فلسفة وميتافيزيقا

حاجة المنطق إلى الحكمة

حاجة المنطق إلى الحكمة

في عصمة الفكر من الخطأ لا يكفي المنطق

 

ادريس هاني

 

هل هناك ما يؤكد على نجاعة التعريف الكلاسيكي واستمراريته للمنطق باعتباره آلية لصون الفكر عن الخطأ؟ هل يكفي المنطق لتحصين الفكر من الخطأ؟ هل المنطق نفسه يملك حصانة ضد الاستغلال في الخطأ؟ ما معنى أخطاء الفكر ومصدرها؟

ليس الخطأ المقصود هنا، تلك الأخطاء التي هي بالفعل ضرورية لتطور الفكر نفسه، فالفكر يقوم على تصحيح أخطائه، بل قد يكون الفكر هو عملية تصحيح أخطاء الفكر نفسه.

لقد اتّضح لي أن تحقيقات دفيد هيوم في الذهن البشري على أهميتها التأسيسية الكبرى، ركزت على العادة والتكرار، ولكنها لم تتجه نحو كيفية تشكّل الخطأ نفسه استنادا إلى الأورغانون، ومن يمنح العادة سلطة التعليل؟ ذلك الخطأ نفسه الذي يُعنى به المنطق، أعني المغالطة. فالمغالطة كانت ولا زالت مثل باكتيريا تتطوّر وتكتسب لها مناعة، انطلاقا من الخلية نفسها، لا يفيد معها بقاء المنطق جامدا على مقولاته الكلاسيكية، فالمغالطة اليوم قادرة على تجريد المنطق من فعاليته، بل إن المنطق نفسه بات مخترقا، بل آلية تستعملها المغالطة في تعزيز نفوذها في العملية الفكرية.

ليس أمامنا سوى خُلف منطقي إن نحن أردنا مقارعة المغالطة حينما تصبح لها دربة في استعمال المنطق نفسه، دربة تتسم بالمكر المطلق. أي كيف نحرر المنطق من خطر المغالطة؟ هل بالمنطقة نفسه، ام بالفكر عموما؟ من يوجه الفكر للصواب مرة اخرى؟ وإذن ماذا بعد؟

يظل الحدس بوصفه سابقا على البرهان، الحدس بما يوفره من قدرة هائلة على التشكيك تارة واليقين تارة أخرى، هذا الحدس منبعه الأساسي هو الحكمة. وسيكون من الصعوبة بمكان القول أن هناك انقلابا في طبيعة الحاجة والدّور ، حيث تصبح حاجة المنطق إلى الفلسفة أكثر إلحاحا من حاجة الفلسفة إلى المنطق. أتحدّث هنا عن القوة التساؤلية والحدسية للفلسفة كممارسة يقظة، وكاتصال حدسي بالوجود. إن حدس الوجود، المفهوم الذي قصدت منه قبل سنوات تجاوز المقدمات البرهانية على ما لا يتوقف انكشافه على البرهان، بأنّها أكثر وفاء لحكمة الوجود. إن حدس الوجود هو مدخل الحكمة الخالدة التي وحدها تعصم الفكر من التّيه. لن ينفع المنطق في هذه المهمة إن تخلينا عن حدس الوجود. وفي هذا الحدس تتفاوت إرادة الإنصات واليقظة.

وعليه، فإنّ المغالطة في ذروة شططها استطاعت أن تخترق المنطق وتطوّعه لخدمتها، فلم يعد منطقا عاصما، بل منطقا مجردا يحتاج إلى الحكمة. ففي تساؤلات الحكمة وإصرارها على أولوية حدس الوجود، يكون المنطق وسيلة تحتاج إلى إطار يحميها من الاختراق الماكر للمغالطة التي تستمد قوتها من المنطق نفسه، كالفيروس الذي يستمد مادته الحيوية من الخلية نفسها التي تصبح ضحيته.

لن يعصم المنطقُ الفكرَ من الخطأ في زمن التّفاهة وفرط المغالطة، من دون حكمة. والحكمة هي وضع الشيء في مكانه المناسب، والمنطق لن يفيد ما دامت المغالطة تستنزل مقولاته في غير موضوعاتها المناسبة. إن اعتبار العلم ضربا من الإضافة منح فرصة للمغالطة أن تخترق المنطق، بينما حين يصبح العلم من مقولة معلومه، وحين تصبح المعرفة هي عين الوجود، يمكن للفكر أن يصون نفسه بنفسه، باعتبار أنّ المنطق هو في الأصل صناعة للفكر. إن الفكر الذي اكتشف المنطق لقادر على أن يعصم نفسه من الخطأ متى أدرك أنّ مهمّته موصولة بالحدس الأعظم، اي حدس الوجود.

جرّب أن تنصت لحدس الوجود، فستكتشف أنّ المنطق متى وقع في يد عقل ماكر، فإنّه سيضع موازينه في غير موضوعاتها، وسيصبح في خدمة المكر والمغالطة، في انقلاب مبيت للمنطق على الفكر وعلى الوجود. حين تتغلّب المغالطة وتبدو أكثر دُربة في استغلال المنطق، لن يبقى أمام المتلقي سوى حدسه الوجودي، فهو الذي يمنحه الشعور بالخطأ المبيّت والمكر الخفي، يشعر حينئذ الفكر بأنّه ضحية خطأ ما، وإن كان يجهل مصدره وطبيعته، لكن حدس الوجود يدعوه للرّوية قبل أن يستعيد السيطرة على مسار التفكير الصحيح. حتى المنطق نفسه يحتاج إلى الحدس في عملية التنزيل والاختبار للفكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى