الإسلاميون المغاربة ومنظومة حقوق الإنسان: تحولات الخطاب والممارسة
الإسلاميون المغاربة ومنظومة حقوق الإنسان: تحولات الخطاب والممارسة
Moroccan Islamists and the Human Rights System: Transformations in Discourse and Practice
محمد الدحاني Mohamed Dahani
عنوان الكتاب: الإسلاميون المغاربة وحقوق الإنسان: تحولات الخطاب والممارسة.
المؤلف: عبدالرحمان علال
الناشر: دار أبي رقراق للطباعة والنشر
مكان النشر: الرباط
تاريخ النشر: 2024
عدد الصفحات: 500 صفحة
مقدمة
كل متتبع حصيف للأدبيات التي اهتمّت بتطور أطياف الإسلام السياسي على مدار قرن من الزمن؛ أي منذ أن أسَّس حسن البنا حركة الإخوان المسلمين بمصر في عشرينات القرن الماضي إلى معركة طوفان الأقصى التي انطلقت يوم 7 أكتوبر 2023، قد يُلاحظ بيسر كبير تعقد الظاهرة وتشعب أبعادها وتداخل عناصرها وتدفق أسئلتها. هذه الخصائص لفتت انتباه الباحثين وحفزتهم على التصدي لها، رغم تعدد خلفياتهم المعرفية وتباين أدواتهم المنهجية وتنوع أطرهم التحليلية.
هذا الزخم الفكري الذي حظيّ به الإسلام السياسي، لم ينتج عنه فقط بلورة أطر نظرية أو مقاربات تفسيرية لظاهرة الإسلاموية، وإنّما ساهم في بروز حقل تخصصي قائم الذات يسمى بـ “سوسيولوجيا المجتمعات الإسلامية”. يؤكد هذا الحقل التخصصي على أن الإسلام السياسي لا يمكن الحديث عنه بصيغة المفرد وإنّما بصيغة الجمع، بدليل أن الإسلاميين ليسوا وحدة هلامية منسجمة أو تعبيرا عن نقاء تنظيمي أو إيديولوجي خالص، بل هم فِرق كثيرة، قد يصعب حتى إحصاؤها، نظرا لتعدد السياقات السياسية والاجتماعية الحاضنة لهم. مثلا، الإسلاميون المتواجدون في شرق آسيا، يختلفون من حيث طبيعة التنظيم والتوجهات الإيديوسياسية عن نظرائهم في الشرق المتوسط أو في شمال إفريقيا.
يُصنِّف الحقل التخصصي الآنف الإسلاميين في الغالب إلى صنفين؛ الأول قَبِلَ بالاندماج في اللعبة السياسية بينما الثاني رفضها جملة وتفصيلا، ففي سياق المجتمع المغربي مثلا؛ يُشكّل حزب العدالة والتنمية نموذج الإسلاميين الذين قبلوا بالاندماج في اللعبة السياسية، بينما تشكل السلفية الجهادية وجماعة العدل والإحسان النموذج الذي رفض الدخول في خضم هذه اللعبة.
حاول المُؤَّلِف رصد دينامية الخطاب والممارسة عند الإسلاميين المغاربة المومئ إليهم سابقا من المنظومة الحقوقية، انطلاقا من الإجابة عن السؤال المركزي الآتي: كيف ينظر الإسلاميون المغاربة لمنظومة حقوق الإنسان في علاقتها بخصوصيتهم الدينية والثقافية؟
يبدو من المفيد أن نلفت انتباه القارئ بأننا سنركز في هذه القراءة التحليلية على نوع واحد من الإسلاميين فقط، وخاصة الذين قبلوا بالاندماج في اللعبة السياسية، والذين يمثلهم هنا حزب العدالة والتنمية المغربي(الفصل الثالث) بكل أدرعه، أقصد الدرع الدعوي الذي تمثله حركة التوحيد والاصلاح (الفصل الثاني)، والدرع النسائي الذي يمثله منتدى الزهراء للمرأة المغربية (الفصل السادس)، والدرع الحقوقي الذي يمثله منتدى الكرامة لحقوق الإنسان (الفصل السابع).
يؤكد صاحب الكتاب في هذا السياق، على ضرورة التمايز الوظيفي بين الشكل التنظيمي والمضمون الايديوسياسي للحزب وباقي أدرعه المشار إليها آنفا؛ رغم أن الأدبيات السياسية تنص على استقلالية الأدرع التنظيمية عن الحزب إلاّ أنها في الآن نفسه تشدد على وحدة المشروع (ص244). بالإضافة إلى ذلك، يشدد المُؤَلِّف على ضرورة التمييز بين البعد التكتيكي والأفق الاستراتيجي للحزب من المنظومة الحقوقية.
بناء على الاضاءات السابقة، نؤكد أن صاحب الكتاب كان موفَّقا جدا في التعامل مع إشكاليته، فهو لم يركز فقط على تحليل مضامين الأدبيات السياسية للحزب أو لأدرعه التنظيمية، وإنما قام أيضا بإنجاز مقابلات معمقة مع أبرز قيادات الحزب وباقي أدرعه التنظيمية للمقارنة بين مواقفهم الشخصية ومواقف التنظيم من القضايا الحقوقية؛ سواء تلك التي تندرج ضمن الحريات العامة كالديمقراطية أو تلك التي تندرج ضمن الحريات الفردية كالعلاقات الجنسية الرضائية والإجهاض وحرية المعتقد…إلخ.
- الديمقراطية
تشكل الديمقراطية الأرضية الصلبة للمنظومة الحقوقية؛ هذا يعني أنَّ رفض الأولى يؤدي تلقائيا إلى رفض الثانية أو مناهضتها. والمؤَلِّف يؤكد في أكثر من موضع بأن الإسلاميين المغاربة كانوا يرفضون هذه المنظومة في بداية مسارهم التنظيمي(ص61)، بل كانوا يعتبرونها مجرد آلية ميكيافيلية يعتمدها الغرب للهيمنة قيميا وثقافيا على المجتمعات الإسلامية بعدما نجح في السيطرة عليها عسكريا وسياسيا واقتصاديا. وفي مقابل ذلك، كانوا يطالبون بالشورى كنظام إسلامي بديل عن الديمقراطية[1]. لكن مع سقوط جدار برلين، بدأ نَوْع من التحول في موقف الإسلاميين من الديمقراطية، وإن كانوا قد تعاملوا معها بانتقائية شديدة؛ أي حاولوا استيعاب بعض مكتسباتها (الاجراءات التقنية) دون تبنيها بشكل كليّ (ص134). ونرى بأن هذا الأمر ما هو في العمق إلاّ “تحوير تعسفي” لأطروحة عبدالله العروي، التي تتجلى في “ضرورة استيعاب مكتسبات الليبرالية”[2]؛ أي أخذ الأوجه المشرقة لهذه المنظومة، وخاصة تلك التي قد توافق الشرط التاريخي للمجتمعات العربية والإسلامية.
ما نود التأكيد عليه من الإشارات السابقة، هو أنَّ الإسلاميين سواء بكيفية واعية أو غير واعية استلهموا منهجية العروي في تجديد موقفهم من الديمقراطية؛ أي استيعاب بعض مكتسباتها الإيجابية، ولو في الجانب التقني(الاجراءات الانتخابية)، الذي يبدو أنه لا يتناقض مع توجهاتهم التنظيمية.
عملا بمبدإ الواقعية السياسية، يؤكد صاحب الكتاب أن الإسلاميين المغاربة وسّعوا من مضمون الديمقراطية، الذي تجاوز البعد التقني؛ أي أنهم قبلوا بالتداول السلمي للسلطة، وتراجعوا عن المطالبة بالدولة الإسلامية، وغيّروا هويتهم الفكرية والإيديولوجية، بحيث أصبحوا يُعرفون أنفسهم بكونهم حزب سياسي بمرجعية إسلامية، بدل كونهم حزب إسلامي، واعتبروا أن المغرب دولة مدنية ذات مرجعية اسلامية (ص120). بالإضافة إلى ذلك، نَصَّت أطروحة المؤتمر الوطني السابع للحزب على مجموعة من المفاهيم المشكلة للمنظومة الديمقراطية؛ كالحداثة وحقوق الإنسان وحرية المعتقد…، واعتبروا أن الديمقراطية أو الحداثة هي “تحكيم العقل، وتنظيم المجتمع، وتقنين العلاقات السياسية” (ص124).
يشدد المُؤَّلِف على أن هذا التحول في الحقيقة لم يكن بمحض إرادة الإسلاميين، وإنما كان نتيجة الضغط الذي مُورس عليهم إثر “الأحداث الإرهابية” التي شهدها المغرب مع بداية الألفية الثالثة (16 ماي 2003)، وخاصة أن بعض الفاعلين حمَّلوا الحزب المسؤولية المعنوية لهذه الأحداث (ص273)، بل وطالبوا حتى بحله أو على الأقل بتقليم أظافره وحشره في الزاوية، لكونه لا يختلف في العمق في نظرهم عن باقي أطياف “الإسلام السياسي” العنيفة بطبعها، سواء كانت دعوية أو جهادية أو سياسية[3].
يقر عبدالرحمان علال أن الإسلاميين تبنوا المضمون الكلاسيكي للديمقراطية على الأقل في بعده التقني الإجرائي، حينما وصلوا إلى السلطة؛ واعتبروا أن تدبيرهم للشأن العام هو تعبير مكثف عن الإرادة الشعبية، وهذا ما كان يردده عبدالإله بنكيران الأمين العام للحزب آنذاك في كل مناسبة خطابية؛ سواء داخل البرلمان أو عبر آليات الإعلام الرسمي أو الحزبي، وخاصة أنهم تصدّروا نتائج الانتخابات لولايتين متتاليتين، والتي تمتد من 2011 إلى 2021. يرى بعض الباحثين أن الربيع العربي ساهم بشكل كبير في وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، وذلك لعدة اعتبارات لعلّ من أهمها: أن حزب العدالة والتنمية لم يسبق له أن شارك في أي تجربة حكومية، وشعبيته كانت في تصاعد على الأقل في صفوف الكتلة الناخبة[4].
نخلص مما سبق، أن بعض المنعطفات التاريخية وآليات السلطة السياسية في سياق المجتمع المغربي قد ساهمتا بشكل كبير في “تهذيب” خطاب وممارسة الإسلاميين من الديمقراطية، إذ تَحولوا من رفضها بشكل مطلق إلى التعامل معها بانتقائية شديدة، مرورا بتوسيع مضمونها، وصولا إلى تبني مدلولها الكلاسيكي، الذي يُقصد به كما هو معروف حكم الشعب نفسه بنفسه. لكن المتابع لسيرورة تطور الديمقراطية على المستوى الفكري والسياسي، يَعرف أنه قد حدث انقلاب كلي في مدلولها الكلاسيكي، بحيث لم تعد تُعرف بكونها تعبير عن الإرادة الشعبية؛ أي أنها لم تعد تعني حكم الأغلبية وإنما أصبحت تعني بالضرورة وخاصة في السياق الغربي ضمان حقوق الأقلية[5]. وهنا يطفو إلى السطح السؤال الإشكالي الآتي: متى سيتبنى الإسلاميون عموما وحزب العدالة والتنمية خصوصا هذا المضمون الجديد للديمقراطية؟
- قضية المرأة
يرى صاحب الكتاب أن الإسلاميين ينظرون لقضية المرأة انطلاقا من مبدإ العدالة كإنصاف وليس كمساواة، وحجتهم في ذلك، أن معظم قضايا المرأة مسنودة بنصوص دينية قطعية، وأن الله أَعْرَفُ بمصالح عباده. لذلك رفضوا في بداية الألفية الثالثة “مشروع خطة ادماج المرأة في التنمية”، معتبرين أنه يتصادم مع مبادئ وروح الدين الإسلامي، وخاصة في الشق المتعلق بـ “مدونة الأحوال الشخصية” (ص 66- 70). كما اعتبروا أن مشروع الخطة ما هو إلاّ تعبير مكثف عن الاستيلاب الفكري والانبهار السيكولوجي لـ “المحميين الجدد أو الاباحيين الجدد” بالثقافة الغربية، إذْ يحاولون فرضها كقناعات إيديوسياسية لفئة قليلة على السواد الأعظم من المغاربة.
لم يكتف الإسلاميون في نظر المُؤَّلِف بفضح مضامين مشروع الخطة واستنكار مراميه الاصلاحية المزعومة، وإنّما تعبأوا للتصدي له، ونظموا مسيرة مليونية بالدار البيضاء يوم 12 مارس 2000، لفرض تراجع الحكومة عن مشروع الخطة الذي غيَّب في نظرهم المرجعية الإسلامية وتجاهل الأعراف الاجتماعية للمغاربة (ص 72). في هذا الأفق العام، يرى بعض الباحثين أن الحزب بنى مشروعيته السياسية وتميزه الأخلاقي ليس برفض السياسات الليبرالية التي انتهجتها الدولة المغربية في القطاعات الإجتماعية منذ ستينيات القرن الماضي، وإنما برفض المنظومة الحقوقية في مجملها ومناهضة قضايا المرأة[6].
يرصد صاحب الكتاب تحولا يكاد يكون جذريا بخصوص قضية المرأة عند الإسلاميين وخاصة بعد انتقالهم من موقع المعارضة إلى اعتلاء سدة الحكم (ص119)، إذ لم يكتفِ الحزب بالتنصيص في أطروحة مؤتمره الوطني السابع(2012) على تأييد الطابع الوضعي للقانون المغربي الذي ينتصر في الكثير من فصوله لقضايا المرأة، بل أقرّ أيضا بتعدد روافد القانون التي تتجلى في “المرجعية الإسلامية والمعايير الكونية للحقوق والحريات المتعارف عليها عالميا والمقررة دستوريا” (ص 138). كما أن الفريق البرلماني للحزب لم يكتف سنة 2015 بالتوقيع على رفع التحفظات عن اتفاقية سيداو، وإنما صادق أيضا حتى على البرتوكول الاختياري الملحق بها(ص 66).
في هذا السياق العام الذي اتسم بدينامية موقف الإسلاميين من قضايا المرأة، أكدت بثينة قروري رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية (2009- 2013) والتي تجددت فيها الثقة لقيادة التنظيم النسائي في الولاية الحالية (2021-2024)، أن “نسبة التعارض بين قطعيات الشرع الإسلامي والمنظومة الحقوقية لا تكاد تتجاوز 10 بالمائة” (ص 247). كما شددت على “ضرورة الانتقال في أنشطة التنظيم من القضايا التربوية والثقافية إلى أنشطة خاصة بالقضايا الحقوقية، بغية طرح بدائل عملية من داخل المنظومة الحقوقية، وعدم الاكتفاء بالتنديد والاحتجاج” (ص 246). كما دعت رئيسة المنتدى إلى جانب بعض مناضلات الحزب وعلى رأسهن أمينة ماء العينين إلى “عدم تجريم الحريات التي تمارس بالفضاء الخاص” (267).
يبدو جليًّا من خلال المؤشرات السابقة أن حزب العدالة والتنمية تعامل مع قضايا المرأة بمبدإ الواقعية السياسية، إذ لم يعد موقفه متصلبًا كما كان زمن المعارضة السياسية، وإنما أضحى موقفاً مرناً يكاد يتماهى كلياًّ مع الموقف الرسمي للدولة المغربية الذي غالبا ما يوصف بكونه يميل إلى التوجه الحداثي.
- حرية المعتقد
يُلاحظ المؤلِّف أن الإسلاميين المغاربة كانوا أقل تشددا بخصوص حرية المعتقد من نظرائهم في المشرق، لأنهم لم يسبق لهم أن كفّروا المجتمع أو وصفوه بالجاهلية، وإنما كانوا يصفوه بـ “المفتون المنحرف”؛ أي أن المجتمع المغربي ليس بالمتدين الخالص ولا الخارج عن الدين بالمطلق، لذلك رأوا أن من مسؤوليتهم أيام “الجماعة الإسلامية” تنبيه المجتمع ودعوته إلى التشبث بالشرائع الدينية الصحيحة وتجنب البدع (ص60). كما أن حزب العدالة والتنمية في شخص أمينه العام عبدالإله بنكيران هدَّد بالتصويت ضد مشروع الدستور(2011) في حالة تم التنصيص فيه على حرية المعتقد (ص142).
في هذا الأفق العام، يرصد صاحب الكتاب تحولا طفيفا بخصوص حرية المعتقد عند الإسلاميين، إذ انتقلوا من تجاهلها بشكل مطلق في أدبياتهم السياسية السابقة، إلى الإشارة إليها بشكل خاطف في الورقة المذهبية المقدمة للمؤتمر الوطني الخامس(2004) لحزب العدالة والتنمية. بعد ذلك، بدأت حرية المعتقد تأخذ حيزا أوسع في الأدبيات اللاحقة للحزب(من المؤتمر الوطني السادس 2008 إلى التاسع 2020)، لكنها في العموم لم تتجاوز المعنى الإسلامي الضيق، والذي يتجلى في عدم اكراه غير المسلمين على اعتناق الإسلام وفي الآن نفسه تشترط ضرورة عدم الجهر بخصوص المغاربة الذين قرروا الخروج من الإسلام (ص140). يرى بعض الباحثين أن موقف الحزب هذا، “يفصل بصورة تعسفية، وبنوع من التحايل اللفظي والتدليس البلاغي، بين حرية العقيدة وحرية ممارسة الطقوس والشعائر الدينية رغم أنهما صنوان لا ينفصلان”[7].
يبدو من المفيد أن نُذَّكر بالفرق بين المنظور الإسلامي لحرية المعتقد والمنظور الحقوقي؛ الأول يعني عدم اكراه غير المسلم على اعتناق الإسلام أو الزامية المسلم السابق بعدم الجهر بخروجه عن الإسلام. بينما المنظور الحقوقي يقر صراحة بحرية التحول الديني والمذهبي (فكرا وممارسة) دون قيد أو شرط.
نستشف مما سبق، أن الإسلاميين المغاربة لازالوا يختزلون حرية المعتقد في المنظور الإسلامي الضيق ولم يرتقوا بعد بموقفهم إلى مستوى المنظور الحقوقي. لكن حسب مؤلِّف الكتاب ينبغي أن نميز بخصوص حرية المعتقد بين موقف التنظيم والموقف الشخصي لبعض قيادته. فالتنظيم فعلا لازال متشبثا بالمنظور الإسلامي، لكن بعض قيادته ارتقوا بموقفهم الشخصي عن موقف التنظيم، مثلا، أحمد الريسوني الرئيس السابق للجناح الدعوي للحزب والذي يعد من أشرس المدافعين عن طروحات الإسلام السياسي في المغرب، دعا سنة 2018 إلى الموافقة على مطلب إلغاء الفصل 222 من القانون الجنائي الذي يُجرَّم الإفطار العلني خلال نهار رمضان”[8]. وفي نفس الاتجاه دعت أمينة ماء العينين التي تعتبر من أبرز القيادات النسائية لحزب العدالة والتنمية إلى ضرورة عدم تجريم الفضاء الخاص، وشدّدت على ضرورة أن ترفع الدولة يدها بشكل مطلق عبر آلية التشريع عن الحياة الخاصة للمواطنين في الفضاءات المغلقة، سواء تعلق الأمر بممارستهم لحرية المعتقد أو أي نمط آخر من الحريات الفردية[9].
يُفهم من المعطيات السابقة، أن موقف التنظيم عند الإسلاميين بخصوص حرية المعتقد لا يواكب دينامية الواقع، الأمر الذي يحاول بعض قادته تداركه انطلاقا من موقفهم الشخصي الذي لا يلزم التنظيم في شيء. وخاصة أن الدراسات السوسيولوجية الميدانية بدأت تؤكد على بروز نواة جنينية للتعددية الدينية في المجتمع المغربي، فإلى جانب اليهود المغاربة، نجد بعض “الأقليات الدينية” التي انتظمت في إطار مدني وأصبحت تطالب الدولة والمجتمع بالاعتراف بحقها في الاختلاف الديني عن باقي المغاربة، من بين هذه التنظيمات المدنية نجد على سبيل المثال: تنسيقية المسيحيين المغاربة، وجمعية التواصل بالحسيمة، وجمعية الانبعاث بطنجة، وجمعية الغدير بمكناس[10].
بالإضافة إلى ذلك، أكدت بعض المعطيات الميدانية على أن “20.4 بالمائة من أفراد عينة البحث يعرفون أشخاصًا غيروا دينهم صوب أشكال أخرى من الاعتقاد أو اللاعتقاد”[11]. كما أكدت تقارير ميدانية أخرى على أن شريحة اجتماعية لابأس بها من المغاربة، ترى بأن من حق المواطنين أن يكون لهم معتقدات دينية أخرى غير الإسلام، وهذا الأمر لا يمس أبدا بمبدإ مواطنتهم أو بانتمائهم لوطنهم[12].
نخلص في نهاية التحليل إلى أن موقف الإسلاميين من حرية المعتقد موقف لا تاريخي؛ أي أنه لا يواكب دينامية وسيرورة “التعدد الديني” التي يعرفها المجتمع المغربي، الأمر الذي تحاول تجاوزه بعض قياداتهم.
خاتمة
بعد تحليل دينامية موقف الإسلاميين المغاربة الذين قبلوا بالاندماج في اللعبة السياسية من المنظومة الحقوقية، تبين لنا أنه لا يمكن ادراك هذا التحول إلا باستحضار الأفق الاستراتيجي والبعد التكتيكي:
على المستوى الاستراتيجي، لم يعد الإسلاميون المغاربة يعتبرون أن حقوق الإنسان ما هي إلا آلية ميكيافيلية تعتمدها الدول المتقدمة للهيمنة قيميا وثقافيا على الدول المتخلفة بعدما نجحت في السيطرة عليها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وإنما أصبحوا يعدونها نتاج تلاقح مختلف الثقافات والديانات والحضارات البشرية بما فيها حضارتنا العربية الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، المنظومة الحقوقية تنظر لقضية العدالة انطلاقا من مبدإ المساواة بين المواطنين، بينما الإسلاميون ينظرون إليها انطلاقا من مبدإ الانصاف وخاصة في القضايا التي تتعلق بقضية المرأة بشكل عام أو تلك المرتبطة أساسا بالأحوال الشخصية أو مدونة الأسرة. أما بخصوص الحريات الفردية فالمنظور الحقوقي لا يميز فيها بين الفضاء الخاص والفضاء العام، بل يعتبر هذا الأخير ما هو في العمق إلا امتداد للأول، لأن هذا النمط من الحرية وخاصة في الدول الغربية مقنن دستوريا ومعترف به مجتمعيا، أما الإسلاميون فلازالوا يرفضونها تقريبا جملة وتفصيلا كتنظيم، لأنهم يعتبرونها شأن قضايا المرأة؛ أي توجد فيها نصوص دينية قطعية الدلالة ولا تقبل الاجتهاد. أما بعض قيادات الإسلاميين المتنورة، فهي تفصل بشأن الحريات الفردية بين الفضاء الخاص ونظيره العام، وتعتبر أن مجال ممارسة الحريات الفردية هو الفضاء الخاص حصرا، وتطالب الدولة بحماية حياة الأفراد داخله انطلاقا من آليات تشريعية وقانونية.
أما على المستوى التكتيتي، فالإسلاميون يتعاملون مع المنظومة الحقوقية ببرغماتية كبيرة وانتقائية شديدة، مثلا في المعارضة كانوا يصفون التيار الحداثي الذي ينافح على كونية حقوق الإنسان خاصة في مجال الحريات الفردية وقضايا المرأة بـ “المحميين الجدد أو الإباحيين الجدد”، لكن لما وصلوا إلى الحكم لم يتحرجوا في رفع جميع تحفظاتهم عن اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتوقيع على البروتوكول الاختياري الملحق بها، والمطالبة بتجسير الهوة في مثل هذه القضايا بين المنظومة الحقوقية والمرجعية الإسلامية.
عموما، نؤكد بأن الموقف الحالي للإسلاميين من المنظومة الحقوقية كما أوضحناه آنفا، هو نتاج لمراجعات عقدية وسياسية ومذهبية، منها في نظر بعض الباحثين من كان استباقيا ينمُّ عن توقد الوعي السياسي ومنها من كان اضطراريا، وهناك من يرى بأن المراجعات في المجال السياسي في الغالب لا تكون محكومة بمبدإ الإلزامية أو الاختيار، بقدر ما تكون استجابة لتطور داخلي مبني على النقد الذاتي الذي يسعى إلى التأقلم مع الشرط التاريخي الذي تَفرضه الواقعية السياسية، مثلا، الإسلاميون عُرفوا بمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، لكن سعد الدين العثماني بصفته رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية هو الذي وقَّع اتفاق التطبيع المغربي- الاسرائيلي يوم 10 دجنبر 2020. والحزب نفسه هو الذي تحول موقفه من حكومة التناوب الديمقراطي التي قادها اليساري عبدالرحمن اليوسفي عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية(1998-2002) من المساندة النقدية إلى المعارضة الناصحة لما أصبحت الحكومة تنافح على مشروع خطة ادماج المرأة في التنمية.
في الأخير نذَّكر، بأن الكتاب لم يكتفِ بدراسة دينامية موقف الإسلاميين من المنظومة الحقوقية فقط، وإنما درس دينامية موقفهم من مجموعة من القضايا الأخرى، سواء ذات البعد الحقوقي (كالمثلية، والاجهاض) أو ذات البعد السياسي (كالإعدام، والاعتقال السياسي)، أو ذات البعد الفني (كالسهرات الصيفية ومهرجان موازين). لذلك نشدد بأن هذه المراجعة لا تغني أبدا عن الرجوع إلى الكتاب، وخاصة أنها ركزت فقط على موقف الإسلاميين المندمجين في اللعبة السياسية، بينما الكتاب ينفتح أيضا حتى على نظرائهم الرافضين لها، كالسلفية الجهادية وجماعة العدل والاحسان.
المراجع Reference العربية
- الجابري محمد عابد، الديمقراطية وحقوق الإنسان، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994).
- العروي عبدالله، العرب والفكر التاريخي، ط 5 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006).
- الساسي محمد، النظام السياسي المغربي غداة حراك 2011: الاستقرار الهش بديلاً من الديمقراطية؟ منشور ضمن مؤلف جماعي “20 فبراير ومآلات التحول الديمقراطي في المغرب“، تحرير وتقديم مراد دياني، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).
- الديالمي عبدالصمد، نحو اصلاح جنسي في المجتمعات الإسلامية، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2020).
- شهبار خالد، مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات، مجلة إضافات، العدد 47-48، (صيف خريف 2019).
- شهبار خالد، حزب العدالة والتنمية المغربي وأسئلة التحول ما بعد الإسلاموي، مجلة المستقبل العربي، العدد 505 (مارس 2021).
- مشواط عزيز وآخرين، الحريات الفردية بالمغرب: تمثلات وممارسات (الجزء الأول)، (الدار البيضاء: منشورات منصات، 2021).
- مشواط عزيز وآخرين، الحريات الفردية: تمثلات وممارسات (بحث ميداني)، ما يقوله المغاربة حول المعتقد والعلاقات الرضائية والإفطار العلني في رمضان (الجزء الثاني)، (الدار البيضاء: منشورات منصات، 2023).
الأجنبية
- Aourid Hassan, L’impasse de l’Islamisme : Cas du Maroc, éd (Rabat : Impression EL Maarif Al Jadida, 2015).
- Touraine Alain, « critique de la modernité », ( Paris : Libraire Arthème Fayard, 1992).
- Touraine Alain, «qu’est- ce que la démocratie? », ( Paris : Libraire Arthème Fayard, 1994).
*حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل- القنيطرة- المغرب.
-PhD in Sociology, Faculty of Humanities and Social Sciences, Ibn Tofail University – Kenitra – Morocco.
[1]– يميز محمد عابد الجابري بين الشورى والديمقراطية، ويرى بأنهما يختلفان من حيث الطبيعة والدرجة؛ بحيث الأولى حسب التصور الإسلامي تأخذ طابع النصيحة، وهذه الأخيرة بطبيعتها لا تُلزم الحاكم بتنفيذها أو التقيد بإجراءاتها، بينما الثانية، حسب التصور الغربي، تُلزم الحاكم بتنفيذها والتقيد بإجراءاتها. للمزيد من التفاصيل حول الفَرْق بين الشورى والديمقراطية يُنظر:
– محمد عابد الجابري، الشورى غير الديمقراطية، ضمن كتابه “الديمقراطية وحقوق الإنسان”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994)، ص 45.
[2]– دعا عبدالله العروي نخبة المجتمعات العربية والإسلامية في بداية سبعينيات القرن الماضي إلى ضرورة استيعاب مكتسبات الليبرالية، للمزيد من التفاصيل حول هذه الدعاية يُنظر:
– عبدالله العروي، العرب والفكر التاريخي، ط 5 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص 18.
[3]– خالد شهبار، حزب العدالة والتنمية المغربي وأسئلة التحول ما بعد الإسلاموي، مجلة المستقبل العربي، العدد 505 (مارس 2021)، ص81.
[4]– Hassan Aourid, L’impasse de l’Islamisme : Cas du Maroc, éd (Rabat : Impression EL Maarif Al Jadida, 2015).p. 114.
[5] – يُعتبر عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين رائد هذا التصور، بحيث بدأ اجتراح مضامينه في الفصل الأخير الموسوم بـ “ما هي الديمقراطية؟” من كتابه “نقد الحداثة”، وبعد ذلك وسع مضامين هذه الأطروحة في كتاب مستقل حمل نفس العنوان السابق؛ أي “ما هي الديمقراطية؟”. للمزيد من التفاصيل حول هذه الطروحات يُنظر:
– Alain Touraine, « qu’est- ce que la démocratie ? » in Ouvrage « critique de la modernité » , éd,( Paris : Libraire Arthème Fayard, 1992).p. 373- 403.
– Alain Touraine, «qu’est- ce que la démocratie? » , éd,( Paris : Libraire Arthème Fayard, 1994).
[6] – محمد الساسي، النظام السياسي المغربي غداة حراك 2011: الاستقرار الهش بديلاً من الديمقراطية؟، منشور ضمن مؤلف جماعي “20 فبراير ومآلات التحول الديمقراطي في المغرب“، تحرير وتقديم مراد دياني، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 80.
[7] – خالد شهبار، حزب العدالة والتنمية المغربي وأسئلة التحول ما بعد الإسلاموي، ص84- 85.
[8]– خالد شهبار، مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات، مجلة إضافات، العدد 47-48، (صيف خريف 2019)، ص162.
[9] – كررت أمينة ماء العينين البرلمانية عن حزب العدالة والتنمية موقفها الشخصي هذا في أكثر من مناسبة، ونحن اقتبسناه من حوارها التي أجرته مع الجريدة الالكترونية “فبراير كم”. تجدون شريط الفيديو الخاص بالحوار على الرابط التالي: (https://www.youtube.com/watch?v=3vAsYKSeK3k )، شوهد يوم (7 نونبر 2024).
[10]– عبدالصمد الديالمي، نحو اصلاح جنسي في المجتمعات الإسلامية، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2020)، ص 272.
[11]– عزيز مشواط وآخرين، الحريات الفردية: تمثلات وممارسات (بحث ميداني)، ما يقوله المغاربة حول المعتقد والعلاقات الرضائية والإفطار العلني في رمضان (الجزء الثاني)، (الدار البيضاء: منشورات منصات، 2023)، ص4.
[12]– عزيز مشواط وآخرين، الحريات الفردية بالمغرب: تمثلات وممارسات (الجزء الأول)، (الدار البيضاء: منشورات منصات، 2021)، ص37.