دراسات وبحوث معمقة

في صحبة نيتشه

 

 

بقلم الدكتور عفيف عثمان

 

 

نمضي معًا في صحبة هنيّة مع  كتاب د. ريمون غوش “نيتشه وفلسفة القوة”، الصادر عن دار النهار (2025)، (في 160 صفحة)؛ وهو دراسة جديدة في فكره، مع التركيز على مفهوم “إرادة القوة”، (أو “الاقتدار” أو “المقدرة”)، وتطبيقاتها في عدة مجالات مثل الحقيقة، الجسد، العود الأبدي، السياسة، العدالة، الحقيقة، والسياسة.

والكتاب في سبعة فصول يغطي على نحو شامل (تقريبًا) مفاصل فلسفة نيتشه: الفصل1: نيتشه والمتفوق والعود الأبدي. الفصل 2: نيتشه والجسد. الفصل 3: الحالة الدينية (حول المسيحية ونقدها). الفصل 4: فلسفة القوة (مرتكزاتها..). الفصل 5: نيتشه والحقيقة. الفصل 6: نيتشه والعدالة. الفصل 7: نيتشه والسياسة.

والسؤال الرئيس: هل نحن في حاجة إلى دراسة أخرى حول نيتشه (1900 – 1844)، والإجابة عند الفيلسوف الألماني نفسه، الذي يقول: إن فلسفته للمستقبل وللأجيال القادمة، وهي في عوز لمن يشرحها ويزيل سوء الفهم عنها، فهي بعبارة أخرى “غير واضحة المعالم”.

يقول “فيلسوف المطرقة” في تقديمه “لأصل الأخلاق وفصلها”، (أو نسب الأخلاق، أو جينالوجيا الأخلاق بترجمة فتحي المسكيني): “صحيح أنه ينبغي من أجل رفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فنًّا من الفنون، أن يمتلك المرء قبل كل شيء تلك الملكة التي طمسها النسيان اليوم طمسًا تامًّا – ولهذا سينقضي وقت على كتاباتي قبل أن تصبح “قابلة للقراءة”  – تلك الملكة التي تقتضي أن يكون للمرء طبيعة كطبيعة البقرة، لا أن يكون له طبيعة “الإنسان الحديث”: وأعني بها ملكة الاجترار”. سيلزاماريا، إنغادين العليا، تموز 1887. (ترجمة د. حسن قبيسي، 1981، ص 17).

وعلينا أن نضع في الاعتبار أن الفلسفة الغربية المعاصرة تدين لثلاث قامات فكرية كبيرة: نيتشه، وماركس، وفرويد. وقد قام الفرنسي ميشال فوكو (1984 – 1926) برصد هذا التأثير في بحثه الموسوم: “نيتشه، فرويد، ماركس: جينيالوجيا المعرفة”. (أنجز الترجمة العربية أحمد السطاتي، وعبد السلام بنعبد العالي، وصدرت عن دار توبقال للنشر في الدار البيضاء في العام 2008).

وكي ندرك مقاصد نيتشه جيدًا يتوجب علينا فهم العنصرين الحاكمين لرؤيته، وأقصد “الأبولوني” (نسبة إلى Apollon)، و”الديونيزي” (نسبة إلى Dionysos). وهما مفهومان أساسيان في فلسفته،  يمثلان وجهتين مختلفتين للطبيعة الإنسانية والثقافة اليونانية القديمة.

المبدأ الأبولوني: يمثل العقل، والنظام، والوضوح، والإدراك، والفن النقي، والقوة البصرية. ويعتمد على الرؤية المحدودة، والأشكال الهندسية، والهدوء، وضبط النفس، وتعبير الفرد عن نفسه. ويمثل أبولون، إله الموسيقى والشعر في الأساطير اليونانية.

المبدأ الديونيزي: يمثل العاطفة، والنشوة، والفوضى، والغموض، والقوة الصوتية، والإحساس بالتواصل العميق. ويعتمد على الرؤية المطلقة، والأشكال غير المنتظمة، والاندماج مع الآخرين، والتحرر من الذات. ويمثل ديونيزوس، إله النبيذ والمسرح في الأساطير اليونانية. ويُستخدم لتفسير تجربة الفن، والاندماج مع الطبيعة.

العلاقة بينهما: يتعارضان ويعملان معًا، ويشكلان أساسًا للفن، والثقافة اليونانية القديمة. والجمال الذي نراه هو نتيجة لتفاعل هذين المبدأين.

في المأساة اليونانية، يمثل المبدأ الديونيزي البداية، ويمثل المبدأ الأبولوني النهاية. والتوازن بينهما يمثل الجمال والفن الحقيقيين.

وقد تم تفسير فكرة نيتشه على أنها تعبير عن الوعي المجزّأ، أو عدم الاستقرار الوجودي من قبل مجموعة متنوعة من الكتاب المعاصرين وما بعد الحداثيين، وخاصة مارتين هايدجر (M. Heidegger) (1976 – 1889)، وميشيل فوكو (M. Foucault) (1984 – 1926)، وجيل دولوز(G. Deleuze)  (1995 – 1925). ووفاقًا للفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك (P. Sloterdijk)، فإن الديونيزي والأبولوني يشكلان جدلية، فهما متناقضان، لكن نيتشه لا يقصد أن يتم تقدير أحدهما أكثر من الآخر. ويتحدد وجودنا من خلال الجدلية الديونيزسية/ الأبولونية.

يرى الراحل د. جورج زيناتي (2021 – 1935)، في كتابه ” الفلسفة في مسارها” (2013) إنه “يمكن اختصار فكره في وجهين: العدمية الشاملة الكاملة التي تريد هدم الأخلاق، والفلسفة والدين والعلم كذلك، وشتّى المؤسسات حتى الفكر السياسي القائم على العدالة والديمقراطية، وكل هذا خرج من كتابه الأول (مولد التراجيديا)، ثم الحل الذي يراه، وقد خرج من حلمه أو رؤياه أو ظهور العود الأبدي، وبراءة الصيرورة أمامه، وهو في مكان مرتفع”. (ص 251).

“مفهوم الإرادة”

تأثر نيتشه في شبابه، في شكل كبير بالفيلسوف آرثر شوبنهاور (A. Schopenhauer) (1860 – 1788) الذي صاغ نظرية تقول: إن “الإرادة” هي القوة الأساسية التي تحرك التغيرات في هذا الكون. فبالنسبة له، كانت “إرادة الحياة هي المحرك الرئيسي للرغبة في البقاء قيد الحياة”، ولكنه اعتبرها مصدرًا للألم والمعاناة المستمرة، إذ إن هذا السعي الدائم لا ينتهي إلا بالحرمان، أو الإشباع المؤقت الذي يتبعه شعور جديد بالنقص.

رغم إعجاب نيتشه بفكرة الإرادة نفسها، لم ترُق له نظرية “إرادة الحياة” كما صاغها شوبنهاور. هذا النقد ألهمه تطوير مفهومه الخاص عن القوة الدافعة وراء التغيير، والذي برز في كتاباته المبكرة التي تناولت بشكل متقطع فكرة “الإرادة” كعامل فاعل في الأشياء. وفي حلول نهاية القرن التاسع عشر، صاغ مفهوم “إرادة القوة”، وبات جزءًا محوريًّا في فلسفته. في “هكذا تكلم زرادشت” (كتاب للجميع ولغير أحد)، بلور هذه الفكرة في فقرة “في التغلب على الذات”، حيث يكتب: “ليس للعدم إرادة، لكن ذلك الذي هو موجود كيف له أن يطلب الوجود؟ فقط حيث توجد حياة، هناك أيضًا إرادة: لا إرادة للحياة، ولكن – كما أعلمكم – إرادة القوة!”. (ترجمة فليكس فارس، 1938، ص 145، طبعة هنداوي، 2012)، (وثمة ترجمة أخرى للتونسي علي مصباح، دار الجمل، 2007، ص 229).

فلم تعد إرادة الحياة بالنسبة له مجرد سعي للبقاء كما تصورها شوبنهاور، بل أصبحت القوة الدافعة التي تحفز الكائنات الحية على السعي لتحقيق التفوق، والإبداع، والتغلب على العقبات، وحتى المجازفة بكل شيء من أجل بلوغ مستويات أسمى من الوجود.

فلسفة القوة

أصاب د. غوش في عنونة كتابه “فلسفة القوة”، فنيتشه عمليًّا هو فيلسوف القوة، وفي بعض الترجمات “الاقتدار”، إذ اعتبر أن الصراع هو الأساس، فهو يقوي القدرات، وهو جوهر الحياة والعنصر الأساسي فيها. وإرادة القوة هذه (أو الاقتدار) “تقوم على الغرائز والجسد، فالأفكار لا توصل إلى اليقين، إذ الجسد هو محور أي معرفة حقيقية، والغريزة الفجة هي مصدر أي حقيقة”. ( غوش، ص 67).

ففلسفة القوة تستند عند  نيتشه إلى عدم الإقرار بكل الحقائق التي أتت بها الأديان والأيديولوجيات ومفاهيم العدالة والسياسة القائمة والسائدة، فهو لم يؤمن إلا “بفلسفة حياتية مادية وعيش الإنسان على الأرض ضمن نظرة وجودية آمنت بمبادئ القوة واللذة والسلطة، وتنكرت للمبادئ القيمية والأخلاقية”. (غوش، ص 68).

واعتبر أن “فلسفة القوة” هي التي تحدد سلوك الفرد، وهذه الإرادة، أي إرادة الاقتدار، لا “تتحقق إلا في الإنسان الأعلى أو المتفوق، الذي في مقدوره أن يتجاوز الصعاب، وأن يحقق المطلق في الحياة التي يصبو إليها”. (ص 70). وهذه الإرادة تظهر تقريبًا عند كل الناس من خلال النزعة إلى الحرية، فهي تظهر عند المسحوقين من البشر: “قد تيقنت وجود إرادة القوة في كل حيٍّ، ورأيت الخاضعين أنفسهم يطمحون إلى السيادة، لأن في إرادة الخاضع مبدأ سيادة القوي على الضعيف، فإرادة الخاضع تطمح إلى السيادة أيضًا لتتحكم فيمن هو أضعف منها، وتلك هي اللذة الوحيدة الباقية لها فلا تتخلى عنها”. (هكذا تكلم زرداشت، ترجمة فليكس فارس، 1938، ص 144، طبعة هنداوي، 2014). كما وتظهر عند الأكثر غنى وقوة، ونتعرف عليها من خلال مسميّات: “البطل”، أو “النبي”، أو “القيصر”، أو “المخلص”، أو “الراعي”. (غوش، ص 70). وينتقد د. غوش فلسفة القوة التي نادى بها نيتشه لأنها تطيح بمبدأ المساواة بين البشر، وتتنكر لكل فلسفاتها القائمة عليها. (غوش، ص 81).

وقد تناول جيل دولوز  (1995- 1925) مسألة إرادة القوة بتحليل مفصل في كتاب “نيتشه والفلسفة”، ليلقي الضوء على هذا المفهوم الذي غالبًا ما تم تأويله أو فهمه فهمًا سيئًا. فغالبًا ما أخذ مفهوم الإرادة على أنه إرادة أحد ما، أو هي فعل فاعل يريد، وكأن الإنسان هو الذي يريد في حين أن الإرادة نفسها هي التي تريد، وحدها إرادة القوة هي ما يريد، إنها لا تترك نفسها تنتدب أو تُستلب في موضوع آخر، حتى إن كان القوة.

في العدالة

وأدى إيمان نيتشه بمبدأ القوة إلى جعله لا يقيم وزنًا كبيرًا للقيم والفضائل، ومنها مسألة العدالة التي اعتبرها خرافة ابتدعها الفلاسفة. فهو يتبنى الموقف السفسطائي اليوناني الذي يبرر القوة، ويعطي ويقدم مبدأ “الحق للقوة”، أو “الحق للأقوى”، فردًا كان أم دولة، فهو بهذا الخصوص يناقض سقراط وأفلاطون في مفهومهما للعدالة الذي يقوم على التساوي والقانون. فهو يقف إذًا ضد الشرائع التي تنادي بالعدل، وهو لا يقر إلا بنوعين من الأخلاق: أخلاق السادة وأخلاق العبيد، وهو طبعًا من جماعة أخلاق السادة.

فعنده، أي في نظر نيتشه، لا يمكن أن تقوم العدالة إلا بين أفراد متساوين، وبالتالي هو لا يقر منطقها الراغب في جعل الأفراد غير المتساوين متساوين. والحال أن نيتشه لا يعترف بالقانون ولا بسلطته، بل جعل مبدأ القوة هو أساس العدل، فالقانون كما يقول د. غوش “يحبط من طموح الدولة ويجعلها رتيبة، ويجعل الأفراد يقنطون ويرضون بعيش محدود. فتستكين عندها الدولة إلى الأسوار وليس إلى قوة الجند والحامية”. (غوش، ص 122).

وينتهي د. غوش في بحثه عن العدالة عند نيتشه إلى القول بأن هذا المفهوم لا يوصِلنا إلى العدالة، بل يبعدنا عنها. وهو لا يكتفي بنقد فلسفة نيتشه، بل يقدم رؤيته الخاصة الداعية إلى خلق فلسفة جديدة تؤسس لقيام توازن كوني من طريق مقاومة العولمة الخادعة وأهدافها واستراتيجياتها، وذلك من خلال توعية الروح القومية وبعثها من جديد. فهو يدعو إلى عولمة إنسانية تقوم على القيم والفضيلة والدساتير والقوانين والتشريعات العادلة.

_________________________

*المصدر: “معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى