دراسات وبحوث معمقة

تعدد صور اللاهوت بين الوحي والنبوة والنص

تعدد صور اللاهوت بين الوحي والنبوة والنص

  

                                                                                                       عمرو عبد الرحمن

 

اللاهوت (1)

يحاول المستشار عبد الجواد ياسين الإجابة على سؤال معضل، وهو لماذا تتعدد صور اللاهوت في كل مرة يُقال فيها بتجدد الوحي؟ أو لماذا تتعدد الديانات التوحيدية؟
فبالنسبة لهذه الديانات الوحي وضع اللاهوت بكل تفاصيله، وأي تعدد لاهوتي هو من قبيل الكذب والانحراف. الحقيقة واحدة وما سواها باطل. فانصرف التوحيد عن توحيد الإله إلى توحيد اللاهوت.

 

كيف يمكن أن تتعايش العلمانية مع الدين، على أساس بقاء الدين كظاهرة اجتماعية لن تذهب إلى أي مكان. فهل من الممكن إيجاد أرضية مشتركة لتعايشها مع التقدم العلمي المتسارع؟

يشتبك عبد الجواد ياسين مع بنية الدين من خلال عرضه لعدة اتجاهات تفسر نشأة الدين.
منها الاتجاه الاجتماعي الذي يفسر الدين على أنه تجلي لرابطة المجتمع في المجتمعات البدائية كما عند دوركايم، أو انعكاس لعلاقات اجتماعية تحركها بنية المجتمع الاقتصادية كما يخبرنا ماركس. وهو اتجاه يهمش فاعلية الذات الفردية واحتياجاتها لحساب قوة المجتمع والحفاظ على بنيته.
في لاهوت الديانات التوحيدية أيضاً تم تهميش الذات، فلا مكان للتجربة الفردية، فالمقدس سابق على الذات، والذات ملزمة بالإيمان به. كما ينفر الطرح التوحيدي من التفسير التاريخي للدين. فالدين مطلق، مكتمل من لحظته الأولى، ولا مكان للتطور في بنيته اللاهوتية.

بحكم قانون التنوع الطبيعي للذوات، كل ذات، داخل كل ديانة، تملك تصوراً لاهوتياً جوانياً خاص بها، لا يتطابق حرفياً مع أي تصور لاهوتي آخر، بما في ذلك التصور الرسمي الصادر عن المؤسسة باسم الديانة التابع لها.
بمقاييس التجريبية، فالذات تؤمن بالله وليست تعرف الله. لكن الذات تعرف أنها تؤمن. أي أن موضوع اللاهوت هنا هو الإيمان وليس الله.

الموقف التوحيدي من ثلاثية الله، العالم، الذات لم يقم بنفي وجود الذات والعالم لصالح الله مثل الهندوسية مثلاً، بل قام بالحط من قيمتهما.
لا تقر الديانات التوحيدية بمبدأ الوحي الكلي، أو الوحي المطبوع في نفوس البشرية، رغم إقرارها بوجود الفطرة، لكنها فقط ترشد الإنسان إلى وجود إله، وهذا لا يكفي. لأن الإله تلزم معرفته على نحو تفصيلي معين. ولا يكفي التوصل لهذه المعرفة عبر تأملات الذات، بل يجب التسليم أنها صادرة من هذا الوحي الإلهي بالذات. فكأنما تسعى الديانات التوحيدية إلى توحيد اللاهوت أكثر من توحيد الله.

جميع الديانات ظهرت في سياق تاريخي، أي داخل اجتماع. وكل لاهوت يعكس البيئة الاجتماعية الطبيعية الاقتصادية السياسية الثقافية التي يعمل فيها. فالمطلق لا يعمل في الفراغ.

الوحي

هناك نمطين للوحي، نمط من أسفل لأعلى كان فيه الإنسان يحاول تكوين صورة للإله وتعاليمه، ونمط من أعلى لأسفل حيث الوحي ينزل من الإله موجهاً خطاباً للبشر.
قبل الأنبياء كان الكهنة، يقومون بالدور الحصري للتواصل بين البشر والآلهة، حتى جاءت العبرية ودخل مفهوم الأنبياء لأول مرة حيث يختار الإله وسطاء للتواصل مع البشر. كان هذا تطوراً نحو الفردانية ممثلة في نبي على حساب الطابع الجماعي المؤسسي لمجتمع الكهنة.
أحد أهم خصائص اليهودية هي فكرة الكتاب والنص، فلم تكن الديانة لتستمر لولا وجود العهد القديم وتبني المسيحية له.

من نظرة إلى التوراة نجد أن موضوع الوحي فيها هو الشعب العبراني، فالإله فيها هو إله العبرانيين لا إله العالمين، وعندما يذهب موسى لفرعون، لم يكن هدفه هدايته ولكن تحرير بني إسرائيل. فكأن الرب لم يكن رب المصريين حتى يهتم بهدايتهم!

الوحي هنا لا يبدو مطلوباً لذاته أو لأغراض أخلاقية، بل موضوعه الرئيسي سياسي مرتبط ببني إسرائيل وصراعاتهم السياسية مع من حولهم.

لم تنشأ اليهودية كديانة توحيدية منذ البداية فكان يهوه يغار من آلهة آخرى كما في الأسفار الأولى من التوراة، ثم تمركز الحديث عن كونه إله بني إسرائيل، ثم تمركز الحديث عن مملكة يهوذا وكون هيكلها هو المكان الوحيد للعبادة لشعب إسرائيل. حتى تحولت إلى ديانة توحيدية في النهاية بفعل الصدام مع الآلهة البابلية المتعددة. ثم تفاعلت مع المؤثرات الفارسية الزرادشتية منتجة أفكار جديدة مثل الشيطان والآخرة.
مع الحضارة الهيلينية اليونانية يظهر مصطلح الحكمة وتتعرض أفعال الإله للمساءلة.

تتمثل قمة الوجود الاجتماعي في التوراة، عندما يشبه الإله علاقته ببني إسرائيل بعلاقة زواج، وقد خانه بني إسرائيل مع آلهة الكنعانيين بممارسة الزنا. ثم خانوه مرة ٱخرى بالخضوع للمصريين والآشوريين، حتى وإن لم يتضمن ذلك عبادة آلهتهم. وكأن العلاقة بين الرب والشعب، قائمة على كونه أمة قومية تبحث عن الملك، لا أمة دينية تبحث عن التقوى والأخلاق.

النبوة

يرى عبد الجواد ياسين أن مصطلح النبي نشأ كتطور لمصطلح الرائي الكنعاني، وهو من يستطيع تقديم نبوءات مستقبلية. فالنبي في التنظير العبري القديم لم يكن فقط يبلغ رسائل الإله، لكن أيضاً كان يقدم نبوءات مستقبلية معتمداً على وسائل التواصل مع الإله عن طريق الرؤيا والإلهام والكلام والصور الحسية.

مع المسيحية انقطع عصر الأنبياء، وتجلى الإله بنفسه مخلصاً لليهود. ومع انتقال المسيحية للجغرافيا الرومانية الهيلينية، تخلصت من حمولة التاريخ العبري، وتوجهت بشكل أوسع للأمم وأعفتها من الشريعة. واحتفظت بنظام الكهانة، فأصبح للكنيسة الحق الحصري في الحديث نيابة عن الإله وتفسير النص المقدس.
بينما تبنى الإسلام رؤية لاهوتية أكثر تجريدية، لم يُنشئ مؤسسة كهنوتية لكن ظلت فكرة الوساطة عبر النبوة موجودة، نبي واحد لمرة أخيرة ونهائية.

يناقش عبد الجواد ياسين مفهوم النبوة من خلال طرح سبينوزا الذي لا يعتبره طرحاً كاملاً نظراً للظروف التي أحاطت به. والسؤال هو هل النبوة ناتجة عن معرفة فطرية طبيعية أودعها الله لدى كل البشر، تتفجر عند بعضهم نتيجة خصوبة في الخيال تعطيهم القدرة على المعرفة بالذهن الخالص، أم أن النبوة ناتجة عن وحي مباشر بالمفهوم التقليدي.

فتح اسبينوزا الباب أمام الاعتراف بفاعلية العنصر البشري في اللاهوت، فالإقرار بأن النبوة نتاج معرفة طبيعية -وإن لم يقل بذلك صراحة- منح الرسالة نسباً إلهياً بشرياً، وفتح الباب لاستيعاب أن ثمة دور بشري في كتابة الكتاب المقدس، بعدما كان يتم النظر إليه على أنه كلمة الله التي نزلت بالوحي مباشرة.

النص

عبرياً، اكتسب النص شكله عبر ثلاث مراحل، تم في آخرها إغلاق النص وبداية مرحلة التفسير. في هذه المرحلة يصبح النص مغلقاً، شمولياً، خارجاً عن الزمان والمكان، متجرداً من أي تأثير للواقع الاجتماعي، لينشئ سلطة ليست جديدة بالمعنى الكامل لكن الوعي بها هو الشئ الجديد والمتجدد مع مرور الزمن، رافضاً أي محاولة التعدد أو التطور.

كان من المفترض أن يعمل تأسيس النص على تحجيم سلطة المؤسسة الكهنوتية كوسيط بين الإله والناس، ولكن على العكس أدى ذلك إلى زيادة هذه السلطة في الديانات التوحيدية، وكأن هناك سلطة تحتاج إلى من يستفيد من امتيازاتها. حدث ذلك على نسق تقليدي في اليهودية والمسيحية، وعلى نسق مختلف عن طريق المؤسسة الفقهية.

يمكن إرجاع ذلك إلى النشأة المبكرة للدولة في الإسلام، إلى جانب الطبيعة القبلية للمنطقة التي ظهر فيها، والتي لم تكن لتمنح سلطة كهنوتية ما هذا الامتياز الواسع من التحكم في نمط التدين. يصح هذا على الأقل مع الإسلام السني، بينما اختلف الوضع مع الإسلام الشيعي بسبب الظروف السياسية لنشأته.

النسق الكلي للدين

في الجزء الثاني من الكتاب يتحدث عبد الجواد ياسين عن النسق الكلي للدين من خلال مقارنة بين النسق الكتابي التوحيدي ونسق الأديان الآسيوية كالهندوسية والطاوية والشنتو والبوذية.
يكون الأسهل عند المقارنة بين الديانات، أن يتم إرجاع التعدد والتنوع إلى أدوات كالنقل والتحريف، رغم ظهور الجانب الاجتماعي والجغرافي بوضوح في علاقات الأديان ببعضها.
ففي آسيا الأديان لا ترسم صورة لإله منفصل بذاته عن الناس، هذه اللاثنائية يتماشى معها التقليل من قيمة أشياء مثل الشريعة والنصوص والأنبياء، التي هي جوهر الديانات التوحيدية.
هل كان يمكن أن تنبثق المسيحية من الهندوسية، أو تنبثق البوذية من اليهودية؟

بدأ التدين العبري بالتشخيص وانتهت اليهودية بالتجريد، في مسار مضاد لاتجاه الفكرة المطلقة الذي وضعها هيجل، حيث تبدأ كفكرة مجردة، ثم ينفصل الجزء عن الكل في لحظة اغتراب وخطيئة، ثم يحاول الجزء الاندماج مرة أخرى فتتجسد الفكرة. مسار متناغم مع المسار الذي سارت فيه المسيحية باتجاه التجسيد، مصطدمة بما انتهت إليه اليهودية من تجريد.

ثم تأتي المسيحية وسط مؤثرات يونانية غنوصية، متخففة من حمولة الشريعة، لتتخلص من ارتباط الإله بالشعب العبري، باستخدام فكرة الفداء التي هي موجهة إلى كل إنسان. ورغم أن المسيحية وصلت إلى أقصى درجات التجسيد إلا أنها احتفظت بدرجة من درجات التجريد متمثلة في فكرة الأقانيم.
ثم يأتي الإسلام ليعود إلي التجريد العبري، لكن بصورة أكثر توازناً بين العدل والرحمة. رافضاً التجسيد وفكرة الأقانيم، معتمداً على الشريعة كأداة للعناية الإلهية للبشر أجمعين. إلا أن الإسلام لم يتخلص تماماً من المعنى التشخيصي، الذي ظهر في كثير من نصوص القرآن.

لا نجد أن النقاش حول الماهية يحتل مكانة كبرى في ذهن الجمهور العادي، لأنه يمارس التدين كسلوك مجتمعي مفروض بقوة العادة والعرف، سابق على وجود الأفراد، أو كفعل وجداني مستمد من المعاني المتجردة للدين. ما يمكن أن نطلق عليه التدين الشعبي.

في ظل القراءة التاريخية لتطور اللاهوت -والتي لا ينفيها وجود المطلق- بعد أن قادتنا المقارنة مع ديانات الشرق الأقصى إلى نقاش الماهية، تقودنا المقارنة مع ديانات الشرق الأدنى إلى نقاش الخصائص، وتحديداً فكرة التوحيد.

والبداية كانت مع آتون، الإله الذي حاول إخناتون فرض عبادته وحيداً، وإقصاء بقية الآلهة التقليدية.

في الكتاب المقدس العبري يتطور الإله عبر ثلاث صور: الأولى هي إله الآباء إيل، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهو إله شبه طبيعي هدفه الوعد بكثرة الذرية وتمليكها الأرض.
الثانية هي يهوه، الذي يظل يقدم نفسه على أنه إله الآباء. يهوه لا يقدم نفسه كإله وحيد، لكنه أعظم الآلهة، يحافظ على وعده تجاه شعبه بني إسرائيل، وينقذهم من ظلم المصريين لا باعتباره رب العالمين بل كإله بني إسرائيل حصرياً.
الثالثة هي إله واحد للعالم، لكن هذه العالمية لا تمر إلا من خلال الشعب العبري.

نشأت المسيحية كنتاج تفاعل بين اللاهوت اليهودي والديموغرافيا الرومانية الهيلينية. بدأت كحركة إصلاح داخل اليهودية وكان من الممكن أن تظل كذلك لو لم ينقلها بولس إلى رحاب الجغرافيا الرومانية، حيث تم تكريس التحول من مسيح بشري للخلاص العبري إلى مسيح إلهي موجه إلى جميع الأمم، تحول ظل يتشكل عبر أربعة قرون فرضت روما الدولة والمجتمع كطرف أساسي في المعادلة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى