الآخريَّة المتعالية
الآخريَّة المتعالية
هادي قبيسي
مقدِّمة:
احتلت الآخريَّة مساحة كبرى في الشريعة الإسلاميَّة بخطابها وسلوك شخصيَّاتها الرمزية العليا، لكن السؤال عن محدوديَّة الإهتمام الفلسفيِّ والأخلاقيِّ بها يبقى مشروعاً. وفي زمن يحتشد بالمفاهيم والإحالات الثقافية الفردانيَّة يغدو الإلتفات إلى فلسفة الآخريَّة في التوجيه السماويِّ ضرورة، تتقاطع في تبريرها الحاجات النظريَّة والإشكاليَّات الحياتيَّة على حدٍّ سواء، على أنَّ قضيَّتها تحتاج إلى مشروع معرفيٍّ متكامل يحاول هذا المقال أن يقدِّم إطاراً عامَّاً مختصراً كمساهمة فيه، مقترحاً اتِّجاهات أوليَّة للبدء بإخراج دفائن الوحي والشريعة في هذا الموضوع – القضيَّة.
المعتكف المرآتي لا يتخطَّى حدود ذاته، وهو أسير أنانيَّته وبعيد عن العودة إلى الكلِّ والذوبان في نبع الوجود، وهو إذ يطل على ذلك الأصل الأول، فإنه يعود إلى سجنه ولا يلبث أن يقيد نفسه بأغلالها ويسكن في دار ضيِّقة حسيرة، لأن نفسه لا دربة لها على النظر إلى الآخر، والهجرة من بيتها الترابي، فهي تنتمي إلى الكثرات، ولم يحصل لها الجمع بين الوحدة والكثرة بل تسير في صحراء الوحدة مقيَّدة إلى ذاتها.
__________________________________________
*نقلاً عن فصليَّة “الاستغراب”- العدد 10- السنة الرابعة- شتاء 2018.
العزلة والإعتزال حاجة روحيَّة ومعرفيَّة، والغاية الأصليَّة هي عودة النفس إلى ربِّها راضية مرْضيَّة، ولذا فإن من اشتغلوا على تبيُّن محطات طريق العودة، تمحورت لغتهم على التبصُّر في حقيقة المسافة القائمة في ما بين النفس وربِّها، وهدفوا إلى تحقيق الفناء والإلتصاق بنبع الوجود، فكان السعي يتمحور على إشغال الذات بالربِّ كي تسهو عن ذاتها، لتحقِّق اكتفاءها ومجانبتها للمخلوقات وتعلُّقها بالخالق، ودون ذلك مخاطر عبادة الذات والتمحور حولها والاستعلاء على المخلوقين، والغرق في آتون الأنانيَّة التي تزداد بين كلِّ مقام ومقام، وبين كلِّ مكاشفة ولقاء، وقبل ذلك وبعده عقبات المعارف العقليَّة وحُجُبها الكثيفة.
هذه هي خلاصة قضية الآخريَّة في السياق الإسلاميِّ، والتي تأثَّرت بشكل رئيسيٍّ بتخلِّي السلطة عن الروحانيَّة، فكانت الاتجاهات الروحانيَّة العميقة والجادة، بعيدة عن الإجتماع العموميِّ، لا بل كانت العزلة الروحانيَّة في كثير من الأحيان ردَّة فعل على المجتمع ونمط السلطة القائمة فيه وعليه، فلم ينشغل الروحانيُّ بترتيب العلاقة مع الخارج الاجتماعي، من حيث النظر الكلِّيِّ أو توجيهات السير والسلوك.
لا يخفى على أحد أنَّ الفردانيَّة في الفكر الغربيِّ تشكِّل محوراً مركزيَّاً للحياة والفكر والروح، الإنسان الذي أصبح مستغنياً عن الخالق، وتسنَّم موقع محور الوجود وحلَّ مكان الإله. هذا “الموهوم”[1] هو التكريس المتكامل للإعتزال المعنويِّ، الذي هو سمة العصر الحديث، وهو يشبه في مرتبة أخرى الإنعزال الروحانيَّ مع فارق في الرتبة الوجوديَّة.
الإعتزال:
الإعتزال المعنويُّ هو المدخليَّة العمليَّة لحالة الإعتكاف المرآتيِّ، وهو أعمُّ من العزلة الظاهريَّة المكانية، وأوسع من العزلة المؤقتة الهادفة، هو اعتزال نفسي عن الآخرين، وانطواء على همِّ النفس حصراً. العزلة المكانيَّة والمؤقَّتة هي حاجة طبيعيَّة للإنصراف نحو الهموم الذاتيَّة في التهذيب أو المعرفة، وكذلك العزلة الروحانيَّة التي تتقوَّم بالإبتعاد عن التعلُّقات وعدم التأثُّر بالبيئة الإجتماعيَّة ذات التعلُّقات الدنيويَّة. أمَّا العزلة المعنويَّة فهي غير مرتبطة بالمكان والزمان، بل بالتواصل القلبيِّ والشعوريِّ مع الآخرين، فأنا وسط الجمع ولكن قلبي مع نفسي، وقد أكون في حالة الخدمة العامَّة ولكن لا همَّ لي سوى نفسي، ولا تشاعر لي مع الآخرين، بل أوظِّف خدمتي لأجل مصلحتي الخاصَّة، فأكون من الناحية المعنويَّة معزولاً عن الغير رغم حضوري الدائم بينهم. وإلى هذا المعنى يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في كلامه “إنَّ ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا، وإن لم يظهروا التودُّد بألسنتهم، كسرعة اختلاط قطر السماء على مياه الأنهار، وإن بعد ائتلاف قلوب الفجَّار إذا التقوا، وإن أظهروا التودُّد بألسنتهم، كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على مذود واحد”[2][1]. إذن، العزلة المعنويَّة تنسجم مع الإعتكاف المرآتيِّ وقد تتزامن معه في الآن نفسه، والظروف الحالية أدعى إلى هاتين الحالتين، نتيجة الاكتساح الثقافيِّ الغربيِّ، وردِّ الفعل الوقائيِّ تجاه المجتمعات الإسلاميَّة المتغرِّبة إلى حدٍّ بعيد.
آخريَّة الوحي الإلهيّْ:
الإسلام قدَّم الرسالة الإلهيَّة ضمن رؤية فرديَّة واجتماعيَّة في آن، لغايات تتعلَّق بالفرد وبالمجتمع على حدٍّ سواء، فالإندماج الفرديِّ في المجتمع الإسلاميِّ له غاية على مستوى نفس الفرد كما له غاية على صعيد الجماعة وانتظام مسار تكاملها. القرآن الكريم مليء بالإشارات الإجتماعيَّة والتوجيهات الخاصَّة بالأمَّة والجماعة، وفي بعض الآيات توجيه للعابد نحو التحدُّث بلغة الجمع في صيغة الدعاء كما في الآية الرابعة من سورة الحمد (إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين)، ويشير بعض المفسِّرين إلى أثر هذا النداء باسم الجماعة في الخطاب مع ربِّ العالمين، وللسيد العلاَّمة الطباطبائي إشارة نحو ذلك “وكأن الإتيان بلفظ المتكلِّم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة فإن فيه هضماً للنفس بإلغاء تعيُّنها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنيَّة والإستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس، فإن فيه إمحاء التعيُّن وإعفاء الأثر فيؤمن به ذلك”[3]. وكذلك الشيخ ناصر مكارم الشيرازي يورد تعليقاً قريب المعنى على الآية نفسها “كلمة «نعبد» وكلمة «نستعين» بصيغة الجمع تشير إلى أن العبادة- خصوصاً الصلاة- تقوم على أساس الجمع والجماعة. وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة، حتى حين يقف متضرِّعاً بين يدي اللّه، فما بالك في المجالات الأخرى، وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإسلام لكلِّ ألوان الفرديَّة والانعزال. الصلاة خصوصاً، ابتداء من أذانها وإقامتها حتى تسليمها، تدلُّ على أنَّ هذه العبادة هي في الأصل ذات جانب اجتماعيِّ، أي أنها ينبغي أن تؤدَّى بشكل جماعة. صحيح أن الصلاة فرادى صحيحة في الإسلام، لكن العبادة الفرديَّة ذات طابع فرعيٍّ ثانويّْ”[4].
آية التعارف الثالثة عشرة من سورة الحجرات هي الأخرى تدلُّنا على بعد آخر من أبعاد الآخريَّة الإنسانيَّة في التوجيه القرآنيّْ (يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فتلك الروح التي نزلت من العالم العلويِّ من النفخة الإلهيَّة، وأُلبست لباس البدن، وسُجنت فيه تحتاج إلى مؤنس نظير سجين مثلها يذكِّرها بذاتها المخفيَّة والمضمرة والمسجونة والمجهولة لذاتها، ولذلك هي تحتاج إلى من تتعارف معه، وتتأنَّس به، وتشعر أن لها نظيراً آخر فتعرف نفسها به وتدرك ذاتها المخفية، وهي تستطيع أن تعرف نفسها باستبطانها ولكنها معرفة تؤوب إلى الشكِّ وإلى انعدام الأنس والطمأنينة والإنسجام لأنَّها دوماً تنظر إلى موضوع المعرفة نفسه وتعود إليه دوماً في تشكيك دائم. أمَّا في حالة الأنس والسلو عن النفس فهي لا تعود إلى هذا الموضوع بل تراه في المرايا وفي النظراء، وهي، أي المعرفة الذاتيَّة، تؤدِّي إلى الجمود في النظر إلى النفس، والعودة إليها، والإستكانة إليها، والقبول بها، والإعتماد عليها، وعدم رؤية النقائص من خلال مقارنة الفوارق مع الآخرين، فتحجبها الأنانيَّة عن رؤية مزاياهم التي تدلُّها إلى الخطوات التي فاتتها، فالعزلة المعنويَّة تمنعها، ولو كانت بين الناس، عن رؤيتهم بشكل واقعيّْ.
في موضع آخر، يتَّصل حفظ الميثاق الإلهيِّ بحفظ الصلات الإنسانيَّة، وأثر العزلة الوجوديَّة، وتفكُّك المجتمع على تحوُّل الفرد إلى عنصر مؤثِّر سلباً في تكامل المجتمع، الآية السابعة والعشرين من سورة البقرة (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض)، قطع الصلات هذا يمتد من العلاقة مع الله والرُّسل إلى العلاقة مع الآخرين[5]، وذروة ما ورد في نص الوحي الإلهيِّ هي الإشارة إلى حالة الإنسان الكامل في نظره إلى الآخرين، ومستوى تشاعره مع المنزلقين في غواشي الحُجُب الدنيويَّة، وردت في سورة فاطر الآية الثامنة (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات). فالإنسانيَّة حين تكتمل يكتمل فيها الشعور ويصل إلى الحدِّ الذي يكون فيه أحرص على الآخرين من حرصه على ذاته، ولو كانوا من الأمم الضالة والمعادية، هنا الآخرية تصل إلى حدودها القصوى.
شريعة الآخريَّة الإنسانيَّة:
الشريعة تمتلك بعداً كاملاً وشاملاً في ما يخصُّ الجماعة والأمَّة، سواءً في ما يتعلَّق بالمستوى الإلزاميِّ أم التوجيهيِّ الإرشاديِّ، ألزمت المعتنق المؤمن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالجهاد والدفع عن المستضعفين، وبرعاية أولي الحاجة والمسْكَنة، ويلخِّص قيمة هذا البُعد حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه :”من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم”[6]، فلا يمكن التفكيك بين الجزء الفرديِّ في التشريع والجزء الذي يهتمُّ بالجماعة، وفي النتيجة تنال الآخريَّة قيمة عليا في مسار التكامل البشريِّ، وتأخذ مساحة واسعة في نطاق الأرحام، ومن ثمَّ نرى الإهتمام الكبير في العلاقات العامَّة والإجتماعيَّة خارج نطاق العائلة وتفريعاتها. ففي الحديث القدسيِّ ورد “أيُّما مسلم زار مسلماً فليس إياه زار بل إياي زار وثوابه عليَّ الجنة”. هذا الحديث، وله نظائر كثيرة، يبين قيمة الآخريَّة في السير نحو الوفادة الإلهيَّة في الدنيا والآخرة، وهي جسر يعبر من الزمان إلى الأزل ومن التراب إلى السدرة. ويردُّ عن أمير المؤمنين سلام الله عليه كلام سعى بعض المعاصرين لسبر أغواره من دون أن يعرفوه، وأن يتكهَّنوا غاياته من دون أن يلمسوه[7]، حيث قال : “الصديق إنسان، هو أنت إلاَّ أنه غيرك”[8]. وكذلك قال بلغة أخرى “الأصدقاء نفس واحدة في جسوم متفرقة”[9]، وفي ذلك اقتراب من الآية الكريمة (وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة)، هذه النفس والنشأة الثانية والخلق الآخر يتبدَّى على نحو الكُنه والحقيقة في الآية الرابعة عشرة من سورة المؤمنون (فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)، وكذلك الآية التاسعة والعشرين من سورة الحجر (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، فتلك الروح الواحدة هي نفخة إلهيَّة لا اختلاف فيها ولا تخلُّف وعندما تخرج النفس من هم ذاتها وتترك أنانيَّتها الموهومة تتَّصل الأنفس بعضها ببعض، وتذوب في روح الأرواح. وهذا ما يدلُّنا عليه كلام أمير المؤمنين عليه صلوات الله في المناجاة الشعبانيَّة “إلهي قد جرت على نفسي في النظر لها فلها الويل إن لم تغفر لها”، فهي إن لم تقع في خطيئة النظرة الإنعزاليَّة نحو الذات والوهم الإستقلاليِّ عن الربِّ، تبقى منطلقة بفطرتها نحو منشأها الأصليِّ، وبيتها الحقيقيِّ، ونبع وجودها الأزليِّ، وإلى هذا أشار جلال الدين الرومي في بعض مثنويَّاته “عندما يصير الرجال والنساء واحداً فذلك الواحد هو أنت، وعندما تنمحي الآحاد، حينذاك تكون. لقد صنعت هذه الأنا والنحن من أجل هدف ما، هو أن تلعب مع نفسك نرد الخدمة. وحتى تصبح كل “أنا” و “أنت” روحاً واحدة، وتصبح في النهاية مستغرقة في الأحبة”[10]. وفي مكان آخر يوضح الفكرة بتشبيه أجلى “مثل ذلك النور الموجود في شمس السماء، يكون مائة نور بالنسبة لأفنية الدور، لكن أنوارها كلَّها تكون واحدة، عندما تقوم برفع الحواجز فيما بينها”[11].
أمام هذه المساحة المركزيَّة للآخريَّة نلاحظ في المعسكر الماديِّ اهتماماً أحاديَّاً بالفردانيَّة جعلها محور التشريع وانتظام الحياة، وهي فردانيَّة أحاديَّة البعد كذلك، تهتم بالغايات الماديَّة الدنيويَّة حصراً. وهنا لدينا مستويان من الإختزال: اختزال الحياة إلى المستوى الفردانيِّ، واختزال الفرد في بعده الدنيويّْ[12]، والإنتماء إلى روح الفكر الماديِّ يحوِّل البعد الخاصَّ بالآخريَّة في حياتنا إلى جانب مهمل أو واقع في نطاق الإستغلال الفردانيِّ لتحصيل المكاسب الدنيويَّة المباشرة حصراً، فنخسر ذلك الجسر الممتدَّ بين اليوميِّ والأزليّْ.
الآخريَّة هي كبح للذات عن وضع حدود لنفسها داخل نفسها، وعن سجن الذات في الذات، هي تعدٍّ على غواشي النشأة الدنيا من جسد واهتمامات ملحقة بالإفراد الدنيويِّ الأرضيِّ للروح، إلى ما بعد تلك السجون، إلى الآخر جسداً أو روحاً أو عقلاً أو قلباً. إن الآخريَّة سفر وهجرة وسلوان عن الأنا الموجودة بالأصل لحياطة الذات عن التوقُّف عن سلوك سبيل نيل كمالها وسعادتها الممكنة المتاحة لها، من أن تتحوَّل إلى شرنقة وقيد، ولذلك كان التكامل مشروطاً بتلك الآخريَّة التي تتيح للإنسان أن يستعيد دفائن الفطرة، ويستنطق الميثاق الأول في عهد الصفات الكاملة النورانيَّة، وكذلك تتيح له اكتشاف الوجود المجرَّد عبر الخروج من النظر إلى نفسها والإنتقال إلى النظر إلى جمال الوجود الذي لا يمكن أن يشاهَدَ، حتى في أبسط وأوَّل مراتبه، مع وجود المرآة الذاتيَّة التي تعزل نظر القلب عن التطلُّع إلى الخارج، فيبقى حبيس غواشي النشأة منغلق البصيرة عمَّا سوى نفسه، عبداً لها. ولا يمكن لمن يتعامل مع الناس بعين ذاته أن يشاهد الوجود ويدركه، فهو حتى عندما تحصل له المشاهدات، ويلتفت نظره إلى الوجود، فإنه يشاهد ذاته كعلامة لذلك الوجود ودليلاً عليه ولا يرى الوجود مجرداً بذاته، بل هو يراه من خلال ذاته، ويراه مندكَّاً بين غواشي النشأة مقتصراً على إنيَّته المعهودة كدليل لا يشاهد سواه كي يستدلَّ به، وهو يقدِّم نفسه ليذوب في نبع الوجود كيما يتميَّز على الأرواح الأخرى، فغايته أن يكون متمايزاً، ويريد أن يحصر الظهور الإلهيَّ في ذاته، فيغفل عن أنَّ الخالق هو مصدر فيض يطال كلَّ الوجود والعالم، فالعوالم منغلقة داخل عين نفسه العمياء المقلوبة، ولذلك هو يرى الله في مرآة ذاته فقط ولا يراه في الكثرات الإنسيَّة والأرواح، يريد أن يكون الله له وحده، ولا يريد أن يكون لغيره، فهو لا يقوم بما يقرِّب الآخرين منه، بل يقوم بما يقرِّبه هو وحده من الله، أو ما يجعله متمايزاً عن الآخرين من خلال تلك العلاقة الخصوصيَّة.
جلال الدين الرومي، له لطيفة شعريَّة، ذات دلالات فلسفيَّة في هذا التفصيل، ففي إحدى قصائده يذهب بعيداً في تقصِّي مآلات الآخريَّة الإنسانيَّة وآثارها في المعرفة الإلهيَّة ويقول : “وعندما صارت نفس رفيقة لنفس أخرى، تعطَّل العقل الجزئيُّ وقعد عن العمل. وعندما تصير يائساً من جرَّاء الوحدة، تصبح شمساً في ظلِّ الحبيب. فامضِ وابحث سريعاً عن رفيق إلهيٍّ، وإن فعلت هذا الفعل كان الله رفيقاً لك. وذلك الذي تخلَّق على الخلوة، إنما تعلَّمها آخراً من الحبيب. وإنما تنبغي الخلوة عن الأغيار لا عن الحبيب، فالفراء من أجل الشتاء لا من أجل الربيع. فالعقل مع عقل آخر يتضاعف، ومن ثمَّ يزداد النور، ويتَّضح الطريق”[13].
آخريَّة الإنسان الكامل:
الرفيق الإلهيُّ درجات له ومراتب يحدِّدها القرب من الفطرة الأولى، وكلَّما اشتدَ تكامل وكمال ذاك الرفيق كانت آثار صحبته ومآلات آخريَّته في القلب أرقى وأجلى، وكانت قدرته على استنقاذ المحبِّ من عثرات سجن الذات أعلى وأجدى، ولذلك فإنَّ معرفة الإمام وسيد الأنام ضرورة حتميَّة للسالك، فهذه إحدى فوائدها وإلاَّ “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة”[14]، فهو العلم الظاهر للإنسانيَّة، والمعيار الخالص لها، والتجلِّي الأسمى للجمال والجلال، و”وجه الله الذي إليه يتوجَّه الأولياء”، و”باب الله الذي منه يؤتى”، و”السبب المتَّصل بين الأرض والسماء”[15]، ومعرفته هي الآخريَّة العظمى التي تسلك بالعابد إلى شهود التجلِّي الإلهيِّ الأشدِّ في العالم متخطِّية به منازل المعرفة العقليَّة ومزالقها ومتاهاتها نحو الإدراك الكلِّيِّ والمباشر للحقيقة.
الإنسان الكامل من ناحيته يقدِّم النموذج الأقصى الممكن في الإنهمام بشؤون الآخرين، والشاهد الأوضح على صفات هذا الإنسان الفريد هو ساحة كربلاء التي كشفت المستور من جماله وجلاله بعد انزياح الحُجُب الدنيويَّة والذاتيَّة بأجمعها[16]، ليسطع نور الإنسانيَّة الكاملة. تلك الساحة أشرقت فيها أنوار الإيثار، واكتملت فوق كثبانها المتعالية دائرة الآخريَّة والتشاعر مع الآخرين، بكلِّ ألوانها ومستوياتها ومظاهرها، سواءً داخل المعسكر الإلهيِّ وفي العلاقات بين أعضائه وأفراده، أم من المعسكر هذا جملة واحدة تجاه الأمَّة في تلك اللحظة وعلى امتداد الزمن القادم، ويمكن إفراد بحث كامل عن تجلِّيات الآخريَّة الكربلائيَّة وسبر أغوارها ومجالاتها ومراتبها الكثيفة والمتشابكة، وخصوصاً حول اندكاك الإنسانيِّ بالإلهيِّ في كلِّ الموارد والجزئيَّات، كما وصفت زينب بنت علي عليها السلام تلك الساحة “والله ما رأيت إلاَّ جميلا”.
التوحيد في الآخريَّة الإجتماعيَّة:
الكفر بالطاغوت أحد أوجه الآخريَّة في قوس النزول، وهو تنزيه عن شطحات الحلول أو الإغترار بالقرب لمن عبر لجَّة الفناء، فالتبرُّؤ من المنكرين وأصحاب الفطرة المحجوبة والقلوب المنكوسة هو تخلُّص من الوحدة الموهومة، وشخوص للذات المحدودة في مواجهة الذات المحدودة الأخرى، مع إدراك أنَّ المستكبر يبقى مخلوقاً ضعيفاً رغم تفوُّقه.
العداء والحب وجهان متناقضان للآخريَّة، وثمَّة وجوه أخرى لكلٍّ منها أثره الخاصُّ في السير والسلوك، ومنها : الإمرة، التابعيَّة، التعاون والخدمة، ويجمع بينها خيط ناظم هو الإعتماد على الآخر ونفي القدرة على الإستقلال، وشرط تحصيل فائدة هذا البُعد الروحانيِّ المعرفيِّ هو العدل والإنصاف والرحمة ومقاومة الظلم، وإلاَّ لم يكن في الإشتغال الإجتماعيِّ أيُّما فائدة إلاَّ المزيد من الإحتجاب.
الإندماج والذوبان التفاعليُّ في المجتمع الذي تتنوَّع فيه الإتجاهات الفكريَّة والميول النفسيَّة والشاكلات القلبيَّة وحيث تلقي الأنانيَّات بظلِّها في إيجاد النزاعات والمنافسات، لكلِّ ذلك آثار ابتلائيَّة يمكن النظر إليها من الزاوية المعرفيَّة، فالمعرفة ونقصها سبب لكلِّ المشكلات، معرفة الآخر تبقى ناقصة تطغى عليها عوامل كثيرة، كالتغيُّر والكتمان والتطوُّر[17]، كما يمكن النظر إليها من الزاوية النفسانيَّة وتهذيب الروح من خلال تخلِّيها الطوعيِّ عن الإهتمام الفردانيِّ من خلال الخدمة أو التخلِّي الإكراهيِّ عن رؤية الذات من خلال التدافع.
قواعد الآخريَّة:
إنَّ انتظام العلاقات الإجتماعيَّة بحيث تؤدِّي إلى تحقيق الأغراض التوحيديَّة، أمرٌ اهتمَّت به الشريعة أيُّما اهتمام، فالآخريَّة أمر شديد الدقَّة، ولتحقيقها لا بدَّ من الإلتزام بالقواعد الآتية : 1) معرفة حدود الذات والآخر، 2) الإعتراف بالآخر ومعرفته، 3) الإهتمام بالآخر ومساعدته على التكامل، 4) منع الآخر من الإنحراف، 5) خدمة الآخر، 6) احترام مراتب وجود الآخر، 7) احترام حدود إمكانيَّة معرفة الآخر. هذه القواعد لها بُعد أرضيٌّ اجتماعيٌّ وبُعد روحانيٌّ متعالْ:
-القاعدة الأولى، هي معرفة حدود الذات والآخر تشكِّل مدماكاً أساسيّاً في علاقة العبوديَّة بين المخلوق المحدود والخالق الأزليِّ، وهي مراعاة للحرمة، وخضوع في الحضرة، وشغف فطريٌّ للمكاشفة.
-القاعدة الثانية: هي دوام الذكر والحضور وعدم الغفلة عن ربوبيَّة الإله الْقَيُّوم والالتفات إلى علمه بالضرِّ والمسْكَنة وخبرته بالفقر والفاقة.
-القاعدة الثالثة: هي الاهتمام بالآخر ومساعدته على التكامل، وفيها تلبس الصفات الرحمانيَّة وإحياء المواثيق الفطريَّة بما يقارب السنخيَّة وحظوة القربة.
-القاعدة الرابعة: هي منع الآخر من الإنحراف، وفيها التنزيه عن الظلم والعبثيَّة وبلوغ الغاية.
-القاعدة الخامسة: تتعلَّق أيضاً بخدمة الآخر.
-القاعدة السادسة: تتعلَّق باحترام مراتب وجود الآخر كلِّها، فهي في الجهة الإنسيَّة تحدِّد العلاقة مع المستويات المختلفة للإنسان التي ينبغي إعطاء حقِّ كلٍّ منها بالقدر الذي يتناسب وقيمتها الوجوديَّة. أما في الجهة اللاَّهوتية فهي تعبير عن أحاديَّة مرآة الموجودات فيما تعكسه على اختلافها وتنوُّعها وتفاوت قيمة وجودها حيث يسبِّح ما في السموات وما في الأرض.
-القاعدة السابعة والأخيرة: هي احترام حدود إمكانيَّة معرفة الآخر، إذ تعالج في الاجتماع مشكلات ادِّعاء المعرفة وسوء الظنِّ والثقة، حيث لا يجدر ومثيلاتها. أمَّا في الإلهيَّات فتعالج جدليَّة العجز والمعرفة حيث العجز عن المعرفة باللاَّمتناهي هو عين إدراك لا تناهيه.
إذن، لكل واحدة من هذه القواعد بُعدها الإلهيُّ إلى جانب البُعد الإنسانيِّ، والإلتزام بها في الساحة الإنسانيَّة الأرضيَّة مفتاح إلى سماوات الآخريَّة الإلهيَّة التي هي أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهي مطلقة قبالة محدوديَّته اللاَّمتناهية في آن، قربٌ يكاد يقارب اندكاك روح الإنسان بنبع وجودها بالكليَّة (كلُّ من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)[18]، وبُعد ينزِّه الأزليَّ عن كلِّ ما سواه (سبحان ربك رب العزة عما يصفون)[19]، هذه العلاقة الدقيقة التي هي التجربة القصوى للإنسانيَّة، تحتاج إلى ساحة تعليم ودربة هي الحياة الإجتماعيَّة، التي تزخر بتجارب الآخريَّة بأشكالها العديدة، وشرط كون تلك الساحة مفيدة في تأهيل الروح لتلك الدروب المتعالية هو الإلتزام بقواعد الآخريَّة الإنسيَّة.
خاتمة:
من المهمِّ القول أنَّ اللاَّانتظام الاجتماعيَّ الذي يطلق عليه الماديّون إسم “الحريَّة الفردانيَّة” هو في الحقيقة هدمٌ للإمكانيَّات الإدراكيَّة الإنسانيَّة، في المجال الإجتماعيِّ كما في المجال الإلهيِّ. فالإدراك السطحيُّ الظاهريُّ يبقى متاحاً، لكن الإدراك الفطريَّ الباطنيَّ يتعرَّض للإضطراب الشديد، فحتى أبسط المعارف الفطريَّة غدت محلَّ شكٍّ بحيث تفكَّكت إمكانيَّة التعارف والتعايش حتى داخل العائلة التي اجتاحها الإعتزال الفردانيُّ إلى حدٍّ بعيد، فنقرأ للفيلسوف شارلز تايلور كمثال تعبيراً عن هذا القلق العميق “يبدو أنَّ ثمَّة وخز ضمير طبيعيّاً وباطنيّاً يقضي بعدم قتل الآخر أو أذيَّته”[20]، إلى آخرين قبلاً دعوا إلى نسبيَّة الأخلاق أو لإسقاط المسؤوليَّة الأخلاقيَّة وغيرها من المقولات التي تدلِّل على الإضطراب المعرفيِّ واختلال الشاكلة الباطنيَّة، والسقوط الشامل للآخريَّة مقابل محوريَّة الفردانيَّة.
إنَّ انتشار المناخات الثقافيَّة الماديَّة بتعاليمها الفردانيَّة لهو بحقٍّ قطع للطريق بين الإنسان وربِّه، بعدما قطع الطريق بين الإنسان والإنسان.
المصادر:
- محمد الريشهري / ميزان الحكمة / ج ١.
- محمد حسين الطباطبائي / الميزان في تفسير القرآن / الجزء الأول.
- ناصر مكارم الشيرازي / الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / ج 1.
- الكليني / أصول الكافي / باب الإهتمام بأمور المسلمين.
- بول ريكور في كتابه “الذات عينها كآخر”.
- عبد الواحد الآمدي / غرر الحكم.
- راجع كمثال كتاب هربرت ماركيوز “الإنسان ذو البعد الواحد”.
- جلال الدين الرومي / مثنوي / ج 2 / المركز القومي للترجمة / ط 2 / القاهرة / 2008.
- سليمان القندوزي / ينابيع المودة / مؤسسة الأعلمي / بيروت / ج 3.
10- الشيخ عباس القمي / مفاتيح الجنان / دعاء الندبة.
11- جوادي الآملي / أدب فناء المقرَّبين / دار الإسراء / بيروت.
12- هادي قبيسي / وارث، فلسفة جماليَّة كربلائيَّة / دار المودَّة / بيروت / 2017.
13- هادي قبيسي / جدليَّة المعرفة الزمنيَّة والحضوريَّة / دار المعارف الحكْميَّة / 2014.
14- تشارلز تايلور / منابع الذات: تكون الهوية الحديثة / المنظَّمة العربيَّة للترجمة / 2014.
[1] – في مقابل المفهوم، يمكن أن نستخدم “الموهوم” في مثل هذه الحالات.
[2] – محمد الريشهري / ميزان الحكمة / ج ١ / الصفحة ٩٤.
[3] – محمد حسين الطباطبائي / الميزان في تفسير القرآن / الجزء الأول / ص 26.
[4] – ناصر مكارم الشيرازي / الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / ج 1 / ص 51.
[5] – ناصر مكارم الشيرازي / الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / ج 7 / ص 398.
[6] – الكليني / أصول الكافي / باب الإهتمام بأمور المسلمين / الحديث 1.
[7] – راجع كمثال محاولات الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه “الذات عينها كآخر”.
[8] -عبد الواحد الآمدي / غرر الحكم / 1856.
[9] – عبد الواحد الآمدي / غرر الحكم / 2059
[10] – جلال الدين الرومي / مثنوي / الجزء الأول / ص 180.
[11] – جلال الدين الرومي / مثنوي معنوي / الجزء الرابع / ص 77.
[12] – راجع كمثال كتاب هربرت ماركيوز “الإنسان ذو البعد الواحد”.
[13] – جلال الدين الرومي / مثنوي / ج 2 / المركز القومي للترجمة / ط 2 / القاهرة / 2008 / ص 27.
[14] – سليمان القندوزي / ينابيع المودة / مؤسَّسة الأعلمي / بيروت / ج 3 / ص 372.
[15] – الشيخ عباس القمي / مفاتيح الجنان / دعاء الندبة. وللمزيد راجع : جوادي الآملي / أدب فناء المقربين / دار الإسراء / بيروت.
[16] – للمزيد راجع : هادي قبيسي / وارث، فلسفة جماليَّة كربلائيَّة / دار المودَّة / بيروت / 2017.
[17] – للمزيد راجع : هادي قبيسي / جدليَّة المعرفة الزمنيَّة والحضوريَّة / دار المعارف الحكْميَّة / 2014.
[18] – سورة الرحمن / الآيتان 26 – 27.
[19] – سورة الصافات / الآية 180.
[20] – تشارلز تايلور / منابع الذات : تكون الهويَّة الحديثة / المنظَّمة العربيَّة للترجمة / 2014 / ص 43.