إيمانويل كانط في مطار القاهرة(1)
إيمانويل كانط في مطار القاهرة(1)
أ.د.أحمد عبد الحليم عطية
أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة – مصر
برقية قديمة نسيتها تماماً؛ كانت تحمل أربع كلمات قصيرة؛ أصل القاهرة، إيمانويل كانط، والتاريخ أكتوبر 1973 رداً على رسالتي إليه في هذا العام عام تخرجي، حيث تعرفت عليه خلال دراستي على عبد الغفار مكاوي ومحمد فتحي الشنيطي ومحمود رجب وزكريا إبراهيم ويحيى هويدي، الذين حدثوني كثيراً عنه وعن كتاباته ونظرياته على امتداد السنوات من 1969-1973 كل بطريقته وأيضاً من خلال بعض ممن لم أتلقّ منهم الدرس مباشرة مثل: عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب، الذي درس لي بعد عودته من الكويت في دروسه لطلاب الماجستير، هذه هي شجرة عائلة باحثي ومترجمي كانط في مصر التي تتعدد فروعها والتي أنتمى إليها.
كتبت إليه مستفسراً عن معارفه وعارفي فكره هؤلاء وجاء رده مع تخرجي في هذا العام وأثناء حرب أكتوبر 1973 ونسيت هذه البرقية تماماً بسبب وفاة عبد الناصر وحرب الاستنزاف؛ لكن الفيلسوف عاود ثانية في اتصال هاتفي معي المحاولة، خاصة بعد زيارة السادات إلى إسرائيل وبعد كامب ديفيد. وقد تهيأ ثانية للزيارة؛ التي توقفت هذه المرة أيضاً بعد تنامي التيارات المتطرفة وحادث المنصة واغتيال السادات. خمّنت أن تردده بسبب حيرته التي سمعنا عنها من ميشيل فوكو؛ بين الثورة والتنوير والتي ازدادت مع سعينا للسلام بعد اتفاق أوسلو واهتمامنا بمشروع السلام الدائم، دفعني التفكير في الحلول المطروحة للسلام للتفكير في كانط ثانية والرغبة في الاتصال معه والبحث في كافة أشكال وإمكانيات السلام؛ فقد كانت فكرة أن يفنى أحد طرفي النزاع الساعي للسلام؛ والذي كان يسمّى حينها الصراع العربي الإسرائيلي، فكرة مسيطرة تماماً على طرفي الصراع، وحين طرحت أوسلو حل الدولتين توارى حل آخر قدمه الحكماء من الفلسطينيين واليهود؛ الذين أدركوا أن الصراع حقيقة هو صراع فلسطيني إسرائيلي، والحل عندهم هو حل الدولة الواحدة؛ دولة ديمقراطية من قوميتين، ويبدو أن كانط تابع الدراسات المختلفة التي كتبها الفلسطينيون حول هذا، وكذلك الدراسات العربية الكثيرة؛ خاصة في مصر وتونس والمغرب بعد حدوث ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي مما شجعه مرة ثالثة لزيارتنا.
وكلما طالت فترات مراسلاتنا ازدادت أحداث بلادنا وتعمقت حينئذ رغبة كانط في زيارتنا واحتار أي البلدان العربية يبدأ بها الزيارة خاصة بعد تكرار الدعوة له من موسى وهبه في لبنان، وآل المسكيني في تونس، ومحمد المصباحي؛ الذي عقد على شرف كانط لقاءين هامين في المغرب، وهو ما فعله مطاع صفدي؛ الذي أصدر بدوره عددين من أكثر المجلات قراءة بين أهل الفلسفة في تلك الفترة مجلة “الفكر العربي المعاصر والعرب والفكر العالمي” وكذلك مجلة “أوراق فلسفية” في مصر.
وكان تصميم كانط على الحضور أشد تأكيداً وأكثر إلحاحاً مع دعوتنا لعقد ملتقى دولي حول المئوية الثالثة لميلاده والاحتفال؛ الذي سنقيمه بهذه المناسبة في القاهرة وكان القرار؛ هو تقديم طلب للحصول على تأشيرة دخول إلى مصر؛ خاصة لأسباب عديدة منها أن مصر بلد سياحي تعرف الضيافة قبل أن يحولها الأوروبيون إلى ما أطلقوا عليه الهجرة غير الشرعية، وأيضاً تضم مصر جامعات عريقة، وهناك عدد كبير من أصدقائه المتخصصين في فلسفته من ذكرتهم، فأكد هذا الاهتمام وسعى لتحقيق الرغبة القديمة لمعرفة حقيقة أهله وأصدقائه العرب وعمق معرفتهم به؟ وهل ما زالوا يذكرونه وماذا يريدون منه؟ وهل هم راغبون في إرثه الفلسفي؟ مما جعله يعقد العزم على الزيارة بعد أحداث 2011 في القاهرة وتونس .
إلا أن المناوشات والحروب الإسرائيلية المتوالية على أهل فلسطين وجنوب لبنان والاغتيالات المتعددة التي يقومون بها والتي لا يملك أمامها الفلسطينيون سوى حجارة الأطفال، قد أشعرت كانط أنه ربما يكون له دور في هذه المنطقة؛ الذي فضله بعض أهلها على هيغل فيلسوف العصر؛ فيما كتبه أحدهم عن “مديح المثنى“.
لقد كان شعور كانط بالواجب مع إرادة خيرة قوية داخلية؛ هي التي حسمت أمر حضوره إلى القاهرة؛ ودوره الحقيقي في تلك المنطقة من العالم التي تعاني من كثرة الحروب وغياب الفلسفة، وعلاقات دولية عديدة متغيرة متلونة مع بلدنها المختلفة. لكن دعوني أذكر لكم الحقيقة والدوافع الحقيقية وراء حرصه الشديد على الحصور في هذه الأيام؛ فهو يشعر حقيقة أن على الفيلسوف تقديم ميتافيزيقا الحاضر، وأنه رجل العصر، وأن الفلسفة هي قراءة الحالي ومواجهة ما يجري، مؤكداً أن ما يحدث بعد 7 أكتوبر 2023 ما تقوم به إسرائيل وحركة شباب العالم كله في عواصم الدنيا هو نومينا العصر وليس مواقف حكومات الغرب التي تمثل الظاهر فقط فينومينا التاريخ. وقد حان وقت النومين؛ الذي يؤكد أن علينا ضرورة تحقق الفينومين، وإن كان أحد بيننا ما زال لا يصدق ذلك؛ عليه سؤال شيخ الإنسانية نيلسون مانديلا بدلاً من يطرح السؤال على أوباما أو ترامب أو ماكرون؛ إن لم يكن يريد سؤال محمود درويش أو إداورد سعيد.
أخبرني كانط في رسالة على الواتس؛ رغبته في زيارة وزير التعليم لمعرفة حقيقة موقفه من تدريس الفلسفة وإن أمكن مقابلة وزير التعليم العالي ورئيس الجامعة لمعرفة موعد إقامة ندوة الذكرى المئوية الثالثة لميلاده، وشكر أصحاب الفضل في ذلك. الحقيقة أنني لم أتوقع هذه المطالب من كانط وشعر هو بحذري وخشيتي وترددي؛ الذي لم أعلن عنه؛ لأنني قد أواجه بما لا أود أن أسمعه على ما طلب من لقاءات والذي قد يقال؛ ومن هو كانط هذا؟ أكد لي متابعته لكل وسائط التواصل الاجتماعي بكل اللغات وسمع بموقف وزارة التعليم من تدريس الفلسفة في الثانوية العامة وشغل بقضية أحد لاعبي كرة القدم الذي ارتكب حادث سيارة قتلت بريئًا. مثلما قرأ عن الملتقى المزعم عقده حوله في آداب القاهرة. والغريب هو تأكيده للزيارة وحجزه لبطاقة السفر وتحديده للموعد المرتقب على أن يتم ويكتمل قبل 7 أكتوبر الحالي 2024.