
النسوية والحداثة : علاقة متوترة أم رفض استراتيجي؟
النسوية والحداثة : علاقة متوترة أم رفض استراتيجي؟
بقلم الدكتورة زينب مهنا
الملخص
تفحص هذه الورقة العلاقة المعقدة بين النسوية والحداثة من منظور فلسفي ونقدي ، متسائلةً عما إذا كانت النسوية نتاجًا طبيعيًا للعقلانية الأوروبية في عصر التنوير أم أنها تقدم أيضًا نقدًا جوهريًا للحداثة نفسها، لا سيما في السياقات ما بعد الاستعمارية. بالاستناد إلى أمثلة من لبنان والعراق وإيران واليمن ، تُبرز التحليلات كيف تفاوضت الحركات النسوية في الشرق الأوسط وعود الحداثة بالتقدم بينما واجهت خياناتها – الإرث الاستعماري، البنى الاستبدادية للدولة، والاستبعاد القائم على النوع الاجتماعي. كما تنظر الورقة في بروز حداثات بديلة، بما في ذلك النسوية الإسلامية والتقاليد المحلية للمقاومة، التي تهز الافتراض القائل بأن النسوية يجب أن تظل مرتبطة بالنماذج الغربية. يتمحور البحث حول استكشاف كيف تقدم تعاليم أهل البيت – ممثلة بأم المؤمنين السيدة خديجة عليها السلام ، و بالسيدة بفاطمة عليها السلام ، وبالسيدة زينب عليها السلام– رؤية أخلاقية للإنسانية والعدالة تتحدى كل من الحداثة العلمانية والنسوية الاختزالية. من خلال إعادة صياغة الخطاب حول حقوق المرأة عبر هذه الشخصيات المقدسة، تقترح الدراسة إعادة تفكير استراتيجية في النسوية كنقد، بدلًا من قبولها غير النقدي للحداثة.
الكلمات المفتاحية: النسوية؛ الحداثة؛ الفكر ما بعد الاستعماري؛ النسوية الإسلامية؛ أهل البيت؛ الشرق الأوسط؛ الحداثات البديلة
مقدمة: إشكالية النسوية والحداثة
عاشت البشرية منذ عصر الأنوار وهمَ التقدّم الكوني و احتُفي بالحداثة كمشروع للتقدم والعقلانية والتحرر الشامل. غالبًا ما تُعتبر مؤسساتها – القانون العلماني، الدول القومية، الجامعات، الأسواق العالمية – حاملة للحرية والمساواة. ظهرت النسوية، خصوصًا في شكلها الليبرالي، ضمن هذا الإطار الحداثوي، مطالبة بالحقوق والتعليم والاعتراف بمكانة المرأة. غير أنّ هذا المشروع حمل في طياته وجهًا آخر: الاستعمار، التشييء، والهيمنة على الشعوب والثقافات. في قلب هذا المشهد وُلدت النسوية الغربية التي طالبت بالحقوق الفردية للمرأة، التعليم، والمشاركة السياسية. في الوقت ذاته ساهمت في تكريس سردية أوروبية متمركزة حول الذات، فاستثنت نساء المستعمرات وأقصت التجارب غير الغربية. ومع ذلك، فإن الحداثة لا تنفصل عن الاستعمار، والمركزية الأوروبية، والاستبعادات المنهجية. وهكذا، كانت النسوية في الوقت نفسه نتاج الحداثة وناقدة لها بحدة. هذه الثنائية تثير هنا السؤال الفلسفي: هل النسوية ابنة الحداثة المخلصة ، أم أنها تقدم منظورًا يمكن من خلاله نقد الحداثة وتجاوزها؟
أولا : النسوية وعقلانية التنوير – الوعد والحدود
تستند النسوية الليبرالية إلى مبادئ التنوير: الاستقلال، العقل، وحقوق الفرد. تُعد مطالبة بحقوق المرأة لماري وولستونكرافت (1792) حجر الزاوية في هذا التراث الفكري، حيث دافعت عن التعليم والمساواة ضمن الإطار العقلاني لعصرها. ترجمت هذه المكتسبات إلى الوصول للجامعات، وحق التصويت، والإصلاحات القانونية في أوروبا وأمريكا الشمالية. ومع ذلك، فإن الإطار نفسه الذي أتاح هذه المكتسبات استبعد النساء في المستعمرات غالبًا، معززًا التسلسلات الهرمية العرقية. على سبيل المثال، شجع المسؤولون البريطانيون في مصر حظر النقاب كعلامة على “التقدم الحضاري” و “التمدن” ، متجاهلين المعاني الدينية والثقافية المحلية وفي الواقع كان ممارسة هيمنة سياسية على الخصوصية الدينية والثقافية (أحمد 152).
ثانيا : النسوية كنقد للحداثة
شهد القرن العشرون تحول بعض التيارات النسوية إلى موقع النقد الجذري للحداثة فبدلا من مشاركة في وعود الحداثة إلى نقد لاستبعاداتها. جادلت الباحثات ما بعد الاستعمار مثل غاياتري سبيفاك وتشاندرا موهانتي بأن الادعاءات الشاملة للحداثة تمحو الاختلافات، خصوصًا أصوات النساء في المجتمعات المستعمَرة (موهانتي 19). كانت مراسم كشف الوجه في الجزائر خلال الخمسينيات وقت الاستعمار الفرنسي ، التي احتُفلت بها كلحظات لتحرير المرأة، في الواقع أدوات للهيمنة. وبالمثل، جذبت و دمجت الأسواق العالمية النساء إلى الإنتاج في فضاء معولم ، مانحة إياهن وظائف و وفّر فرصًا ظاهرية بينما خضعن لظروف استغلالية و قاسية و أجور متدنية. في هذه الأمثلة، يظهر مفارقة الحداثة بوضوح: فهي تعد بالتحرر وفي الوقت نفسه تفرض السيطرة.
ثالثا : إخفاقات النسوية الغربية والإسلامية المعاصرة
النسوية الغربية في كثير من تجلياتها وقعت في فخ الأنانية الفكرية، إذ حولت الصراع إلى منافسة مع الرجل بدل صياغة مشروع إنساني شامل. فبعض الخطابات اختزلت التحرر في تقويض سلطة “الأب/الزوج”، مما أدى إلى إضعاف فكرة التكامل الأسري والاجتماعي. بالمقابل فتحت الفكر النسوي في الجنوب العالمي طرقًا نحو حداثات بديلة. فحاولت النسوية الإسلامية المعاصرة أن تُعيد قراءة النصوص الدينية من منظور نسوي، لكنها في حالات عدة سقطت في فخ إسقاطات غربية أو مهادنة للنظم السلطوية.فكانت تتفاعل النسوية الإسلامية مع القرآن والحديث لتقديم رؤية للعدالة بين الجنسين متجذرة في الإيمان. مثلا على ذلك , أعمال أمينة ودود التي كسرت احتكار الرجال للخطاب الديني عمل والتي قادت صلاة مختلطة الجنسين عام 2005، يرمز إلى إعادة تفكير في التقليد ضمن إطارما تتدعيه بأنه ” روحي ” . النسويات الأصليات، كما يظهر في قيادة النساء الأمريكيات الأصليات في احتجاجات ستاندينغ روك، يرفضن التصنيفات الأوروبية ويؤكدن على المجتمع والأرض والروحانية. يشير مفكرون عرب وإيرانيون، مثل فاطمة المرنيسي و ومارجوت بدران ، إلى ضرورة مقاومة الهيمنة الغربية والتفسيرات الأبوية داخل المجتمعات الإسلامية (بدران 24). وهكذا فشلت التيارات الليبرالية والإسلامية على حد سواء في بلورة فلسفة قادرة على تجاوز الانقسام بين الذكورة والأنوثة نحو إنسانية متكاملة و ظلت محدودة في قدرتها على تأسيس مشروع بديل شامل .
مفارقة التقدم
غالبًا ما تجسد مؤسسات الحداثة التناقضات. تمد الدول القومية الحقوق بينما تقيد الحريات: حصلت النساء في السعودية على حق القيادة، ومع ذلك بقيت صامتات سياسيًا. توسع الجامعات مشاركة النساء لكنها غالبًا ما تحافظ على الإبستمولوجيا الأوروبية، كما في إيران حيث تتفوق النساء في التسجيل الجامعي لكنهن يواجهن بعض الحواجز في البحث. تعد التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بالتمكين، ومع ذلك تواجه النساء في الشرق الأوسط تحيزات خوارزمية ومراقبة. تشير هذه التوترات إلى أن التقدم ضمن الحداثة غالبًا ما يأتي بثمن أشكال جديدة من الهيمنة (أبو لغود 45).
النسوية في الشرق الأوسط
على امتداد الشرق الأوسط، تفاوض النساء وعود وحدود الحداثة بطرق مميزة. في لبنان، تضغط الناشطات النسويات من أجل إصلاح قوانين الزواج المدني والقوانين الشرعية في المسيسحية و الإسلامية معا لكنهن يواجهن حواجز سلطوية طائفية. في العراق، لعبت النساء دورًا محوريًا في احتجاجات ميدان التحرير 2019 رغم عقود من الحرب والاحتلال (العلي 88). في إيران، تتوازن النساء بين القيم الدينية والقيود المفروضة من الدولة، كما في حركة “امرأة، حياة، حرية” لدرجة أن الرئيس الإيراني أعلن منذ بضعة أيام و بأن الحجاب مسألة شخصية ممكن للمرأة إتخاذ قرارها بلبسه أم لا . في اليمن، تستمر النساء في إدارة المدارس السرية وشبكات المساعدات حيث تفشل الدولة والمنظمات الدولية. توضح هذه الحالات أن النسويات في الشرق الأوسط لا تتبنى الحداثة سلبيًا، بل تفاوضها بشكل مبدع ضمن ظروف ما بعد الاستعمار.
الفلسفة الأخلاقية لأهل البيت كنموذج مقاوم
في مقابل هذه الإخفاقات , يظهر منظور نقدي عند النظر إلى إرث أهل البيت فيقدم نموذجًا فلسفيًا وأخلاقيًا متكاملًا . فالسيدة خديجة عليها السلام كانت تاجرة ناجحة جمعت بين الاستقلال الاقتصادي والالتزام الروحي، قدّمت مالها وجهدها لدعم الرسالة المحمدية، مما يكسر الثنائية المزيّفة بين المجالين العام والخاص. يمثل خطاب فاطمة بنت محمد عليها السلام في فدك نقدًا دائمًا للظلم السياسي و كشفت زيف السلطة وطرحت رؤية للعدالة تتجاوز حدود “الحقوق” الشكلية إلى عمق العدالة القيمية (مدرسي 113). و حافظت زينب بنت علي عليها السلام على حقيقة كربلاء أمام الطغيان و واجهت الاستبداد في بلاط يزيد، فحوّلت الهزيمة العسكرية إلى نصر أخلاقي عبر خطابها المقاوم، مثبتة أن الكلمة المبدئية قد تهزم السيف. هذه النماذج ليست مجرد سير تاريخية، بل فلسفات متجسدة تحفر في الوعي إمكانات بديلة للوجود الإنساني.فجسدت هذه الشخصيات العدالة والكرامة والمقاومة – ليس كمثل مجردة بل كممارسات حية. تتحدى نماذجهن الفردانية المفرقة للنسوية الحديثة والتشوهات الأبوية للتقليد، مقدمة إطارًا متجذرًا في الإنسانية الإسلامية.
كيف كنّ سيقمن بتقييم الواقع اليوم؟
من خلال تقييم لبنان والعراق وإيران واليمن بعدسة أهل البيت، يتضح قصور كل من الحداثة والإرث الاستعماري. في لبنان، تقوض قوانين الأحوال الشخصية الطائفية كرامة النساء و تحرمهن من حقوق أساسية، وهو ما كانت خديجة وفاطمة عليهما السلام سترفضانه بوصفه انتهاكًا للكرامة. في العراق، أضعفت العنفيات ما بعد الاستعمارية دور النساء في بناء الأمة فهمشن في العملية السياسية بعد 2003 و هذا يعكس إقصاءً بنيويًا يتعارض مع نموذج زينب عليها السلام التي جعلت من حضورها مقاومةً للغياب. في إيران، تحاول الباحثات النسويات الإصلاح ضمن الفقه الإسلامي، متوازنات بين القيم المقدسة والحياة المدنية فتتصارع النساء بين قيم إسلامية أصيلة وتقييدات الدولة؛ وهنا يظهر نموذج فاطمة كدعوة للإصلاح من الداخل، لا للهدم ولا للاستلاب. في اليمن، تحافظ الشبكات النسوية المحلية على البقاء و تنجح النساء في بناء شبكات بديلة للتعليم والرعاية، وهو بالضبط ما يعكس فلسفة زينب في تحويل الألم إلى طاقة للحياة بينما تفشل مؤسسات الحداثة والمساعدات الدولية. و هذا إن دل على شيء يدل أن تقييم أهل البيت بأن الكرامة والعدالة والإيمان على عدم التفاوض، حتى في مواجهة تناقضات الحداثة (خليلي 67).
الخاتمة
ليست النسوية أحادية البعد ليست كيانًا واحدًا، بل فضاءً تتنازعه رؤى متعددة . يمكنها تعزيز تصنيفات الحداثة أو تحدي استبعاداتها. تكشف السياقات ما بعد الاستعمارية الحاجة إلى أطر تتجاوز النماذج الأوروبية، مستمدة من التقاليد الأصيلة والإسلامية والمحلية. فهي إما أن تبقى أسيرة للحداثة الغربية أو أن تتحول إلى نقد جذري لها. غير أن الطريق الثالث يتطلب فلسفة إنسانية تتجاوز الانقسام الجندري لتبني مشروعًا قيميًا للعدالة. إن فكر أهل البيت يقدم هذا البديل يقدم : رؤية لا تُقصي الرجل ولا تُستعبد المرأة، بل تؤسس لعلاقة تكاملية تقوم على الكرامة والمقاومة. إن إرث خديجة وفاطمة وزينب رؤية أخلاقية تركز على العدالة والكرامة والمقاومة كقيم موجهة. إن استحضار هذا النموذج ليس مجرد عودة إلى الماضي، بل هو إمكان فلسفي لحاضر مأزوم يبحث عن مخرج.التحدي أمام الفكر النسوي في السياقات الإسلامية ليس رفض الحداثة تمامًا، بل إعادة صياغتها بشكل استراتيجي، مع ضمان أن تبقى أصوات المهمشين والمقدس مركزية لمشروع ازدهار الإنسانية.
قائمة المراجع :
- أبو لغد، ليلى. هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟. مطبعة هارفارد، 2013.
- أحمد، ليلى. المرأة والجندر في الإسلام. مطبعة ييل، 1992.
- العلي، ندى. النساء العراقيات: قصص غير مروية من 1948 حتى اليوم. زد بوكس، 2007.
- بدران، مارجوت. النسوية في الإسلام: التقاء العلمانية والدينية. أونوورلد، 2009.
- خليلي، لاله. أبطال وشهداء فلسطين , مطبعة كامبريدج 2007.
- المرنيسي، فاطمة. الحريم السياسي. دار الجليل، 1991.
- مطهري، مرتضى. المرأة وحقوقها في الإسلام. طهران، 1975.
- طه عبد الرحمن. سؤال الأخلاق. المركز الثقافي العربي، 2000.
- الصدر، محمد باقر. اقتصادنا. دار التعارف، 1982.
- مدرس، حسين. الأزمة والتوطيد في فترة التكوين للإسلام الشيعي, مطبعة داروين . 1993.
- موهانتي، تشاندرا طالباد. النسوية بلا حدود, مطبعة ديوك 2003.
- سكوت، جوان والاش. النسوية وسياسة التاريخ, مطبعة كولومبيا 1999 .
د. زينب مهنا: باحثة وناشطة في مجالات الذكاء الاصطناعي، الدراسات النسوية، حوار الأديان والفكر الإسلامي المعاصر




