ديفيد هيوم خصيمُ العقلِ .. مُنكِرُ الميتافيزيقا
ديفيد هيوم
خصيمُ العقلِ .. مُنكِرُ الميتافيزيقا
محمود حيدر
مبتدأ الاستغراب العدد الثامن عشر السنة الرابعةــ 1441هـ شتاء 2020م
لم يُحِط الغموض بفيلسوف من فلاسفة الحداثة كمثل ما أحيط به ديفيد هيوم. أكثر النظراء ممن عاصروه، أو أولئك الذين جاؤوا من بعده قد ارتابوا من غموضه؛ بل إنّ جمعًا منهم أخذهم الذهول حيال موقفه من دُربة العقل، ولم يجدوا ما يسوِّغ عزوفه عن أيّ معيار عقلانيّ يوصل إلى إدراك حقائق الأشياء والأفكار. راح يتعدّى ما وضعه أستاذاه فرانسيس بيكون وجون لوك من قواعد للفلسفة التجريبيّة. ولأجل أن ينفرد باختباراته الشخصيّة، فقد خالفهما الرأي ليُعرِض عن كلّ نزعة إيقانيّة، وآثر التعامل مع التراث الميتافيزيقيّ كلّه بوصفه نقيضًا لأفهام الطبيعة البشريّة. ربما كانت معضلة هيوم الأصليّة أنّه ركب موجة الثورة العلميّة في القرن الثامن عشر من أجل أن يتربّع فيلسوفًا أوحد على عرشها. ولكي يتّفق له ما يريد، مضى بشغفٍ غير مسبوق إلى مناصبة الميتافيزيقا العداء، وقد حرص على أن يزعزع أركانها من داخل دون أن يستغرق عالمها المكتظّ بالعناء، وقد فعل هيوم هذا؛ إمّا لقصور في الإحاطة بمفاهيمها، أو لخشيته الامتثال لمهابة أسئلتها العظمى.
ومثلما نالت الميتافيزيقا منه نصيبها من الهدر، سينال العقل حظّه الأوفى من تهمة التقصير والغموض؛ ولأنه عدَّ الغموضَ موجعاً للعقل مثلما هو موجِعٌ للعين، فقد قرّر أن يجتنب الوجع المحتّم، وينساق نحو منهج غرائزيّ يجعل العقل أقلّ تحليقًا في الأعالي مما اتخذه أيّ فيلسوف حديث. هو لم يفترض أنّ لدينا مَلَكَة أخرى أفضل قدرة لتزويدنا بمعرفة طبائع الأشياء؛ بل رأى أنّ الشكّ هو الموقف المعقول الوحيد الذي يتعيَّن اتباعه.
اللاَّفت أن لا نجاة من «الفراغ العجيب» الذي اقترفته مطارحات هيوم، إلّا عن طريق الغريزة التي وهبتها الطبيعة للكائن البشريّ لتدبير حياته اليوميّة. والنتيجة أنّه لمّا أقام نفسه في المنطقة الرماديّة بين مرأى العين واستدلالات الذهن، فإنّه لم يجد سوى السخرية سبيلًا لمواجهة ما لم يستطع على إدراكه صبرًا، لقد أشكل عليه إدراك الحدّ الفاصل بين الوهم والفهم، ثم مضى إلى القطع بعدم وجود أيّ تبرير فلسفيّ لإثبات أيّ حقيقة تتجاوز ميدان التجربة الحسِّيّة. وللمفارقة أنّ ميدان التجربة نفسه لم ينجُ من شكوكيّته ومسلكه الفكريّ المضطرب؛ بل يمكن القول إنّ ما انتهى إليه في كتابه «تحقيق في الفاهمة البشريّة» هو أقرب إلى التيه في دوَّامات الريبة وعدم اليقين.
* * *
الذين أخذوا على هيوم ريبيَّته المفرطة تساءلوا عما إذا كانوا في محضر فيلسوف يستحقّ هذه الصفة. فالفيلسوف هو طالب الحكمة، والساعي إلى العثور عليها، ورأس الحكمة ـ على ما نعلم ـ التعرُّف على ما يتوارى خلف حجاب الحواس الخمس. ولا يغيب عنّا أنّ لدُنْيَا الممكنات سحرَها وغوايَتها، إلا أنّ الحكمة – دون أيّ علم سواها- هي التي نبَّهت إلى وجوب العثور عمّا يمكث وراء بوادي الأشياء ومظاهرها.
لقد أدان هيوم الميتافيزيقا واستنزلها منازل الأفكار الزائفة، لينتهي إلى ضربٍ من السخرية مما توصّل إليه من استنتاجات: «أنا خائفٌ ومرتبكٌ من تلك الوحدة البائسة التي وضعت فيها فلسفتي». هكذا قال. لكن مرجع خوفه يعود على أرجح تقدير إلى «لا أدريَّته» حيال سؤال الوجود، وكذلك إلى شكوكيّته بمنطق العلم ومنطق التجربة في آن. وتلك مخافة مشروعة ما دام لم يعد لديه ما يستأمنه على أيّام دهره. أمّا نظريّته في المعرفة – لو صَلُحَ لها هذا الاسم – فسنجدها مدعاة للعجب؛ فها هو يرى «أنّ المعرفة المنطقيّة التي تختصّ بالعلاقة بين تصوّرات الذهن هي يقينيّة مئة بالمئة؛ لأنّها لا تقول لنا شيئًا عن العالم، أمّا المعرفة التجريبيّة التي تقوم على الانطباعات الحسِّيّة البسيطة، فإنّها تروي لنا شيئًا من العالم دون أن تكون يقينيّة مئة بالمئة»…
الحصيلة المنطقيّة لهذه المعادلة «الهيوميّة» أنّ كلتا المعرفتين لا ترتقيان إلى المنزلة التي يتأسّس عليها ما يوصِلُ إلى الحدّ الأدنى من اليقين، وبناء عليه فقد جَزَمَ هيوم بأنّ معرفة الطبيعة الإنسانيّة تستلزم نبذ الوهم الميتافيزيقيّ، والإقرار بعدم القدرة على النفاذ إلى موضوعات تستغلق على الذهن استغلاقًا.. أمّا المنهج الوحيد الذي قرّره ليقتدر به على تحرير المعرفة من هذه المسائل المستغلقة، فقد جاء على لسانه: «أن نبذل ما يسعَنا البذل على تقصِّي طبيعة الذهن البشريّ، وأن نبيِّن من خلال تحليل دقيق لقواه وطاقاته، أنّه ليس مُعَدًّا بأيّ وجه من الوجوه للخوض في مثل هذه الموضوعات القصيِّة والمستغلقة»…
* * *
ما الذي سيقوله هيوم بعد كلّ هذا؟ أفلا يفضي مقصده إلى الهبوط المريع نحو اللاّشيئيّة والسخرية من بداهات التعقُّل؟.. ثم لنا أيضًا أن نسأل: من أين له كلّ هذا الاعتقاد بمنهج رماديّ نهايته الامتناع عن أيّ ضرب من المعرفة اليقينية؟
لو عدنا قليلًا إلى تاريخ الفلسفة منذ إرهاصاتها اليونانيّة الأولى، لتبيّن لنا أنّ الرجل لم يأتِ بخطب جلل. مَثَلُه كمثل سائر فلاسفة الحداثة ممن ذهبوا مذهب الشكّ، حتى استوطن بعضهم أرض العدم، وهوى بعضهم الآخر إلى وادي الإلحاد. جلُّ هؤلاء أخذوا عن أسلافهم الإغريق عصارة أمرهم، ثم جاوزوهم لمّا خاضوا مغامرة الحداثة؛ لهذا جاز القول إنّهم تماهوا مع ما جاء به الأوّلون، ثم لم يأتوا بجديد يعوّل عليه. في الفترة التي تلت عهد سقراط، أي قبل قرون مديدة من ظهور الحداثة في الغرب أطلَّت الشكوكيّة برأسها مع رائدها الأوّل بيرون حين رأى أنّ: «المعرفة تعدّ أمرًا مستحيلًا، والمصير المحتوم للبشريّة هو الشك واللاَّأدريّة. بعد ذلك تمادت الشكوكيّة، لتتحوّل إلى مذهبٍ فكريٍّ يفيد أصحابه بأنّ المعرفة الحقيقيّة في حقل معينٍ هي عبارة عن معرفة غير محقَّقة وليست ثابتة لدى الإنسان، أي أنّ الحقيقة خارجة عن نطاق إدراك الذهن البشريّ، وأنّ الإنسان لا يمتلك القابليّة لمعرفة الحقائق الثابتة، باعتبار أنّ الحسّ والعقل معرّضان للخطأ. فضلًا عن ذلك، فقد عُدَتَّ الأصول المنطقيّة التي وضعها أرسطو لصيانة الذهن من الخطأ غير كافية، وأنّ السبيل الصحيح في التفكير هو التوقّف عن إصدار آراء جَزْميّة، ثم بالغوا في منهجهم هذا لدرجة أنّهم طبّقوه على مسائل الرياضيّات والهندسة معتبرين أنّها قضايا احتماليّة وتشكيكيّة.
من البيِّن أنّ هيوم ـ وإن ادّعى مجاوزة أسلافه القدماء، وهو ما لا دليل عليه ـ فإنّه لم يفلح في مسعاه مع فلاسفة الحداثة. في الحقبة الحديثة سينبري إلى استنساخ شكَّانيّة «التنوير» ويحفظها عن ظهر قلب. أخذ عن ديكارت منهجه الشكِّيّ واستبدل «الأنا أفكر» بالغريزة، إلّا أّنّه سيتَّبع حرفيًّا ادعاء ديكارت ويؤسِّس عليه: «إنّ علينا أن نصف بالزيف جميع الأشياء التي قد نتشكَّك فيها، وألاَّ نصفَ أيّ شيء من الأشياء بأنّه حقيقيّ ما لم يكن بمقدورنا أن نثبت حقيقته. وحتى يتسنّى لنا ذلك لا مناص من الاعتماد على برهان يبدأ مما هو محلّ شكّ، ثم ينتقل من خطوة إلى أخرى تكون كلّ منها صحيحة وفوق كلّ شكّ»…
* * *
ربما تنبَّه هيوم إلى مَعْثَرتَه لمّا ذمَّ الميتافيزيقا وأعلن عن قصور العقل، وهذا ما سيحمله على التمييز بين نوعين من الفلسفة:
-الفلسفة العويصة والمجرّدة: وهي التي تبحث عن المبادئ العامّة للطبيعة البشريّة بواسطة الاستدلالات المجرَّدة.
– الفلسفة البسيطة والواضحة: وغرضها تهذيب الآداب، وموضوعها الفعل الإنسانيّ، وهي «تشتغل بتلك المبادئ التي تسيّر أفعال الناس، من أجل أن تصلح من سلوكهم وتقرِّبهم من أنموذج الكمال الذي تصفه لهم».
لقد مالَ هيوم إلى الثانية بعد ما شقَّ عليه الخوض في العالم المجرّد للميتافيزيقا، ثم انصرف إلى هندسة مقارباته للمعرفة البشريّة في إطار ما أسماه «فلسفة عمليّة بسيطة» تستفيد من دقّة الفلسفة النظريّة المجرَّدة ومن طاقة الاستدلال الميتافيزيقيّ. لكن هل استطاع هيوم أن ينجز هذه الفائدة من الفضاء الميتافيزيقيّ ليؤيّد مدّعاه؟
يبدو هذا المطمح مشكوكًا فيه على غالب الظن، تبعًا للمقدّمات والتأسيسات التي ابتنى عليها مغامراته المعرفيّة. ربما رغب هيوم أن يصير مبحثه عن «الفاهمة البشريّة» نقطة انعطاف تومئ إلى تحرّر الإنسان من كهف التجريد الميتافيزيقيّ، غير أنّ هذه الرغبة لا تلبث حتى تؤول إلى استدخال هذا الإنسان في كهف العدم. فقد أقام عدميّته على فَرَضَيّة مفادها: أنّ الفلسفة لما كانت تقوم على هيئة للفكر ولا تخوّل له دخول مشاغل الحياة والعمل، فإنّها تتلاشى حالما يغادر الفيلسوف عتمة الظلّ ليستقرّ في وضح النهار، ولا يمكن لمبادئها أن تحافظ بيسر على أيّ تأثير في سيرتنا وسلوكنا، فأحاسيس قلوبنا، واختلاجات أهوائنا، وهيجان عواطفنا تبدِّد ظلام استنتاجاتها كلها، وتحطُّ بالفيلسوف العميق إلى مجرّد رجل من الدهماء.
لم يكتفِ هيوم بما اقترفه بحق الميتافيزيقا لمَّا حكم عليها بالبطلان، بل راح يبحث عن ذلك الفيلسوف الذي لا يقصد أكثر من أن يكون ترجمان الحسِّ الإنسانيّ العام. ربما كان بما له من “ذكاء فيزيائي”، مسلك الفلاسفة والمفكّرين من بعده. وسنرى من بعد ذلك كيف استولدت مسارات الحداثة سلالة متّصلة من الفلاسفة الْتَمَّ شملُها على ذمِّ الميتافيزيقا وعبادة العلم المحض.
من الشواهد الصارخة أنْ تحقَّق لديفيد هيوم مع إيمانويل كانط ما كان يرنو إليه. ففي عام 1756م قرأ الأخير ترجمة ألمانيّة لنظيره حول الشكوكيّة كانت كافية لتهزّ إيمانه بشرعيّة المعرفة الميتافيزيقيّة، وهو ما عبّر عنه بعد سنوات في مؤلّفه «مقدّمات نقديّة» Prolegomena بجملته العصماء: «لقد أيقظني ديفيد هيوم من سباتي الدوغمائيّ»….
جناية هيوم على كانط أدّت إلى اندفاعه على غير هدى نحو ما أسماه مواجهة اليأس العامّ من المعرفة الميتافيزيقيّة، ثم كانت معضلته الكبرى عندما شرع في تحويل الميتافيزيقا إلى علم.
لقد جاء الأمل الموهوم لكانط من المصدر نفسه الذي جيء لديكارت، أي من الثورة العلميّة التي أبهرت الجميع بسحرها. ابتهج كانط بالنور الخافت الذي أدركه في فوضى الهندسة المعاصرة، وصار يبصر في نور العلم منبعثًا لبداية إصلاح العلوم. كان ثمّة تباين بارز بين الضعف الواضح للأنظمة الميتافيزيقيّة الغربيّة وحالة الازدهار التي شهدها العلم الوضعيّ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد حافظت الرياضيّات على حسن سمعتها القديمة، وبلغت الفيزياء مع نيوتن عزَّا لم يعهده علم الطبيعة من قبل، لكنّ الفلسفة ظلّت تواجه معضلة العزلة حتى كادت أن تذوي تحت وطأة الضربات القاسية للعلم.
* * *
قيل إنّ هيوم هو أوّل من اكتشف «مشكلة الشكّ في الاستقراء»، وهذه المشكلة ترتبط بكلٍّ من منهجَيْ الاستقراء العاديّ والنخبويّ اللذين يؤولان عنده إلى النتيجة نفسها، أي أنّ كِلا المنهجين لا يُنتجان اليقين المعرفيّ؛ إذ فيما يؤكّد الشكّيّ العاديّ على أنّ الحالات الموجبة للتعميم الاستقرائيّ لا تُقدّم أيّ أُسُس مهما كانت لتأكيد صدق التعميم أو احتماليّة صحّته،… يؤكّد الشكّيّ النخبويّ على أنّ الحالات المؤيّدة لنظريّة ما لا تقدم أيّ أُسُس لتأكيد صدقها أو احتمالها. وكما أشرنا من قبل فإنّ ما فعله هيوم ـ وما واصل فعله ـ هو توجيه انتباه الذهن بعيدًا عن المشكلات المُلِحَّة للاستقراء النخبويّ، ليتجه نحو المشكلات العاديّة نسبيًّا للاستقراء العاديّ. والواضح كما يقول ناقدوه أنّ تجنّب هيوم للاستقراء النخبويّ مرتبط بجهله بعلم عصره الذي لا يقارنه فيه أحد، لكن الأمر يرجع بدرجة أكبر إلى إبستيمولوجيّته الحسّيّة التي تستلزم بطبيعتها أن تكون النظريّات الأصيلة غير منجزة.
* * *
وأنّى كان الأمر ففي مستخلصات هيوم واجراءاته ما يؤكّد حقيقة غابت عن كثيرين، وهي أنّ ما صنعته الحداثة من أفكار هي أدنى إلى إعادة التدوير لبضاعة الإغريق الفلسفيّة؛ بل جاءت أقرب إلى استعادات رديئة لما قرّره السلف أحيانًا. وتمشّيًا مع هذه الفَرَضية لا نكون قد جاوزنا الحدّ لو قلنا إنّ تاريخ الحداثة الفلسفيّة الغربيّة ظلّ موصولًا بحبل متين مع الفلسفة الأولى، أخذ عنها كلّ شيء ليستقرّ أمره على دروس المعلّم الأوّل، ولمّا يفارقه قطّ سحابة خمسة وعشرين قرنًا خلت.