دراسات وبحوث معمقة

إيتيقا للنسيان، أو في “الاستخدام الحسن للنسيان”

*جان لومبار / ترجمة: عبد الوهاب البراهمي.

يذكّرنا هذا التقارب، من وراء بعده الشعريّ، بين ما قيل ومن هو أنت في ضرب من المشترك اللانهائيّ، بأنّ الوجود الفردي أو الجماعيّ يقودنا إلى اختيارات معقّدة بحسب إلزام مزدوج: من جهة ضبط الحِمْل المدمّر أحيانا للذكرى أو، الانتشار التاريخي بالنسبة إلى المجتمعات، ومن جهة أخرى منع الفراغ الواسع والعاطل والمدمّر الذي قد يقود إليه النسيان. يخترق هذا النقاش كامل أعمال نيتشه. فـ”أزير النسيان” L’”azur de l’oubli” المذكور في قصيدة ” الشمس تميل”، يلخّص الجزء الملائم للنسيان الذي، كما يقول ” يأخذه في أسلوب فرح” فرح النسّائين” (1)، لكن يوجد في الواقع نيتشه الفيلولوجي والأستاذ، الذي يؤكّد على الحاجة إلى النقل وإلى ضرب من “المعرفة بالماضي”، ونيتشه آخر، يصرّح، باسم حقوق مباشراتيّة الحياة، ضرورة فنّ للنسيان. يشير صدى صيحته” ليذهب كل الماضي إلى الجحيم”، إلى شعار فاوست غوته، الرياديّ لإنسانه الأرقى son surhomme، “لندع الماضي ورائنا”. ” من الممكن أن نحيا دون ذكرى ونكون سعداء، لكن من المستحيل أن نحيا دون نسيان”، كما يقول في “الاعتبار الثاني المفاجئ”، مؤلف له عنوان فرعي ذي دلالة ” في نفعية وسلبية الدراسات التاريخية بالنسبة إلى الحياة”. وبالرغم هذه التحذيرات التنبؤية النيتشوية، التي بينت تراجيديات القرن 20 فما بعد أساسها المتين، فإنّ الحداثة انتصرت لواجب الذاكرة وأنشأت طقسا للتذكّر دون حدّ، حيث يكون فيه طبعا للنسيان نقد مستمرّ. نحن في عصر يضع كلّ جهده في استدعاء الماضي ويقبل بسذاجة فكرة أنّ كلّ احتفاء خلاص. بيد أن للماضي تحديد مزدوج: هو في الآن نفسه ما كان وما لم يعد موجودا، هو حضور – غائب، وهو أيضا، كما رأينا، كيفية انطولوجية للنسيان والتذكّر. يحلّل القديس اغسطينوس هذه الثنائية في الكتاب العاشر، الفصل الثامن من” الاعترافات” إذ يقول: “ألتقي بنفسي، أتذكر نفسي”، أي أوجد بالزمن، عبر الكرونوس (الزمن). لكنه سرعان ما يشكو من أن تكون الذاكرة ” كبيرة إلى أقصى حدّ “، وأنها معبد شاسع ولا نهائي” (3)، حيث يوجد خطر الضّياع- وينسحب هذا التحليل على الوجود الاجتماعي وعلى الحقل السياسي. يوجد في صلب كلّ تساؤل عن الاستخدام الحسن للماضي، البحث عن توازن: موضوعُ إيتيقا للنسيان هو خلق التناسق بين واجب الذاكرة ونظيرها واجب النسيان. واجبان لا ينفصلان وليسا مألوفين لدينا. واجب الذاكرة هو مثار باستمرار اليوم وهو ما لا يمنع من سوء فهمه أو غموضه من بعض جوانبه.  يجب أن ندقّق أنه ليس معنيا بهذا الواجب على وجه العموم، إلاّ أولئك الذين لم يكونوا مباشرة لا شاهدا ولا ضحية لأحداث يجب على الذاكرة حفظها. إنّ الواجب الحقيقيّ للذاكرة هو الذي يمارس دون ذكريات. توجد حالات تمنع فيها حتى الذكرى الذاكرة. لا يمكن أن نثبّت لضحايا الهولوكست والمعسكرات بأيّ واجب.. يرتبط بقاءهم على العكس في حالات كثيرة، بضرب من النسيان أو يسمح لهم الامتناع عن التذكّر بالعثور على الإيمان بالوجود. وفي بعض الأحيان ليس لواجب النسيان حتّى أيّ معنى لأنّ النسيان مستحيل على أيّ حال. كتب إيلي ويسال Elie Wiesel  الناجي الوحيد من عائلة يهودية والشاهد الوحيد عما رأى وعاش، كتابا ليقول كل ذلك، سمّاه الليل وتضمّن بعض هذه الأبيات:” لن أنسى تلك الليلة، أولى ليالي المعتقل التي جعلت من حياتي ليلا طويلا(…) لن أنسى ذاك الدخان(…) لن أنسى قطّ هذا الصمت الليلي الذي حرمني إلى الأبد من الرغبة في الحياة(…). لن أنسى ذلك قطّ، حتى لو حكم عليّ أن أحيا طويلا حياة الإله ذاته. لن يكون ذلك قطّ.” ويبيّن ويسأل في قصّة “المنسيّ” كيف أن الذاكرة والنسيان يتداخلان وكيف أنّه يوجد نسيان مطلق، نسيان يتضمن نسيانا للنسيان. ويروي بريمو لوفي Primo Levi من جهته في كتابه “غناء إيليس” أنه كان قلقا بعدُ لوقت، في المعتقل الذي حبس فيه، أنه لم يعد يتذكّر حتى بعض الأبيات من الكوميديا الإلهية لدانتي التي يعرفها مع ذلك جيّدا، وانه انتهي به الأمر إلى عدم الحفاظ في ذاكرته المدمّرة سوى بشيء واحد: رقم التسجيل في المعتقل، الذي انبجس بالكاد من تحت أجزاء منسيّة. وربما كان ذلك حماية نوعا ما “طبيعيّة” من إعادة إحياء للشرّ. وبالمثل، وعلى نحو أكثر وعيا لكن لا نعرف شيئا يقينيا، ربّما كان جنود الخنادق للحرب العالمية الأولى ومحاربي الظلّ للحرب العالمية الثانية، قد احتفظوا غالبا ممّا عاشوه ورسخ لديهم، بحياءٍ أو بصمتٍ كانا نصيبهم الضروري من النسيان، وفي ذات الوقت بحذر مؤثّر تجاه قدرة أولئك الذين لم يعيشوا هذه الحرب عن أن يكوّنوا عنها تمثّلا. وفي هذا المعنى، فإنّ واجب النسيان هو خَصّيصة أولئك الذين يلتحمون بماض انقطع عنهم حتى يجعلوه حاضرا باسم ضرب من الحذر اللانهائي. إنه يغذّي باسم مثل أعلى للمعالم ذاكرة مفقودة.  هكذا يكون النسيان والذاكرة متلاحمين، ولهما معا مَكانهما الجدير في الوفاء. إنّ الحداد الذي كثيرا ما يثار اليوم، هو تحوّل على نمط الأثر بين الماضي والمستقبل، إنهاكٌ وخلاص، وصدمة تهدّم وتعيد البناء أو أيضا، في عبارات استخدمناها، بين الفقد والحفظ. يشتغل هذا المسار بذاته، إن جاز لنا القول، حتى لو أمكن  أن يُعترض عليه، وان يُرفض أو يُسرّع، إذ أنّ المجال واسع بين الأرمل الذي يعاني والأرملة السعيدة، نمطان قابلان للنقل خارج ميدان الاقتران حيث نشآ.

