هل كان ديكارت عارفاً بالإسلام؟
هل كان ديكارت عارفاً بالإسلام؟
السجال المتناقض في مصر نموذجاً
أ.د. أحمد عبد الحليم عطيَّة*
*أستاذ الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة
يسعى الباحث في هذه الدراسة إلى الإجابة عن سؤال إشكاليّ وغير مألوف في تاريخ الفلسفة الحديثة، وهو الاستفهام عمّا إذا كان ديكارت عارفًا بالإسلام كتاريخ وعقيدة؟ لقد حاول الباحث أن يأتي بإجابات متفاوتة دارت في المجتمع الفلسفيّ المصريّ ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر. ويمكن القول إنّ الفكر الفلسفيّ الحديث في العالم العربيّ وجد أرضه الخصبة في الديار المصريّة، خصوصًا لجهة اهتمام النخب بديكارت التي افتتحت تاريخًا جديدًا من التفكير الفلسفيّ على نطاق العالم كلّه في ذلك الوقت.
سنقرأ في هذه المقالة سرديّة تبيِّن حضور ديكارت في مصر، وتوضح كيفيّة تعامل المثقّفين المصريّين مع فلسفته، وكيف انقسموا عليه أو اختلفوا فيه وانتقدوه، وأثرُ ذلك على بنية الثقافة الفلسفيّة المصريّة خصوصًا والعربيّة بوجه عامّ.
“المحرِّر”
يحمل ديكارت R Descartes 1650 -1596 )R). في مطاراتنا دعوة لزيارتنا دائمًا؛ وهو مرحّب به في الأغلب، يدخل من قاعة كبار الزوّار وينتظر بعض الوقت أحيانًا، والمدهش أنّه يحمل جواز سفر بالعربيّة؛ مما يجعل الأمر يختلط عليَّ في بعض الأحيان هل هو “مسيو ديكارت” الذي كتب عنه الفيلسوف الفرنسيّ المعاصر أندريه جلوكسمان A.Glucksmann كتابه المشهور “ديكارت هو فرنسا” Descartes C,est le France[2] أم هو الشيخ الإمام ديكارت؛ الذي يرتدي العمامة العربيّة والذي أعلن إسلامه سرًّا [3]؟.. عند الراسخين في العلم من العرب المحدثين!!! تلك هي الصورة؛ ويمكننا أن نرى من خلالها الفيلسوف وقد حلَّ ضيفًا علينا من دون استئذان، ثمّ لنتخذه موضوعًا للدرس والتأويل والنقد. لكن كيف يرى هو نفسه داخل هذه المطارات نفسها.
من المفارقات أنّ اثنين من أهل الفلسفة في المغرب علّقا على ما أصدرته منذ ثلاثة عقود عن الديكارتيّة في الفكر العربيّ تعليقين متقابلين؛ كتب أوّلهما: “ديكارتيّة ولا ديكارتيّون”، وكتب الثاني “ديكارتيّون ولا ديكارتيّة” حرصًا منهما على تبيان مدى حضور فلسفة ديكارت في الفكر العربيّ.
ولكي نتمكّن من تحديد مكانة هذه التكملة نتوقف عند موقفين في تحديد الديكارتيّة: الأوّل عند محمّد عزيز الحبابيّ؛ الذى يرى أنّ ثمّة فرقًا بين ديكارت والديكارتيّة، وأنّ الديكارتيّة هي فلسفة ديكارت، وما أضيف إليها من شروح وتفسيرات للشرّاح والمفسرين؛ والثاني طرحه زهير خوالدي في دراسته ما لديكارت وما على الديكارتيّة.
نستنتج من هذين الموقفين ما يمكن أن نطلق عليه ما بعد الديكارتيّة، والما بعد هنا ليست “ما بعد” بالمعنى التاريخيّ فقط، بل بالمعنى الميتافيزيقيّ الذى نجده “في ما بعد الطبيعة”، أي أنّنا لا نتحدث فقط عن نقل الديكارتيّة إلى الفكر العربيّ، ولا عن مصيرها فيه، وإنّما عن إعادة النظر فيها من خلال رؤيتنا التي نطلق عليها التأسيس والتجاوز.
وقد وُجّهت الدعوة إلى ديكارت مرارًا وتكرارًا من قبل؛ تحدّث عنها عثمان أمين في باريس، مدينة النور -تلك التى كان حسب قوله يحجّ في كلّ زيارة لها إلى قبر ديكارت- في محاضرة له عن “ديكارت في مصر”، حيث خصّص عثمان أمين محلّ إقامة شبه دائم للفيلسوف في مدرج 78 بكلّيّة الآداب جامعة القاهرة حتى يحتفي وطلاب قسم الفلسفة به. ودعوة عثمان أمين وإنْ كانت هي الأهمّ والأوسع انتشارًا، إلّا أنّها ليست الوحيدة وليست الأولى ولا الأخيرة.
كانت الدعوة الأولى وفق ما تفترض المعطيات المتاحة في “أرشيف” الفلسفة العربيّ حتى الآن من محرّر جريدة المقتطف القاهريّة والتي تمّت بعد وصول سؤال له في بريد القرّاء؛ حيث يسأل صاحبه من همّ الكارتزيّون وما هو مذهبهم؟ وأجاب المحرّر أنّ -وعلينا أن نلاحظ تاريخ الردّ وهو 1896؛ الذي يوافق ثلاثمئة عام على ميلاد الفيلسوف- “الكارتزيّين” هم أتباع “ريناتوس ديكارتوس” الفيلسوف الفرنسيّ. وبعد شرح مذهبه وعناصر فلسفته؛ يوضح للمرسل محمّد أحمد عثمان الورادنيّ من الإسكندريّة، معلقًا أنّ ثمّة بعض “الارتباك” الذى يتضمّنه مذهبه. تلك كانت البداية الأولى وهي ترتبط بواقعة تاريخيّة من جهة هي ذكرى ميلاد الفيلسوف، وهي أيضًا استفسار وتساؤل للفهم؛ يوضح معرفة صاحب السؤال الأوّليّة وسعيه للاستزادة في الفهم، وهي تحليل نقديّ من المحرّر؛ لا يكتفي بالعرض والتوضيح، بل يتجاوز ذلك إلى النقد والتحليل. تلك هي أقدم وثيقة تقدّم لنا التاريخ التقريبيّ الأوّل لدخول ديكارت إلى الثقافة العربيّة في مصر؛ حتى نكتشف هل هناك تاريخ أسبق[4].
دروس الجامعة الأهليّة
وعرف ديكارت بعد ذلك في دروس الجامعة الأهليّة القديمة في مصر سواء أكان في محاضرات المستشرق الفرنسيّ لويس ماسينيون في العام 1912- 1913 الذي عقد مقارنات متعدّدة بين الفيلسوف والعلماء والمتكلّمين المسلمين[5]، أم في محاضرات الفيلسوف ومؤرّخ الفلسفة الإسبانيّ الكونت دي جالارثا؛ الذي أفاض في شرح فلسفة ديكارت في محاضرات في الفلسفة العامّة.
يخصِّص جالارثا – الذي يمثّل البداية الأكاديميّة النقديّة الجادّة في إطار تدريسه للفلسفة العامّة بالجامعة الأهليّة – عامًا دراسيًّا للتعريف بالفيلسوف الفرنسيّ؛ لتقديم الصورة الأولى التي تشكّلت في كتابات المصريّين والعرب عن ديكارت، وهي الدروس التي استمع إليها الجيل الأوّل من دارسي الفلسفة في مصر، ومنهم زكي مبارك ومي زيادة وغيرهما، وإنْ كانت معرفتنا بديكارت متزامنة وسابقة على دروس جالارثا. إلّا أنّ أهمّ ما يميّز هذه الدروس، وبالتالي الصورة التي قُدّمت عن ديكارت في العربيّة كما يظهر؛ هي السمة النقديّة الواضحة.
يعرض جالارثا اعتمادًا على تحليل نصوص ديكارت؛ جوانب فلسفته المختلفة التى عاد في تناوله لها إلى الدراسات الأساسيّة حول ديكارت – بالفرنسيّة والإنجليزيّة والألمانيّة – لشرح أعمال ديكارت وتفسيرها ومقارنتها بغيرها من فلسفات القدماء، مضافًا إلى توجيه النقد لجوانبها المختلفة. ومن يرجع إلى تعليقات وملاحظات جالارثا يجد كثرة التحليلات والانتقادات التي يقدّمها في هوامشه على أفكار ديكارت تكاد من كثرتها تساوي النصّ الديكارتيّ نفسه الذي يقوم بتحليله. وكثير منها مقارنات وإحالات إلى الفلاسفة اليونانيّين القدماء؛ الذين عاد إليهم ديكارت ولم يشر لهم، وبعضها انتقادات من شرّاح ديكارت، وأغلبها انتقادات جالارثا نفسه، وهي ما سيسري صداها في الكتابات العربيّة اللاحقة.
ويمكننا أن نشير إلى نماذج من تلك التعليقات والانتقادات التى قدّمها جالارثا، والتي أثّرت على أجيال متعدّدة ممن تتلمذوا عليه وعلى كتبه. فهو حين يعرض لمفهوم الحدس نجد أن هذا المفهوم لاقى صدى لدى الكتّاب العرب؛ وهو ما سوف نجده في تحليلات مترجِم المقال في المنهج محمود الخضيريّ في دراسة خصّصها لذلك تحت عنوان: كيف نترجم اصطلاح intuition [6].
وحين يتحدث عن قواعد المنهج عند ديكارت يعود بنا إلى الفلاسفة والشكّاك اليونان والرومان؛[7] ويقدّم ملاحظاته الخاصّة على ثنائيّة ديكارت، النفس والجسد، منتقدًا فهمه للطبيعة الجسديّة. ويرى أنّ هذه القاعدة تذكر بحكم أبيكتيتوس ولكنّها قاصرة عنها. ويضيف في هوامش هذه الصفحة نفسها؛ بأن ديكارت يكرّر هنا كلام شارون (Charron) ومرتابين آخرين.
ونضيف مع جالارثا في توضيح نقده، فقد صدق ديكارت إذ قال: أنا كائن، ولكن حينما قال: أنا شيء مفكّر ادعى باطلًا أنّه عرف نفسه وأنّه أجاب، والحال أنّ ديكارت لم يعيِّن الفرق بين الكينونة المذكورة والكلّ (أي الكائنات عامّة) حتّى يمكنه أن يعينِّ حقًّا ضميره بالنسبة إلى كلّ شيء. وهنا يخلط ديكارت جملة ألفاظ من غير مبالاة أو أيّ تمييز بينها.[8]
لبيان غموض لغة ديكارت كما في قوله هذه الجملة مبهمة؛ نشير إلى أنّه لم يعيّن الحدّ بين الأنا المفكّر، الذى حكم عليه بأنّه هو، وبين ما سواه أو ما هو خارج عنه.
في إثباته وجود الله في تأمّله الثالث يبيّن ديكارت أنّ فكرة الله لا تضمن وجود الله إلّا إذا وحّدنا بين الله عينه، حيث إنّه قد ثبت من انتقاد التأمّل الثالث المذكور أن ديكارت ليس على يقين مما يقول، وظهر ضعف مبدئه؛ مما يوضح أنّ الإثباتات الموجودة في باقي تأمّلاته إنّما هي عبارة عن اعتقادات يسلّم بها من يشاء، في حين أنّ أهمّيّتها الفلسفيّة هي أقلّ من أهمّيّة الاثباتات السابقة.
ولنتوقّف عند بعض الملاحظات النقديّة التى يفيض فيها جالارثا على النحو الآتي:
يدخل ديكارت في تلك النفس الإحساسَ والإرادةَ والفهمَ والتصوّر ولكن لم يبيّن حدودها، كما أنّ جميع معتقدات ديكارت مؤسّسة كما يرى على ميل طبيعيّ، وهو ينقاد إليه من غير انقياد صحيح، ويظهر في هذا الكلام تأثير الرواقيّين أيضًا، كما يظهر في مصداق الحقيقة عند ديكارت وفي أخلاقيّاته، ويظهر النقد في قوله كنّا ننتظر من ديكارت أن ينشئ جميع أفكاره من امتزاج وتركيب أفكاره في الله وفي الأشياء الجسدية. أو يقول أحدث هنا ديكارت مغالطة في معنى الصفة (Attribut المشتقّ من ad-tribuere ومعناه الانتساب إلى شيء) بأنّه جعل ماهيّة وطبيعة كلّ جوهر تترتّب على إحدى صفاته، فإنّ طبيعة الشيء وماهيّته ليست صفة صاحب المشيئة.
ويضيف جالارثا أنّ ديكارت بنى على الاشتباه المذكور بين الصفة والجوهر زعمه أنّ الامتداد هو طبيعة الجسم، ولعلّه فعل ذلك لأنّ اعتياده النظريّات الهندسيّة جعله يعتقد أنّ كلّ مادّة في نفسها ممتدّة، وما كان يمكنه حلّ هذا الخطأ تمامًا إلّا بأن يعرف نسبة الماّدة إلى السبب الأوّل، والحال أنّه توقف مليّاً أمام سرّ التكوين، فلم يتمكّن من معرفة النسبة المذكورة، أو قوله لم يميِّز ديكارت تمييزًا واضحًا (كما يرى) بين المشاعر (Sentiments) والإحساسات (Sensations) [9]
تفجّر المقارنات المستحيلة
الجدير بالذكر أنّ معرفة المصريّين بديكارت تمّت من قبل ما ألقُيَ حوله من محاضرات في الجامعة الأهليّة في مصر. فقد شُغِلَ عدد من مثقفي مصر بالفيلسوف في سياق اهتمامهم بالفلسفة، ومن هؤلاء: محمد لطفي جمعة؛ الذي يذكر لنا في مذكّراته تحت عنوان التكوين الفلسفيّ، مَنْ تلقَّى عنهم الفلسفة، حيث درس الفلسفة بين الكلّيّة الأميركيّة ببيروت وكلّيّة الآداب بليون (فرنسا). وقد وجّهه الأستاذ جوبلو، أستاذ الفلسفة في ليون، إلى كتاب “المقال في المنهج” لديكارت[10]، فهو بداية الفلسفة الحديثة بلا منازع وقيمته أكبر من بيكون الإنجليزيّ؛ لأنّ بيكون عمليّ وديكارت نظريّ والفلسفة نظريّة لا عمليّة وهي علم العلوم[11].
نذكر محمد لطفي جمعة هنا؛ لأنّنا عثرنا على رسالتين من الكونت دي جالارثا أرسلهما إليه يطلب منه إمداده بكتب ديكارت حتى يستطيع إعداد دروسه في الجامعة المصريّة عنه. يقول جالارثا “عزيزي أخبرك بأنّني في أمس الحاجة لأعمال ديكارت التي كنت قد طلبتها منك لكي أتمكّن من إعداد محاضراتي بالجامعة، فلتتكرّم وتبعث بها إليّ”.
وكانت هذه المحاضرات التي قدم فيها ماسينيون دروسه عن ديكارت قبل دروس جالارثا في الجامعة الأهليّة بداية لقضيّة أساسيّة شغلت الفكر العربيّ طويلًا وما زالت، حيث فجرها تلميذهما زكي مبارك في رسالته للدكتوراه في الجامعة الأهليّة عن الغزاليّ وتصوّفه، وتحدث فيها عن “الغزلو ديكارتيّة” و “الديكارتو غزاليّة”[12]. ومنذ ذلك الحين والكتابات لا تنقطع عن: المقارنة والتشابه والتأثير والسبق والنقل والسرقة والإنكار.
الحقّ أنّ المقارنة الأولى العابرة التي قدّمها زكي مبارك لم تكن عابرة بالنسبة له ولا بالنسبة للجيل الأوّل في الجامعة المصريّة بعد أن تحوّلت إلى جامعة حكوميّة، حيث شارك طلاب الدفعة الأولى 1925-1929 على صفحة مجلّة طلاب جامعة القاهرة في هذه القضيّة قبل أن ينشغل الكُتّاب والباحثون والمفكرون بها، وقبل أن يخصّصوا له الكتب والأبحاث المستفيضة[13] وساهمت هذه الدراسات في تقديم نتائج مهمّة حول حضور فلسفة ديكارت في فكرنا، والتي يمكن أن نوجز سماتها العامّة في الآتي:
ـ الانتصار للفيلسوف ديكارت الذى أدّت كتاباته إلى نهوض الفلسفة في الغرب بالإعلاء من شأن العقل.
ـ الانتصار للغزاليّ، الذى يعتبر عند البعض مصدر أفكار ديكارت.
ـ امتداد المقارنات لتشمل الفلاسفة والمتكلّمين والعلماء العرب المسلمين ممن تناولوا الشكّ في كتاباتهم المختلفة.
ـ التأكيد على أنّ ابن رشد كان هو المصدر الأساس للكوجيتو الديكارتيّ وبيان أنّ العقل الكلّيّ عند ابن رشد هو الأساس الذي هو أدنى إلى “الانا أفكر”.
تزداد حيرة الباحث بناء على ما سبق من تلك المقارنات التي لا حدود لها التي عُقدت وما تزال بين ديكارت وغيره من الفلاسفة السابقين عليه والتي وجدناها بكثرة في محاضرات ماسينيون؛ التي ألقاها على طلاب الجامعة الأهليّة والتي فجّرها زكي مبارك في البداية وناقشها في رسالته عن الغزاليّ وشغل بها طلاب الدفعة الأولى من طلاب قسم الفلسفة بالجامعة المصريّة، حيث قدّموا عدّة دراسات حولها في صحيفة الجامعة. منذ ذلك الحين انتشرت تلك الظاهرة في فكرنا العربيّ المعاصر وازدادت بشكل لم يسبق له مثيل، حتى صار هوسًا لدى كثير من الباحثين الذين يتوهّمون أنّ دورهم يقتصر على محاولة اقتناص فكرة من هنا تتفق وفكرة من هناك، أو أنّ ثمّة رأيًا قال به فيلسوف قديم سبق به فيلسوفًا حديثًا، وكأنّ مهمتنا تنحصر بالتهميش على الفكر الغربيّ وردّه إلى أصول إسلاميّة نعتقد أنّه أخذ عنها.
وهي ظاهرة لم نصادفها لدى الفلاسفة المسلمين الأوائل الذين تحدّدت علاقاتهم بالفكر السابق عليهم في تمثّل وتعمّق ما جاء به من آراء ونظريّات، ثمّ مناقشتها والإضافة إليها وتطويرها واستخدامها في مجالات تتجاوز المجالات التي اقتصر عليها أصحاب هذا الفكر، فقد أخذوا عن اليونان أفكارهم في: الطبيعة، والمبدأ الأوّل، والمحرّك الذي لا يتحرّك، وصاغوها في نظريّاتهم عن الوجود وواجب الوجود وممكن الوجود، وتحدّثوا عن مراتب الوجود والجوهر والعرض والجزء الذي لا يتجزّأ في إطار حديثهم عن قدم العالم وحدوثه، وفي توفيقهم بين العقل والوحي، وهي مجالات تجاوزت ما هدف إليه فلاسفة اليونان، أي أنّهم تعاملوا مع أفكار وليس مع أشخاص، ومن هنا لا نجد لديهم تلك النزعة في ربط أفكار فيلسوف عربيّ بنظيره اليونانيّ السابق عليه، ومن هنا تميّزوا علينا وقدّموا لنا فلسفة سعت للتوفيق بين الفلسفة اليونانيّة وبين الدين الإسلاميّ عن ثقافة عصرهم.
ولدينا أمثلة كثيرة تكاد تمثّل تيارًا قويًّا لدى باحثينا تميل إلى الربط بين الفلاسفة العرب والمسلمين والفلاسفة الغربيّين المحدثين، وتؤكّد أسبقيّة الأوائل وأنّهم مصدر أفكار المحدَثين: فأفكار هيوم في العلّيّة أساسها الغزاليّ وأفكار ديكارت في: الشكّ والمنهج وتمايز النفس عن البدن؛ ترجع إلى غيره من الفلاسفة العرب؛ حتّى كاد الرجل أن يقول بما جاء لدينا من أفكار. لقد ازدادت المؤثّرات الإسلاميّة في فكر ديكارت، بحيث أصبحت لا تشمل الفلاسفة والعلماء والصوفيّة والمتكلّمين فحسب؛ بل تشمل الصحابة وآل البيت أيضًا، وأعتقد شخصيًّا أنّ هذه الظاهرة تكرار أو ردّ فعل لما يفعله عدد من المستشرقين الغربيّين لجهة ردّهم عددًا من الظواهر أو الأفكار والنظريّات في الفكر العربيّ الإسلاميّ إلى ما يفترضونه شبيهًا، وبالتالي أصلًا، لها في الفكر السابق عليهم، وقد دأب هؤلاء المستشرقون على وصف الفكر العربيّ الإسلاميّ بها باعتباره نتاجًا للفلسفة اليونانيّة والمعتقدات الشرقيّة السابقة عليهما. وقبل أن نعرض لهذه المقارنات التي تربط بين أبي الفلسفة الحديثة والفلاسفة العرب؛ مناقشين ومحللين طبيعتها وأسبابها وغاياتها؛ سوف نسعى لتحديد البداية التاريخيّة لهذه الظاهرة وكيف نشأت، حيث إنّ ثمّة عودة إلى الفكر الغربيّ في كثير من عناصر الدرس الديكارتيّ في الثقافة العربيّة المعاصرة، ويسعى بعض الباحثين في الفكر الغربيّ إلى بيان علاقة ديكارت بالفكر الوسيط السابق عليه، فمنهم من يربط بينه وبين أوغسطين مثل: جيلسون وكواريه، ومنهم من يرجع بعض أفكاره إلى أفلاطون.
التقط فكرةَ المقارنة جيلٌ من الشباب من طلاب الجامعة المصريّين ممن تأثّروا بالشيخ مصطفى عبد الرازّق؛ وبحثوا هذه المسألة، فبدأ محمّد ثابت الفندي مقارنة الغزاليّ بديكارت على الأسس الآتية:
أنّ المقال في المنهج الذي ألّفه ديكارت ليبيّن للناس الطريق (المنقذ من الضلال) شبيه بما قدّمه الغزاليّ في منقذه الذي يعدّ منهجًا Methode، ولنا في قول الغزاليّ إنّ الشكوك هي الموصلة لليقين أقوى مبرّر لهذه التسمية.
أنّ بواعث الشكّ لديهما واحدة، بل إنّ مقارنة اليقظة بالأحلام قد قال بها الغزاليّ أيضًا.
بحث كلٌّ منهما عن اليقين؛ وجده ديكارت في الكوجيتو والغزالي في نور الله، مفتاح أكثر المعارف[14].
ويردّ عليه زميله محمود الخضيريّ الذي سيترجم فيما بعد “المقال في المنهج” بصحيفة الجامعة؛ متناولًا مقارنة ديكارت بالفلاسفة العرب، ويتساءل عن صحّة المقارنة بينه وبين الغزاليّ. ويتناول العلاقة بين ابن سينا وديكارت، ويرى أنّ منهج ديكارت لم يسبقه إليه أحد في الشرق ولا في الغرب؛ ذلك لأنّ هذا المنهج تطبيق موفّق للرياضيّات على مناحي الفكر، ولأنّ شكّ ديكارت يختلف عن شكّ الغزاليّ، وبعد بيان اختلافهما يعقد مقارنة بين ديكارت وابن سينا[15] ونجد ثانيةً المقارنة نفسها في مقدّمة ترجمته للمقال في المنهج، ثمّ يردّ عليه الفنديّ ثانيًة، مؤكّدًا تشابه ديكارت والغزاليّ، ويعلّق على الردّ الخضيريّ مرّة أخرى. وهكذا تحفر فكرة المقارنة مجرى عميقًا في الكتابات العربيّة في عقد الثلاثينات، وتستمرّ بأشكال متعدّدة متلوّنة ومتضادّة ومتناقضة لدى كثير من الباحثين. وتأخذ أشكالًا أكثر فعاليّة ومواقف هجوميّة متطرّفة، تبدو في الغالب رد فعل على علاقة العرب والمسلمين بالسابقين عليهم كما صوّرها المستشرقون.
ولا تتوقّف المقارنة بين ديكارت وبين الغزاليّ وابن سينا عند هؤلاء، بل تظهر عند رائد الدراسات الديكارتيّة وصاحب الجوانيّة في كتبه المتعدّدة، ففي يوميّات جوانيّة يخبرنا بوجود وجوه شبه كثيرة بين ديكارت وحجّة الإسلام[16] وفي العدد الذي خصّصته مجلّة الثقافة في ذكرى ابن سينا يقدّم لنا بحثًا مقارنًا (بين إنّيّة ابن سينا وكوجيتو ديكارت) تلك المقارنة التي تتكرّر في بحث الدكتورة تريز أندروات، أستاذة الفلسفة العربيّة في جامعة جورج تاون بواشنطن[17]. وبالإضافة إلى هذه المقارنة بين ديكارت والغزاليّ وابن سينا؛ يضيف عثمان أمين مقارناته الديكارتيّة في كتابة «شخصيّات ومذاهب فلسفيّة»، حيث تتّفق القاعدة الثالثة من قواعد منهج ديكارت مع الفارابيّ[18]. ويتناول نظريّة ديكارت في الحرّيّة مقارنًا إيّاها بما جاء لدى الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد[19]. وهذا ما نجده أيضًا في عرض عثمان أمين للتأمّلات في الفلسفة بالعدد الأوّل من تراث الإنسانيّة «فقد تجلّى أثر هذه الفلسفة [الديكارتيّة] عند الأستاذ الإمام في السنوات الأولى من هذا القرن»[20].
حدود المقارنات وتصادمها
علينا التوقّف عند قضيّة موقف محمّد عبده من ديكارت لبيان علاقة الإصلاح الدينيّ في مصر بالفكر الديكارتيّ، وهي قضيّة جديرة بالبحث، وحتى اليوم لا زالت الدراسات التي تعقد للمقارنة بين الغزالي وديكارت مستمرّة، وإنْ كانت الدراسة التي كتبها محمود حمدي زقزوق «المنهج الفلسفيّ بين الغزالي وديكارت»[21] هي أوفى ما كُتب في هذا المجال.
ويدعم زقزوق رأيه مشيرًا إلى التونسيّ عثمان الكعّاك الذي اكتشف في مكتبة ديكارت ترجمة كتاب «المنقذ من الضلال»، وقد وضع خطًّا تحت عبارة «الشكّ أوّل مراتب اليقين»، وكتب على الهامش «يضاف إلى منهجنا» ويضيف أنّ هذا ما أكّده الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة[22]. إلى كتاب سلفادور غومث نوجالس «الفلسفة الإسلاميّة وتأثيرها الحاسم في فكر الغرب أثناء العصور الوسطى»؛ الذي ترجمه عثمان الكعّاك[23]. والذي يوضح فيه صاحبه تأثير الميتافيزيقا الإسلاميّة في أوروبا، ويبيّن أنّ المنقذ من الضلال للغزالي قد ترجم منذ عهد مبكر إلى اللاتينيّة وأنّ عبارة الغزالي «الشكّ أوّل مراتب اليقين» صارت عند ديكارت: le doute est le premier ras vers la certiude[24]
ويبيّن محمّد شريف في «الفكر الإسلاميّ منابعه وآثاره» تأثير الغزالي على ديكارت- بل يتجاوز ذلك التأثير كلّ الفلسفة الحديثة-، ويرى أنّه يمكن تقدير فلسفة الغزالي وأفكاره إذا لاحظنا حقيقة مهمّة هي أنّ الغزالي وضع كلّ الملامح الرئيسة للفلسفة الغربيّة، بدءًا من ديكارت وصولًا إلى برجسون، ويستشهد بآراء هنري لويس Henry Lewis الذي تحدّث في كتابه «تاريخ الفلسفة» عن «إحياء علوم الدين» للغزاليّ، فأبرز إلى أيّ مدى اعتمد الفلاسفة الغربيّون على آراء الغزالي في دراساتهم، حيث قال: «إنّ هذا المؤلَّف يحمل العناصر العلميّة وطريقة البحث التي ظهرت فيما بعد في كتاب ديكارت المقال في المنهج»[25]. ويوضح لنا أنّ الالتقاء بين أفكار ديكارت وأفكار الغزالي لم يحصل بشكل عفويّ، وإنّما جاء نتيجة طبيعيّة لتعرُّف الأوّل على أفكار الثاني خلال الترجمات المتعدّدة؛ وهما يتفقان في بعض الخطوات الفكريّة عن الشكّ.
ونجد مثل تلك الإشارات في كتاب محمد إبراهيم الفيومي «الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل»[26]. وفي الدراسة التي خصّصها محمّد مبارك لـ: «منهجيّة الشكّ بين الغزالي وديكارت»؛ إلّا أنّ الموقف المتميّز الذي ينبغي أن نشير إليه والذي ينتقل بنا من التأثير بين الغزالي وديكارت إلى حدّ التشابه بينهما هو الموقف الذي قدّمه محمد عزيز الحبابي في «ورقات عن فلسفات إسلاميّة»، حيث يقول موضحًا في القسم الثالث من كتابه «إلى أيّ مدى أثّر الغزالي في الفكر الأوروبيّ»: «لقد وقع شيء بين الغزالي وبعض المفكرين (ديكارت وبسكال) يصعب تسميته (تأثيرًا)، لكنّه تشابه مدهش»، فالتشابه جليٌّ بين الغزالي وديكارت وخاصّة في القضايا المرتبطة بمنهجيّة الشكّ للوصول إلى الحقيقة، وقواعد المنهج، ويخصّص فقرة مهمّة عن ديكارت والغزالي[27]، حيث يبيّن نقاط الالتقاء بين النسقين الديكارتيّ والغزالي، وأنّ المقارنة بين الغزالي وديكارت التي تتكرّر كثيرًا، والتي تستحقّ أن يُنظر إليها نظرة متمعّنة هي قضيّة الشكّ. إنّ التشابه (التأثير؟) بين الغزاليّة والديكارتيّة جليّ لا مراء فيه من حيث منهج الشكّ الذي يقرب بين النسقين ويجعلهما يهدفان معًا إلى تحقيق غاية تقرِّبهما بقدر ما تبتعد عنهما وأنّ نقاط الاتفاق بينهما أكثر من نقاط الاختلاف.
ابن سينا وديكارت التشابه والاختلاف
تتجاوز المقارنات التي تعقد بين ديكارت والفلاسفة العرب المسلمين مسألة التأثير الشخصيّ إلى بيان أسبقيّة الحضارة العربيّة الإسلاميّة وتأثيرها على الغرب. وفي دراسة تحمل عنوانًا من هذا النوع: «أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبيّة» يبيّن الدكتور إبراهيم مدكور هذا الأثر في الفلسفة من خلال أفكار رئيسة[28]، ويبيّن أنّ النفس عند ابن سينا وحقيقتها وخلودها كان لها صدى لدى كثير من المفكّرين المسيحيّين، خاصّة برهان «الرجل المعلّق» الذي مهّد دون نزاع لفكرة الكوجيتو الديكارتيّة[29]. وحين يتحدّث في الجزء الأوّل من كتابه «في الفلسفة الإسلاميّة»- عن الرجل الطائر أو المعلّق في الفضاء؛ يبيّن أنّ برهنة ابن سينا كبرهنة ديكارت قائمة على أنّ الإدراكات المتميّزة تستلزم حقائق تصدر عنها، وأنّ الإنسان قد يستطيع أن يتجرَّد من كلّ شيء، لكنه لا يمكن أن يتجرّد من نفسه التي هي عماد شخصيّته وأساس ذاته وماهيّته.
وهذا الموقف نفسه نجده في إشارة سريعة في مقدمة تحقيق محمد ثابت الفندي لرسالة ابن سينا «في معرفة النفس الناطقة وأحوالها»[30]، ولدى محمود قاسم في حديثه عن براهين ابن سينا على وجود النفس، حيث يقارن بينه وبين ديكارت في كتابه: دراسات في الفلسفة الإسلاميّة[31]، كما يتناول جميل صليبا في المحاضرة الخامسة من كتابه «من أفلاطون إلى ابن سينا: محاضرات في الفلسفة العربيّة» نظريّة النفس عند ابن سينا. ويعرض لفكرة الرجل المعلّق في الفضاء، «ويرى أنّها من بين الأفكار التي سبقت الكوجيتو الديكارتيّ[32]، وفي حديثه عن «نظريّة ابن سينا في السعادة» المحاضرة السادسة بيّن أن رأي ابن سينا في اللذة شبيه برأي ديكارت[33] .
ويفيض سليمان دنيا في بيان العلاقة بين ديكارت وابن سينا، بل والغزالي أيضًا، وذلك انطلاقًا من رغبته في ردّ الفلسفة الحديثة إلى أصولها لدى القدماء. ويتحدّث سليمان دنيا عن ديكارت وكأنّه أحد الوعّاظ والقدّيسين وأولياء الله الصالحين بشكل يذكّرنا بما كتبه طه حسين عن ديكارت في كتابه «من بعيد»، وإن كان الفرق شاسعًا بين ما كتبه عميد الأدب العربيّ ووكيل أصول الدين، فالعميد كما سنرى يسخر من تلك الصورة الساذجة التي تُقدّم لديكارت؛ بينما الوكيل على قلّة ما قرأ عن ديكارت -كما يخبرنا- يرى فيه بجوار الجانب الفلسفيّ جانبًا يتلهّف إلى ملء قلوب الناس بالأمل في حياة أخرى بعد الموت، ويحسّ فيه حرارة العاطفة ورغبة في هداية الناس، هنا نرى كيف ننتقل بفيلسوف العصور الحديثة والعلم الحديث صاحب قواعد لهداية العقل إلى قدّيس طيّب يهدف إلى هداية الناس، كلامه أشبه بكلام مؤمن عميق الإيمان منه بفيلسوف متشكّك[34].
وفي مقابل هذا العدد الوفير من الدراسات التي اهتمّت بمقارنة ديكارت بابن سينا نجد بعض الباحثين الذين رفضوا الانسياق إلى إغراء مثل هذه المقارنة وسلوك هذا المسلك الوعر، فقد رفضت زينب الخضيريّ في كتابها «ابن سينا وتلاميذه اللاتين» أن تنتقل من تشابه بعض قضايا ابن سينا مع ديكارت إلى تأكيد تأثيره عليه، وتقول: «قد أغراني في بداية بحثي التشابه بين بعض قضايا ابن سينا وقضايا ديكارت، ولكنّني تراجعت عن ذلك لتقديري أنّ ابن سينا لم يمثّل له صدمة فكريّة جعلته يُقبل عليه محاولًا تقويمه كما هو الحال مع جيوم دوفرني، كما أنّه لم يشكّل عند الفيلسوف الفرنسيّ محورًا كما هو الحال مع القدّيس توما الإكويني… فقد تيقّنت بعد أن قطعت شوطًا في هذا المقام أنّ موقف كلٍّ منهما كان مختلفًا عن الآخر، فابن سينا ثار على التراث المشائيّ، إلّا أنّه لم يَثُر على كلّ أنواع التراث كافّة؛ إذ استبدل التراث الفارسيّ بالتراث المشائيّ، أمّا ديكارت فقد لفظ التراث الأرسطيّ وقاطع كلّ تراث فلسفيّ سابق، أي كانت ثورته شاملة وجذريّة تمامًا، من أجل هذا عَدَلت عن القيام بهذه المقارنة المغرية بين موقف الشيخ الرئيس وموقف أبي الفلسفة الحديثة من التراث» [35].
ويتّضح أنّ لدى غانم هنا أيضًا موقفًا متميّزًا في تناوله لما نحن بصدده؛ فهو يحدِّد لنا أنّ جوهر مهمّة البحث العلميّ رؤية المغايرات والتناقضات والتكاملات، وربط كلّ ما هو ماضٍ بما هو قائم، أي بالتاريخيّة الحاضرة وبما سيكون، فنحن لا نلجأ إلى ماض لنبحث فيه عن حلول لما هو قائم، أو لنثبت إبداعًا كان أجدادنا سباقين إليه: بل نتوخّى الرؤية العلميّة الواضحة في كيفيّة كون ما سبق جزءًا لا يُنزع عن الكلّيّة التاريخيّة التي هي حضارتنا.
ويتساءل غانم هل هنا يجوز لنا القول منطلقين مما بين أيدينا من نصوص للشيخ الرئيس أنّه قال بمنطلق العلم الفلسفيّ الحديث، هل نذهب في فهم العلاقة القائمة بين الفكر والوجود عند ابن سينا حتى القول بقرب النظريّة الديكارتيّة منها أو تطابقها معها – يقول: «أرى أنّنا ندخل هنا باب المجازفة، ولا بأس بذلك إذا ما بقينا على حذر، أي أنّنا لا نمدّ جسورًا تاريخيّة ولا نحمل النصوص إلّا ما نفهمه ناتجًا عنها. ليس هناك ما يحتمِّ علينا فهم التعقّل في نصوص ابن سينا وكأنّ التعقيل عمليّة إيجاد أو إبداع لما يتعقّل. بل بإمكاننا بعد أن نعي بأنّ مثل هذا التفكير لم يكن ممكنًا إلّا بعد ديكارت»[36].
ديكارت صوفيًّا، شيعيًّا متكلّمًا، عالمًا
يقارن أبو الوفا التفتازانيّ بين ديكارت وعدد من الفلاسفة والمتكلّمين والصوفيّة. ونجد المقارنة مع ديكارت بارزة مع المعتزلة ومع خصم المعتزلة الأشعري أيضًا؛ يؤكّد التفتازانيّ اتفاق موقف المعتزلة من العقل وموقف ديكارت، فقد كان المعتزلة يعوّلون على العقل ويقدمونه على الشرع، وهم قد أثبتوا للعقل منزلة عظمى.. ويرى أنّ المعتزلة لم يقرّوا بتفاوت العقول، وهم قد سبقوا بذلك الفيلسوف الفرنسيّ ديكارت الذي قال «العقل السليم هو أعدل الأشياء توزّعًا بين الناس»، ويورد نصًّا للنسفيّ يبيّن فيه إيمان المعتزلة بأنّ الناس سواسية في العقل «الناس في العقل كلّهم سواء. وكلّ عاقل بالغ يجب عليه بعقله أن يستدلّ على أنّ للعالم صانعًا[37]، وأنّ العقل ليس آلة للإدراك فقط وأنّ الوعي هو مصدر كلّ معرفة لا يوجب شيئا على العارف، ولا يقتضي تحسينًا ولا تقبيحًا. ويرى التفتازاني أنّ هذا الرأي يذكّرنا بما ذهب إليه ديكارت؛ الذي قرّر أنّ كلّ شيء يعتمد في وجوده على الله. كما يقارن في كتابه «الإنسان والكون في الإسلام» بين قول ديكارت بالخلق المستمرّ وبين قول فلاسفة الإسلام إنّ الله حافظٌ للعالم أو خالقٌ له باستمرار كما جاء لدى ابن حزم الأندلسيّ في الفصل، والكنديّ في الرسائل وابن عطاء الله السكندريّ في «التنوير في إسقاط التدبير»[38].
ونجد نفس المقارنة في كتاب «ابن عطاء الله السكندريّ وتصوّفه» مما يبيّن امتداد المقارنة بين ديكارت فيلسوف العقلانيةّ وبين الصوفيّة أصحاب القلوب. يؤكّد التفتازانيّ أنّ ما يقرّره ابن عطاء الله في تفسير الوجود بالإيجاد والإمداد يطابق ما قرّره ديكارت فيما يعرف بنظريّة الخلق المستمرّ[39]؛ وفي نفس الاتجاه يقارن مهدي فضل بين الفيلسوف الفرنسيّ الذي يرى أنّ الله ضامن كلّ الحقائق، وهو يهب العقل الإنسانيّ الحقائق البديهيّة الأولى ومحيي الدين ابن عربي في الفتوحات المكّيّة؛ الذي يقول إنّ العلم الصحيح لا يعطيه الفكرة ولا ما قرّره العقلاء من حيث أفكارهم. وأنّ العلم الصحيح إنما هو ما يقذفه الله في قلب العالم، وهو نور إلهيّ يختصّ الله به من شاء من عباده من ملك ورسول ونبي ووليّ ومؤمن، ومن لا كشف له لا علم له[40]. ويضيف محقذّ «راحة العقل» إلى المقارنة الداعي أحمد حميد الدين الكرماني؛ ذلك بأنّ كلًّا من الداعي الإسماعيليّ والفيلسوف الفرنسيّ قد استعان بمبدأ العلّيّة في إثبات وجود الله.[41].
ومن الفلاسفة والصوفيّة تمتدّ المقارنات إلى العلماء أيضًا، فيخصّص أحمد سعيد الدمرداش فصلين من كتابه عن الحسن بن الهيثم؛ للمقارنة بين إنجازات العالم العربيّ وإنجازات ديكارت، وهذا ما تشير إليه كتابات الباحثين في تاريخ العلوم عند العرب «فالعرب استعملوا الرموز الرياضيّة سابقين ديكارت في هذا المضمار؛ وفي حل المعادلات سبق العرب ديكارت. يرى علي عبد الله الدفاع؛ الذي كتب كثيرًا في العلوم البحتة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة أنّ علماء العرب والمسلمين في الرياضيّات هم الذين وضعوا اللبنات الأولى للهندسة التحليليّة التي تنسب للعالم الغربيّ ديكارت. ويلاحظ أنّ علامة الجذر المستعملة في الغرب اليوم والتي جاءت في كتابات ديكارت ما هي إلّا الجيم العربيّة التي رمز بها القلصادي للجذر، ولكنها في وضع رأسيّ معكوس[42].
ويعجب ياسين خليل في دراسته «منطق الحراني في التحليل والتركيب» من أنّ ديكارت لم يذكر في «مقال عن المنهج» فضل من سبقه في طريقة التحليل والتركيب. ويرى أنّ ما توصّل إليه ديكارت في قواعده الأربع لا يمثّل إلّا النزر اليسير مما أفاض به الحرّانيّ في مقالته، وأنّ مقارنة بسيطة بينهما تشير إلى سموّ منزلة الحرّاني على ديكارت في منطق التحليل والتركيب وشموليّة الفكر الرياضيّ المنهجيّ للحرّانيّ على محدوديّة الفكر الرياضيّ المنهجيّ لديكارت[43]
ويهدف موسى الموسويّ في كتابه «فلاسفة أوروبيّون من ديكارت إلى برجسون» إلى بيان الترابط الفكريّ بين الفلسفة الإسلاميّة والحديثة، وإن شئت تأثر الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث بكثير من التراث الفكريّ الإسلاميّ، الأمر الذي غفل عنه مؤرّخو الفلسفة والمعنيّون بشؤونها إغفالًا تامًّا لا يغتفر (هكذا) في كثير من الأحيان.
لقد تبنّى بعض الفلاسفة الأوروبيّين آراء ونظريّة الفلاسفة المسلمين، ولكن هؤلاء لم يشيروا إلى أصل الفكرة لا من بعيد ولا من قريب. وينطلق الموسويّ ليعدّد هذه الأصول في الفصل الأوّل الذي خصّصه لديكارت، والذي يحاول فيه أن يردّ كلّ ما جاء به ديكارت إلى فلاسفة وصوفيّة ومتكلّمين وعلماء مسلمين، حيث يقول: «لقد سبق ابن الهيثم وجابر بن حيان ديكارت في طريقته المنهجيّة، كما أنّ إبراهيم بن سنان الحرانيّ سبق ديكارت في قاعدة التحليل والتركيب… كان ما يهمنا كما يقول الموسويّ أن يعرف روّاد الفلسفة والعلم أنّ النظريّة تلك التي أقامت أوروبا وأقعدتها في القرن السابع عشر الميلاديّ انبثقت في المشرق الإسلاميّ على يد فلاسفة مسلمين؟[44]
بل يتحدث عن أنّ إثبات وجود الله عن طريق فكرة الكائن اللانهائيّ قد وردت في كلام الإمام عليّ الذي سبق ديكارت في هذه الفكرة، فقد جاء في دعاء الصباح للإمام عليّ: «يا من دلّ على ذاته بذاته»، وجاء في دعاء للإمام عليّ: «بك عرفتك وأنت دللتني إليك، ولولا أنت لم أدرِ ما أنت»، حيث إنّ المضمون الوارد في دعاء الإمام؛ هو الفكرة نفسها التي أقام عليها ديكارت فلسفته الميتافيزيقيّة. ويرى أنّه من المؤسف المحزن في عالم العلم والعلماء ألّا يشير أحد من الذين أرّخوا لفلسفة ديكارت من المسلمين وغيرهم إلى أصل الفكرة الديكارتيّة أو الينبوع الأوّل لمثل هذه النظريّة[45].
ويحزننا نحن أيضًا أنّنا لا نستطيع أن نقوم بمثل هذا العمل، أي البحث عن جذور هذه العلاقة الفكريّة؛ التي يحاول أن يلتمسها كلّ باحث في فكرنا المعاصر، وكأنّه يشرّفنا وجود فكرة من هنا أو عبارة من هناك وردت عرضًا لدى أيٍّ من مفكّرينا القدامى لدى أحد الفلاسفة المحدثين؛ أو أنّه يقلل من شأن هؤلاء الفلاسفة الذين صاغوا لنا مذاهب فلسفيّة هي نتاج واقعهم وأصولهم الفكريّة أن يكون هناك من قال بشيء قريب منها، فورود فكرة ما لدى أحد الفلاسفة شيءٌ، وكون هذه الفكرة إحدى لبنات بناء فلسفيّ ضخم شيء آخر.
إنّ الفكر الفلسفيّ كما نعلم؛ تراث إنسانيّ متكامل؛ يُبنى فيه اللاحق ويكمل ما بدأه السابق في حوار خلّاق بين الأفكار المختلفة؛ حيث يتحوّل الخارجيّ إلى داخليّ ويتمّ تمثّل القديم ليصبح جزءًا من الجديد. إلّا أنّ إرجاع أفكار وفلسفات معيّنة لأصول سابقة عليها والجزم بأنّها المصدر الأساسيّ لهذه الفلسفة أو تلك؛ فهي مسألة تجاوزها العلم وأصبحت علاقة التأثير إحدى مخلّفات المنهج التاريخيّ التي لا تقوم على التحقّق العلميّ. وتختلف مسألة التأثير والتأثّر عن الإشارة إلى وجود تشابه عقليّ أو لفظيّ، وعن التناص الذي يصبح فيه المنجَز جزءًا من المبدع، فالتحقّق العلميّ من مسألة التأثير والتأثر يحتاج إلى كثير من الأدوات التي قد لا يمتلكها من يلقي بهذه الأحكام السريعة.
وليس هناك بالطبع ما يمنع من وجود مقارنات بين أفكار الفلاسفة المسلمين وغيرهم من المحدثين، لكن على ألّا يغيب عن بالنا الإطار الحضاريّ الذي يعبّر عنه كلّ منهم من جهة، وكيف يعبّر عنه هؤلاء الفلاسفة من جهة أخرى؛ أمّا مسألة التشابهات، فلا يمكن التأكّد منها، فربما كان مصدر كلّ من الغزالي وديكارت هو سكتوس إمبريقوس؛ الذي نقل عنه كلّ منهم في الشك، أمّا أن يكون ديكارت أخذ عن الغزالي وكلّ الفلاسفة العرب، فلا يعني هذا إلّا أنّه فيلسوف عربيّ مسلم جمع بين حجّة الإسلام والمعلّم الثاني ورائد الفكر المصريّ والشيخ الأكبر والإمام علي كرّم الله وجهه وغيرهم.
ترجمة المقال: في ضرورة المنهج
وصلنا الآن إلى مرحلة جديدة في رحلة ديكارت في مصر العربيّة، ولقد تحوّلنا من السؤال عمن هو ديكارت وما هو مذهبه إلى التعريف به وتقديم فلسفته في دروس الجامعة الأهليّة؛ التي أشعل أحد طلابها جذوة مقارنة فلسفة ديكارت مع الفلاسفة المسلمين، والتي كانت وما تزال قضيّة مثارة في مقدّمة قضايا تعاملنا مع الديكارتيّة، ثم كانت القضيّة الأشهر هي تلك التي فجّرها طه حسين في حياتنا الثقافيّة حول منهج ديكارت والثقافة العربيّة التي أدّت إلى كثرة المناقشات واشتدادها وامتدادها إلى حياتنا الأدبيّة والثقافيّة وصار الخلاف حول فهم المنهج الديكارتيّ وحسن تطبيق طه حسين له. مما استدعى نقل وترجمة “المقال في المنهج”، الذي كان باكورة التعرّف علي النصوص الديكارتيّة في الفكر والثقافة العربيّة المعاصرة والذي لاقى اهتمامًا كبيرًا من الباحثين العرب على امتداد عقود وما يزال، وهذا هو موضوع الفقرات القادمة.
سنتناول في هذا السياق – قبل سرديات طه حسين وديكارت – بدايةَ ترجمة نصوص ديكارت، كما سنسعى للتعرُّف على لغة الفلسفة الحديثة واصطلاحاتها كما تمثّلت في فلسفته، وما أدّت إليه ترجمتها من بعث اللغة الفلسفيّة العربيّة الإسلاميّة القديمة التي استقرت منذ عصر الترجمة الأولى وتحدّدت معانيها على يد المترجمين الأوائل ثم الفلاسفة العرب بعد ذلك، ودخلت اللغة العربيّة وأصبحت جزءًا من نسق المعرفة العربيّ القديم في عصر ازدهار الثقافة العربيّة، ثمّ توارت بعد ذلك في فترة ركود هذه الثقافة وجمودها في عصور الظلام حتى نهضت الترجمة مرّة ثانية مع الدفعة الأولى من خرّيجي الجامعة المصريّة، وربما قبلها فى الجامعة الأهليّة؛ للنظر إليها من خلال علاقتها والفلسفة الحديثة؛ محاولين بيان قدرة هذه اللغة العربيّة في التعبير عن أفكار الفلسفة الغربيّة. وبعد محاولات الغربيّين ممن قاموا بالتدريس في الجامعة المصريّة، خاصّة الكونت دي جلارزا، تظهر المحاولة المكتملة الأولى في الترجمة في العام 1930 حين ترجم محمود الخضيريّ «المقال في المنهج Dislcour De la methode»، وهو العمل الذي توالت ترجماته بعد ذلك في العربيّة[46].
وإذا كانت المحاولات السابقة التى ذكرناها تنحصر في عرض فلسفة ديكارت والتعريف بها أو تقوم على الدعوة للمنهج العقلانيّ النقديّ وتطبيقه على الأدب العربيّ، فإنّ المحاولة الحاليّة تقوم أساسًا على التعامل المباشر مع أفكار ديكارت ولغته ومصطلحاته وتنبني على نقل فلسفته إلى العربيّة، وتسعى لإيجاد اللغة المناسبة لذلك؛ ولم يتمّ ذلك دفعة واحدة وبشكل مباشر، بل كان نتيجة جهود متعدّدة، مما خلق اهتمامًا متزايدًا بالفلسفة الديكارتيّة؛ تمثّل في أكثر من ناحية لدى أكثر من أستاذ من أساتذة الفلسفة المصريّين في أوّل دفعة للجامعة المصريّة.
وتوضح كتابات عثمان أمين فى هذه الفترة، خاصّة كتابه «الجوانيّة»، مدى الاهتمام بما يُلقى في الجامعة المصريّة من دروس عن ديكارت، فقد درس أحمد أمين ديكارت ومذهبه العقليّ ومنهجه في الشكّ… وكان يستعين على إيضاح نظريّات ديكارت بأمثلة حيّة انتزعها من حياتنا العصرية.[47] ويتّضح من حديث عثمان أمين تأثير الأساتذة الفرنسيين، الذين كانوا وراء الاهتمام بدراسته لديكارت، خاصّة «لالاند»، ويحدّثنا كثيرًا عن اهتمامه الخاصّ بديكارت في يوميّاته.[48]
ويختار محمّد مصطفى حلمي «نظريّة الجوهر عند ديكارت واسبينوزا» موضوعًا لرسالته بالفرنسية للحصول على الماجستير[49]. كما كتب عن ديكارت في تقديمه لأوّل ترجمة عربيّة للمقال في المنهج،[50] يعرض في دراسة طويلة فلسفة ديكارت ونواحيها المختلفة ومؤلّفاته، مبيّنًا أهمّيّة المنهج في المجالات العقليّة المتعدّدة ومشيرًا إلى تطبيق طه حسين له في مجال النقد الأدبيّ. ويعود في دراسته عن «طه حسين مفكِّرًا» إلى بيان علاقة فلسفة ديكارت ومنهجه بكتابات عميد الأدب العربيّ[51].
ومن هنا نعرض للخضيري (1906- 1960) الذي انتقل بالديكارتيّة من مجرّد العرض التعليميّ؛ لتصبح جزءًا من الثقافة العربيّة، واستخدمها في تطويع اللغة العربيّة للتعبير عن الفلسفة الديكارتيّة وبيان أدقّ مشكلاتها.
رأى الخضيري أن يضع منهجًا للترجمة يربط بين الحديث والقديم ليكون الاتصال متحقّقًا بين مراحل تاريخنا المختلفة، ورأى الرجوع إلى اللغة الفلسفيّة العربيّة الإسلاميّة التي نحتها أبناؤها في عصرها الذهبيّ نحتًا وأرسوا مصطلحاتها وعرفوها بدقّة مشهودة، فكما يستخدم فلاسفة العرب مصطلحات الفلسفة اليونانيّة إلى اليوم ويزيدون عليها ما يجدونه مناسبًا، رأى أن يستخدم مصطلحات الفلاسفة المسلمين وعلى رأسهم ابن سينا الذي أثبتت الدراسات الحديثة أنّه مصدر من مصادر بعض القضايا الديكارتيّة. ويرى الخضيريّ أنّه في المستطاع أن نعبّر بالعربيّة عن كلّ معنى فلسفيّ مما حدّده أصحاب اللغات الأخرى التي تحدّدت مصطلحاتها الفلسفيّة واستقرّت لغتها التي تعبّر بها عن أعمق المشكلات الفلسفيّة، ويشير منذ البداية إلى وجود طريقتين عند المعاصرين ممن ينقلون عن اللغات الأوروبيّة إلى لغتنا العربيّة.[52]
الأولى هي البحث في الكتب العربيّة القديمة عن اصطلاح مستعمل للدلالة على المعنى الذي يعبّر عنه الاصطلاح الأوروبيّ المراد ترجمته؛ والطريقة الثانية هي التي يميل أصحابها إلى اعتبار المعنى الأوروبيّ شيئًا غير مألوف عند السابقين، ويفضّلون أن يطلقوا عليه اسمًا يودّون أن يفرض فرضًا، ويلاحظ على الطريقة الأولى وهي الغالبة أنّ تطبيقها لم يخلُ من أخطاء ناتجة عن سوء التعرف إلى المعنى الذي ألّفه السابقون أحيانًا، أو سوء التعرّف إلى المعنى الذي يقصده الأوروبيّون، أو سوء التعرف إلى كليهما أحيانًا، وتلك كما يرى الخضيري أشدّ أنواع الجهل تركيبًا، وهي أخطاء لا ينبغي أن يقع فيها المترجمون. وبعد أن يحدّد طريقتين في الترجمة يعطينا مثالاً تطبيقيًّا نستطيع أن نستخلص منه القواعد الأساسيّة للمنهج الذي ارتضاه، وهذا المثال هو المصطلح: intuition ويناقش معاني هذا المصطلح، حيث إنّ في العربيّة ترجمات مختلفة له، أي أنّ ثمّة إرثًا من المصطلحات العديدة التي نستطيع من خلال بيانها ومناقشتها أن نحدّد أيّها المصطلح الأدقّ.[53]
1- يبدأ أوّلًا ببيان معنى المصطلح عند ديكارت؛ فهو لا يعني شهادة الحواس المتغيّرة، ولا ما يتعلّق بالخيال الكاذب من أحكام باطلة، وإنّما ما تتصوّره النفس الخالصة المنتبهة تصورًا هو من السهولة والتميز بحيث لا يبقى أيّ شكّ فيما نفهمه، أو تصوّر النفس الخالصة المنتبهة تصورًا ينشأ عن نور العقل وحده. ولما كان هذا التصور أبسط كان تبعًا لهذا أوثق من القياس نفسه، وهو على هذا النحو بحيث يستطيع كلّ إنسان أن يدرك بالــ intuition أنّه موجود، وأنّه يفكر، وأنّ المثلّث محاط بثلاثة خطوط.
2-يتناول الاصطلاحات العربيّة لترجمة المصطلح مستخدمًا أوّلًا المنهج الاستبعاديّ لرفض ما يراه غير صالح. ويعرض للحدس ويرى أنّ المقصود به يختلف عن معنى المصطلح الفرنسيّ؛ ذلك أنّ الحدس في الفلسفة الإسلاميّة لا يعدو الدلالة على التخمين، فأصل المصطلح هو «حسن الحدس»، وهو ترجمة للكلمة اليونانيّة Eustochia[54].
3- ثم يعرض للمصطلح العربيّ الذي اختاره وهو البداهة، وقد استخدمه في ترجمة «المقال في المنهج»، ويدلّل على أفضليّته بالرجوع إلى التعريفات اللغويّة له عند: أبي هلال العسكريّ في «الفروق اللغويّة» والراغب الأصفهانيّ في «الذريعة»، ويخرج من ذلك إلى أنّ تحديد المعنى المقصود به هو الإدراك العقليّ المباشر[55].
أخذ الخضيري في ترجمته بمبدأين؛ الأوّل هو المحافظة على وحدة اللغة العربيّة، أي أنّه استخدم في ترجمة الاصطلاحات الفلسفيّة الأوروبيّة كما يخبرنا – الاصطلاحات نفسها التي استخدمها فلاسفة الإسلام من قبل للدلالة على المعاني نفسها، فقد بحث للاصطلاحات الديكارتيّة عن كلمات عربيّة تؤدّي معناها وأردفها بتحديد ديكارت نفسه لمفهومها. والمبدأ الثاني هو المحافظة على تجانس الأدب العربيّ «وأقصد بهذا أنّني اجتهدت في ألّا أدع الكتاب الذي أنقله إلى العربيّة غريبًا في الأدب العربيّ الفلسفيّ، وذلك بأنّني اجتهدت في أن أقرّب بين كثير من المعاني الواردة في المقال في المنهج وبين معان لفلاسفة الإسلام فيها قول»[56].
وبالنسبة للترجمة فقد أشفعها الخضيري بتعليقات ومقدّمات، بحيث فاق ما كتبه من حيث الحجم النصَّ الأصليَّ للكتاب. وما أورده من مقارنات بين ديكارت وغيره من الفلاسفة نجد صداه لدى من كتب عن ديكارت أو ترجم له فيما بعد. وقدم الخضيريّ مدخلًا لترجمته بدراسة مهمّة لعلّها أوّل عرض منهجيّ متكامل لديكارت وفلسفته بالعربيّة، وبعد أن يتحدّث عن أثر «المقال» وطبعاته والدوافع التي حَدَت به إلى ترجمته يقدّم لنا النصَّ مشفوعًا بتعليقاته[57].
ويتّضح جهد الخضيريّ فيما نهض به بالمقارنة مع الترجمة الثانية للكتاب التي قام بها جميل صليبا الذي درس بدوره في الجامعات الفرنسيّة، وصار أحد علماء مجمع الخالدين، مما أتاح له بحكم ثقافته التعامل مع المصطلحات الفلسفيّة بلغاتها المختلفة، وانشغل بالمصطلح الفلسفيّ، وكتب في مجلّة مجمع اللغة العربيّة بدمشق سلسلة دراسات حوله. ويتّضح جهده في المعجم الذي وضعه باللغات المختلفة. ومن المهم التعرّف على فهمه للتعامل مع المصطلحات واللغة الفلسفيّة كمدخل لتناول ترجمته لكتاب ديكارت «المقال في المنهج»، وهو يرى أنّه «لا بدّ للعلماء من الاتفاق على معاني الألفاظ، ولا بدّ لهم من تثبيت الاصطلاحات العلميّة حتى لا تتبدّل الحقائق بتبدل الألفاظ التي أُفرغت فيها، فالألفاظ حصون المعاني وتثبيت الاصطلاحات العلميّة هو الحجر الأساس في بناء العلم[58]. ويبيّن لنا السبيل التي يجب اتباعها لوضع الاصطلاحات.
ويهمّنا أن نشير إلى بعض تلك التعليقات التي يقرأ فيها صليبا ديكارت قراءة عربيّة، حيث يعلّق على النصّ بما جاء في تفسير «ما بعد الطبيعة» لابن رشد، و«الهوامل والشوامل» للتوحيدي، وتزداد هذه التعليقات فيما كتبه عن قواعد المنهج الأربعة[59]، ويتابع في هامش طويل في حديثه عن الكوجيتو مقارنة جيلسون لديكارت بأوغسطين، ويشير إلى اعتماده على جيلسون، ويُقارن ديكارت بنفس الطريقة بالغزالي[60]. ويقارنه بابن طفيل، ويعتمد في حديثه عن الحسّ المشترك Le sens Commusm على «تعريفات» الجرجانيّ و «كلّيّات» أبي البقاء الكلفويّ و«نجاة»[61] ابن سينا[62]. كما يعتمد على تعريفات الجرجانيّ لكلمة فنطاسيا fantasia والمرّة الوحيدة التي يشير فيها إلى ترجمة الخضيريّ التي تسبق ترجمته بحوالي 23 سنة تأتي في آخر سطور ترجمته. والذي يلفت الانتباه هو عدم ذكر ابن سينا -موضوع رسالته للدكتوراه- طوال الترجمة إلّا في إشارة عابرة في جزء من هامش، في الوقت الذي اهتمّ فيه بالأوجه المختلفة لاتفاق كلٍّ من ديكارت وابن سينا في كتابه «من أفلاطون إلى ابن سينا»[63].
الثقافة العربيّة ومرور ثلاثمئة عام على «المقال في المنهج»:
لم يقتصر الاهتمام «بالمقال في المنهج» على ترجمته إلى العربيّة أكثر من مرّة؛ بل تعدّى ذلك إلى الاحتفال بذكرى مرور ثلاثمئة عام على ظهوره لأوّل مرّة سنة 1637 في ندوات وكتابات مختلفة؛ تظهر أهمّيّة فلسفة ديكارت ودورها في الفكر الإنسانيّ. ويترجم عثمان أمين في «صوت ديكارت» الفصل الثاني من كتاب «لمحات من الفكر الفرنسيّ» كلمة برجسون في هذا الاحتفال، الذي أطلق عليه اسم الفيلسوف احتفالًا بمرور ثلاثمئة عام على ظهور «المقال في المنهج» لقد ابتدع الفيلسوف بكتابه الصورة التي قدّر للفلسفة الفرنسيّة أن تتخذها من بعد، وهي العدول عن اللاتينيّة التي لا يعرفها إلّا الخاصّة والاتجاه إلى مخاطبة الناس كافة.[64]
وتأتي في مقدّمة الجهود العربيّة التي شاركت في الاحتفال بذكرى المقال في المنهج كتابات وترجمات الأستاذ يوسف كرم صاحب «المنهج العقليّ المعتدل»؛ فقد كتب بالمقتطف دراستين الأولى في أكتوبر 1937 والثانية في نوفمبر من السنة نفسها في الاحتفال بهذه الذكرى؛ لبيان أهمّيّة ديكارت وفلسفته. كما قدّم فصلًا مهمًا من فصول كتابه «تاريخ الفلسفة الحديثة»[65] عن ديكارت، وهو يتضمّن كثيرًا مما جاء في الدراستين، ولم يكتفِ بذلك، بل شارك بتوجيه من طه حسين في ترجمة «ثلاثة دروس في ديكارت» التي ألقاها بقاعة الجمعيّة الجغرافيّة الملكيّة المصريّة؛ ألكسندر كواريه A. Koyre، وهي ثلاثة محاضرات تدور حول «المقال في المنهج» طبعتها الجامعة المصريّة ونشرت في الاحتفالات بذكرى المقال نشرة تتضمّن النصّ العربيّ والفرنسيّ.[66].
ويلاحظ على ترجمة يوسف كرم أنّها ظهرت دون هوامش أو ملاحظات، فهل يرجع ذلك لوضوح المحاضر أو إلى إلمام الجمهور والقرّاء بديكارت وأنّه ليس هناك ما يستدعي الإشارة والتوضيح، فقد ترجم ديكارت من قبل وعرف لدى القرَّاء كما يظهر من قول كواريه: «نحن جميعا نعرف هذا الكتاب فقد قرأناه جميعًا ودرسناه مع تفاوت في العناية به». ولم ينقطع اهتمام كرم بديكارت، فقد كتب ناقدًا أو معلّقًا على كتاب عثمان أمين عن «ديكارت» بعد صدور طبعته الأولى في عدد يوليو 1943 بالمقتطف. مما جعل عثمان أمين يشيد بهذا النقد في مقدّمة طبعته الثانية للكتاب، كما كتب بالاشتراك مع إبراهيم مدكور فصلًا مهمًّا عنه في كتابهما المشترك عن «دروس في تاريخ الفلسفة»[67]. وكتب أيضًا بالفرنسيّة عن «أبي الفلسفة الحديثة» دراسة تُرجمت وأُعيد نشرها في الكتاب الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة على أستاذ أساتذة الفلسفة يوسف كرم.
وقد أسهمت المجلّات العربيّة في الاحتفال بهذه المناسبة وسنشير إلى الدراسات التي قدّمت فيه، إلّا أنّ هناك دراسة مهمّة سبقت هذا الاحتفال بحوالي عشر سنوات، ترجع أهمّيّتها إلى لغتها الجريئة القويّة في بيان أهمّيّة ديكارت وأهمّيّة «المقال في المنهج»، وقد نشرت في مجلّة «العصور» التي أسّسها إسماعيل مظهر لنشر الفكر الحرّ وإحياء النهضة الفكريّة الحديثة في الشرق؛ فقد جاء في عددها الرابع من المجلّد الأوّل مقال مهمّ عن «رينيه ديكارت» بقلم حسين تقي أصفهان؛ يلقي الضوء على فلسفته ويعطي صورة عنه كمفكّر حرّ ومؤسّس جديد للفكر الحديث متّفقًا في ذلك مع منطلقات مجلّة «العصور»؛ فديكارت «هادم قديم ومؤسّس جديد، وهو بحقّ مؤسّس العلوم الحديثة والممهد لها وأبو الفلسفة الحديثة، وقد خلّفت فلسفته بحقّ فلسفة المعلّم الأوّل في جامعات أوروبا، فالعلم الحديث مدين له، والفلسفة الحديثة وليدة تفكيره… والرياضة بجميع فروعها تكاد تكون مستحيلة اليوم لولاه… وقد كان لنظريّاته أثر عظيم في القانون وعلم التاريخ، بل إنّ الأدب والنقد الأدبيّ أسير فضله كما عند بيرو Perraul وفونتنيل Fontenal وغيرهم من أعلام»[68].
ويرى حسن تقي أصفهان كاتب المقال أنّ ديكارت هو أحد أفراد الدهر الذين جاهدوا في سبيل توطيد الحرّيّة الفكريّة في عقول المفكّرين، وجعلها الأساس الذي تقوم عليه كلّ ثقافة وكلّ تقدّم وكلّ تفكير في جميع فروع المعارف البشريّة. وهو أكبر ثائر عرفه التاريخ؛ حطّم إلى الأبد تحكّم فلاسفة اليونان وكلّ سلطة غير مشروعة في العقول. ويشير الكاتب إلى مسألة مهمّة ربما كان الوحيد الذي نبّه إليها من بين من تحدّثوا عن ديكارت وقارنوا بينه وبين فلاسفة الإسلام». لقد بدأ ديكارت حياته الفكريّة كما بدأها ابن سينا وابن رشد وغيرهما من فلاسفة الإسلام، ولكن مع هذا الفارق: وهو أنّ فلاسفة الإسلام كان يراجعون ما يتعلّمونه ويلخّصونه مرارًا دون أن يظهروا نقص علم وفلسفة أرسطو وعقم منطقه وجدب طرقه وضرره بدينهم وعلومهم، وبعقول الذين يتعلّمونها من متكلّمين وفلاسفة وفقهاء وأدباء. ويخرج من ذلك إلى حكم متفرّد، حيث يقول: «إنّي أعتقد كلّ الاعتقاد أنّ فلاسفة الإسلام وعلى الأخصّ ابن سينا في الشرق وابن رشد في الغرب أضرّوا بالثقافة الإسلاميّة والشرقيّة كلّ الضرّر بالترويج للقدماء والتعبّد لهم… أمّا ديكارت فسرعان ما بدأ يراجع كلّ ما تعلّم حتّى بدا له الخلط والفساد، وبانت له الفوضى الفكريّة: لقد تابع السير ونهج لنفسه سبيلًا أصبحت بعده معبَّدة وممهدة ومطروقة وسهلة، فابتدأ أوّلًا باطراح كلّ ما تعلّمه ونسيان كلّ ما تلقّى من الكتب وحدَّد لنفسه منهجًا جديدًا وعرض لنا هذا المنهج». ولسنا بصدد التعليق وبيان وجود أصول يونانيّة متنوّعة في كتابات ديكارت، فما يهمّنا بيان اللغة التي تحدّث بها عن الفيلسوف وموطن إشادته به[69].
وكتبت مجلّة «الحديث» السوريّة مقالة مهمّة لا تحمل اسم كاتبها، إلّا أنّنا يمكن أن نُنسِبها على قدر لا بأس به من اليقين إلى إسماعيل أدهم وهو المفكّر الحرّ الذي شارك بعدد من الدراسات في هذه المجلّة، وهو يتحدّث في هذه المقالة عن مؤلّفاته، ويرى أنّها انعكاس لمجريات حياته، فقد كان توَّاقًا لكلّ جديد ميّالًا إلى الحرّيّة. ويتوقف أمام «المقال في المنهج» الذي يراه معبّرًا أصدق تعبير في الميدان الثقافيّ عن المطالب البورجوازيّة في ذلك العهد والذي كان يعبّر يومئذ بوعي وجرأة لم يجسر عليها أحد تقريبًا، مثل ديكارت في القرن السابع عشر؛ ولهذا يمكننا القول إنّ ديكارت من هذه الجهة وغيرها كان سابقًا لعصره أيضًا. ففي ذلك الوقت تجرَّأ ديكارت على رفع صوته ليقول إنّه بالرغم من كونه أحد رعايا الكنيسة المخلصين لا يسعه إلّا أن يتبع في تفكيره وحياته الخطة الآتية: عدم قبول أيّ شيء كحقيقة إلّا بعد التأكّد منه وتحكيم العقل لمعرفته «وهكذا استُبدل إيمانُ القرون الوسطى الساذج بالشكّ المستند إلى قاعدة وبتحكيم العقل وسعى إلى إثبات أنّ هذا العقل متساوٍ طبيعيًّا عند كلّ الناس»[70].
تحتوي رسالة ديكارت على إعلان حقوق العقل من جهة وإعلان المساواة -النظريّة بين الناس- بصفتهم مخلوقات يعقلون من جهة أخرى، ومن هنا يتضح أنّ فيها اتجاهًا ثوريًّا لا جدال فيه، لقد كان ديكارت أوّل من فسّر تطوّر الكون بنظريّة تناقض ما جاء في «سفر التكوين»؛ إذ قال إنّ الأرض والكواكب المختلفة تكوّنت كلّها بصورة طبيعيّة دون تدخّل إلهيّ. يعتبر ديكارت وليد البورجوازيّة الحديثة والمعبّر عنها في نظر الكاتب، وهو بالضرورة صاحب اتجاه عمليّ؛ لقد كان عنده فكرة إنسانيّة سامية جدًّا عن دور العلم، وكان رأيه دائمًا أنّ كلّ نظريّة لا يمكن تطبيقها هي عديمة الفائدة؛ لذلك ما انفكّ يبحث ويفكِّر في كلّ أيّام حياته عن فلسفة عمليّة يتاح بها للإنسان متى عرف قوّة ومفعول كلّ عناصر الطبيعة أن يصبح سيّدها ومالكها بلا منازع»[71].
وتختلف صورة ديكارت هنا عن الصورة المعتادة للفيلسوف المثاليّ اللَّاهوتّي وهذا ما يؤكّده الكاتب في قوله: «إنّ ديكارت ليس كما صوّره لنا بعض المعلّمين الرجعيّين، عالم استمدّ روحه وتفكيره من تعاليم القرون الوسطى، بل هو بالعكس قريب جدًّا من أكبر فلاسفة عصرنا الحاضر وأحسن ممثّلي الفكر الحديث بالرسالة السامية التي خصّ بها العلم وبسعيه الناجح لإثبات حقوق العقل»[72].
وتشارك مجلّة الرسالة مجلّات: الحديث، والمقتطف، وندوات الجامعة المصريّة في الاحتفال بذكرى «المقال في المنهج»، وذلك في يونيو 1938 بدراسة للسيد أحمد محمّد عيتاني عن «الطريقة العلميّة أو القواعد الأربع للبحث والتفكير للفيلسوف الفرنسيّ الكبير رينيه ديكارت»، وهي عرض تحليليّ لأحد فصول «المقال»، وهي كما يقول صاحبها جزء من دراسة كاملة عن ديكارت وترجمة للمقال. يعرّف الكاتب بديكارت، فهو أبو الفلسفة الحديثة وواضع أسسها وباني كيانها، ألمّ بجميع فروع الفلسفة، وترك لنا مؤلَّفات عديدة فيها. كلّها ذات قيمة فذّة لما احتوت عليه من الحقائق العلميّة والملاحظات الدقيقة والنظريّات والآراء التي أحدثت هزَّة عنيفة في مجال العلم والفلسفة، فغيّرَت مجرى بحوثها وحملتهما على الاتجاه إلى اتجاه جديد كان نتيجة لها»[73].
خاتمة نقديّة:
لقد مهّدت تلك الجهود المشار إليها السبيل لأهمّ الدراسات الكلاسيكيّة عن ديكارت في العالم العربيّ، وخطت بها خطوات مهمّة من أجل تقديم الديكارتيّة كاتجاه فلسفيّ حديث له مكانته في التفكير العربيّ المعاصر، وأدّت إلى تدشين الديكارتيّة العربيّة التي أوضح معالمها عثمان أمين عندما جعل منها جزءًا مكوّنًا للفكر العربيّ المعاصر مثلّما جعلت جهود ابن رشد من الأرسطيّة معلمًا من معالم المشائيّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، مع عدم التغافل عن اختلاف طبيعة وظروف وزمن كلّ منهما عن الآخر.
لكن لا بدّ في الختام من العودة إلى التساؤل عن الأثر المعرفيّ المترتِّب على حضور ديكارت في مصر والعلمين العربيّ والإسلاميّ، ومما لا شكّ فيه أنّ اختلاف النخب في هذين العالمين وفي مصر على وجه الخصوص، أدّى إلى إحداث فوضى معرفيّة لم تنتهِ تداعياتها إلى يومنا الحاضر. فالنتيجة النهائيّة التي خلص إليها ديكارت في الميتافيزيقا هي الفهم الميكانيكيّ والهندسيّ المحض للعالم الطبيعيّ. وكان هذا ما أراده، وهو الأمر نفسه الذي سيورّثه إلى مجمل فلاسفة الحداثة من بعده، فقد أخذ هؤلاء عنه كلّ شيء يتّصل بالعقل المحض والعقلانيّة المحضة الأمر الذي أدّى إلى نسيان البعد اللَّاهوتيّ في شخصيّته باعتباره بعدًا لا يعوَّل عليه. وبطبيعة الحال فقد كان للعقلانيّة الديكارتيّة الأثر الكبير والحاسم على العقل العربيّ الحديث، حيث كانت النتيجة إطلاق سيرورة من العلمانيّات المضطربة والرماديّة منذ نهاية القرن التاسع عشر ولمَّا تتوقف بعد..
المراجع والمصادر
إبراهيم بيومي مدكور: أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبيّة، ط2، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1987.
إبراهيم بيومي مدكور: الفلسفة الإسلاميّة منهج وتطبيقه.
أبو الوفا التفتازانيّ: ابن عطاء الله السكندري، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، القاهرة، 1969.
أبو الوفا التفتازانيّ: الإنسان والكون في الإسلام، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1975.
أبو الوفا التفتازانيّ: علم الكلام وبعض مشكلاته، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1979.
أحمد سعيد الدمرداش: الحسن بن الهيثم، دار الكاتب العربيّ.
أحمد عبد الحليم عطية: هل ديكارت فيلسوف عربيّ مسلم؟ جريدة السياسة السودانيّة، 19 ديسمبر 1989.
ألكسندر كواريه: ثلاثة دروس في ديكارت ترجمة يوسف كرم، إشراف طه حسين مطبوعات الجامعة المصريّة.
جميل صليبا: المعجم الفلسفيّ في جزءين، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1971.
جميل صليبا: من أفلاطون إلى ابن سينا، دار الأندلس، ط3، بيروت، 1983.
حسين تقي أصفهاني: رينيه ديكارت مجلّة العصور، القاهرة العدد الرابع المجلّد الأوّل.
الخضيريّ: كيف نترجم الاصطلاح intuition مجلّة علم النفس؟، مجلد 1، العدد الثالث، فبراير 1946.
الخضيريّ: هوامش ترجمة المقال في المنهج، ط4، هامش 2.
زكي مبارك التصوّف والأخلاق عند الغزالي دار الشعب، القاهرة، 1929.
زينب الخضيري: ابن سينا وتلاميذه اللاتين، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1986.
سلفادور غومث نوفالس: الفلسفة الإسلاميّة وتأثيرها الحاسم في فكر الغرب أثناء العصور الوسطى، ترجمة: عثمان الكعاك، الدار التونسية للنشر، 1977.
سليمان دنيا: مقدمة تحقيق كتاب ابن سينا الإشارات والتنبيهات، القسم الثاني، ط2، دار المعارف، القاهرة.
عثمان أمين: الجوّانيّة 1964.
عثمان أمين: الجوّانيّة، دار القلم، القاهرة 1964.
عثمان أمين: رائد الفكر المصريّ. مكتبة نور – 2008.
عثمان أمين: شخصيّات ومذاهب فلسفيّة- الأهليّة للنشر والتوزيع- ط1- القاهرة – 1945.
عثمان أمين: عرض التأمّلات في الفلسفة الأولى، مجلّة تراث الإنسانيّة، العدد الأوّل، المجلد الأوّل.
مجلّة الحديث السوريّة العدد التاسع السنة الحادية عشر سبتمبر 1937 الفيلسوف رينيه ديكارت: نظرة عامّة على حياته وآرائه الفلسفيّة.
محمد إبراهيم الفيوميّ: الإمام العزالي وعلاقة اليقين بالعقل، الأنجلو المصريّة، القاهرة، 1976.
محمد ثابت الفندي: الغزالي، صحيفة جامعة القاهرة، العدد الثاني، ديسمبر 1929.
محمد شريف: الفكر الإسلاميّ منابعه وآثاره، ترجمة: أحمد شلبي، ط8، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة، 1986.
محمد عزيز الحبابي: ورقات عن فلسفات إسلاميّة- دار توبقال للنشر- 1988.
محمّد مبارك: دراسات في الفكر العربيّ الإسلاميّ الوسيط «منهجيّة الشكّ بين الغزالي وديكارت» دائرة الشؤون الثقافيّة العامّة، وزارة الإعلام، بغداد، 1986.
محمّد مصطفى حلمي: تقديم ترجمة الخضيري للمقال في المنهج، ط2، دار الكاتب العربيّ، القاهرة، 1967.
محمّد مصطفى حلمي: طه حسين مفكّرًا، مجلّة الفكر المعاصر، فبراير 1966.
محمّد مصطفى حلمي: مقدّمة تحقيق كتاب أحمد حميد الدين الكرماني راحة العقل، دار الفكر العربيّ، 1952، محمود الخضيري: مقارنة ديكارت بفلاسفة العرب، صحيفة جامعة القاهرة، العدد الثالث، يناير 1930.
محمود حمدي زقزوق: المنهج الفلسفيّ بين الغزالي وديكارت، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة.
محمود قاسم: دراسات في الفلسفة الإسلاميّة، دار المعارف، ط2، القاهرة، 1967.
من أفلاطون إلى ابن سينا، دار الأندلس، بيروت، ط 3، 1983.
مهدي فضل الله: فلسفة ديكارت ومنهجه، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- ط 3- 1996.
موسى الموسوي: فلاسفة أوروبيّون من ديكارت إلى برجسون- دار المسيرة- بيروت –ط 1- 1980.
يوسف كرم وإبراهيم مدكور: دروس في تاريخ الفلسفة مطابع مدكور وأولاده بمصر القاهرة 1954.,
يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف- القاهرة د. ت.
A.Glucksmanm: Descartes C,est le Franse,essai, paris, Flammarion 1987.
—————————-
[1]*ـ باحث في الفكر الفلسفيّ- أستاذ مشرف على الدكتوراه- كلية الآداب جامعة القاهرة- جمهوريّة مصر العربيّة.
[2] – A.Glucksmanm : Descartes C,est le Franse,essai, paris, Flammarion 1987.
[3] – كشف حقيقة إسلام الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت ووصوله إلى «جيل قاف» العظيم بعالم جوف الأرض بقلم أسامة حامد وعي والحقيقة كما سنعلم أنه نقل عما كتبه طه حسين في كتابه من بعيد عن ديكارت. وأنظر أيضاً المحمودي.
[4]– يخبرنا محرر المقتطف بعد ان يشرح فلسفة ديكارت بنقده لها وهو يشبه النقد الذى سيذكر جالارثا يعد ذلك في قوله لقد ارتبك ديكارت في مسألة القضاء والقدر بعد أن قال أن عقل الانسان لا يكفي لنفهم كيف تدع قدرة الله أفعال الانسان حرة تماماً وغير مقدرة. أو يعلق قائلاً يتضح هنا الخطأ الأصلي في إدراك الله عند ديكارت فهو يريد أن يجعل ادراك الكينونة البسيط يرادف ادراك اللانهاية.
[5]– يشير ماسينيون في محاضراته إلى عدد كبير من الفلاسفة والعلماء والكتب العرب ممن يتشابهون مع ديكارت في ناحية أو أكثر من فلسفته: ويضيف جالارثا أيضاً يبنى ديكارت كما يري التمييز بين الأفكار والارادات وبين الانفعالات (بالمعنى الأخص) علي ان سبب الانفعالات هو بعض حركات المادة الرقيقة التي سماها ارواحاً حيوانية، ويري بولي. (ص72) أن اعتبار الانفعالات (أو العواطف) انفعالات فقط لا أفعالا كان خطأ مبدئياً في ديكارت. يركز خير ديكارت إلى السرور فلا يصل إذن لى درجة الاخلاق الحسنة. لو كان ديكارت صادقاً لما استطع ان يدرك وجود اضطراب في النفس وحدها بعد أن علق الحركة بالأجسام فقط. ولكنه قد حاد عن الصدق فقال بالسرور العقلي والحب العقلي.
[6]– أنظر الكونت دي جالارثا: محاضرات في الفلسفة العامة اعداد وتقديم د. أحمد عبد الحليم عطية د. ن. ناشر. ص49.
[7]– المصدر نفسه: ص51.
[8]– المصدر السابق- ص 53.
[9]– أنظر الكونت دي جالارثا: محاضرات في الفلسفة العامة، المصدر نفسه، ص 69.
[10]– محمد لطفي جمعة، ص461.
[11]– المرجع السابق، ص475.
[12]– انظر زكي مبارك التصوف والأخلاق عند الغزالي دار الشعب، القاهرة، 1929، ص343.
[13]– انظر الدراسات التالية : نجد مقابل الدراسات الكثيرة التي تقارن للشك الديكارتي مع شك الغزالي بدأت في الفترة الأخيرة عدد من الدراسات التي تتناول الكوجيتو الديكارتي علي ضوء فلسفة ابن رشد.
[14]– محمد ثابت الفندي: الغزالي، صحيفة جامعة القاهرة، العدد الثاني، ديسمبر 1929.
[15]– محمود الخضيري: مقارنة ديكارت بفلاسفة العرب، صحيفة جامعة القاهرة، العدد الثالث، يناير 1930.
[16]– عثمان أمين: الجوانية، ص75.
[17]– تريز أندروات: مشكلة النفس والجسد عند ابن سينا وديكارت، مجلة المستقبل العربي، 1983، ص113 – 126.
[18]– عثمان أمين: شخصيات ومذاهب فلسفية، ص281.
[19]– عثمان أمين: رائد الفكر المصري، ص115، 138: 139.
[20]– عثمان أمين: رائد الفكر المصري، ص115، 138: 139.
[21]– عثمان أمين: عرض التأملات في الفلسفة الأولى، مجلة تراث الإنسانية، العدد الأول، المجلد الأول.
[22]– محمود حمدي زقزوق: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
[23]– المرجع السابق، ص7.
[24]– سلفادور غومث نوفالس: الفلسفة الإسلامية وتأثيرها الحاسم في فكر الغرب أثناء العصور الوسطى، ترجمة عثمان الكعاك، الدار التونسية للنشر، 1977. ويهدف زقزوق من كتابه كما يخبرنا إلى: أولا: بيان مدى تطابق أفكار كل من الغزالي وديكارت فيما يتعلق بالشك المنهجي وفي النتائج التي خرج بها كل منهما. ثانيا: الدعوة إلى إعادة النظر في الحكم على الغزالي الذي قيل عنه أنه هدم الفلسفة في الشرق بينما أحيا ديكارت الفلسفة في أوروبا في العصر الحديث. ويرى أن الغزالي لو كان قد فهم جيدا لكان له تأثير إيجابي في مسار الفكر الإسلامي يوازي تأثير ديكارت في الفلسفة الحديثة.
[25]– محمد شريف: الفكر الإسلامي منابعه وآثاره، ترجمة د. أحمد شلبي، ط8، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1986، ص121.
[26]– محمد إبراهيم الفيومي: الإمام العزالي وعلاقة اليقين بالعقل، الأنجلو المصرية، القاهرة، 1976، ص112- 113. محمد مبارك: دراسات في الفكر العربي الإسلامي الوسيط «منهجية الشك بين الغزالي وديكارت» دائرة الشئون الثقافية العامة، وزارة الإعلام، بغداد، 1986، ص55- 64.
[27]– محمد عزيز الحبابي: ورقات عن فلسفات إسلامية، ص107.
[28]– مثل: الوجود والماهية، النفس وغيرها «فالتفرقة بين الوجود والماهية من الأفكار الإسلامية الخالصة صادف نجاحا لدى اللاتين ويرجع ذلك إلى صلتها بفكرة الألوهية والتعويل عليها في البرهنة على وجود الله… فالوجود ليس جزء من ماهية الشيء اللهم إلا بالنسبة لله»… ويرى مدكور أن ذلك يذكرنا بالدليل الانطولوجي عند ديكارت؛ إبراهيم بيومي مدكور: أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ص161.
[29]– إبراهيم بيومي مدكور: الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه، ص142.
[30]– محمد ثابت الفندي: مقدمة تحقيق رسالة ابن سينا في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، القاهرة، د. بيانات، هـ 4ـ ص3، 4.
[31]– محمود قاسم: دراسات في الفلسفة الإسلامية، دار المعارف، ط2، القاهرة، 1967، ص1- 46.
[32]– جميل صليبا: من أفلاطون إلى ابن سينا، دار الأندلس، ط3، بيروت، 1983، ص104.
[33]– المرجع السابق.
[34]– سليمان دنيا: مقدمة تحقيق كتاب ابن سينا الإشارات والتنبيهات، القسم الثاني، ط2، دار المعارف، القاهرة، ص79.
[35]– زينب الخضيري: ابن سينا وتلاميذه اللاتين، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1986، ص51 : 52.
[36]– غانم هنا: علاقة الفلسفة الحديثة بمفهوم العقل عند ابن سينا، ص95.
[37]– غانم هنا: علاقة الفلسفة الحديثة بمفهوم العقل عند ابن سينا، ص95.
[38]– أبو الوفا التفتازاني: علم الكلام وبعض مشكلاته، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1979، ص157.
[39]– أبو الوفا التفتازاني: الإنسان والكون في الإسلام، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1975، ص55، 56.
[40]– مهدي فضل الله: فلسفة ديكارت ومنهجه، دار الطليعة، بيروت.
[41]– محمد مصطفى حلمي: مقدمة تحقيق كتاب أحمد حميد الدين الكرماني راحة العقل، دار الفكر العربي، 1952، ص32. وإن كان أحدهما يختلف عن الآخر في التفاصيل التي ينطوي عليها دليله وفي الفكرة التي توجهه «فقد كانت هذه الفكرة عند الكرماني فكرة الوجود وكانت عند ديكارت فكرة الكمال، ومع ذلك فإن مبدأ العلية هو الذي يعمل ويأتي أكله في الدليل على إثبات وجود الله عند الكرماني وعند ديكارت»(42) ويستشهد بقول ديكارت أن علة الوجود لأي شيء موجود بالفعل أو لأي كمال لشيء موجود بالفعل لا يمكن أن تكون لا شيء أو تكون شيئا غير موجود، كما جاء في البديهية الثالثة من الردود على الاعتراضات الثانية – لا يكاد يختلف عما قاله الكرماني من قبله بقرون طوال وهو أنه لا معلول بدون علة ولا موجود إلا إذا كان له ما يوجب وجوده. ويرى أن الكرماني في نفي الليسية عن الله كان فيلسوفا يصطنع مبادئ العقل ومناهج النظر لديكارت.
[42]– أحمد سعيد الدمرداش: الحسن بن الهيثم، دار الكاتب العربي، ص122، 147. فهما يتفقان في القول بالتحليل، بل إن ابن الهيثم قد سبق ديكارت – بدليل ما أثبته عالمان من روسيا – في القول بالهندسة التحليلية وخصص الفصل قبل الأخير من كتابه «نهج ابن الهيثم في الضوء ينبوع لديكارت ونيوتن» مبينا أثر نظريات عالمنا العربي في الضوء ومنهجيته التجريبية فيها التي تتفوق على منهجية ديكارت الرياضية.
[43]– ياسين خليل: منطق الحراني في التحليل والتركيب، مجلة المجمع العلمي العراقي، ج2، 3، نيسان 1982، ص308.
[44]– موسى الموسوي: فلاسفة أوروبيون من ديكارت إلى برجسون.
[45]– أحمد عبد الحليم عطية: هل ديكارت فيلسوف عربي مسلم؟ جريدة السياسة السودانية، 19 ديسمبر 1989.
[46]– يماثل الجهد الذي قام به رواد الدفعات من خريجي قسم الفلسفة في ترجمة الكتابات الفلسفية – مع اختلاف الزمن والظروف والإمكانيات – ما قام به مترجمي بيت الحكمة في عصر الترجمة الأول ونستطيع دراسة ما قام به الفريقين باختيار أحد الأعمال الفلسفية مثل «الأخلاق إلى نيقوماخوس» لأرسطو الذي ترجمه قديما إسحق بن حنين وحديثا أحمد لطفي السيد لمعرفة حدود وطبيعة وغاية الترجمة الفلسفية للعربية في عصرها القديم والحديث.
[47]– د. عثمان أمين: الجوانية، دار القلم، القاهرة 1964، ص62- 63.
[48]– المصدر السابق – ص 101.
[49]– يقول: «رأيت أن أعرض في رسالتي تأثير ديكارت على اسبينوزا، وأن أقارن بين الفلسفتين لا في جملتهما، بل في ناحية دقيقة وعويصة منهما وأعني بها نظرية الجوهر». محمد مصطفى حلمي: نظرية الجوهر عند ديكارت واسبينوزا. ملخص الرسالة بالفرنسية بمكتبة جامعة القاهرة، ص1. وقد طبع الملخص بمطبعة المستقبل بالقاهرة، 1932.
[50]– د. محمد مصطفى حلمي: تقديم ترجمة الخضيري للمقال في المنهج، ط2، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967
[51]– د. محمد مصطفى حلمي: طه حسين مفكرا، مجلة الفكر المعاصر، فبراير 1966.
[52]– الخضيري: كيف نترجم الاصطلاح intuition مجلة علم النفس؟، مجلد 1، العدد الثالث، فبراير 1946.
[53]– الخضيري: كيف نترجم الاصطلاح intuition مجلة علم النفس؟، مجلد 1، العدد الثالث، فبراير 1946.
[54]– تظهر هذه الخطوات مطبقة قبل ذلك بخمسة عشر عاما في ترجمة «المقال في المنهج» حيث يخبرنا أنه لم يأخذ بترجمة الأساتذة لكلمة intuition بالحدس لسببين، الأول: أن كلمة الحدس تثير كثيرا من الشبهة إذ أنها تفيد عند مناطقة العرب حركة إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط، وبالجملة سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول كمن يرى تشكل استنارة القمر عند أحوال قربه وبعده عن الشمس فيحدس أنه يستنير من الشمس (ابن سينا: النجاة، ص137) وهذا مخالف كل المخالفة لما يعنيه ديكارت. وقد ترجم الأستاذ هورتن كلمة الحدس في معناها المذكور بكلمة Schorfsinn أي الإمضاء في الفهم ولم يترجمها intuition die srekiylative إلا عندما يكون المقصود بها «النفس القدسية» أي عندما تصبح الكلمة من لغة الصوفية الذي يخالفون الفلاسفة فيما لهم من معان ومقاصد (راجع الجرجاني: التعريفات، النفس القدسية) والسبب الثاني أن لكلمة intuition في الفلسفة الأوروبية معاني متعددة. ويعني ديكارت بها معنى خاصا رأينا أنه يطابق مفهوم كلمة «بداهة» في اللغة العربية واستعملناها باعتبارها العمل العقلي الخاص بالإدراك البديهي. وهو كما يعرفه صاحب «كشاف اصطلاحات الفنون» يطلق على معان منها مرادف للضروري المقابل النظري، ومنها المقدمات الأولية وهي ما يلغي تصور الطرفين والنسبة في جزم العقل به وبعبارة أخرى ما يقتضيه العقل عند تصور الطرفين والنسبة من غير استعانته بشيء. الخضيري: ترجمة المقال في المنهج، ط4، ص41.
[55]– المجع السابق، ص51.
[56]– قارن جهد الخضيري في ترجمة وتقديم وشرح المقال في المنهج بما قام به المترجم الإنجليزي الذي أورد نص المقال في الإنجليزية دون شرح أو تعقيب سوى مقدمة عامة مقتضبة لمجموعة النصوص المترجمة. راجع:
Descartes: Discourse on Method and their writings, trans by F. E. Sut iliffe penguin Books2 (ed) 1970. .
[57]– الخضيري: هوامش ترجمة المقال في المنهج، ط4، ص69، هامش 2.
[58]– د. جميل صليبا: المعجم الفلسفي في جزئين، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1971.
[59]– وهي تتحدد في أربعة قواعد هي:
القاعدة الأولى: البحث في الكتب العربية القديمة عن اصطلاح مستعمل للدلالة على المعنى المراد ترجمته ويشترط في هذه القاعدة أن يكون اللفظ الذي استعمله القدماء مطابقا للمعنى الجديد.
القاعدة الثانية: البحث عن لفظ قديم يقرب معناه من المعنى الحديث فيبدل معناه قليلا ويطلق على المعنى الجديد مثال ذلك ما ترجم به لفظ intuition الذي أطلق عليه اسم الحدس بعد أو وسعنا معناه القديم.
القاعدة الثالثة: البحث عن لفظ جديد لمعنى جديد مع مراعاة قواعد الاشتقاق العربي، كأن يستعمل الشخصية للدلالة على personnalite.
القاعدة الرابعة: اقتباس اللفظ الأجنبي بحروفه على أن يصاغ عربيا (التعريب) وذلك في أضيق الحدود، عند عجزنا عن اشتقاق لفظ عربي للدلالة على المعنى الجديد.
[60]– جميل صليبا: المصدر السابق، ص90.
[61]– المصدر السابق، ص105، هــ3.
[62]– المصدر السابق – ص113.
[63]– المصدر نفسه، ص14، 68.
[64]– يقارن صليبا في المحاضرة الخامسة «نظرية النفس عند ابن سينا» بين ديكارت والشيخ الرئيس فابن سينا في برهان الرجل المعلق سابق على ديكارت ص104- 105، ويتحدث صليبا عن رأي ابن سينا في اللذة التي تنشأ عن الشعور بالكمال ويبين أن هذا الرأي شبيه برأي ديكارت ص129. راجع صليبا: من أفلاطون إلى ابن سينا، دار الأندلس، بيروت، ط3، 1983، ص104- 105- 129. وتحتاج مقارنة ديكارت وابن سينا عند صليبا والخضيري إلى مناقشة موسعة ولكن قبل كل شيء يبقى لهما خاصة الأول فضل تمهيد الطريق لتعريف النصوص الكلاسيكية الديكارتية إلى العربية حيث واصل بعده كل من نظمي لوقا وعثمان أمين وكمال الحاج ترجمة نصوص ديكارت.
[65]– يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف القاهرة د. ت ص.
[66]– ألكسندر كواريه : ثلاثة دروس في ديكارت ترجمة يوسف كرم، إشراف طه حسين مطبوعات الجامعة المصرية ص1.
[67]– يوسف كرم وإبراهيم مدكور: دروس في تاريخ الفلسفة مطابع مدكور وأولاده بمصر القاهرة 1954 ص115 وما بعدها (الباب الثالث: رينيه ديكارت).
[68]– حسين تقي أصفهاني: رينيه ديكارت مجلة العصور، القاهرة العدد الرابع المجلد الأول ص310.
[69]– المصدر السابق ص310- 312.
[70]– انظر مجلة الحديث السورية العدد التاسع السنة الحادية عشر سبتمبر 1937 الفيلسوف رينيه ديكارت : نظرة عامة على حياته وآرائه الفلسفية ص148.
[71]-المصدر السابق، ص 149.
[72]– المصدر نفسه.
[73]– السيد أحمد محمد عيتاني : الطريقة العلمية والقواعد الأربع للبحث والتفكير للفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت. مجلة الرسالة. يونيه 1938.