دراسات وبحوث معمقة

مهمّة العقل صيانة المعقول

فذلكة عن العقل والمعقول

 

ادريس هاني

 

وقد علمت أنّني من أنصار اتحاد العقل والعاقل والمعقول، ولكن هذا لا ينفي الفصام واعتلال الاتحاد فيما بين العقل والمعقول حسب ما ترومه هذه الفذلكة، وفي سياق مختلف مفهوميا ونظريّا.

ليس الذكاء الصناعي وحده مرتهنا للبرمجة وتحكّم خواريزميات معيّنة، بل إنّ الدّماغ نفسه مرتهن لخواريزميات محدّدة. ما هو مصدر هذه البرمجة، ما هو مداها؟ كيف يمكن الثورة عليها؟

إنّ مدى المعقول أقرب من مدى العقل، فالمعقول مشروط وآني، والعقل منفتح على قدر تبدّل الأحوال وعلى قدر المدى الذي يتحدد بالقوة لا بالفعل. ولا شيء يُفرض على العقل إلاّ ما كان منه ومن عوائده، فتلك أزمته التي قد ينتحر فيها أو يتحرر من شروطها. وداخل هذا الانعتاق أو ذاك الانتحار يسكن المصير البشري.

إنّ الثورة بمفهومها السوسيو-تاريخي هي انقلاب ذهني على الواقع، لكن أصعب من الثورة الاجتماعية، الثورة على العقل نفسه، لا أعني تحليل إمكاناته وبيان ما هو جدير بالحكم عليه من عدمه، كما هو الموقف النقدي الكانطي، وإنما أعني الانقلاب على العقل نفسه، وهي العملية -ويا للمفارقة- لا تتمّ إلاّ من خلال العقل نفسه، اختراق البرمجة الصُّلبة، ولفت انتباه العقل إلى ممكناته المستبعدة، ثورة العقل على العقل في حالة تمعقُله لا تعقُّله. ولك أن تمرح في المائز بين التّعقُّل والتمعقُل، ففي الأول وفاء لنداء العقل، وفي الثاني التزام بقواعد اشتباك المعقول .

تفعل العوائد والعنايات العرفية في تعزيز البرمجة عبر “إعادة الإنتاج”، بالمعنى الذي ركّزت عليه أبحاث بورديو، العادة التي سيشتق منها الهابتوس. إنّ العقل لحظة انفتاحه على التجارب، يصبح مرتهنا للحس المشترك، وأيضا للعالم الرمزي الممضى من قبل هابتوس يوجد قبل ميلاد الكائن، يحدد مدى رؤيته وحِيَل تخارجاته الذهنية. إنّ الهابتوس(habitus) يعيق مسيرة العقل بعد أن يركن العقل إلى حالة التراخي والكسل، فيكتفي بتعاقدات تجعل العقل نفسه معطى سوسيو- تاريخيّا تحدد مداه العنايات العرفية والمعاقلات الثقافية والاجتماعية.

إنّ الهابتوس يفيض عن جُماع ما تراكم من عنايات ثقافية واجتماعية تتساكن داخلها دوائر هوياتية متشابكة، يتداخل فيها الكوني والخصوصي، فالثورة تبدأ من الوعي بتموضع الحس المشترك إزاء الهابتوس.

في أهم الفروق التي أشار إليها ليفي بروهل بين العقلين البدائي والأمم التي سماها متحضّرة، هو نفور الأولى من الاستدلال العقلي ومن العمليات المنطقية، على أن هذا النفور ليس ناتجا حسب بروهل من قصور طبيعي في الإدراك، بل هو ناتج من العادات العقلية. وهذا يؤكد على أنّ للعقل عاداته، وأنّه مسؤول عن الانتفاض على عادته، وهذا ما يتيحه التفكير الحرّ، أي أن يمنح المفكر للطبيعة فرصة مساءلة العادات العقلية. انتحار العقل في سجن عاداته يحول دون ما يمكن أن نسمّيها مجاوزة العقل للمعقول، متى أدرك أنّ شحنة المعقول ووتيرته بدأت تتراجع أمام إلحاحية اللاّمفكّر فيه. وذلك باعتبار أنّ المعقول هو تعاقد قابل للتعديل، فلا يوجد عقلانية مطلقة، بل يوجد فقط حسّ مشترك في حالة استئناف، وعقل في وضعية اشتباك لا حدود لها مع الواقع.

لم يعد إذن مهمّا  إدانة المفارقة وتدهور العمليات المنطقية في التفكير، بل بات من الضروري البحث في عِلل هذا التدهور، والنظر إليه بوصفه معضلة العقل نفسه حين تحصل المفارقة الكبرى: صدام بين العقل والمعقول.

وعليه، فإنّ النزاع القائم اليوم هو بين تمعقلات يبدو فيها العقل في حالة أسر واستقالة. الحديث عن العقلانية بات هو الآخر في شروطنا المعرفية-التّاريخية يواجه سؤال التعقيد، لأنّ الجدل القائم بين العقل والمعقول هو نفسه الشّكل الذي يتعين أن تسلك على طريقه حركة التنوير بشروطها الإبستيمولوجية قبل الإجتماعية والتاريخية، لأنّ تغالب التّمعقُلات أعاق انقلاب الذّهن على مقولاته، فلا تنوير بجدل التمعقلات، بل لا تنوير إلاّ بخلاص العقل من سجن ما استنفذ أغراضه من معقولاته. إنّ المعقول في حاجة دائمة إلى تدبير وصيانة، وهذا هو دور العقل التّاريخي.

أهي لعبة العقل إذن في هذا الطور من مسؤولية الكائن اللّعبي( homo ludens)، للعلاقة بين اللعب والرّهان (jeu et enjeu). فعن أي علاقة وعن أي رهان يتعيّن سياسة جدل العقل والمعقول؟ إنّ عقلا غير مستوعب لتحدّياته، لرهاناته، لما يفرضه عليه التعقيد المفرط للواقع، لا يمكنه إلاّ أن يستسلم لهذا الانتحار الذي يتقاسم المفاهيم ذاتها. فقط حينما تحتدم المعركة بين العقل والمعقول المستنفذ لأغراضه، ندرك صلابة المفاهيم، لكن حين تصطدم التمعقلات فيما بينها، فهي حتما تتشارك الرصيد نفسه من المفاهيم، وغالبا ما تنشقّ الأيديولوجيا عن وظيفتها لتملأ فراغ عقل في وضعية استقالة، هنا فقط تصوّر الأيديولوجيا لحظة هيمنتها على المعقول، تُصور نفسها عقلا مستنيرا، وتلك هي خدعة العقل المستقيل، حين يستكين لوضعيته تلك، وينتزع قيلولته خلف صخب الإيديولوجيات التي بها نحيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى