وقبحها، واستعادة الوجه البريء للكينونة الفطرية الآدمية. ومَن يعبث بهذه الكينونة البشرية وموجودها الإنساني، فإنه بلا شك يسهم في تدمير العالم تدريجيا وصولا إلى انهيارهِ الكامل.

هامش:
•الاقتباسات الواردة في هذه المقالة أو الدراسة تعود إلى الكتاب المدروس «إرادة الوعي الإنساني: نسبية الكائن البشري وخيارات التعايش الإنساني في العالم»، الذي صدر عن دار نابو.
•أحمد عويز: أستاذ ودكتور في أبستمولوجيا النظرية النقدية الغربية والهرمينوطيقا، عمل محاضرا في عدة جامعات خارج العراق.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى