
محمود حيدر منظّرًا لميتافيزيقا جديدة:
العقل الممتد كمكوِّن أساس لعلم المبدأ
أ.د. بتول قاسم
أكاديمية وباحثة من العراق
يواصل المفكر الدكتور محمود حيدر كتاباته التي تصب في التأسيس لمشروع ثقافي وحضاري يمثل هويتنا الثقافية بديل للمشروع الثقافي الغربي الذي هيمن على الثقافة العالمية ورسخ سطوة النزعة الدنيوية في عصرنا الحديث . وتتمحور أفكاره الداعية إلى هذه الثقافة البديلة حول التنظير إلى ما يسميه (علم المبدأ) وهو علم ما يزال يمهد له ويدعو الى المساهمة في التأسيس له . وقد جاءت مجلة (علم المبدأ) لتعمل على هذه الغاية ولتفتح الباب لتفكير جديد في الميدان الفلسفي يطرح نقاشاً معمقاً حول (علم المبدأ) لتكتمل مبانيه وبهذا تضخ ما هو جديد في التقليد الفلسفي الذي عصفت به النمطية ولم يعكس نشاطاً إبداعياً بل أزمةً وصلت الى طريق مسدود وأساسها الاستغراق في التأمل في العقل الأدنى ونسيان عالم الغيب والمبدأ الأول ومُبدِىء هذا الموجود الأول . وقد صدر العدد الحادي عشر من مجلة (علم المبدأ) ليتمحور حول ( العقل في قصوره وامتداده وتعاليه) ، وتصدرته المقالة الإفتتاحية للأستاذ الدكتور محمود حيدر وعنوانها : (العقل بوصفه اسماً لفعل) وهي تؤصل لما يتصل بمصطلح ومفهوم (علم المبدأ) من أفكار تتعلق في هذه المقالة بفكرة العقل في علم المبدأ وهو الذي يسميه العقل الممتد . وتفسير العنوان كما يوضحه الأستاذ الدكتور هو أن العقل لا يُعرف إلا كفعل متحقق في حيز ما ، أي حين يصبح فعل تعقل لشيء متعيّن . وأن لاتعريف للعقل مفهوماً معزولاً عن معقولاته ولا يدرك اسمه ومعناه إلا لكونه فعل إدراك ونظر وإعتناء بمعقول ما سواء أكان هذا المعقول واقعاً عيانياً أم وجوداً ذهنياً أو كان هو العقل نفسه. فإذا كانت فعلية العقل هي الإمساك بالشيء على ما هو عليه في الواقع صار الممسك بالشيء اسماً للفعل الذي نسميه عقلاً . فالعقل من حيث هو فعل هو فاعل استكشافي يختزن قدرات لا حد لها في تعقل الأشياء ، لهذا الداعي لا وجود لجهة في ذاته لا تتعقل أو تستكشف ، فالأدراك والاستدلال والكشف والاستخراج إنما هو تعبير عن هذه الخاصية الفريدة . إن عناية العقل بالأشياء هي إعراب عن فعليته التي بها اكتسب اسمه وهويته بل يجوز القول إن الفعلية المنتجة للاسم تعكس شيئية العقل في امتداده مع الأشياء كما تترجم تجاوزه لها عندما ينتقل بها من طور الى طور أعلى من أجل التعرف الى حقيقتها . ولأجل هذا الترابط بين العقل والوجود تكون مهمة الفلسفة الحقيقية متمثلة بمعاينة البنية الشكلية للعقل وطريقة عمله لأنه المكان الوحيد الذي يمكن الاهتداء به ومنه الى الجذر والأساس الحقيقيين لمعرفة يقينية بالعالم . يحيل ما مر الى فكرة الواحدية الجامعة بين الشيء وعاقل هذا الشيء ومع هذه الواحدية تتعيّن الخاصية الجوهرية للعقل التي تمكنه من الإدراك الصائب ، إتحاد العقل والعاقل والمعقول إحدى أهم نظريات علم الوجود . إن ما يتعقله العاقل له صلة تكوينية بماهية القوة الإدراكية التي بوساطتها تعقل الموجودات .. الانسان لا يعرف الواقع إلا بمقدار ما يكون منسجماً مع بنية عقله الأساسية إذ إن العالم متوافق مع المبادىء المكونة للعقل وهو منظم سلفاً على وفق عملياته الإدراكية الخاصة . الأشياء تتطابق مع العقل ، والمطابقة تكون بين الهندسة التكوينية للعقل والهندسة التكوينية للعالم ، أي بالماهية التكوينية لكل من العقل والعالم . وهذا ما أرادته الحكمة المتعالية بأن تكون النفس المدركة أو بنية العقل الممتد نظير هذا العالم فهي عالم عقلي مضاهٍ للعالم الواقعي وقادرعلى تجاوزه وصولاً الى المعرفة بموجد هذا العالم الواقعي . إن هذه القدرة على التجاوز يجدها الدكتور غير شائعة لدى الفلاسفة الأوائل من الإغريق وحتى المحدثين وإن كنا نختلف معه في هذا التعميم .
هذا العقل الممتد أو المفارق – الذي يُنَظّر له الدكتور – له قوى خلاقة فوق وضعانية من قبيل الحدس والنفس والروح يمكن من خلاله العلم بالوجود علما ً حضورياً لا يحتاج لإثباته وساطة المفاهيم . إنه مركب من الفهم والنباهة والقدرة على المجاوزة فضلاً عن التفكير والاستدلال والاستنباط وهو يشتمل على الاحساس أيضاً . ويصف هذا الاحساس بأنه إحساس عقلي ، والإحساس العقلي يعني شعور العقل حيال كل ما يتحسسه أو يستشعره من باديات الظواهر وخفاءاتها . ويبيّن أن الفلسفة الحديثة لاسيما الوضعانية لا تعتقد بوجود للحس العقلي أو لشهود العقل على مشهوداته حضوراً أصيلاً في البنية المكونة لماهية العقل . في حين أن بعض الباحثين بهذا الشأن يرى أن الإحساس العقلي هو الوعي نفسه في مرتبة عليا من مراتبه . فإذا افترضنا وعياً أعلى يكون سيداً للعالم سيكون من البيّن أن هذا الوعي هو أمر حقيقي لأنه واقعي وممكن في مقام كونه عنواناً للمعرفة الفائقة والهادي الى غايتها . ففي كونه عقلاً إحساسياً يصير قادراً على وعي واستيعاب الأشياء كافة . والقائلون بهذا الافتراض يرون أن الوعي الأعلى لا يكتفي باستيعاب صور الأشياء بل يضعها أمامه دائماً في داخل كيانه الخاص ثم ينشىء معها علاقة خاصة عن طريق ما يسمونه (الوعي المستوعب) ، وبما أن صور الأشياء ترفع أمام (وعي مستوعب) وداخل كيان وعي مشتمل سيكون العقل الأعلى والحاسة العليا مختلفين تماماً عن عقلنا وأشكال إحساسنا بل سيكونان وسيلتي معرفة واحتواء كاملين لا وسيلتي جهل ومحدودية . عن طريق هذا العقل الممتد و(الوعي المستوعب) يمكِّن للعقل الانساني التعرف الى مبدأ الكون الذي ظهرت منه الموجودات فمعضلة الإدراك تعود الى اللحظة التي انعقدت فيها صلات الوصل بين العقل والسؤال عن مبدأ الوجود ومآلاته . هذه المعضلة ركنت في العصر الحديث الى علوم الطبيعة وقوانينها وهو ما وجّه العقل في العصر الحديث الذي آمن بأن العلم يمكنه الإحاطة بكل شيء فأنكر الميتافيزيقا وعمل على تحويلها الى علم . لكن العقل لم يتمكن من فك لغز الوجود من خلال الثورة العلمية وذلك لأن العقل وُجّه لأن يكون مرتبطاً بالحياة المادية وظواهر الأشياء وأن ينفصل عن الغيب والماوراء فظن أنه مكتفٍ بذاته وأنه سبب لنفسه ولا حاجة به لمبدأ يؤسسه . ويقول الأستاذ الدكتور إن من أظهر الجنايات التي افترضها العقل الحديث اختراعه لمذهب حمّله اسمه ليكون ولياً على الحياة ومرشداً لها ويقصد بهذا المذهب العقلاني الذي عدّ بديلاً عن الدين إذ دفع بالعقل الى مواجهة الإيمان . ونرى أن الصحيح هو أن هذه النزعة العقلانية قيّدت العقل وحددته إذ ربطته بالحياة الدنيا وهو الكائن الميتافيزيقي المتطلع الى معرفة ما وراء الواقع وسر الوجود ومبدئه ، فالخطأ الذي ارتكبته الحداثة ليس في العقلانية التي أرادت منها احترام العقل وتقديسه إنما في تحديدها للعقل ومنعه من ارتياد عالم المجهول المغيّب وراء الظواهر ولو كانت عقلانية لآمنت بطبيعة العقل الميتافيزيقية وبقدراته غير المحدودة الممتدة والمتطلعة الى ارتياد الآفاق البعيدة .
ويجد الدكتور محمود حيدر ضالته المعرفية لدى الفضاء العرفاني الاسلامي إذ يجد تأصيلاً غير مسبوق في التمييز بين العقل المستغرق في ميتافيزيقا المقولات العشر كما يسميه والعقل الممتد الى ما بعد ذاته ، فعند ابن عربي مثلاً يتخذ نشاط العقل صورتين : صورة فاعلة تتمثل بممارسات العقل الاستدلالية الحدية وصورة منفعلة يتخذ العقل فيها معنى المكان أي قبول المعارف الآتية من الله . الصورة المنفعلة للعقل هي التي تمكّنه من الامتداد نحو معرفة المحتجب من حقائق الوجود ، ومن استكشاف الفضاءات المابعد طبيعية . وبهذه الصورة العقلية يجاوز العقل حالة العقل المقيد دون أن ينفصل عنه فمن خصائص العقل الممتد أنه يجمع اليه ضده فهو يستطيع أن يجمع العقل البرهاني كمرتبة لا مناص منها في مراتبه المتعددة الأطوار كما يجمع اليه مرتبة العقل الحسي ولكنه كما قلنا يتجاوز هذه الأطوار الى مرتبة العقل الممتد التي تهيء العقل لتقبل الحقائق وتأييدها بعد تنزلها عليه من عالم التعالي . ولعملية القبول هذه دور بالغ الأهمية في وظيفة العقل وهي تنسجم مع وظيفة العقل الوجودية ودقة عمله التي هي التقييد والضبط لما يهبه الله للانسان من معارف . وهكذا يستطيع العقل الممتد أن يصل الى ما وراء عالم الحس جامعاً بين فيزياء الواقع وميتافيزيقا المعرفة الإلهية واصلاً بين عالمين متغايرين : عالم الغيب وعالم الواقع . خاصية الامتداد والمفارقة للعقل الامتدادي تتيح له القدرة على توحيد العقلاني واللاعقلاني وفق جدلية التضاد والانسجام . والنتيجة التي تنتهي اليها هذه الجدلية التوحيدية هي شهود الحق المتجلي بالخلق . هذا الطور الشهودي ينجز مهمة استكشاف الحقائق المحتجبة . والعقل الشهودي لا ينفك عن المراتب الدنيا التي تتعقل الموجودات كلاً بحسب مقدارها ومدى سعتها ، وهي الشهود الحسي والشهود العقلي والشهود القلبي .
النظام المعرفي العرفاني – كما يوضح الدكتور محمود حيدر – لا يكتفي ببيان القواعد العقلية والأسس النظرية للمكاشفات القلبية والمشاهدات الباطنية وهو يعتني بدور آخر بالغ الأهمية وهو تقرير هذه المكاشفات واخراجها من كمونها في عالم الباطن الى عالم الظهور ومن الغيب الى الواقع المشهود . ولكن الدكتور يعترف بأن الطور الأعلى من الوعي الفائق يتعذر البوح به لفظاً ويتعذر أمره على صريح العباره حتى لأؤلئك الذين بلغوا مبلغاً راسخاً في العلوم الإلهية . ولذا فالحادث الروحي الذي مرّ على عين العارف وفؤاده إن هو إلا إخبار إلهي عن أمر غير منظور حتى للعارف نفسه من قبل أن يؤتى بالخبر اليقين وما ذاك إلا لأن هذا الحادث وإن كان ثمرة سبر وسلوك ومجاهدة فهو إشراق رحماني حل في صدره من لدن الروح القدس .
عندما يفارق العارف العقل المقيد بعالم الحواس الذي يعزل الانسان عن بعده المتعالي الموصول بالإلوهية من أجل أن ينتقل الى طور أعلى سيكون بذلك قد جاوز ضيق العقل الأدنى متوجهاً نحو عالم عقلي مفارق تنفسح فيه المدارك وتتلاحم الآفاق . العقل الممتد يسميه العرفاء العقل القدسي وهو الذي سمته الفلسفة الأولى ولواحقها اصطلاحاً العقل الفعّال . الا أن المهمة التي يتولاها العقل القدسي هي توثيق ما لم يقدر عليه العقل الفلسفي صبراً وتدبراً . اذا صار العقل يرى بواسطة القلب تدفقت المعارف والحقائق الإلهية على قلب السالك فيشاهدها عياناً بوساطة قلبه وعقله معاً . الصلة بين العقل والقلب كالصلة بين العين والنفس كما يقول بعض العارفين . الذي يعقل هو قلب العقل ذاك الكائن المستتر الذي منه يتدفق الوعي بالوجود وبه تدرك الأشياء على حقيقتها ، هذا العقل المصدر الأول للمعرفة الفائقة . هو العقل المابعدي ، العقل القدسي الذي ينطوي في ذاته على العقل المبتدىء أو ما يسمى بالعقل الفطري .
الوعي ليس إدراكاً لما يقع تحت الحس إنما في تبصره ما يتعدى ذلك ، إنه إدراك للأشياء في ظهورها وبطونها وما يتخفى وراء ما يبدو منها . هو هجرة معرفية تتوسل معرفة ماهيات الأشياء في ظهورها وبطونها بلا تفريق أو انفصال ، وإنه وعي يقيني بالمبدأ الذي منه ظهرت أشياء الوجود وبالمُبدىء الذي أظهر المَبدأ واعتنى بكل شيء فيه . وعي المبدأ الحاوي للكل يفضي بالضرورة الى وعي أفراد الموجودات على اختلاف أجناسها وأنواعها . وعي المبدأ وفق صيرورته لكي ينبسط الطريق الى وعي البدء والمنتهى معاً . إن كيفيات هذا الوعي لا ترتبط بالعقل الأدنى وعن طريقه لأنه وعي متأتٍ من إيمان فؤادي يتأبى على على حكومة المفاهيم لأن الإدراك العقلي لا يجاوز تجريدات الذهن فمن غير اليسير أن يتحول الى شعور يُحس ويعاش فيه ، وحتى يكون كذلك أي إدراكاً راسخاً في الشعور وجب اختباره بالعمل حتى يحدث نقلة جوهرية تتحول فيها المفاهيم الذهنية الى مشاعر وأحاسيس وجدانية . هذا الإدراك يكون على قرب شديد الحساسية مع الوعي الإلوهي يتعرف فيه العقل المتنبه على الحق المُبدىء للخلق وبذلك يتحقق اليقين المطلق أو الحقيقي . هذا الوعي المابعد عقلاني يتحقق عن طريق الحدس لدى العرفاء إذ به يتحقق الكشف والتوغل عبر الحاجز بين الوعي الظاهر والوعي الباطني وهذا الأخير متصل بالوعي الكلي وهو مصدر معرفة مفارقة لأعراض الأشياء ومظاهرها . إن معرفة الله يقين وسكينة لا يفلح بها إلا بالاستشعار والعيش والاختبار . وبذلك تتجلى إمكانات العقل في الوصل بين عالمين يظن أنهما متغايران : عالم الغيب وعالم الواقع ، وفق جدلية التضاد والانسجام ونتيجة هذه العلاقة الجدلية التي يعبر عنها الدكتور في مقالات سابقة بـ(المثنى) هي شهود الحق المتجلي بالخلق . إن هذا الوعي الشهودي المابعد عقلاني هو الوعي الفائق الذي يبنى على التجرد والتعالي(1) .
إننا نجد ــ بعد هذا التوضيح لإطروحة الدكتور محمود حيدر ــ أننا نختلف معه ، فنحن نرى أن هذا الطور المتعالي الممتد للعقل إنما هو للعقل الانساني بمجموع أطواره وخصوصاً لطوره الفاعل الذي يسميه الدكتور العقل الفيزيائي أو العقل الاستدلالي البرهاني والذي يصفه بالأدنى أوالناقص أوالمقيد والمحدود ، في حين أن العقل الاستدلالي البرهاني فاعل غير منفعل وغير مقيّد ولا محدود وهو في براهينه وحججه يتجاوز الواقع ويتطلع الى الغيب وهذه هي طبيعة العقل التي خُلق عليها فهو كائن ميتافيزيقي متجاوز. إن العقل الانساني بمجموع أطواره مدفوع بضرورة وحتمية تطورية تجعل مراحله العليا أعلى مقاماً لأنها أكثر غنى وبها يبلغ غاياته . لكن الدكتور يعطي هذه المنزلة العليا والقدرة على التجاوز الى ما يسميه (العقل القدسي) أو(العقل الوحياني) والذي يصفه بـ(العقل الممتد) . وهذا في الحقيقة إنما هو الطور الأول للعقل والمرحلة الأولى من مراحله وليس الأخيرة المابعدعقلانية المتجاوزة للقدرات العقلية . صحيح أن الدكتور يضم اليه أطوار العقل الأخرى التي يسميها : (الحسي) و(العقلي) و(القلبي) (2)، لكنه يخص العقل المنفعل المتلقي لفيوضات المعرفة الإلهية . إن هذا العقل أو هذا الطور للعقل هو ما يسمى بالفطرة وهي المرحلة الأولى من مراحل العقل والدكتور نفسه يقول إن الانسان ميتافيزيقي بالفطرة أي ان عقله المتعالي الذي به تحصل الكشوفات الروحية التي يصفها الدكتور هو مرحلة الفطرة وهي أولى مراحل العقل كما – ذكرنا – لا أعلاها كما يقرر . ولقد أورد تقسيماً لمراحل العقل للحارث المحاسبي وهو يعد فيه الفطرة أولى مراحل العقل . إن الوصول الى وعي حقائق العالم المابعدي هو صيرورة عقلية لازمة لماهية العقل التكوينية وهي متدرجة ضمن مراحل متتابعة في خلق الانسان والعقل الانساني . والفطرة التي هي أولى مراحل العقل وهي الغرس الأولي والمعرفة الأساسية للانسان هي ما يتضمن الوعي بحقائق العالم المابعدي . إنها منغرسة في الانسان من عالم قبلي جوهري أو روحي يمثل المرحلة الأولى من مراحل خلقه . وهي تمثل البعد الميتافيزيقي في الانسان الذي يعده الدكتور مرحلة أخيرة متعالية في حين أنه مرحلة أولى في تاريخ الوجود الانساني . وكلمة الفطرة تشير في اللغة الى الابتداء والاختراع ، هي مرحلة البدء في الخلقة الانسانية فهي الأساس الأول الذي تؤسس عليه، ولهذا قيل إن المولود يولد على الفطرة فهي تقترن بمرحلة الولادة أو البداية وهي تتضمن وعياً خالصاً ومعرفة بوجود الله تعالى ونزوعاً اليه وتوحيداً له ولذلك يذكر القرآن الكريم أن جميع الناس بمن فيهم المنكر لوجود الله إذا سئلوا عمن خلقهم وخلق العالم فإنهم يبادرون الى الإجابة بأنه الله : (وَلَىِٕن سَألۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَهُمۡ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ﴾ الزخرف – (٨٧) . وتكون هذه الأفكار الأولية كالطبع والنقش في داخل النفس الانسانية أو في داخل العقل لا تقبل التغيير والتبديل ، وهي عامة لدى جميع البشر يشتركون بها ويستطيعون جميعاً العودة اليها لهذا يُسمى من ينتقل الى الإيمان بالعائد الى الفطرة لأنه عود على بدء . إنها المرحلة الصافية غير المشوبة بالأخلاط والنقائض ، لم تتعرف الى النقائض وهي الشكوك والجهل بالله ، بل هي تستشعر وجود الله وكمال صفاته وتحسه وتنجذب اليه . ويقابل العلماء بين هذه المعرفة والمعرفة التي يسمونها البصيرة أوالحدس الذي هو ملكة فطرية ولدنا عليها وزودنا بها في أصل خلقتنا الأولى ، هي إحساس بالقلب وذكاء عاطفي وقدرة على الاستشعار. ويربط الدكتور بين هذه المعرفة التي تحصل بالحدس وتستشعر بالقلب أو التي يراها العقل بقلبه وعاطفته – كما يقول – وبين العقل الممتد الذي يتطاول الى عالم الغيب ، وهو يقول : (إذا تنور العقل بنور القدس واتحد العقل بالقلب وحصلت البصيرة في القلب وصار العقل يرى بواسطة القلب عندها تتفجر المعرفة اللدنية من الله وتفاض المعارف والحقائق الإلهية على قلب السالك فيشاهدها عياناً بواسطة قلبه وعقله معاً لجهة الاتحاد والوحدة الحاصلة بينهما ولكن كل بحسب سعته ومرتبته الوجودية )(3). والعبارة الأخيرة تشير الى أن هذه المعرفة الحاصلة لدى بعض الناس تختلف بسعتها حسب مرتبتهم الوجودية وحسب مدى صفاء فطرتهم ونقائها ، فهي موجودة لدى جميع الناس وإنْ بمستويات ليست عالية أو ضعيفة .
هذه المعرفة يمتلكها العقل الممتد الذي يصفه الدكتور محمود حيدر بأنه ليس فاعلاً إنما منفعل يتخذ معنى المكان أي مكان قبول المعارف الآتية اليه من الله إذ أن الله وهبها إياه أوفطره عليها فهي إذن معرفة الفطرة . هذه الصورة تعارض الصورة الفاعلة للعقل التي يكون فيها مرادفاً للفكر أي للقياس والممارسات الاستدلالية والحدية وهي الصورة التي لاينبغي الاعتماد عليها في الميتافيزيقا الجديدة التي يُنَظّر لها لأن المعرفة العقلية الاستدلالية مهما ترقت في مراتب الكشف تبقى محدودة اذا ما قيست بحدود المعرفة القلبية وسعتها والمقام الأسمى الذي يمكن أن تصل اليه ، والتي تفتح للفاهم – كما يقول – باب التعرف على مجهولات الوجود وحكمة الإيجاد . وبفضل هذا الوعي يفارق العقل تناهيه ومحدوديته ليدخل دورة الانتماء الأصيل الى المبدأ الأعلى . إن الوظيفة الأساسية للعقل الممتد – كما يؤكد الدكتور – هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تنزلها عليه من عالم القدس . وهذه المعرفة القدسية أو الوحيانية هي معرفة فطرية كما يصفها ، وعليه لا يمكن معرفة المبدأ ولا التعرف على المُبدىء بما يتخالف والفطرة الانسانية في شيء . ونحن نلتقي معه – كما ذكرنا – في أن المعرفة الفطرية هي المعرفة القدسية البدئية لمعرفة التوحيد المغروسة في أصل خلقتنا. إن المعرفة العرفانية التي ينالها العقل الذي يسميه الدكتور (الممتد) تستند الى الفطرة وتستمد منها كما يبيّن هو ، فهي إذن لا تعبر عن وعي فائق يستطيع أن يعبر الى عوالم الغيب ويُعَبِر عنها لأن المعرفة الفطرية معرفة لا تُبين مهما كان مستوى صفاء الفطرة . صحيح أنها تتلمس وتحدس عالم الغيب لكنها عاجزة قاصرة لا تستطيع الافصاح عنه ولايمكن أن تقترن بالعقل الممتد المتفوق الذي يصل الى عالم الغيب ويكشف عنه بما يرفع الحجب عن هذا العالم بما يقدمه من حجج وبراهين . إننا نختلف مع الدكتور في انحيازه الى المعرفة العرفانية وتضعيفه للعقل الفيزيائي الاستدلالي البرهاني ومقولاته لأنه – كما يقول – لم يأتِ بالحقيقة وعجز عن الوصول اليها واكتفى بالسؤال عنها دون الإجابة . في حين أننا نجد أن العرفان والحدس لم يتقدم على البرهان العقلي وما قدم للناس دليله على ما كُشف له أوما يسعى الى الكشف عنه . قد تتفجر المعرفة اللدنية من الله وتفاض المعارف والحقائق الإلهية على قلب السالك – كما يقول الدكتور – فيشاهدها عياناً بواسطة قلبه وعقله معاً لجهة الاتحاد والوحدة الحاصلة بينهما ، لكننا نجد أن العارف أو السالك لايستطيع مهما كانت مرتبته في العرفان وسعة معرفته أن ينقل تجربته العقلية والقلبية الى الآخرين ويقنعهم بحدوثها فتصبح قناعة عقلية وقلبية عند الآخرين . ونحن نتحدث عن مستوى القناعة العامة لدى الناس لا على مستوى القناعة الشخصية التي يستطيع العارف أن يقنع بها نفسه . فالقناعة الشخصية قناعة لا تغادر ذات العارف وهي تشبه قناعة الملائكة التي لم تستطع أن تبين، والله تعالى يريد التجلي في عالم التجلي الذي خلقه ، ومعرفة الملائكة لا تفيد في تأدية هذه المهمة . ولهذا خلق العقل المقتدر الفاعل الذي يستطيع الإبانة وتقديم البرهان ويتطلب البرهان ، ولهذا يرسل الله رسله مؤيدين بالحجج والبراهين والمعجزات التي يقبلها العقل البشري وتكون واضحة لديه تماماً ولا يقول الرسل للبشر ارجعوا الى فطرتكم فستجدون فيها معرفة بوجود الله لأن البشر ليسوا سواءً بمستوى صفاء الفطرة ، ولأن كثيراً منهم معاند وظلوم لايريد الاعتراف حتى بما تقر به الفطرة . لهذا يؤكد تعالى على البرهان الذي يجعل الحقيقة دامغة أمام العقل ، في حين أن المفهوم والاستدلال في العلم الحضوري الشهودي لا يُعدان واسطة – كما يقول الدكتور- إذ يكون المعلوم حاضرا عند العالم وليس ثمة حاجة الى دليل لإثباته لأن كل شخص حاضر لنفسه ويشهد لنفسه(4)، وهذا صحيح بالنسبة الى العارف وغير صحيح بالنسبة الى غيره ممن لم يُؤتَ هذه المرتبة الوجودية التي تتيح له بالإلهام أن يتلقى فيوضات معارفه من لدن الروح القدس . فواقعية المعلوم ليست حاضرة لدى غير العالم والسالك ولذا فالشك حاصل لدى غير الذين تحصل لهم هذه الحالات العرفانية . إن المعرفة العرفانية لا تستطيع أن تقدم للبشرية عامة معرفة عجزت عن تقديمها الميتافيزيقا القبلية لأنها معرفة خاصة محدودة بحدود شخصية العارف ، وبهذا تبقى الأسئلة الوجودية الكبرى حاضرة في العقل البشري دون الإجابة عنها إذ لايستطيع الشهود بيان حجيته المعرفية ، مع أن الدكتور يقول إن الوظيفة الأساسية للعقل الممتد لدى العارف هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تنزلها عليه من عالم القدس ، وعملية القبول هذه هي أساس المعرفة العقلية وهو ينسجم مع دقة العقل ووظيفته الوجودية والتي هي التقييد والضبط (5).. وهنا نسأل عن إمكان تقييد وضبط هذه الحقائق عقلياً ، وهل حدث ذلك من قبل في تاريخ التجربة العرفانية ، وهل هو مقنع للعقل الفيزيائي الاستدلالي البرهاني؟ ..
نحن نختلف مع الدكتور محمود حيدر في دعوته الى ضرورة التحرر من هذا العقل الفيزيائي (الفاعل)الذي نحمله لكي ننظر الى الوجود من خلال العودة الى الفطرة ، تلك الفِطْرةُ التي تشير الى الابتداء والاختراع والخِلْقة التي خلق الله عليها الإنسان والجبلة التي جُبل عليها وما غُرس فيه من العلم والمعرفة الأولية ومنها الإيمان بوجود الله والاعتراف بربوبيته، فهي المعرفة الأولى والمرحلة الأولى من مراحل وجود الانسان ووعي الانسان وهي الحالة الملائكية كما ذكرنا في بحوث لنا سابقة. والدليل على أن الحالة الملائكية هي المرحلة الأولى من مراحل الوجود والوعي الإنساني أن الملائكة عندما تبعث الى الأرض تتحول الى بشر فهي تمت الى الوجود الانساني بصلة . والدليل الآخر أن أمر خلق الانسان عرضه الله تعالى عليها لأنه يعنيها إذ ستنتقل من حالة وجودية قدسية الى حالة أخرى يشوبها النقص وارتكاب الآثام وهو الأمر الذي لم ترض َ به لكن الله أخبرها بأنه يعلم ما لا تعلم ولهذا قرر أن يخلق الانسان : ( وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة – (30). لقد تحدث القرآن الكريم عن مراحل الوجود الانساني ، وحسب تفسيرنا لما ورد في آياته الكريمة من ذكر لهذه المراحل . فنحن نرى أن الملائكة تمثل الحالة الوجودية الأولى للانسان ولمعرفته . ومعرفة الملائكة معرفة فطرية غرسها الله فيها فكانت وعاءً لتلقي هذه الهبة الإلهية أو مكاناً لتلقيها كما يعبر الدكتور وبصفتها هذه فهي منفعلة لا فاعلة ، متلقفة لهذه المعرفة لا مبدعة . ولأنها معرفة من الله كانت صافية كروح لله لا تشوبها شائبة الكفر والشك بوجود الله وهي تسبح بحمده وتقدس له كما جاء في القرآن الكريم . ولكن هذه المعرفة لاتتعدى حدود معرفة ذاتها ومعرفة وجود الله تعالى بدليل أن الله امتحنها بمعرفة بعض الأسماء فلم تعرف الإجابة وقالت إنها لا تعلم غير ما علمها الله : (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة – (32) ، لأنها لا تملك إلا المعرفة الفطرية المباشرة وهذه المعرفة يريد الله تعالى أن يتجاوزها لأنها ليست المعرفة الفاعلة المتمكنة بل هي قاصرة بدليل أنها فشلت في الامتحان ولم تجب عما سُئلت عنه وكان دفاعها عن مستوى حالها المعرفي والوجودي غير مقنع ولم يأخذ به الله تعالى ، ولهذا انصرف عن دفاعها وبيان وجهة نظرها وأخبرها بأن علمها قاصر. وهنا ندرك أن غاية خلق الانسان هي غاية معرفية وأن سر الخلق هو التجلي المعرفي لعلم الله تعالى ومعرفته التي لم تستطع الملائكة أن تدركها وتعبر عنها . ولهذا شاء الله تعالى أن ينقلها الى مرحلة أخرى ، مرحلة العقل الانساني الفاعل التي تمكنت كما ذكر القرآن الكريم من معرفة مالم تستطع الملائكة معرفته بالرغم من أن هذا العقل يشوبه التناقض والسلب . كانت الملائكة تمثل جانباً واحداً هو جانب الوجود ووعيها يتمثل بوعي هذا الجانب الأحادي الذي يعبر عن وجودها الروحي الذي هو نفخة من روح الله تعالى في هذا الكيان الانساني الذي تمثل الملائكة المرحلة الأولى منه ، هذا الوعي هو مايسمى (الكلي) ، إنه الوعي بالكلي الذي هو الله تعالى ، ولكنه وعي مباشر ولا يستطيع أن يُبين . ولهذا شاء الله تعالى أن يتجاوز هذا الوعي الذي يستشعر وجوده تعالى ويقر بهذا الوجود ويقدسه ويسبح له ولكنه غير قادر على أن يسمي الأشياء بأسمائها ، غير قادر على معرفة الأسماء والصفات لأنها لا تُعرف إلا بنقائضها ، والملائكة كيان غير متناقض ووعيها لا يعرف التناقض فكان لابد من الانتقال الى كيان جديد . وهذا الكيان يمثله الانسان المتناقض في خلقته المادية وفي وعيه ، فهو يعي من خلال التناقض ولهذا استطاع أن يسمي الأشياء كلها . وهكذا انتقلت الملائكة الى المرحلة الثانية وهي مرحلة الوجود الانساني المادي المتناقض الذي يجمع الإيجاب والسلب ، والعقل الانساني المتناقض الذي يشوبه النقص والجهل وينحرف الى الكفر والشرك ويضعف إيمانه وصلته بالله تعالى فينحرف عن اﻟﻔﻄﺮة التي كان عليها والتي تبقى مركوزة في العقل وهي أصله الثابت . وهذا يعني أن العقل الإنساني يحمل معه وعي الملائكة (الوعي بالكلي) بوصفه وعي الفطرة ولكنه يجمع اليه نقيضه فهو يُجابَه بالسلب والنقص والإنكار أي ان العقل انتقال الى حالة التناقض والمجابهة بين الفطرة الإيمانية والانكار والكفر النابع من النقص . وهذه الحالة الثانية – وهي مرحلة صراع بين المعرفة الواثقة الفطرية والنقص أو السلب الذي أخذ يصارعها – لاتدوم فتنتهي الى طرد السلب والنقص والعودة الى الكمال المعرفي الذي يؤيد الفطرة ويعود اليها ولكن بالكدح وإثبات الحجة العقلية .
إن مرحلة المعرفة الفطرية معرفة حبيسة في حدود الجانب الأحادي ولم تتعرف الى الآخر لكي تعرف وتعلم ولهذا عبرت عن حالها المعرفي بقولها : ( لا علم لنا إلا ماعلمتنا) ، فهي لا تعرف الأشياء والشيء لايُعرف ولا يسمى إلا بالعلاقة أي علاقة التناقض . إن التناقض من مقولات العقل الانساني وهو يَعرف من خلال التناقض ، وهذا هو العقل الذي يسميه الدكتور محمود حيدر بالعقل الفيزيائي الاستدلالي البرهاني الذي يراه قاصراً ويصفه بالأدنى . وهو يتخذ الحدس والكشف والشهود العرفاني بديلاً عنه ، وهذه الحالة المعرفية كما ذكرنا هي حالة الفطرة التي قد يعيشها بعض الناس الذين استطاعوا العودة الى فطرتهم الصافية فيستمدون منها معاني التوحيد ولكنهم لا يستطيعون أن يقنعوا بها من حالت بينهم وبين العودة اليها حجبٌ كثيفة من الشك أو الكفر فطمست إيمانهم وغطت عليه بالرغم من أنه مركوز في أصل خلقتهم . ولهذا يبقى الانسان بحاجة الى العقل الاستدلالي الذي يقدم الحجة العقلية المقبولة التي قد تكون فلسفية أو علمية أو معجزة خارقة وذلك لكي يتحقق التجلي المعرفي على المستوى العام ، على مستوى البشرية كافة .
إن الفطرة تمثل كما ذكرنا المرحلة الأولى من مراحل المعرفة الانسانية ومن مراحل الوجود الانساني الذي مر بمراحل ثلاث كما يبيّن القرآن الكريم : المرحلة الأولى كان وجوداً جوهرياً أو روحياً يتمثل بوجود الملائكة ووعي الملائكة وعلة كونه وجوداً جوهرياً أنه لم يخالطه النقيض الآخر، كان وجوداً بطرف واحد لم ينتقل الى الآخر الذي به يُعرف وتظهر صفاته ولهذا لم تستطع الملائكة أن تعرف الأسماء والصفات واستطاع الانسان معرفتها كما تبيّن آيات القرآن الكريم : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (البقرة ، 31 – 33 . المعرفة الفطرية معرفة بدئية أولية انتقلت الى الانسان مع انتقاله من حالة الملائكة الى الحالة الانسانية لذا يمكن الرجوع اليها ويستشعر الانسان عن طريقها الوجود الإلهي ويُقِرُ به ولكنه لا يستطيع الإبانة عن معرفته أو استشعاره من دون الحجة والدليل العقلي ومن دون العقل القادر الفاعل لا المنفعل . إن العقل الانساني يتقدم على هذه الحالة الأولى بالرغم من نقصه وبالرغم مما يعتريه من شوائب الجهل والشك لأنه قادر على إزاحة هذه الشوائب ودحضها بالاستدلال والجدال وتصادم العقول . وتركز آيات القرآن الكريم على صفة الانسان صاحب العقل بأنه مجادل وهو خصيم في جداله مُبين : (أوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) يس – (77) ، وهو أكثر المخلوقات جدلاً : (وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَكۡثَرَ شَیۡء جَدَلا ﴾ الكهف-( ٥٤) . ولأجل قدرته على الجدال والتبيين أراد تعالى أن يخلقه : (خَلَقَ الْإِنسَانَ ،عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) الرحمن – (4،3) . وبهذا العقل تتم حجة الله تعالى على الملائكة التي لم تستطع أن تُبين واتضح عجزها وقصور معرفتها ، فهي لا تمتلك هذا العقل الذي يستطيع أن يكدح ويدفع عنه نقصه حتى يصل الى مرحلة الكمال المعرفي وملاقاة الله : (يَا أَيُّهَاالْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق – (6) ، وهذه هي المرحلة الثالة من مراحل تطوره وتطور الوجود الانساني ، وعندها يستطيع العودة الى معرفته الأولى الفطرية ويستطيع أن يسميها لا أن يستشعرها فقط ، وذلك بكدحه وجهده المعرفي ويحقق الغاية التي خلقه الله تعالى لأجلها . ولكل ذلك فإن الفطرة ليست مقدمةً على العقل بل هو المقدم عليها ويفضلها ، ولذا قيل إنه أحب مخلوقات الله إليه وبه ارتقى الانسان وفُضل على الملائكة وأُمر الملائكة بالسجود له فسجدوا : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة – (34) ، لأن معرفة الملائكة معرفة فطرية هي عبارة عن معرفة روحية أو استشعار أو اتصال مباشر ومعرفة العقل استدلالية برهانية كدحية فاعلة.
وإذا عجز عقل الانسان في تاريخه السابق عن أن يقدم براهينه التي تثبت وتؤيد ما سبق له أن عرفه وثبت له من المعاني الايمانية في مرحلة معرفته الفطرية فإنه يستطيع أن يقدمها في تاريخه اللاحق وهو ما سيتحقق في المرحلة الثالة من مراحل تطوره حيث سيتمكن الانسان الخليفة ، الانسان الكامل صاحب(العقل الأعظم) أو (العقل الممتد) من تقديم حججه البرهانية التي سيهتدي بها العالم أجمع وعندها ستتحقق الغاية من وجود العقل الانساني حيث سيتم طرد الجانب السالب من العقل وستبدأ النشأة الأخرى للانسان التي تتحقق في نهاية الزمان .
الدكتور محمود حيدر يستبعد التناقض (6)الذي عليه العقل الانساني وبه يعمل ويعرف إذ تعتمده الميتافيزيقا الأرضية كما يقول وهو يعتمد بدلاً منه مفهوم الزوجية أوالأضداد ، إذ يتضمن (المثنى) الذي هو عنده مبدأ الوجود(7) ضدين اثنين تضمهما علاقة تكامل وانسجام هي أساس الوجود وهي أساس العقل والمعرفة كما يرى: ( إن للمعرفة الصوفية علاقة وثيقة بمفهوم الأضداد : فمشاهدة الحقيقة الإلهية الحاضرة والقريبة والموجودة في كل شيء (فأينما تولوا فثم وجه الله) تولِّد لدى الصوفي قبولاً بفكرة الأضداد باعتبارها لحمة الوجود وأساسه سواء على المستوى الأخلاقي أم الوجودي العام ، ففي هذه المعرفة يتجلى التقابل الضدي بين الخالق والمخلوق وبين القديم والمحدث وبين الثابت والزائل وبين الخالد والفاني )(8). ونحن نرى أن علاقة التناقض هي المبدأ المؤسس لوجود العقل ولوجود الانسان ووجود العالم وهي الوجود الجوهري الذي يتخلله أو المنطق الداخلي الكامن في كل الموجودات وعنها يتجلى الوجود بأسره ويتطور . ونفسر سبب استبعاد مفهوم التناقض من قبل المعرفة الصوفية بأنه الأخذ بمنطق أرسطو الذي يذهب الى عدم التناقض وأن النقيضان لا يجتمعان في مكان واحد وزمان واحد لأنهما يتنافيان فلا يمكن أن يجتمعا . ونحن نقول إن النقيضين يجتمعان في علاقة التناقض وإن الأشياء والموجودات عبارة عن علاقات للتناقض وإن علاقة التناقض هذه وليس المثنى هي الأساس الأول للوجود . ولتفسير ما ذهبنا إليه نقول : صحيح أن النقيضين يتنافيان ولا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد وزمان واحد ، ولكن قولنا إنهما يتنافيان يعني أن عملية التنافي لا بد أن تحصل وعلاقة التناقض هي المكان الذي يحتوي هذه العملية وهي لحظته الزمانية ، ففي العلاقة يحدث صراع بين النقيضين يؤدي الى أن ينفي أحدهما الآخر ويطرده من وحدة العلاقة لتنتهي الى أحد النقيضين فقط وهو (الوجود) وهو ما ذكرنا أن العقل ينتهي إليه بعد طرد السلب. فبعد أن يطرد العقلُ السلبَ يتحقق له الكمال ويعود ليلتقي مع المعرفة الفطرية الأولى فيعرف ربه كما كان في حالته الأولى الملائكية ولكن عن حجة وبرهان . أما ما هو (السلب) الذي يناقض (الوجود) فهو العدم ، والدكتور محمود حيدر ينكر وجود العدم لأنه وفقاً لاسمه غير موجود . ونحن نقول إن للعدم حيزاً في الوجود وإنه في مقابل الوجود يكتسب تميزاً ما أو تعريفاً ما لأن القاعدة المعرفية تقول : بضدها تتمايز الأشياء ، فالضد أو النقيض يكتسب تميّزه وتعريفه أو وجوده من ضده أو نقيضه . ولقد بيّنا في كتابات لنا سابقة معنى تميّز العدم ووجوده ، فالعدم يعني الفراغ – من الوجود – فهو فراغ في مقابل امتلاء ، وهذا الامتلاء يعنيه الوجود . وخير ما يوضح هذه الحقيقة الفلسفية ويؤكدها هو ما انتهى اليه العلم في مجال الفيزياء فالعدم هو الفراغ – من المادة – وهو المادة المضادة التي تناقض المادة ، فالوجود المادي له نقيض هو العدم وهو الفراغ . وهذا الفراغ يوجد أو يظهر فيكون بصورة جسيم اسمه الألكترون وهو الشحنة السالبة في المادة التي تقابل الشحنة الموجبة فيها أو الوجود وهي البروتون وهما يتصارعان ويتنافيان . إن العلاقة بين الوجود والعدم هي أساس الأشياء ، وهي علاقة تناقض . وليست علاقة التضاد إلا مظهراً لعلاقة التناقض بعد الوجود المادي وهي علاقة بين المضمون والشكل أو الكل والجزء وهي علاقة تكامل كما يقول الدكتور محمود حيدر ولكنها علاقة صراع كذلك إذ يسعى الكل الى أن يجعل الجزء يتطابق معه فيعكسه كاملاً بعد نبذ العدم كاملاً وهنا تتجلى المعرفة كاملةً وينطبق العقل المادي – الذي يسميه الدكتور العقل الأداتي أو الأدنى – على المعرفة الكلية التي هي المعرفة الفطرية المتضمنة فيه أي ينطبق الشكل على مضمونه تماماً، وهذا كله شرحناه في مباحثنا السابقة .
ـــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1) ينظر : العقل بوصفه اسماً لفعل , محمود حيدر ، مجلة علم المبدأ ، العدد الحادي عشر 1446 هـ ـ 2024، م ، ص 7 – 31. وينظر كذلك : الانتباه .. مبتدأ الوعي الفائق ، مجلة علم المبدأ ، العدد الثامن 1445 هـ 2024 م ، ص 7 – 23.
(2) ينظر : التمهيد الى ميتافيزيقا بعدية ، محمود حيدر ، مجلة علم المبدأ ، العدد الرابع 1444 هـ 2023 م ، ص 18.
(3) المصدر السابق ، ص 19.
(4) نفسه ، ص 18.
(5) نفسه ، ص 15.
(6) نفسه ، ص 16.
(7) نفسه ، ص 16.
(8) ينظر : ميتافيزيقا المثنى ، دربة العرفاء إلى توحيد الله وتوحيد العالم ، محمود حيدر ، مجلة علم المبدأ ، العدد الرابع 1444 هـ 2023 م ، ص 173.