الأسس الروحيَّة والجماليَّة للفن الإسلامي*
الأسس الروحيَّة والجماليَّة للفن الإسلامي*
محمد آيت لعميم
تمهيد
يعتبر الفن في جوهره لغة روحانية عند جل الشعوب منذ فجر الزمان. فأحد كبار الفنانين المعاصرين وهو رائد الفن التجريدي فاسيلي كاندنسكي عمق هذه النظرة في كتابه: “الروحانية في الفن”. هذه الهوية تعد سندا ودعامة لنهضة الفن إن هي روعيت، وإن أهملت فقد يتقهقر ويزيغ عن رسالته ويفقد رهانه الذي هو الالتزام بتذكر الوجود الحق الذي عملت التقنية على نسيانه كما نبه على ذلك حكيم الألمان مارتن هيدجر في كتابه المؤسس “الوجود والزمن”. هذا النهج في الفن الملتزم بالوجود الحق انعكس جليا في الفن الإسلامي في جميع مستوياته وتنوع تجلياته، فالفن الإسلامي سواء في بعده التجسيدي والتجريدي لم يغادر الأساس الروحي المستمد من الصورة التي رسمها القرآن للإنسان والوجود والعالم الآخر. وقد كان التوحيد هو الجوهر الذي انبثقت عنه عبقرية الفن الإسلامي في المنمنات والخط والعمارة. وسنحاول في محاضرتنا إبراز الأبعاد الروحية والجمالية المؤسسة لهذا الفن الذي ما زال معاصرا وسيظل كذلك.
مقدمة:
يستدعي الحديث عن الفن الإسلامي بسط القول في مجموعة من القضايا والمسائل تتعلق بالمفهوم وتمثلاته، وبالأمور الحافة به، وبالكلام عن الخلفيات الروحية والدينية والجمالية التي أستمد منها خصوصيته وفلسفته. وللوقوف على كل هذا، لا بد من الحفر على الجذور للتمكن من تحديد المنطلقات والأطر الموجهة، والثوابت المتحكمة في متغيرات الممارسة الفنية لدى المسلمين.
ثم التنصيص في العنوان على الأسس الروحية والجمالية، لأني أعتقد أن جوهر الفن، عموما، يكمن في بعده الروحي، وليس ذلك بدعا مني، بل سبق وأن أشر على ذلك كبار الفنانين العالميين، ففاسيلي كاندينسكي، وهو رائد الفن التجريدي المعاصر، في كتابه ذي العنوان الدال في سياقنا وهو “الروحانية في الفن” De spirituel en Art. وقد أدرك مجموعة من الفنانين الكبار قيمة هذا البعد الروحي في الممارسة الفنية وأولوه اعتماما خاصا في الممارسة والتنظير.
يذهب “كلايف بيل“ في كتابه “الفن” إلى: «أن الفن يجعل الحياة جديرة بأن نحياها، وأن الفن يتأثر بالحياة. لأن إبداع الفن يتطلب أناسا ذوي أيدي وحس بالشكل واللون والمكان الثلاثي الأبعاد والقدرة على الشعور. والتوق إلى الإبداع، ومن تم فإن للفن صلة كبيرة بالحياة – بالحياة الوجدانية[2] » ويضيف أن “الفن في حقيقته الأمر ضرورة للحياة الروحية ونتاج لها…فالانفعال المعبر عنه في العمل الفني هو انفعال ينبع من أعماق الطبيعة الروحية للإنسان…وأن الجانب الروحي من الإنسان يتأثر تأثيرا هائلا بالأعمال الفنية”[3]. ويرى أن في عصور الوجد الروحي العظيم يصبح الفن والدين توأمين “فالدين في أغلب الأحيان هو حجر الشحذ الذي يرهف عليه الناس حسهم الروحي. فالدين شأنه شأن الفن، موكل بعالم الواقع الانفعالي، ولا تعنيه الأشياء المادية إلا بقدر ما تكون ذات دلالة انفعالية، فالعالم الفيزيائي بالنسبة إلى الصوفي، كما بالنسبة إلى الفنان، هو وسيلة إلى النشوة[4]“. إذ في العصور ذات القدرة الروحية يشيع الإحساس بالدلالة الروحية للعالم. ومن تم فقد “قدر أن تكون العصور الدينية الكبرى هي العصور الكبرى للفن[5]” وبعكس هذه القدرة الروحية فإنه “حين يأخذ حس الواقع في التبلد، ويتطلع الناس في التلاعب بالأوصاف والرموز، ويصيرون أكثر آلية وتدجينا وتخصصا، وأقل قدرة على الإحساس المباشر بالأشياء، هنالك تهن قدرتهم على الهروب إلى عالم الوجد ويبدأ الفن والدين في الانحدار”[6].
إن هذه الهوية الروحية للفن هي الملمح البارز الذي بصم تاريخ الفن الإسلامي، في جميع مجالاته المتنوعة بدءا من التشخيص ووصولا إلى التجريد. وسنسعى في هذه المحاضرة أن نقف على تجليات الروحانية في الفن الإسلامي وتأثيراتها في الاختيارات الجمالية عند الفنانين المسلمين.
1) التشخيص في الفن الإسلامي:
فقبل الحديث عن خصوصيات الفن الإسلامي، لابد من إثارة مسألة التشخيص في الفن عند المسلمين، وإماطة اللثام عن اللبس الذي عرفته هذه القضية، عند من يذهب إلى تحريم التصوير التشخيصي.
بداية نشير إلى أن القرآن الكريم لم يصرح بحرمة التصوير. فالذي صرح بذلك هو التوراة، فقد ورد في الوصية «لا تنحت لك تمثالا ولا ترسم لك صورة[7]«. فالقرآن الكريم استدعى لحظتين صرح فيهما بالتصوير والنحت، حين تحدث عن عيسى عليه السلام: “يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله”. وحين تحدث عن الجن الذين يصنعون لسليمان عليه السلام “تماثيل”. وفي السيرة النبوية كما روى ذلك أبو داوود أن النبي “ص” حين رأى السيدة عائشة تلعب بفرس مجنح قال لها “ألا تعلمين أن سليمان كانت له خيول مجنحة. ويروي أنه في فتح مكة لما دخل النبي “ص” الكعبة حطم بعصاه 365 صنما كانت العرب قد نصبتها في صحن الكعبة عدد أيام السنة. وكان بداخل الكعبة صور للملائكة والأنبياء وصور لشجرة وصور لإبراهيم عليه السلام ماسكا الأزلام، وأيقونة لعيسى وأمه، فأمر بمحق كل الصور إلا صورة عيسى وأمه[8]“.
إن الوصية القرآنية التي حلت محل الوصية التوراتية هي قوله تعالى: “ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن” (قرآن كريم)
وفي الوصية الخامسة لم يقتصر القرآن على الأمر بالحكم العادل، بل أضاف إليه القول العادل: “وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى”. (قرآن كريم)
في مقالة بعنوان “الإسلام، القرآن، والصورة“ كنت قد ترجمته عام 2003 ونشرت في مجلة “فكر ونقد” عدد 51، يشير فيها يوسف صديق إلى أنه قد أصبح جليا أنه في القرآن لم تعد الصورة أو الأيقونة، الرسم والتمثيل والإبداع التشكيلي حتى لو كان متحركا هو المكان الذي يمكن أن تندس فيه معرفة الشيطان، مادام عيسى يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طائر بإذن الله، وهي عملية شبيهة بالخلق الإلهي، وقد سجل القرآن أن النبي سليمان أمر الجن أن يصنعوا له تماثيل. يمكن أن نسجل أن محل المخالفة قد تغير، فلم يعد الأمر يتعلق بالمرئي لكن بالمسموع.
ويذهب يوسف صديق إلى أن كلمة “حنان” التي وردت في سورة مريم: “وحنانا من لدنا”. في حق النبي يحي، والتي صرح حبر الأمة ابن عباس أنها من بين الكلمات التي لم يعرف في القرآن، هي وكلمة “فطر”، تشير إلى معنى الأيقونة. مستدلا على ذلك بقصة ورقة بن نوفل النصراني خال أمنا خديجة رضي الله عنها، حين أخذته الشفقة، حين رأى المشركين يعذبون بلالا فصرخ في وجوههم قائلا “والله لو قتلتموه لاتخذت قبره حنانا”.
لم يشجب القرآن التصوير، «فالله سبحانه وتعالى سيضع حدود القانون الذي يحرم تقليب وتشويه نظامه في شيء آخر، هكذا سيوظف كلمة غريبة حتى ذلك العهد عن اللغة العربية، وهي كلمة “زخرف” وهي كلمة من لغة Pindare. وZogrophio في اليونانية تعني الرسم وفق نموذج حي أو وفق الطبيعة “والمزخرف Zogrophos”[9] هو رسام الطبيعة المتحركة». إن السمع والكلام ومجال التخاطب بين الناس هو الذي سيصبح في القرآن موضع الخرق والسفاهة. لقد دلت الكلمة عبر تطورها على الزخرفة العادية، وعلى العطاء الغزير للأرض المخدومة من قبل أناس مهددين بعقاب إلهي، ودلت في سياق آخر على زخرفة القول: “وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا”. (قرآن كريم)
“فبدءا من موسى الذي أصيب بذعر شديد بسبب الصورة والتمثيل الذي وهب له باعتباره معجزة “قلب العصا حية” إلى النبي محمد (ص) الذي لم تكن له معجزة مرئية، لم تعد الأيقونة أو الصورة أو المشهد المنظور هو ما يغضب الله، إن ما يغضبه هو القول المداجي والكذب وقول الزور الذي قرن في القرآن برجس الأوثان”[10] فقد ورد في ذم الكذب آيات قرآنية وأحاديث نبوية، لأن الكذب أضحى هو الصنم الجديد، لاسيما وأن المعجزة النبوية والتي هي القرآن نقلت عبر الكلام واللغة والصوت والأذن، فأصبح نقل القرآن وروايته هو محل الاهتمام. وأي خرق أو تلاعب بنقله، والكذب فيه وعليه هو محل المخالفة والتحريم. فالإسلام لم يعد يخشى أن يعود الناس لعبادة الأوثان والصور وإنما يخشى أن يكذب عليه.
إن هذا الفهم العميق لروح القرآن، سنجده عند كبار الصوفية الذين يدركون بواطن الأشياء، ولا يقفون عند القشرة الخارجية، فالفنان الحكيم عند الشيخ الأكبر هو الذي يشهد نفسه آلة في يد الإبداع الإلهي بعد أن يتحقق باسمه تعالى الحكيم أولا، ثم باسمه البارئ ثانيا، وبالخالق والمصور والجميل، فقد ورد في الباب 198 من الفتوحات المكية أن الأسماء المتحكمة في النفس سبعة منها البارئ، يقول ابن عربي “وأما الإسم البارئ فمنه يكون الإمداد للأذكياء المهندسين أصحاب الاستنباطات والمخترعين الصنائع والواضعين الأشكال الغريبة، عن هذا الاسم يأخذ وهو الممد للمصورين في حسن الصورة في الميزان.
وأعجب ما رأيت من ذلك في قونية من بلاد يونان في مصور كان عندنا، اختبرناه وأفدناه في صنعته من صحة التخيل ما لم يكن عنده، فصور يوما حجلة وأخفى فيها عيبا لا يشعر به وجاء بها إلينا ليختبرنا في ميزان التصوير. وكان قد صورها في طبق كبير على مقدار صورة الحجلة في الجرم وكان عندنا بازي، فعندما أبصرها أطلقه من كان في يده عليها فركضها برجله لما تخيل أنها حجلة في صورتها وألوان ريشها، فتعجب الحاضرون، من حسن صنعته فقال لي “ما تقول في هذه الصورة؟ فقلت له: هي غاية التمام إلا أن فيها عيبا خفيا، وكان قد ذكره للحاضرين فيما بينه وبينهم فقال لي: “وما هو، هذه أوزانا صحيحة” قلت له: “في رجليها من الطول عن موازنة الصورة قدر عرض شعيرة، فقام وقبل رأسي وقال: “بالقصد فعلت ذلك لأجربك”. فصدقه الحاضرون وقالوا: »إنه ذكر ذلك لهم قبل أن يوقفني عليها فتعجبت من وقوع البازي عليها وطلبه إياها[11]«”.
إن هذا العمق الروحي، وهذا التحقق بصفات إلهية، مثل الباري والمصور، والحكيم والجميل، هي أسس الحكمة في الفن الروحي، “بحيث تكون صوره وأشكاله البصرية أو السمعية على ميزان الحكمة مظهرة وجها من وجوه الحضرة الإلهية جمالا وبهاء ولطفا أو جلالا وهيبة وعلوا أو حيرة وولها وعشقا، أو تنزيها أو تشبيها، أو جمعا بينهما أو عظمة وكبرياء أو وحدة في كثرة وكثرة في وحدة. أو كمالا لا نهاية له[12]“. وكل فن خلا من هذه المعاني المعراجية يفقد نوره وحرارته وروحه وثمرته وحياته.
2) تجليات الروحانية في المنمنمات:
لقد تناول مجموعة من الدارسين الغربيين والعرب الفن الإسلامي والجمالية العربية، ومن بين هؤلاء الدارسين هناك أو ليغ عرابار Grabar، والكسندر بابا دوبولو، Papadopoulo. إذ تمكن الأول في كتابه “تكوين الفن الإسلامي” أن يتعمق في مفهوم الرقش العربي Arabesque، ووجد في الرقش فقط ملامح الفلسفة الإسلامية.
أما بابادو بولو فإنه ينفي العلاقة بين مفهوم الاسلام وجميع الفنون باستثناء المنمنمات Miniatures، الذي وجد أنها الوحيدة التي ترتبط بالمعنى الاسلامي. غير أن هذه النظرة هي نظرة اختزالية تسعى إلى تثبيت الدور الذي لعبته الثقافة الفارسية في الفن الاسلامي، وكأن الفن الإسلامي لا استقلالية له، يذهب مارسي Marçais في كتابه “الفن الإسلامي” إلى أن الفن الإسلامي “لم يلبث أن انتقل تماما عن مصادره الأولى، واستطاع أن يكون شخصية متميزة منفصلة عن أي من التقاليد الأخرى، سواء منها التقاليد المسيحية أو الفارسية، أو حتى الفنون العربية الجاهلية”[13].
وإذا كان تحريم الصورة قد ترسخ منذ الخليفة المتوكل بالاعتماد على أحاديث قابلة للتأويل، منها قول الرسول (ص) لأمنا عائشة رضي الله عنها: “يعذب المصورون يوم القيامة”. فإن أبا علي الفارسي أشار إلى أن هذه الأحاديث تتجه إلى منع عمل خطير في مفهوم الإسلام وهو تصوير الله تصوير الأجساد وأن المنع إنما يقتصر على ذلك، فهو يقول: “يعذب المصورون الذين يصورون الله تصوير الأجساد”[14].
يذهب عفيف البهنسي إلى أن “مسألة التحريم أخذت كثيرا من اهتمام المستشرقين لتبرير الفن التجريدي (الرقش) أو لتبرير اختلاف الفن الإسلامي التشبيهي عن الفن الأوربي. مما وجه الباحثين في جمالية الفن الإسلامي باتجاه خاطئ ومعاكس. فلم يستطيعوا تحديد معالم جمالية لفن التصوير التشبيهي أو غير التشبيهي بصورة مقنعة. لأنهم اعتبروا هذا الفن هو بديل اضطراري أو هو (فن الخطيئة) كما يقول بابادوبولو ينطوي الفن الإسلامي على روائع لا حد لها من فن التصوير التشبيهي نراها في المرقنات وهي صور إيضاحية لمخطوط معين، والمنضمات وهي صور دقيقة يتجلى فيها اعجاز الأداء والتكوين[15]“.
يذهب العلامة تيتوس بورخاردت في كتابه إلهام “فن الإسلام، لغته ودلالته” إلى أن “المنمنمات لا يمكنها أن تكون فنا مقدسا، فهي تندرج ضمن ما يمكن أن نسميه التصور الإسلامي للحياة وللعالم. تسهم تقريبا في جو روحاني ما، سواء بتجلياته لبعض الفضائل، سواء بترجمتها لرؤية تأملية”[16]. فالمنمنمة حافظت على اختزال الفضاء إلى مساحة مسطحة وكذلك الربط بين الشخصيات والمشهد؛ وعوضت الضربات السريعة والعريضة تقريبا للريشة الصينية بالخط الدقيق والمستمر للقلم الملائم للخط العربي وكتابته. وملأ المساحات بألوان فاقعة non-brisés بإيقاع نصفي: “فالعلاقة بين الكتابة والصورة تبقى أساسية بالنسبة إلى المنمنمة الفارسية التي تنتمي إلى فن الكتابة، فكل المنمنمات المشهورة كانت فنون خط قبل أن تصير صباغة وتشكيل peintures: ففي الإسلام، عوض فن الكتابة بشكل ما فن الأيقونة والحال هذه، فبعودة فن الكتابة انتهت الصورة إلى الارتباط بالكتابة.
إن “ما يهب المنمنمة خاصية الجمال شبه المتفرد، ليس المشاهد المعروضة بل النبل وبساطة الجو الشعري الذي تسبح فيه”[17].
هذا الجو أو هذه الصيغة تعطي أحيانا للمنمنمة نوعا من الرنين العدني والفردوسي. فهو إحدى الموضوعات الأساس في هذا المشهد الذي يرمز في الآن نفسه للجنة الأرضية و”للأرض السماوية” المحتجبة عن أعين الإنسانية الساقطة، لكنها دائما موجودة في عالم النور intelligible والتي تتجلى لأولياء الله، إنه مشهد بلا ظلال، حيث كل شيء صنع فيها من جوهر ثمين، حيث شجرة وكل زهرة هي فريدة من نوعها.
فالمنمنمة لا تسعى إلى تمثيل وعرض العالم المدرك بالحواس. فما تصفه المنمنمة هو “الأعيان الثابتة” les essences immuables للأشياء. هذه هي الخاصية النوعية لفن المنمنمات والتي تهدف إلى الإمساك بها. وإذا كانت “الأعيان الثابتة”، والنماذج الأصلية للأشياء les archétypes لا يمكن إدراكها لأنها فوق الشكل، لا تنعكس في الخيال التأملي، فمن هنا الخاصية الحلمية الخاصة بأجمل المنمنمات، لأنه حلم جلي وشفاف لأنه مشرق من الداخل.
3) الخط العربي:
إن الكتابة والخط العربي هو الفن الأكثر عربية في فنون التشكيل عند المسلمين. فقد تم اعتبار الخط العربي من أسمى وأنبل الفنون العربية الإسلامية لأنه: “يعطي صورة مرئية للكلام الموحى به في القرآن[18]“. وبذلك ارتبط الخط بهذا البعد القدسي واستمد منه جماليته وروحانيته، فقد تم تجويده والارتقاء به من مستوى الكتابة العادية إلى مستوى التفنن والإبداع.
لقد تميز الخط العربي بطبيعته التجريدية، وإذا ما قارناه بالخط الصيني مثلا، فإن الخط الصيني ينحدر من الخط الصوري pictographie إذ كل علامة فيه هي صورة لفكرة خاصة، في حين أن الخط العربي هو ذو طبيعة صوتية خالصة، يعني أن الخط العربي ذو طبيعة تجريدية، من دون جذور تشخيصية، وحتى الأداة المستعملة فيه، وهي قلم القصب، تمكن الخطاط من عملية دمج العلامات الحروفية في إيقاع مستمر، غير معزول. “فسحر الخط العربي يكمن في الطريقة التي يعرف بها كيف يؤلف بين الفروق بين الحروف مع سيولة المجموع[19]“.
لقد وضح تيتوس بورخاردت، أن الرموز الكتابية الصينية تكتب عموديا، من أعلى إلى أسفل، وبذلك تحاكي حركة “أصول الألهة” Théogonie هابطة من السماء إلى الأرض. في حين أن الكتابة العربية تتقدم أفقيا، على مستوى الصيرورة Le devenir، وتنطلق من اليمين الذي هو حقل الفعل والحركة، نحو اليسار منطقة القلب، فهو يصف إذن حركة تذهب من الخارج نحو الداخل”[20].
ولقد استعمل الخط العربي في فن العمارة، وفن فنون الكتاب، وكان دائما يعقد قرانا بين فن الخط والرقش Arabesque. وإحدى التوليفات الجميلة في هذا الصدد، هي الزواج بين الخط الكوفي ذي الأشكال العمودية مع أوراق شجرة العنب (الكرمة) من خلال تموجات مسترسلة. “وإن التوحيد بين الكتابة والنبات stylisée سيستدعي التشابه الموجود بين “كتاب العالم”، و”شجرة الكون”. وهما رمزان معروفان جيدا عند الصوفية وأساسهما موجود في القرآن الكريم”[21]
إن تفنن الخطاط العربي، ومزجه بين الخط والتوريق يحيل إلى هذه الأبعاد الروحانية التي استفادها هؤلاء الفنانون من الإشارات القرآنية ومن الفهوم الدقيقة لكتاب الله التكويني والتدويني. فالكون هو في الآن ذاته كتاب موحى به وشجرة حيث أغصانها وأوراقها تنتشر من جذع واحد، وحروف الكتاب الموحى به هي مثل أوراق الشجرة، وبما أن هذه تلتصق بالأغصان وبالجذع، فالحروف ترتبط بالكلمات، وبالجمل، وأخيرا بالحقيقة الشاملة والوحيدة للكتاب، ولتذكر أيضا في نفس مستوى نظام الأفكار “الرمز القرآني” للقلم الأعلى، الذي سجل قدر كل الكائنات في اللوح المحفوظ.
فالقلم ليس سوى الروح الإلهي أو الروح الكوني، وأن نبالة فن الكتابة يكمن في أنها تعكس وتظهر مثل ظل بعيد الفعل الإلهي[22].
4) فن العمارة والارابيسك:
يشمل فن الرقش، بالمعنى العام للكلمة، التزيين بأشكال نباتية والتشابك الهندسي الصارم، وفيه نجد فطبي التعبير الفني الإسلامي، الإيقاع والروح الهندسية.
ومن الناحية التاريخية، فالرقش ذو الأشكال النباتية هو مستمد من شجرة الكرم (العنب) وهي رمزية تستدعي رمزية “شجرة الحياة”. فالرقش الإسلامي يؤلف بين أنواع عديدة من النباتات، وقد وظف الرقش في فضاءات ومساند متنوعة. خصوصا في فن العمارة.
تحتل العمارة مركزا هاما في تصور الإسلام للحياة الاجتماعية والروحية والذوقية، وهي عمارة محكومة بالتصورات الإسلامية حول الجنة والرؤى الفردوسية والروحانية. ويشكل المسجد الجامع نقطة الارتكاز في نمو المدينة الإسلامية. وعرفت المساجد عبر تطورات بنائها الزخرفة التي أضحت ميزة فنية وجمالية ذات قدسية خاصة، ثم انتقلت إلى المواد الجلدية والخشبية والبلورية.
يلخص زكي محمد حسن، خصائص الزخرفة في العمارة ودورها في إعطاء طابع خاص للفن الإسلامي فيما يلي:
1) كراهية الفراغ حيث يظهر الفنان ميله إلى تغطية المساحات كلها بالزخرفة
2) التسطيح مع الابتعاد عن النتوء.
3) الابتعاد عن تمثيل الطبيعة تمثيلا مطابقا.
4) التكرار حيث إن الموتيف يتكرر بشكل لا نهائي على مساحات واسعة[23].
في كتاب “الأنساق الطوباوية لقصر الحمراء في غرناطة” لخوسيه ميغيل بويرطا يعرض الكاتب بتدقيق التأثيرات الروحانية على العمارة، ويذهب إلى أن مفهوم أوطوبيا Utopia الذي يعتبر من أخصب مفاهيم النقد الفني الحديث خصوصا بعد أن استعمله السيميائيون في تحليلاتها عن الرواية والعمارة[24]. يمكن أن نؤصله في تربة الثقافة الإسلامية “فينبغي لنا أن نوضح أننا سنستخدم في دراستنا هذه، التي تسلط الضوء على عمارة الحمراء انطلاقا من المقدمات السيميائية العامة ومن العمارة خاصة، اللفظ العربي البديل لمصطلح “اوطوبيا”، وذلك لتعريب المفهوم الغربي ولاسيما أن كلمة “طوباويا” أكثر مناسبة لما ندرسه هاهنا، أعني التصورات الإسلامية للجنة والرؤى البنائية المثالية العربية وتنفيذها في عمارة قصور الحمراء، فكما هو معروف، ـ تشتق كلمة طوباويا من لفظ طوبى الذي يشير إلى شجرة “طوبى“ الموجودة في الجنة وإلى السعادة القصوى[25]“. وبتدبر عميق لسريان هذا المفهوم القرآني للتصورات الفردوسية ينص الكاتب على أن هذه “الرؤية الطوباوية القرآنية الحاضرة في عمارة الحمراء تكتمل وتعقد بتصورات غنية جدا ومكثفة لعين الصور القرآنية كما صورها وطورها علماء الإسلام ومتصوفوه”[26]، يختزل عبد الوهاب بوحديبة هذه التصورات باعتبارها “رؤية مؤسسة على اتحاد الأضداد وتحويل مواد الجنة من النباتي إلى الحجارة النفيسة التي ترمز إلى النقاء والكمال والبقاء على ذاته، ثم الفضيلة، وترتيب هذه الجنة متدرج من منازل تذكرنا بالمقامات الصوفية، في كل منزل متصاعد باب مرصع بالحجارة النفيسة وينبغي للفضلاء أن يشقوا الأبواب السبعة كلها أو الثمانية ليرقوا إلى قمة الجنة[27]“. ولربما استطعنا فهم هذه الرؤية للجنة كالطوباويا الكاملة للإسلام، أي كالمكان الخيالي الذي يحصل فيه المرء على بقائه ومتعته الجسدية والروحانية في مشاهدة النور الإلهي في وحدة مطلقة جسمية وعقلية مع الجمال والجلال الإلهيين.
ويؤكد بويرطا أن هذه “الرؤية الإسلامية المتكاملة للجنة، انتقلت باكرا من فضاء الأدب، فأصبحت رؤية الجنة هذه صورة أدبية تكاد تكون ثابتة ومتداولة في الثقافة العربية الإسلامية بأسرها”[28]. ويشير أيضا في سياق التأثير الطوباوي على العمارة، إلى أن ثمة تصورا طوباويا آخر ضمن الحضارة الإسلامية له أهمية خاصة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي وهو “التخطيط للمدن الفاضلة لدى فلاسفة الإسلام، محاولين بذلك إرساء مجتمع إسلامي مثالي بعد سقوط الأمة الإسلامية كجماعة متحدة وصالحة تحت الظروف السياسية والصراعات بين المذاهب والشعوب آنذاك”[29].
أسهم شعر “القصوريات” في إضفاء نوع من التصور المثالي للعمارة، إذ قام شعراء الأندلس بإعادة تصوير المثال الأعلى العربي التقليدي للعمارة، ففي قصائدهم أوصاف الأبنية العجيبة المشيدة بالمواد الثمينة والمتحركة، رؤية معمارية تتجاوز الإدراك الحسي المعهود وتدق أبواب الخيال، ويميل التراث إلى نسبة هذه المباني الغريبة العجيبة إلى سليمان وإلى شعوب قديمة أو إلى الجن. وفي مخيلة الشعراء أن ملوك الأندلس تفوقوا على هؤلاء البناة الأسطوريين بحيث رسم الشعراء حول القصور فضاءات مثالية طوباوية من خلال رؤى جنان المتعة ذات المياه الفوارة والخصوبة السرمدية معطين للعمارة صورة أنثوية. و”لقد اختار بناة الحمراء أبياتا شعرية مميزة من بين قصائدهم القصورية والمدحية لينقشوها على جدران غرناطة كبناء ذي ثلاثة أبعاد والعمارة الخيالية في أشعارهم، فوصلت الحمراء بهذا الأسلوب الخاص بها والذي يتعايش فيه شعر معماري وعمارة شعرية في حوار مستمر بينهما إلى مدى فني لم تبلغ مستواه أية عمارة أخرى نعرفها في تاريخ العمارة الإسلامية”[30].
إن الحضارة الإسلامية التي أبدعت فنها الخالد أدركت أن الروحانية في الفن هي التي تسمح بتقديم روائع خالدة، ليست بالروائع المتحفية بل الروائع التي تصل الجميل بالنافع، إذ الفن الإسلامي يعيش معنا في حياتنا اليومية، عمارة، ولباسا وزينة. فالفن الإسلامي يرتكز على نظرة شاملة وعميقة للحياة والكون والله نظرة المعتقد بوحدانية الله والفن في خدمة الألوهية، لذلك يعتبر الفن الإسلامي بحق فنا مقدسا.
يستعير عبد الكبير الخطيبي تمييزا دقيقا لطبائع الحضارات من أحد العرفاء، يقول فيه هناك ثلاثة نماذج كبرى للحضارات:
– حضارة الصورة (الحضارة الأوربية وامتداداتها في أمريكا)
– حضارة العلامة (الحضارة الهندية والصينية والإسلامية)
– حضارة الإيقاع (كالحضارة الإفريقية)[31].
وما يميز الفن الإسلامي حسب الخطيبي، هو “استقلالية اللون، وصفاء الأشكال والهندسة المطلقة، وقوة الزخرفة سواء في العمارة أو التوريق أو الزواقة أو المنمنمات والخط. فهناك وفرة في العلامة لا ينقصها الجمال ولا تخلو من قوة غامضة مميزة ومن ثم فإن الفن العربي الإسلامي ظل يخترق الحداثة التشكيلية المعاصرة. “إذ قيمة الفن ذي الأشكال الثابتة الذي يخضع للرغبة في الخلود، لم يكف عن بصم نظرة التشكيليين وذاكرتهم البصرية[32].
وفي هذا النسق يستشهد بقولة لبول فاليري حول الفن العربي الإسلامي اتسمت باستبصار لروح حضارة العلامة، يقول بول فاليري: “إن المخيلة الاستنباطية الأكثر تحررا، التي واءمت بشكل باهر بين الصرامة الجبرية ومبادئ الإسلام التي تنأى بنفسها عن البحث عن محاكاة الكائنات في التشكيل هي التي ابتكرت التوريق، وجردت الفن من عبادة الأصنام، ومن الخيالات الزائفة والحكي والاعتقاد الساذج ومحاكاة الطبيعة والحياة، أي من كل ما لا يكون خصبا بذاته، بحيث إنه يطور مصادره الباطنية ويكشف بذاته حدوده الخالصة، ساعيا إلى بناء نسق من الأشكال يكون مستنبطا فقط بالضرورة والحرية[33].
– Titus Burkhardt. l’art de l’islam et signification. sindibad paris
[1] ألقيت هذه الورقة في ندوة: “سؤال الفن في الزمن العربي الراهن”، المنعقدة بالرباط: 08 أبريل 2017، تنسيق: د. التهامي الحراق، وإشراف د. صابر مولاي احمد. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[2]– كلايف بيل، الفن، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية، ط 1 2013، ص 112
[3]– نفسه، ص 114
[4]– نفسه، ص 129
[5]– نفسه، ص 129
[6]– نفسه، ص 129
[7]– نفسه، ص 129
[8]– نفسه، ص 129
[9]– الإسلام، القرآن والصورة، يوسف صديق، ترجمة محمد أيت لعميم، مجلة فكر ونقد عدد 51- 2003 ص 57 و58
[10]– نفسه ص 59
[11]– الفتوحات المكية الجزء الثاني ص 250 دار صادر.
[12]– مفهوم الحكمة وعلاقتها بالفنون عند محي الدين، عبد الباقي مفتاح، الحكمة والفنون الإسلامية (كتاب جماعي) عن دار القبة الزرقاء ص 135 – 136 – ط الأول 2000
[13]– الجماليات والجماليات العربية، عفيف البهنسي، مجلة الوحدة، الستة الثانية، العدد 24 سبتمبر 1986 ص ص 24 و25
[14]– نفسه ص 26
[15]– نفسه ص 27
[16]– Tituss Bukhardt , L’art de l’Islam langage et signification, sindibad, Paris, p 240
[17]– Ibid p 242
[18]– Tituss Bukhardt, l’art de l’Islam p 92
[19]– Tituss Bukhardt, l’art de l’Islam p.93
[20]– Ibid, p 113
[21]– Ibid, p 113
[22]– Tituss Bukhardt, l’art de l’Islam p: 113.
[23]– الجمالية العربية، في خصائص الإرث الفني، د فضل زيادة، مجلة الفكر العربي، عدد 67 -1992 ص 42
[24]– الأنساق الطوباوية لقصر الحمراء. مجلة العرب للفكر والفكر العالمي عدد 19-20 – 1992 ص 7
[25]– نفسه ص 7
[26]– نفسه ص 12
[27]– Abdel wahed Bouhdibi, la sexualité en Islam, Puf. 1982. P 91-94
[28]– الأنساق الطوباوية لقصر الحمراء، مجلة العرب والفكر العالمي ع. 19-20. 1992 ص 7
[29]– الأنساق الطوباوية لقصر الحمراء، مجلة العرب والفكر العالمي ع. 19-20. 1992 ص 7
[30]– الأنساق الطوباوية لقصر الحمراء ص 9
[31]– الفن العربي المعاصر، عبد الكبير الخطيبي، مطبعة عكاظ الجديدة الرباط ماي 2003 ت فريد الزاهي ص 39
[32]– نفسه ص 37
[33]– نفسه ص 5.
________________________________
*نقلًا عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”.