مدوّنات د. محمود حيدر

المواطنة الإلهية

واحدية الأنا والغير والنظير في نهج البلاغة

 

 

 

 

 

المواطنة الإلهية

واحدية الأنا والغير والنظير في نهج البلاغة

 

 

 

 

                                                                      د. محمود حيدر

                                                                          باحث في الفلسفة والإلهيات

 

 

 

 

مسعى هذه الأملية مقاربة قضية تكاد تشكل واحدة من أدقّ الإشكاليات المعرفية وأكثرها حساسية وتعقيداً في حقل الاجتماع الإنساني، والديني بصفة خاصة. عنينا بها قضية الأنا والآخر، والكيفية التي ينبغي ان تُقارب فيها هذه القضية، من أجل أن يستوي نظام المعايشة في عالم الكثرة على صراط الوحي.

وإذ وجدنا أن نظهِّر مسعانا هذا بعبارة “المواطنة الإلهية”، فلغاية استجلاء ما حظيت به منزلة الإنسان في المعارف الإلهية والحكم الربَّانية من اعتناء خاص. كان لنا من أجل ذلك، أن نقارب وجهاً مبيناً مما تختزنه رسالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الى الصحابي مالك الأشتر لمَّا عيَّنه والياً على مصر. “وأشعر قلبك الرحمة للرعية، واللطف بهم، ولا تكون عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنمُ أكلهم، فإنهم صنفانِ: اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق.. فأعطهم من عفوكَ وصفحِك، مثل الذي تحب وترضى أن يعطِيكَ اللهُ من عفوه وصفحه”..

لقد ابتنينا بحثنا في هذه المقاربة، على تأصيل “النظير” بوصفه مفهوماً محورياً يسهم في تنمية وتسديد الاشتغال الفكري على أطروحة “المعايشة الرحمانية”. وما رمينا من هذا التأصيل إلا ابتغاء التعرّف الى ماهية وهوية ومنزلة النظير عند الإمام، ليكون للناس مثالاً وقدوة في اجتماعهم وتدافعهم. وكذلك لتهتدي به الإنسانية الى سوَّيتها وسعادتها وحضارتها الفاضلة…

محور هذا البحث وغايته، بيان الابعاد الإلهية لتلك الرسالة، واستظهار قيمها الممتدة في حركة الزمن. لذا فإن مسعى كهذا، يندرج في سياق الإجابة على سؤال الغيرية كإشكالٍ مركزي في مشاغل الفكر الإنساني المعاصر. من أجل ذلك رأينا الى مفهوم النظير كمنفسح رحيب يتغيَّا بلورة “فلسفة اجتماع كونية” تنعقد فيها الصلة بين الأنا والآخرعلى نصاب الاحتكام لعناية الحق الأعلى في عالم الخلق.

أما الذي يضاعف من راهنية مفهوم النظير كما بيّنته الخطبة العلوية، فهو اللاَّيقين الذي يعكسه الجدل المتمادي حول هذه القضية منذ خمسة قرون من عمر الحضارة الغربية الحديثة.

وعلى ما نلاحظ، ففي أدبيات الحداثة مختزن وفير من المطارحات حول العقد الاجتماعي وإدارة التنوع ونظم العلاقة بين الفرد والمجتمع. إلا أن ما تناهى لنا هو أن السجال حول هذه المطارحات، لا يكاد يقترب من المحل الآمن، حتى يعود ليستأنف سيرته القلقة…

قد يكون الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricaeur (1913 – 2005) من أبرز مفكري الغرب المتأخرين، الذين سعوا الى بناء هندسة معرفية تنتظم الوصل الحميم بين الذات والغير. فلقد بذل ريكور مجهوداً بيِّناً في هذا الحقل المعرفي، خصوصاً في كتابه الأخير “الذات عينها كآخر (Soi – MêmeComme un Autre). كانت غايته في ما ذهب إليه، تجاوز المعضلة التي واجهت أسلافه ومجايليه ولم يفلحوا في تجاوزها. أما أطروحته فتؤكد على المكابدة التي تقوم به الذات لفهم ذاتها عبر اكتشاف معنى تجربتها عبر متاخمة نظائرها. ذلك لأن الذات المكتفية بذاتها غير قادرة برأيه لى الاستناد الى يقينية مطلقة.

إذا كانت القضية بالنسبة لفلاسفة ما بعد الحداثة انهم ينطلقون من فضاء الفلسفة ليخرجوا الأنا من كهفها المغلق، فإنها في “النظير العلوي الرحماني” تسمو فوق الأنانية والغيرية في نفس الآن. وما ذاك إلا لأن “الغير” الذي انتجته “أنا الحداثة” -حتى وهي ذروة لطفها وعقلانيتها- هو “غيرٌ” مفطور على النقص وعدم اليقين. انه “غيرٌ” محتاج على الدوام لمن يمنحه الاعتراف بماهيته والإقرار بحقه. ذلك يعني أن لا حضور للنظير في هذا المحل من الفهم. بل ثمة تفاوت وانسلاب وخصومة دائمة بين الغير والأنا. فالذات التي منحها فلاسفة الأخلاق، سعة أفق بقصد أن تغمر الآخر بالمودة والإيثار، ما أفلحت هي الأخرى في تجاوز شرائط العلمنة ودنيويتها الصارمة. فإنها لأجل ذلك لم ترقَ الى الرحمانية التي يترجمها مقام النظير في الأطروحة العلوية.

مقام النظير ومفهومه

كيف لنا إذاً أن نفهم النظير في رسالة الإمام، ثم كيف نتدبر أمره ليغدو أساساً لمشروع خلاصي يشمل بعنايته الفضاء الآدمي كله.

مقام النظير الذي نحن بصدد جلاء معناه ومقاصده له حقيقته المفارقة. ذلك بأنه مقام مبنيٌ على حاضرية الله وعدله في عالم الاختلاف والكثرة. وما ذاك إلا لأن حاضرية الله في عالم الخلق تجعل النظير مخلوقاً مفارقاً لما تعارف عليه الناس. هو ليس كائناً عادياً شأنه شأن سائر البشر. وهو خلاف ذلك الكائن المسكون بالأنانية، النافي للغيرية. من سيمائه انه مهاجر الى الجود الإلهي ليكسب عظمة الإيثار والإنفاق متاخماً للألوهة حتى منحته صفاتها في العطاء والجود واللطف. ولذا جاءت حاضرية الله في هجره ومسعاه النظير، حاضرية تدبير ولطف، لا منَّه فيها لأحد من الناس على أحد. انها عين الرحمانية التي يستوي فيها النوع الآدمي بالعدل على نشأة النفس الواحدة.

ولما كان مسعانا في هذا البحث بيان المنازل المعرفية لمفهوم النظير، فقد ارتأينا بداية إيضاح المفردات المفتاحية التالية:

ـ “الأنا” عند الإمام هي ضمير المتكلم بالحق. فإذا ما صنّف الناسَ صنّفهم بالعدل، فأقامهم على خط الإستواء في أصل النشأة. حتى لم تعد الأنا المتعالية ترى إلا بعين الله وتقديره ولطفه.

ـ  الأخ، هو المؤمن المتحيّز في الدين، الى كونه عضواً في الأخُوَّة الكونية العائدة الى أصل النشأة الأولى.

ـ واما النظير فهو المعادل للأنا والأخ والآخر في المنشأ والأصل. وهو أساسا ذلك الكائن الجامع للكثرة الإنسانية، على اختلاف ألسنتها وألوانها ومعتقداتها. ثم هو صاحب النفس المحترمة، والمكرّمة من الله لمّا خلقه على صورته. والحال، فالنظير – في هذا المقام – هو الكائن الآدمي المستخلف في الأرض، والموصول بعروة وثقى بالغيب. انه المعادل للأنا والأخ في الدين، وهو النظير في الخلق بنفس الآن. إلا أنه يتحرك تحت إشراف الحق الاول وعنايته. وحاصل الأمر أن حق الغير هو حقّ متأتٍ من فيض الله لا من كهف النفس البشرية وأنانيتها.

لو أحلنا كلام الإمام بشقيه العلمي والعملي لَنَسَبْناه الى عالم الحكمة البالغة. ففي مراتب هذا العالم الصاعد يتدرج السائر نحو الحق الأول، عبر جدلية لا نهاية لها من المحو والإثبات، والترك، والاتباع، وكذلك عبر محاكاة لوازم الشريعة واحكامها، وصولاَ الى تدبر حقائقها ظاهراً وباطناً. وهكذا فإن الحكمة الأخلاقية البالغة التي يراد من خلالها التحقق بمقام النظير، لا تدرك غايتها إلا برحلة تعرُّفٍ مضنية في طلب الالتحاق بالربوبية.

إنّ فهم النظير على مثل هذا النصاب المتعالي، هو فهمٌ لا يتحقق على التمام إلا اذا عاينّاه بعين الحق لا بعين ذاتنا. فلا تستقيم الرؤية التوحيدية مع الدنيوية المكتظة بالفقر، والأنانية، ونكران الجميل. فقاعدة التناظر في الكثرة الخَلْقية هي قاعدة أصيلة ثابتة ينفرد بها الخالق وحده. والخلق المأمورون بتمثُّلها ولا ينالونها بغير المجاهدة. ولهذه المجاهدة شرائط معرفية وسلوكية، هي من مقتضيات السفر المعرفي المديد في المباحث الالهية المسددة بمحاسن السير والسلوك.

 

 

 

النظير كظهور إلهي للوحدة في الكثرة

ينشأ النظير من محصول الحكمة البالغة، كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[1]. فهو اذاً، المساوي والمثيل للموجود الإنساني ولكن على نصاب العدل. أي على “النشأة الأصلية للنوع الآدمي،حيث يؤالف بين اثنين من أصل واحد. وهو ما نجده في زوجية المثنى حيث لا انفصال للأصل، وإنما ضرب من تمييزٍ بين كل من طرفي الزوجية في الصفة والهوية. فكل متقابلين على نحو التناظر، هما نظيران متعادلان في اصل تقابلهما وجها لوجه. وبذلك يؤول التناظر الى مبدأ الإيجاد. فالكون مثلاً يدار بسلسلة من الانظمة والقوانين الذاتية الثابتة التي لا تتغير. وهذه القوانين والأنظمة هي نظائر متعادلة في اصل ظهورها في الوجود رغم الاختلافات والتفاوتات بين شخوصها وأفرادها.. ويقوم العدل في نظام النشأة الكونية على وجود مراتب مختلفة ودرجات متفاوتة للوجود. وهذا هو منشأ ظهور الاختلاف والنقص والعدم. ولأن التفاوت والاختلاف والنقص في المخلوقات أمور لا تتعلق بأصل الخلق،بل هي من لوازم ومقتضيات تلك المخلوقات، فمن الخطأ الظن بأن الخالق فد رجح بعض مخلوقاته على بعض. اما الترجيح فهو الذي يؤدي الى نقض العدالة والحكمة فإنه من فعل الفاعل البشري. اي من المخلوق. أما الذات الآلهية المقدسة، فلما كانت وجوداً صرفاً وكمالاً محضاً، وفعلية خالصة، فهي اذن، منزّهة عن تلك الوسائل والافكار والوسائط، وبالتالي عن كيفيات الترجيح التي هي من لوازم الاجتماع البشري. ولذا فالعدل ـ بمعنى التناسب والتوازن ـ من لوازم كون الله حكيماً وعليماً. فهو سبحانه بمقتضى علمه الشامل، وحكمته العامة،يعلم ان لبناء اي شيء مقادير معينة من العناصر. ولذا فهو من يركب تلك العناصر، لتشييد ذلك البناء. وضمن دائرة ارتباط العدل بالحكمة بوصفهما صفتين من صفات الحق تعالى، يتجلّى العدل الإلهي من خلال فيضه على كل مخلوق بقدر مايستحق. وعلى قول الفيلسوف نصير الدين الطوسي: لا يوجد حكم لائق غير حكم الحق.. ولن يأتي حكم يفضُلُ الحكمَ الحق، وكل شيء موجود قد أُوجد كما كان ينبغي، ولم يوجد شيء لا ينبغي وجوده”.. ولأن لازم الحكمة والعناية الالهية هو ان يكون للكون والوجود معنى وغاية، فأي شيء يوجد، إما ان يكون خيراً بنفسه، واما أن يكون وسيلة للوصول الى الخير… فالحكمة من لوازم كونه عليماً ومريداً،هي توضيح اصل العلة الغائية للكون. اما العدالة فليس لها علاقة بصفتي العلم والإرادة، ولكنها بالمعنى الذي مرّ تكون من شؤون فاعلية الله. اي أنها من صفات الفعل وليست من صفات الذات[2].

ولئن كان النظير هو في حيثية ما حاصل لقاء الأنا والغير، فذلك يعني أنّ حاضريته في الإجتماع الإنساني نتيجة فعلية لاستبدال مفهوم التناقض الوضعي بمفهوم التدافع الإلهي. ولذا فهو لا يقوم على قانون نفي النفي كما تقرّر المادية الديالكتيكية. ولا على قانون التناقض كما وجدت الهيغلية، وإنما على ما نسميه  بـ”زوجية التكامل في عالم المثّنى”… ففي هذا العالم بالذات  يولد النظير من دون أن تشوب ولادته شائبة.

فلو أوّلنا المثنّى في توليده للنظير لظهر لنا ما نعتبره مجازاً ” الديالكتيك الخلّاق”، بحيث لا يعود النظير مقابلاً للآخر وإنّما هو حاصل الإمتداد الخلّاق من الأنا إلى الآخر وبالعكس. وهو ما لا يقدر عليه إلاّ العارف المقيم في رحاب الألوهة لحظة تلقّيه الرحمانيّة وامتلائه بها..

وعليه، لا يعمل مثل هذا النظير خارج المثنّى.. بمعنى أنّه ثالث يولد من  لقاء الأنانية والآخرية ثم ليظهر على الملأ كبديل لهما. ولأنه متّصل بالرحمانية، لا يرتضي لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن الإثنين، بحيث لو تآلف هذين الإثنين من بعد المكابدة في مشقة التناقض، أن يظهر كثالث يروح يستعيد استبداد الأنا بالغير ليصبح أولا ًمن جديد.

لو فعل النظير هذا ما كان ليبلغ السموّ، ولا تسنّى له أن يكون له حظ المفارقة. ذلك أنه محفوظ في محراب المثنى، فلا يغادره بأي حال. فالأنا باقية تحتفظ بفرديتها واستقلالها، وكذلك الآخر باق ٍ على فرديته واستقلاله، لكنهما إذ يجريان مجرى القربى سوف يُفتح لهما باب الكمال لينالا مقام الحرية المؤسسة على العدل.

في هذا المقام بالذات سوف يُرى النظير في ضمير الأنا والغير اللذين اكتملا بالمثنّى، ثم توثّقت صلته بالحق الأعلى. سوى أنّه لا يفارق الجيرة الحميمة ليستقّل بذاته، فهو ممتد معها على أرض الأخوَّة الفاضلة. وتبعاً  لمبدأ الإمتداد يصير النظير آخرَ في الأنا، والأنا تغدو نظيراً في الآخر، فيما تتولّى الرحمانيّة بعنايتها تثبيت المثنّى وتسديده. ولذا يدخل كلٌّ من الأنا والغير في سنَّة التدافع الخلاّق، بما هي سنّة عمرانية تمنع الفساد في الأرض، وتؤسّس لإعمار دنيا الإنسان وتيسِّر سبيله إلى السعادة القصوى.

بهذه الصيرورة لا يُشتقُّ النظير من ضدّين: الأنا والآخر. بل هو مما يُشتقُّ منه، لا من سواه،  نظراً لأصالته، وكذلك بما هومفارق للأضداد. يستطيع الأنا أن يتمثّل حال سواه ويكونه، بشرط  أن يعقد النيّة على الخروج من كهف الثنائيّة واحترابها. ففي هذا الكهف تحتدم الأنا مع كل من يغايرها هويتها. وي هذه الحال يستحيل كلا منهما نقيضين متنافرينلا يلتقيان على كلمة سواء. بل قد يسعى كل منهما الى تدمير نظيره، أو–في أحسن حال-  ليقيم معه توازن هلع لا يلبث بعد هنيهة أن ينفجر لتصيب شظاياه الإثنين معاً. وإذن لا يولد النظير الكامل إلاّ في مكان ٍنظيف خارج الكثرة المشحونة بالتحاسد وسوء الظن. وسيكون له ذلك حين تبلغ أحوال العالم درجة الإختناق. فعند هذه الدرجة لا يعود ثمة انبثاق للحقيقة السامية إلاّ  حين يفارق النوع الانساني جاهليته ليصبح معادلاً للصفاء الكوني.ولنا هنا على سبيل المناسبة أن نذكر شاهداً من مختبرات الحداثة الغربية:

كان نيتشه وهو ينقد ثنائية الخير والشر في عقل الغرب- يتساءل عن الكيفية التي يمكن لشيء ما أن يولد عن ضده: الحقيقة عن الضلال، إرادة الحقيقة عن إرادة الخداع . الفعل الغيري عن المصلحة الذاتية. ونظر الحكيم النيّر الخالص عن الشهوة…

كان يقول: إنّ تولُّداً من هذا النوع ممتنع..إذ يجب أن يكون للأشياء ذات القيمة الأسمى منبع آخر وخاص. وهذه القيمة لا يمكن أن تُشتّق من هذه الدنيا الفانية الغاوية المخادعة الوضيعة، أومن هذا الهرج والمرج من الأوهام والأهواء.إن منبع هذه القيمة الأسمى يجب أن يكون هنالك في حضن الكون، في اللاّفاني في الإله المخفي، في الشيء في ذاته، هناك، وليس في محل آخر”[3].

ولكن من أين للعالم بنظير ينقله من جحيم النفي والإقصاء إلى سموّ الفضيلة والإستقبال والرحمانيّة؟

قد يكون نيتشه أكثر فلاسفة الحداثة، الذين أسّسوا لفكرة نظير يقوم بهذه المهمة عن طريق إقامة الحدّ على فكرة الكون المولود من احتدام الأضداد. لقد رأى أن إيمان الميتافيزيقيين الأصلي وفي كل الأزمنة، هو الإيمان بأضداد القيم.ثمليبيّن”أنّ علينا أن نترقّب جنساً جديداً من الفلاسفة، من الذين لهم ذوق ما، وميلٌ ما، مغاير ومعاكس لأسلافهم.. ولنقل بكل جد – كما يقول- : إنّي أرى بزوغ مثل هؤلاء الفلاسفة الجدد[4]“.

أما هذا الميل المعاكس الذي يريده نيتشه من نبوءته التي مرّت معنا. هي بالضبط ما يقصده بـ “الإنسان الخلّاق ” أو الإنسان المتفوّق الذي وجده في حكمة زرادشت. فسنرى مثلاً،أن الواجب الأول فيتأويليتهيعني الإنتصار على الذات. لذا كان يردّد على الدوام أن الإنسانية التي يطمح كل إنسان إلى تجاوزها هي إنسانيته بالذات. ولقد كانت الخشية العظمى التي تسكنه هي الإضرار بالغير. وأما العدالة بهذا الإعتبار، فهي ليست مجرّد مكافأةتمّن بها الأنا على سواها، بل هي عطاء مجانيّ تتجاوز ذاتها في سخاء بلا حدود  طبقاً لما ورد في كتابه الأثير “هكذا تكلّم زرادشت”: “أحب ذلك الشخص الذي يعطي دائما ً ولا يريد حفظ نفسه”.

إذا كان نيتشه وجد نظيره في زرادشت، فقد ظل ّ هذا النظير محكوماً بإرادتين سالبتين معرَّضتينعلى الدوام للإهتزاز.أمّا نظير “المعايشة الرحمانية” فهو على خلاف ذلك.. إنه كائن مطمئن الى ما ينظر ويعمل ممتلئ بالرحمانيّة، فهو يجود ولا يسأل عمّا جاد به، ذلك بأّنه نظير ظاهرٌ بالحق، ومظهرٌ له في عالم الناس، ومؤيدٌ بعنايته في الآن عينه. وبهذه الصفات الجامعة فإن نظير المتصوف كائن فعَّال في مسعاه من أجل أن ينهض بنفسه وبغيره في نفس الآن ومن دون تفاوت.

وعلى هذا النحو تصير نفس النظير في مقام الفاعلية المدركة مُظهِرَةً للآخر، وكل منهما يصبح مظهراً لغيره. لأن الفاعل المدرك في مقام التألّه يُظهرُخيريته طوعاً وطاعة ً للخير الأول. وهو في نفس الوقت يدرك أنّه مؤيد بالحقانية الآلهية ومحفوظ ٌ بها من كل خلل وزيغٍ.

نظير المثنى كمؤسس للمواطنة الرحمانية

على هذا النصاب من جمع الظاهر إلى الباطن سيُكتبُ للنظير أن يجتاز التناقض ليرى الوحدانية في المثنّى. وفي هذه الحال يصير كل شيء بالنسبة إليه قابلاً لسريان الزوجية الخلاّقة في الوجود. لقد صار الأمر بينّاً لمن رأى نقيضه قائماً في ذاته، وفي هذه الحال لا حاجةٍ لأحد ٍمن طرفي الزوجية إلى البحث عن صاحبه في غير ذات زوجه، لأن كلّاً من الزوجين النقيضين قائمٌ في ذات الآخر، وكلّ منّهما يحسّ بزوجه، ولولا رؤية كلّ من الباطن والظاهر قائماً في الآخر لما استطاع الإنسان أن يتلائم مع صروف الدهر، فيحيا النقيض في نقيضه، ليُعدّ لكلّ حال عدّته مزوّداً من غناه لفقره، ومن صحته لمرضه، ومن راحته لتعبه ومن شبابه لهرمه. وإذا كان الفردُ العادي يحيا هذا التناقض فطرةً وسليقةً وطبعاً بحياته النقيضين معاً، فإنّه على بصيرة من أمره، فكيف حياة أهل الغرام التي لا يعرفها إلاّ أصحابها، ولعلّ السبب في غيابها عنّا هو أنّنا قد تجافينا عن فطرتنا، فلم نعش النقيض قائماً في ذات نقيضه؟

ولهذا كان علمُنا بباطن الشيء يحعلنا نعلم ظاهره ضرورة وبداهة والعكس بالعكس[5].ولنا في هذا مثال: فلو علمتَ أنّ الحركة في كلّ من الزوجين النقيضين من كل شيء، تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لوجدت أن السبب في ذلك إنما هو من أجل أن تظلّ مستمرّة دائماً وأبداً. فالشيء المتحرّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنما هي حركةٌ مستمرةُ لا تتوقف، وفيها تتمثّل الصلة بين الخالق والمخلوق،-وبين النظير ونظيره-، وذلك في صورة رحمته التي وسعت كل شيْ. وفي استمرار هذه الصلة المتبادلة على السواء والتعادل المتبادل ، يتجلّى سرّ هذا الوجود في صورة قيام النهاية في البداية والبداية في النهاية في كلّ شيء[6]. فإذا نظرت مثلاً إلى معنى التزاوج الذي يتجه إلى الإتصال مستقلاًّ عن معنى التجاوز الذي يتجه إلى تعدي الشيْ الذي تتجاوزه منفصلاً عنه، وجدت أنه ليس إلى تعرّف أي منهما من سبيل إلاّ من خلال الآخر.

وإذن، فالإنفصال محال آخر في مقام القيومية الإلهية. ففي هذا المقام المتعالي تغمر الرحمانيّة كيانهما معاً، لذا فإنهما يثبتان عليها ويتبادلانها بالتعادل والتساوي من دون أن تتخلل العملية التواصلية بينهما عقدة العطاء المشروط بالأنانية. ذاك أنّ  العطاء في هذه الحال هو عطاء صادر من المعطي الأول، وما تقدمه الذات إلى الغير من عطاء جميل فهو منه تعالى وما الذات الإنسانية إلاّ واسطة لفيضه وعطائه اللامتناهي. وهكذا لا تعود زوجية الذات والآخر محكومة بالتناقض ما دامت  غير مقطوعة الوصل بالألوهة. فعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة المعرفة على خط الإستواء والإستقامة. حيث تعرف الذات نفسها ونظيرها على نصاب العدل، ثم لتبدأ سَيْرِيَّة معاكسة من التعرّف ليعرف النظيرُ نظيره على نفس القدر من المودة والرحمة.أما ما يحكم التفاعل في المثنّى الذي يسكن الآخر والذات معاً، فإنّما هو مبدأ التحوّل والتكامل. ذاك أنّ طرفي المثنّى هما في تحوّل مستمّر بحكم أنّ نهاية الطرف الأول (الذات) هي بداية الطرف الثاني (الآخر).

النظير في الخلق كتجلٍ لبلاغة التوحيد

ما كان للنظير في الخلق أن يظهر في نهج البلاغة، إلا كحاصل لتمامية المعرفة بالله وكمالاتها. ذلك بأناسمى صفات الإمام علي في توحيد الله، هي صفة العبدانية.اي عبادة اليقين،وهي عبادة لاشية فيها. حيث يصل العابد بالعبدانية إلى مقام التصديق التام، وهو مقام الحمد. حيث الحمد مقصور على الله لأنه الله. وهو غير مرتبط بعطاياه ومِنَحَه ورزقه، ووعده الموحَّدين بالنعيم الأبدي. وإنما لأنه الحق الأحد الصمد. وهذه المرتبة من اليقين التام لا تُدرك الا من مقام القائل:”الهي ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك”. وبهذا فان أقرب تعبير قدمه الإمام لمقام الحمد هو شعيرة السجود، لكونها الشعيرة الدالّة على الإقرار التام بالصمدية وتسبيحها.

والحمد – على ما تقرر الحكمة الإلهية في أديان الوحي – هو عين العلم بالله. ومن هذا المحل العلمي ينظر الإمام الى الأنا والغير ليلتقيا معاً في النظير. وها هنا  يبتدئ السير في حركةالقول والعمل تأسيساً على الارتباط الموثوق بين الحامد والمحمود وبالتالي بين العابد والمعبود.

وحتى يُعرف الحق بذاته حق المعرفة على قاعدة،”بك عرفُتُك”، ينبغي النظر في عبدانية الامام للحق بالخلق. لتصير المعرفة بالله معرفة بمخلوقاته بالتبعية. ذلك ان حقيقة العبدانيةهي معرفته لذاته في تبعيتها. والتبعية عموماً عبارة عن الارتباط بشيء في امر لا يتم حصوله الا بهذا الشيء. وفي مقام تبعيةالانسان خصوصاً، هي ان يرتبط بشيء تحصل له به فائدة اكبر من تعيّن وجوده وتحقق سلوكه. فتكون العبدانية في هذه الحال، هي معرفة الارتباط الذي يحصل به التعين الوجودي والتحقق السلوكي. ويصطلح اهل المعرفة على تسمية هذا الارتباط باسم “التبعية الأصلية”.

تأسيساً على “عبدانية الحمد لذات الله”، يشرع الإمام في السفر الى عالم الناس. ومن فضاء الحمد يمضي الى حل إشكال التدافع بين الإنسان والإنسان. وهو في الحقيقة الحل الذي ظهّره الإمام عبر التناظر على قاعدة التعرّف الخلاّق بين منوعات الكثرة البشرية واختلافها.

وهكذا، سيكون لمسار التعرف ان يترسخ عبر حركة تسري في جوهر العلاقة التي لا تنفصمبين الحق والخلق. اما ميدان هذا السَرَيان فهو في الحيّز الذي يشهد فيه الحق على الخلق. وهو ما اصطلح عليه بعالم الشهادة. فسيكون على الإمام وسط هذا العالم، ان يدل ويبيّن ويعلّم ويقيم الوزن بالقسط بين الناس تبعاً لتقريرات الحق الأول في الشريعة المقدسة.

لقد عرفالإمام الحق. وبهذه المعرفة أدرك حاضرية الحق في الخلق، حتى لقد صارت البلاغة عنده علماً حيث كل قول فيه ينحكم بقول الحق، وكل عمل ينحكم بعمله. ليست المعرفة بحق الناس عند الإمام امرا محصلا ً بالإكتساب بقدر ما هي دفع الهي. ذلك ان حق الانسان غير منقطع عن حق الله في الخلق. والإحالة العلوية الى الحق الاول يجعل حق الانسان مرتبة من مراتب ذات الحق. وبذلك  يغدو كل حق في عالم الكثرة البشرية موصولاً بعروة وثقى بالحق في عالم الوحدة الإلهية. في الرؤية المتبصِّرة بأنوار الحقيقة المحمدية  ما من فاصل بين حق الله وحقوق الناس. لكن صلاتالوصل بناء على هذه الرؤية تنبثّ من قيومية الحق تعالى على الوجود، لا على محوريةالانسان التي ابتنى عليها العقل الغربي منظومته الفلسفية ورؤيته الى الوجود.

قوام التناظر بين الأنا والأخ والنظير في مقالة الإمام،إنما هو انبثاقه، من دائرة الألوهة. فهذه الثلاثية جارية على الاستواء ضمن هذه الدائرة فلا تتعداها. فإن القائل بالتناظر الذي هو الأنا العارفة بالحمد لله لا يفارق الثلاثية.إنه ركن من اركانها، وحين يوصّفُ الناس، ويصنّفهم، لا يكتفي بالتوصيف والتصنيف على نحو ما يفعل المنفصل عن اطار الصورة، وإنما يمضي عميقاً في حقل التفاعل بوصفه وصي الرسول وحامل الأمانة والإمام المبين.

التناظر في الاجتماع البشري اذاً، هوحضور الإمام كمربٍ  للنظير في حركة الواقع. حيثينبغي له الانتظام على الصراط. ومبتدأ الصراط عند المربي هو قبول التكليف بوصفه واجباً افترضه الحق علىالإمام المستخلف ليتولى شؤون خلقه.

واما مناط التكليف ـ كما سيقرر الإمام في النهج ـ فعائد الى تنزيل الأخ والنظير في مقام الأنا العارفة بالحمد. وهذه الموقعية المتعالية هي تلك التي تتجلى بعقد الهي يظهر في عالم الناس وقوامه سير الأنا في معراج الحقانية بدءاً من الحق الاول، امتدادا  الى الأخوّة في الايمان، وصولاً الى النظيرية في الآدمية. وهكذا  فإنّ السير في معراج الحقانية على النحو الذي يمليه العقد الإلهي هو سير متساوق مع القوانين التاريخية. اي انه سير في الخلق بالحق، فيه يرجو السائر عناية الحق وتأييده، ليفلح بما أُمِرَ به في عالم الناس،ويرشدهم الى الحق.

لقد وضّح الإمام خط السير في دنيا الخلق بعناية الحق بادئاً من نفسه. ومما جاء في وصيته لابنه الحسن(ع): “يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك. فأحبب لغيرك ما تُحِبُ لنفسك، واكره له ما تكره لها. ولا تظلم كما لا تحبُ ان تظلم، وأحسن الى جميع الناس كما تحب ان يُحسن اليك. واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وان قًلّ ما تعلم، بل ولا تقل كل ما علمت مما لا تحب ان يقال لك. ولا تسأل عما لا يكون. (…) واعلم يا بني ان رأس العقل بعد الايمان بالله، مداراة الناس. ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لا بد من معاشرته، حتى يجعل الله الى الخلاص منه سبيلاً، فاني وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعايشون ملء مكيال. ثلثاه استحسان وثلُثْه تغافل”[7].

النظير هو الحضور البيِّن في الزمن البشري

منتهى معراج الإمام في رحلة التكليف لإصلاح عالم الكثرة، العودة الى المبدأ. وما دام كل امر متعلق بتوحيده تعالى فلا مناص الرجوع اليه في كل شأن متعلق بتدبير الاجتماع الانساني. وهو ما يبيّنه الموحّدون في قولهم: “إن النهايات هي الرجوع الى البدايات”. وهذا القول يترجم سرّ مَيْلِ كل مخلوق الى أصله ومبدئه. وبعبارة اخرى السبب الكامل وراء عودة كل غريب الى وطنه. ويعتقد الأولياء ان هذا الميل الى المبدأ يشمل كل ذرات الوجود ومنها الإنسان، ومهمة المكلف الإلهي تظهير هذا الاعتقاد من خلال الإرادة والعزم والثبات والصبر… والإرادة عند الأولياء تعد أول منازل السير الى الله عبر إصلاح شؤون الخلق والنظير. فلم يفصل بين عبادة الحمد والتنزيه لله الواحد الأحد الصمد، وبين فعلية العبادة في الإجتماع الانساني. حيث تتمظهر اسماء الله وصفاته وأفعاله كشواهد وموازين في أعمال الناس وتجاربهم.

ولمّا كان في التجارب علم مستحدث،فإن الساعي الى مقام النظير سيجد نفسه امام مقتضيين، ينبغي له الأخذ بهما وهو يمضي في مسار التكليف:

ـ المقتضى الاول هو الخطاب الإلهي، وقوامه ان يعلم المكلف ان الحق يخاطبه في كل شيء، وان هذه المخاطبةمستمرة باستمرار حياته، وان نص هذا الخطاب، ان حُفِظَ رسوما في الصحف المطهرة، فمعانيه مودعة في نفس المكلف وفي الأكوان من حوله “سنريهم آيتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين انه الحق”. وان يعلم هذه الاكوان ما قامت ولا استقامت الا بهذه المعاني الالهية التي على المكلف واجب طلبها، والتعرف عليها والتقرب بها الى حضرة الله.

ـ المقتضى الثاني هو الرؤية والمراقبة، ومؤداهماان يعلم المكلف ان الله يراه رؤية لا تنقطع. وان هذه الرؤية، ان جاءته بالرضى عن افعاله سَعِدَ سعادة لا يشقى بعدها، وان جاءته بالسخط شقي شقاوة لا يسعد بعدها، وبذلك فهو مطالب بأن يراقب نفسه ويراقب الله في كل افعاله[8].

من هذين المقتضيين الإجماليين، تتفرع ثلاثة مقتضيات تفصيلية تفترضها شروط العمل في ميادين التجربة التاريخية وهي “الاشتغال بالله” و”التعامل مع الغير”. و”التفاعل مع الاشياء او مع سائر الموجودات”.

ـ في المقتضى الفرعي الاول يدرك المكلف انه مخلوق للاشتغال بالله، وان الاشتغال بغيره ينبغي ان يذكره بالله دائماً وابداً. فما يعقل المكلف شيئا الا ويجعله هذا الشيء يعقل امر ربه فيه.

ـ في المقتضى الفرعي الثاني، اي التعامل مع الغير، فان المكلف يأتي اعمالاً لصالحه يبنيها على اعتقاداته مُقِراً لغيره في ذات الوقت بحق الاتيان بمثل هذه الاعمال الصالحة، وبحق توجيهها بما عنده من اعتقادات، كما يرتب المكلف هذه الاعمال جميعا بحسب ما يقتضيه الصالح العام.

ـ اما الثالث فهو مقتضى التفاعل مع الاشياء. ففيه يتجه المكلف الى الموجودات من حوله قصد ارضاء حاجاته المشروعة، وحفظ حياته المادية، فيفعل فيها ويتصرف بها بحسب هذه الاهداف، كما تفعل فيه هذه الموجودات هي الاخرى، وتؤثر فيه بما يوافق هذه الاهداف أويعارضهاـ فتقوم بينهما علاقات الأخذ والعطاء والتأثروالتأثير[9].

تدخل ثلاثية الأنا والأخ والنظير دخولاً بيِّناً في صميم هذه المقتضيات سواء ما تعلق منها بالمستوى الاجمالي لجهة صلة المكلف بالحق الاول او ما يتعلق منها بالمستوى التفصيلي لجهة صلة المكلف بمنعطفات وتعقيدات وشواغل الاجتماع البشري. ها هنا على التعيين يمكننا فهم ما ذهب اليه الامام في التوصيف والتصنيف لأحوال الناس في حراكهم التاريخي. إذ انه ميّز بين النظير في مقامه التكويني حيث التعادل والتساوي في أصل الخلق وبين النظير في عالم الكثرة والاختلاف والتدافع في حقول الخير والشر.

  1. لقد أراد الإمام بمقالته ان ينشئ عقداً رحمانياً ينتظم صلات الوصل بين الناس. حتى العدو في لحظة ما يمكن ان يتحول الى ولي حميم، كما في الآية:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[10].

تظهر الآيتان على كمالهما في مقام التطبيق في قول الإمام “صافح عدوك وإن كره، فإنه مما امر الله في عباده” وقوله: “ما يكافأ عدوك بشيء أشد عليه من ان تطبع امر الله فيه”.

وفي هذين المأثورين ما يفصح عن الامتداد الرحماني، الذي يبدأ من الذات العارفة بالحق الأعلى، الى النظير وان كان لك عدواً. وذلك ما يقيمه الحكماء والعرفاء في أعلى مراتب الارتباط بالحق الأول. إذ على قاعدة الحب في الله والكره في الله يستوي الموحّد على الصراط.

ومثلما يسري مفهوم النظير على الفرد والمجموعات، فإن للمفهوم سريانه في فضاء الحضارات والأديان. وما في القرآن الكريم من البيّنات بصدد الاختلاف والتنوع وتكثّـُّر طرق معرفة الحق من خلال الأديان رسالات الوحي،ما يفضي الى بيان سلسلة الوجود الواحد وصولا ً الى المصدر الاول والحق الاول. ذلك ما يجعل مبدأ التناظر ضرباً من الكثرة في عين الوحدة، بحيث تغدو الكثرة في عالم الإنسان، عين الحقيقة الواحدة في الاصل الانساني، ذلك ان الاختلاف في الألوان والاعراق والألسنوالثقافات والأديان هي من آيات الله وسنّة من سنن الخلق.

النظير في مقام العارف الواصل

إذا كان لنا أن نعثر على مكانة النظير في المعايشة الرحمانية، لقلنا إنها الغاية التي يطلبها السالك الى الحقّ في دنيا الخلق. فلو بلغ المطلوب أصبح مواطناً إلهيا كاملاً. وسيكون عليه لكي يبلغ ورشاده وكماله أن يقطع منازل التّطهر والصعود منزلاً بعد منزل بالإيثار والجود والسخاء. ولكنه يعرف أن مقتضى المهمة هو الأخذ بمشقّة الطريق أنّى كانت أثقالها.

وإذا كانت الحقيقة المحمدية في ظهور من ظهوراتها هي سَرَيان الوحي في التاريخ، بَانَ لنا النظير كتجلٍّ من تجلياتها. ويمكن أن نشهد على هذا التبيُّن من ثلاث جهات:

  • الجهة الأولى: بصفة كونه سلك الطريق وترقّى في معارجها حتى عرف نفسه فعرِف الله فعرَّفه الله على خلقه.
  • الجهة الثانية: بوصف كونه عارفاً بغيره، معيناً لهذا الغير على التشبُّه بجميله وحسن فعاله، الى الدرجة التي يصير فيها الغير نظيراً له في الصفات والأفعال.
  • الجهة الثالثة: بوصفه مظْهراً للحق الأعلى في مقام الرحمانية.

حين تجتمع جهات الرؤية الثلاث، أمكن أن تتكامل صورة النظير وماهيته. ثم سنجده ينتقل الى طور العمل ليبدأ سفره في عالم الناس ساعياً الى إنجاز مهمته الإلهية. وهكذا تبدو المهمة القصوى للنظير الرحماني في محو سلطة الأنا على الغير، حتى وهي تقرُّ للغير بحق التناظر والإستواء. ولهذه المهمة بعدٌ جوهري يتوقف على تحقُّقه تحصيل الرحمانية كصفة فعلية لحاكمية الحق الأعلى في ضبط التقابل بين الانانية والغيرية. فالنظير الرحماني يبقى حتى وهو في مقام التحقق مفتقراً الى حاكمية الحق الأعلى وتسديده. فهو دائماً على خوف مقيم من التقصير، كما في قوله تعالى: “لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون”. والإنفاق من الحب هو العطاء الزائد عن الواجب. وهو الدرجة العليا من الجود التي تدخل في فضاء يتعدّى فائض التملُّك. إنه الإنفاق من ذات الأنا التي لا يقدر عليها إلا من نال شهادة العرفان بعدما جاهد نفسه حدّ التلاشي في حقيقة الشريعة. ينقل العارف الكبير معروف الكرخي، عن معلمه ومرشده الإمام الرضا (ع) قوله: “إن الله تبارك وتعالى أعدّ لأوليائه شراباً، فإذا شربوا سكِروا، وإذا سكِروا  طرِبوا، وإذا طربوا طابوا، وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا خلصوا، وإذا خلصوا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم”[11].

أما كيف يحصِّل السالك شرابه الإلهي، فذلك بالاتباع والتقليد من الولي الى المريد. ويعود أصل هذة القاعدة الى مقام الأخوّة الذي ابتناه النبي الأعظم (ص) مع إمام العارفين، كما ورد في الحديث: “علي منّي بمنزلة هارون من موسى”، وفي هذا يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الفتوحات: ان علياً من أصحاب العلم.. وهو ممن يعلمون من الله ما لا يعلمه غيرهم[12]. وذلك آت من الصحبة والأخوة الروحية التي كانت بين النبي(ص)وعلي(ع). فتلك صحبة –على رأي الصوفية- أسّست لنظام المثنّى في العلاقة بين الولي والمريد. فالنبي في هذا المقام هو شيخ الإمام، والإمام مريده.

أدرك العرفاء منزلة النظير عن طريق نظام المثنّى بين النبي والإمام، ومن ثم بين الشيخ والمريد تأسِّياً واتِّباعاً وتقليداً. من هنا يقال ان الدين طاعة رجل[13]. ذلك يعني بالضرورة أنّ كلاًّ منهما يقوم في نظيره. أي أنّ لدى النظيرين حنيناً يكشف سرّ التجاذب بينهما. مع أنّ لكلّ منهما أن يحتفظ بذاته ويكون في الوقت نفسه موضوعاً لغيره. يعني أن تبقى الذات هي نفسها في مقام الوحدة وهي غيرها في مقام التكثّر. وهذا المقام المنبني على العشق هو بالضبط ما يحصّله النظير السالك مسلك المقالة العلوية لمَّا أفلح في العبور من دنيا التناقض وعوارض الكثرة، إلى سماء التحرروالتكامل والوحدة.

لم يكن للنظير أن يحرز كماله، لولا ان بلغ ما بلغه في معراج التوحيد. فلئن استوت جدلية الأنا والغير على أرض الله، أفلح المثنّى في تظهير قوام النظير على حسن المقام. وذلك ما وجدناه في نهج البلاغة، حيث لا يُكتب للنظير حظ اكتساب صفاته الفاضلة، ما لم يحرز مقام التوحيد كأساس لموقعيته في دنيا الإستخلاف الإلهي.

 

[1]– سورة لقمان، الآية 28.

[2]– مرتضى مطهري- العدل الإلهي – ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني – الدار الإسلامية – بيروت – 1997- ص 82.

[3]– فريديريك نيتشه – ما وراء الخير والشر – ترجمة جيزيللا فالور حجار، إشراف : موسى وهبه –  إصدار دار الجديد -بيروت 1995 – ( ص 18).

 

[4]لمصدر نفسه – ص (20).

[5]محمد عنبر – مقدمة لديوان العارف بالله العلامة الشيخ أحمد محمد حيدر “النغم القدسي” – دار الشمال – طرابلس – لبنان – 1997 – ص(18).

[6] – المصدر نفسه – ص (20).

[7]– راجع نهج البلاغة – مصدر مرَّ ذكره – ص 739 ـ 740

[8]طه عبد الرحمن – العمل الديني وتجديد العقل – المركز الثقافي العربي – بيروت – 1997- ص 130

[9]– المصدر نفسه

[10]– سورة فصلت- الآيتان 34 و35.

[11]ـ روضات الجنَّات – عن صحيفة الرضا- ص 231- تحقيق د. حسين علي محفوظ – طهران  1377ه

[12] الفتوحات المكية – الجزء الثالث – ص 174

[13] السهروردي – نفسه – ص 70

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى