المادية الفلسفية
المادية الفلسفية
بقلم د. محمد الخشين
استندت في اللمحة التاريخية عن تطور الفلسفة المادية وحدود المادية ما قبل الماركسية على “قاموس الفلسفات العظمى”، لصاحبه لوسيان جيرفانيون، دار النشر فيرنان ناتان .
ولعرض أهم الأفكار التي تضمنتها المادية الفلسفية، من المناسب معالجة التساؤل الأتي: كيف تطورت النزعة المادية في تاريخ الفلسفة ؟
المادية الفلسفية :
هناك صور متعددة للفلسفة المادية، و لذلك لا ينبغي التساؤل عن المادية بكيفية مجردة دون التعرف عن أي الماديات نتكلم و في أية شروط؟
ذلك أن هناك تاريخ للفلسفة. “فمثلما أن المثالية مرت بسلسلة مراحل في تطورها، فإن المادية أيضا لها تاريخ”، كما قال إنجلز في : ” لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”.
لذا ينبغي أن نتحدث على المادية من خلال وصف الملامح التي تطبعها، وكذا من خلال تياراتها المتفردة في آن واحد:
الثوابت الأولية الأساسية لكل فلسفة مادية هي:
أ- على المستوى النظري:
1- هناك أسبقية للأشياء على الفكر، أو بالأحرى هناك وجود موضوعي للأشياء: “إن مختلف المدارس المادية هي تلك التي تعتبر الطبيعة بما هي المعطى الأول”.
– إن المادة كمقولة فلسفية لا يختلف تحديدها بين الماديين. أو بلغة أخرى: إننا نتعرف عليها داخل كل فلسفة مادية: “إن الخاصية الوحيدة للمادة المعتبرة في قبل المادية الفلسفية هي أنها واقع موضوعي، يوجد خارج وعينا” لينين: “المادية و المذهب النقدي التجريبي”.
2- إن معرفة موضوعية في الواقع أمر ممكن، لأن المعرفة ما هي إلا انعكاس للواقع ،”إن المادية ترتكز أساسا على اعتبار النظرية كورقة شفافة، أو كصورة تقريبية من الواقع الموضوعي”. ( لينين، المرجع نفسه(.
3- هناك قاعدة موضوعية للفكر: فالمعرفة و الأفكار لا توجد في استقلال تام عن الواقع: “إن معرفتنا و أفكارنا مهما بدت لنا متعالية ليست سوى نتاجا لعضو مادي، جسمي هو الدماغ”. انجلز(المرجع نفسه). وإذن ليس هناك فكر بدونهما. وبصفة عامة لا يمكن اجتزاء الفكر عن الحساسية.
ب – على المستوى العملي:
1- ليس هناك من عالم سوى العالم المحسوس، كما أن العالم أزلي وغير مخلوق، ومن ثم فإن الإلـــ. حـــ اد هو النتيجة الطبيعة لمثل هذه الفلسفة: يقول ديتزجن : “إن المادية سلا . ح كوني ضد الإيمان الديني.”
وإذن ليست هناك قوانين خالدة ذات أصل إلهي تحكم أفعال الناس. ليس هناك سوى قوانين الطبيعة حسب هذه الفلسفة. وهذه هي السمات المشتركة في كل فلسفة مادية من ديموقريطس إلى لينين.
2- يمكن القول بأن هناك ارتباط من نوع خاص بين المادية كموقف فلسفي وبين الطبقات الاجتماعية المهــ يـــ من عليها والمسماة أيضا بالطبقات الصاعدة. ومن جهة ثانية يوجد ارتباط مبدئي بين المادية وتطور المعرفة العلمية. يقول انجلز “ينبغي على المادية أن تعمل على تعديل نفسها وشكلها مع كل اكتشاف جديد في ميدان علوم الطبيعة”(المرجع نفسه). ومن ثم فإن تاريخها لا يكمن معزولا عن تاريخ الثور . ات وإعادة التنظيم التي تخص المجتمعات البشرية في تاريخها. وقد عرفت المادية التاريخية ثلاث مراحل أساسية في تطورها :
المادية القديمة :
يمكننا أن نتعرف عليها انطلاقا من تحديد مزدوج، نظري وعملي : فمنذ بداية الفلسفة الإغريقية يؤكد الموقف المادي على هذين المستويين. يقول أرسطو ” إن معظم الفلاسفة الأوائل لم يعتبروا كمبادئ لكل الأشياء سوى مبادئ الطبيعة المادية”. من كتاب “ما بعد الطبيعة”.
ليس هناك إلا واقعا واحدا هو الفيزياء أو الطبيعة والصيرورة اللانهائية لها، فلا شيء يوجد وراء العالم الفزيائي. يقول هرقليطس “هذا العالم هو نفسه بالنسبة للجميع، فلا أحد من الآلهة أو من الناس خلقه، بل إنه كان من دائما ولا يزال وسيبقى كذلك نا . را حية دائما تشتعل بمقدار وتنطفئ بمقدار”
ينبغي انتظار ديموقراطيس حتى يظهر تمثل أكثر جذرية عن الطبيعة : ” إن مبادئ كل الأشياء هي الذرات والفراغ أو الكاو وس le cha os (وهو الخلاء الذي ستحل فيه الموجودات) وهكذا ستختصر نشأة الكون وتختزل في هذين المبدئيين.
إن أبيقور هو الذي حوّل، بطريقة خاصة، الموقف الفلسفي المادي على المستوى العملي : “ينبغي أن نتجنب كل خوف ناشئ عن الدين. فالآلهة تعيش في العوالم متداخلة ولا تهتم بالناس ولذلك لا ينبغي علينا أن نخاف الموت” أبيقور رسالة إلى مينيسي. وبالتالي يجب على فلسفة الأخلاق أن تعلمنا كيف يمكن أن نعيش سعداء.
إن حدود هذه المادية التي لا زالت (ميتافيزيقية) تعود إلى حالة المعرفة الموضوعية وإلى الوضعية الخاصة بنمط الإنتاج القديم في اليونان: أي إلى عدم وجود فيزياء تجريبية وسيطرة المفاهيم التأملية (مفهوم الذرة)، وأيضا النمو الباهت لمشروع المعرفة، أنتج نظرية ميكانيكية في المعرفة يمكن إبرازها من خلال نظرية الانتقال من الحساسية إلى الفكر، أو من خلال نظرية الروح المادية، ولأجل ذلك فإنها تسقط في الطرح المثالي. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المستوى النظري، فالأخلاق الأبيقورية لا تنفصل أبدا عن المثالية. بحيث اعتبر أبيقور أن تطور الإنسانية راجع في نهاية التحليل إلى أفكار وانفـــ عـــــ الات الأفراد، وهو تأويل مثالي للظاهرة الاجتماعية.
المادية الكلاسيكية:
إن المرحلة التي ظهرت فيها المادية هي مرحلة القرن الثامن عشر والتي تتميز:
– بوجود علم فيزيائي أو بالتحديد وجود علم ميكانيكي يدرس انتقال الأجسام في المكان وأيضا وجود دينامية كونية للعلم الرياضي الذي أصبح نموذجا للمعرفة بالنسبة لكل العلوم ابتداءا من هذه المرحلة.
– وجود صـراع سيــــاسي ضد البنيات الفوقية الفيـــــــودالية وضد الكنيــــ سة الرومانية، ومن ثم يمكن القول، بوجود نزوعين في هذه المادية الفلسفية :
الأول: يجد أصله في فلسفة ديكارت عن الطبيعة.
الثاني: مستمد من الفلسفة التجريبية لجون لوك. كما يشير إلى ذلك ماركس في كتاب”العائلة المقــــ دسة” و يمكن إيجاز النزعة الميكانيكية بكيفية عامة في أنها تنطلق من اعتبار هذا العالم/الكون “بما هو التجمع الهائل لكل ما يوجد، لا يظهر دائما وفي كل مرة، إلا كمادة وحركة، وهو في مجموعه يبدو كسلسلة من الأسباب والنتائج ” كما قال دولباخ في مؤلفه “نظام الطبيعة”.
ويمكن تعميم نموذج الآلة وهو ما يقول به لاميتري في كتاب : “الإنسان الآلي”. يقول هذا الأخير” لنستخلص إذن أن الإنسان آلة ، وأن ليس هناك في الكون كله سوى جوهرا واحدا يتغير بطرق مختلفة”.
هذه المعطيات التي قامت عليها المادية الميكانيكية تؤدي إلى أخلاق ضد لاهوتية كما يشير إلى ذلك بيلخانوف في كتابه “دراسات حول تاريخ المادية”. كما أن هذه الفلسفة الأخلاقية ألغت كل الفروق القائمة بين الناس إذ ليست هناك اختلافات في الطبيعة فيما بينهم، والتربية هي القوة الفاعلة في المجتمع.
لكن كل هذه الأفكار تظل غار قة في تصور مثالي وسيكولوجي عن الفرد. فإذا كان كل شيء يعود إلى الحساسية، فإننا لن ننفك عن المراوحة والتأرجح بطريقة غير جدلية بين مصالح الناس وآرائهم.
حدود المادية ما قبل الماركسية :
يحدد انجلز المادية (الميتافيزيقية) التي يلخصها مذهب فيورباخ في ثلاثة عناصر أساسية:
– إنها لم تستطع أن تفكر في الطبيعة كصيرورة وكتاريخ، ولذلك فهي تبدو، مع كل درجات التطور، محــ كـــــــ ومة بتكرار لا نهائي، لنفس المسلسل .(التصور الدائري للتاريخ).
– إنها لا تفهم التاريخ كواقع موضوعي يمكن أن يكون موضوعا للعلم. وفي كلمة واحدة، فإنها تفصل بطريقة لا جـــــــ دلية بين الطبيعة والتاريخ ” كأن الأمر يتعلق بموضعة العلم الاجتماعي في اتفاق مع القــــ. اعـــ. دة المادية، وإعادة بناء العلوم التاريخية والفلسفية بالإستناد إلى هذه الـــ قــ. اعــــ. دة. وهو ما لم يتمكن منها “فيورباخ” كما يقول انجلز لماذا؟
” يجيب ماركس بأن فيورباخ يستبدل ماهية الدين بماهية الإنسان. غير أن ماهية (جوهر) الإنسان ليست تجريدا ملازما لفرد معزول، بل إنها مجموع العلاقات الاجتماعية”.
– وفي النهاية، فإن هذه المادية لا تنظر إلى الفكر كلحظة من لحظات الصيرورة. “إن العيب الأساسي لكل مادية سابقة-بما فيها مادية فيورباخ- هو أن الموضوع، الواقع، العالم الحسي، لا يحدد إلا في صورة موضوع حدس. لا كنشاط أو ممارسة إنسانية ملموسة بما هي ممارسة ذاتية ” كما قال ماركس في الأطروحة الأولى حول فلسفة فيورباخ، ضمن الملحق المذيل لمؤلف انجلز سابق الذكر.
– إن المعرفة لم تحلل كسيرورة. يقول لينين ” إن شقـــــ اء المادية (الميتافيزيقية) يتمثل في عجزها عن تطبيق الديالكتيك على سيرورة وتطور المعرفة “لينين “بصدد الديالكتيك”.
المادية الجدلية:
يمكن تعريف المادية الجدلية بأنها فلسفة تتضمن ” قوانين تطور كل الأشياء المادية الطبيعية والروحية، أي قوانين تطور كل المحتوى الملموس للعالم وللمعرفة المرتبطة بهذا العالم” كما قال لينين. كل قانون هو” قانون تطور مرتبط بالطبيعة وبالتاريخ والفكر بصفة عامة ” انجلز ” ضد دوهرينغ “.
و بالتالي فإن كل الأخطاء، و كل سوء فهم، يفسّر انطلاقا من حصول نقص في الديالكتيك المستعمل. و في المقام الأول يجب الأخذ بالوحدة والتعدد. فالطبيعة واحدة أي أن هناك وحدة المادة، رغم ذلك توجد أشكال مختلفة للمادة المتحركة و هي متباينة نوعيا عن بعضها البعض.
إن التناقض يوجد في الواقع، لكن يجب التفكير فيه انطلاقا من قاعــــ دة الوحدة، أي وحدة المتناقضات. فهذا هو موضوع القانون الأول : قانون وحدة المتناقضات وصـــــ. را عها. فالتناقض حاصل، داخل وحدة كل شيء، ولا يمكن الفصل بين الشيء وتناقضه. وصـــــ را ع الأضداد هو القوة المحركة لكل تطور ونمو، سواء كان الأمر يتعلق بالمادة أو بالمجتمع أو الفكر .
– إن وحدة المتناقضات هي الشرط الضروري لكل صـــــ. راع بينها، والتناقض على نوعين، هما:
داخلي : وهو الذي يقوم في الشيء ذاته
خارجي : أي صـــــ. راع الشيء مع غيره.
والتناقض الحاسم هو المرتبط بالنوع الأول، فهو أكثر أهمية، هو بدوره ينقسم إلى تناقض رئيسي وتناقضات ثانوية.
أما القانون الثاني فيتعلق بالكشف عن كيفية حدوث التطور، ويطلق عليه قانون التحول من الكم غلى الكيف. ومفاده أن التزايد التدريجي في التغيرات الكمية التي تلحق الشيء، حينما يصل إلى مداه الأقصى، فإنه يؤدي إلى تغيرات كيفية، نوعية وجذرية تؤدي إلى نفي الشيء، وهي تتحقق في شكل طفرة/قفزة.
وأخيرا، القانون الذي يحدد الاتجاه العام للتطور هو قانون نفي النفي وهو يعني أن النمو المضطـــــــ رد للأشياء هو حالتها الثابتة الوحيدة. وهذا القانون لا يفيد التكرار والدوران في حلقة مفرغة (كالتاريخ الذي يعيد نفسه كما هو الشأن عند الفلسفة المادية للقرن18). إن هذا التطور يشكل خطا صاعدا وهو يسير من الأدنى إلى الأعلى. هكذا تتحدد المادية الجـــــــ دلية باعتبارها النظرية العامة التي تدرس القوانين الموضوعية الضرورية للحقيقة الواقعية في مجموعها.
______________________
منقول بتصرف