يتدخّل التساؤل حينما نستخدم النسيان في استراتيجيا، حينما نجعل منه ذراع التحكم في لوحة قيادة للزمن، بعد أن يُطلب منا: هل يجب التذكّر غالبا أم يجب النسيان؟ يميّز بول ريكور( في كتابه الذاكرة والتاريخ والنسيان) بين ثلاثة وضعيات كبرى تطابق ثلاث محاور لهذه الاشكالية:” النسيان والذاكرة الممنوعة”، ” النسيان والذاكرة المتلاعب بها” و” النسيان و الذاكرة المطلوبة”. والذاكرة الممنوعة، هي التي يذكرها فرويد في “الحداد والحزن”، وهي نسّائة للماضي وهي التي تُعيد بدل التذكّر. والذاكرة المتلاعب بها هي التي تستخدم في الردّ على قلق للماضي. فالجهد، على سبيل المثال، في إخفاء خصوصية الاحتلال وفترة فيشيvichy، التي تعتبر “لا قيمة لها وطريقا مسدودة”، مثلما بيّنتْ ذلك، مثلا، تحليلات إيريك كونان وهنري روسو في فيشي، لماض لا يمرّ. يكون عمل الذاكرة في كل من نمطيها مضلّلا أو يصبح مستحيلا. أما في الذاكرة المطلوبة فيوجد استخدام إرادي وحر للنسيان، نأخذه في غالب الأوقات مثالا للعفو دون أن يُختزل فيه، والذي يَستدعي أكثر من أيّ ذاكرة أخرى تحررا أصيلا. نرتكز فعلا على مرسوم يعلن من خلاله توصيف منتقى للماضي، على نسيان مؤسّسي. وليس من قبيل العبث أن يوجد تقارب بين ” العفو” ‘amnistie وبين نسيان amnésie: لهما ضرب من الاتفاق الضمني مع رفض التذكّر. هذا هو الرفض بوصفه فعلا إراديا ونتيجة لقرار يؤدّي إلى التلاؤم مع خصلة أخلاقية، من خلال التباين مع آثار النسيان التي يمكن أن نقول عنها طبيعية، النسيان من حيث هو مجرد نتاج للتاريخ. وفي هذه الحالة، يكون البحث عن النموذج السجلي matriciel في العهد القديم l’Ancien Testament مع فكرة العودة إلى الصفر في نهاية مرحلة معطاة. نفكّر في ” سنة التكريم الأبدي” لسفر التثنية” ( 15،1،18): ” ستلاحظ كل سبع سنوات الارتجاع”. يتضمن التاريخ تواريخ مهمّة للارتجاع الذي يُحدث محوا: مثلا “ليلة 4 أوت المشهورة” في بداية الثورة الفرنسية، وتشهد الرواية التي يقدمها ميشليه في كتابه تاريخ الثورة الفرنسية بشكل متقن بتغيير العالم الذي يحدث في بعض ساعات، في تكثيف مدهش للتاريخ. في هذا المشهد الذي قامت عليه هوية ومِخيال فرنسا الحديثة، قَلَبَ المجلس الدستوري، بواسطة قرارات متتالية كضرب من حلم اليقظة، تنظيما اجتماعيا محتفى به لمئات السنين للاستعاضة عنه بنظام جديد جذريا، محكوم بمبدأ المساواة أمام القانون. إنه نسيان تام ولا استردادي  للنظام الإقطاعي من خلال الإعلان عن إلغاء الامتيازات. لم يكن هذا النسيان مرغوبا فيه كما هو: لقد نتج عن قرارات اتُخِذت في علاقة بمُثُلٍ عليا اتضح في بعض اللحظات الحاسمة أنها مهيمنة، لكن لم يكن هذا النسيان هدفا مقصودا. يكون الأمر مختلفا حينما يتعلّق العمل مبدئيا بإلغاء علاقة معينة مع الماضي.  ولكي نبقى في تاريخ فرنسا، نحن نملك نموذجا مهمّا مع مرسوم نانت l’Édit de Nantes الذي وضعه هنري الرابع سنة 1599. فقد أعلن عن واجب النسيان بوصفه عملية سحرية لإلغاء الماضي لنقرأ الفصل الأول: ” لنقل، ولنصرح ولنطلب) أولا، أنّ تظلّ ذاكرة كل الأشياء الماضية من جهة إلى أخرى، منذ بداية شهر مارس 1585 إلى حدّ وصولنا إلى الحكم (…) ساكنة ومَغفيّة مثل أشياء لم تحدث”. ويتبع الفصل 2 جملة من المحظورات المباشرة وغير المباشرة تتضمن الإنكار للماضي:” نمنع جميع رعايانا(…)، تجديد الذاكرة والمواجهة والشعور والشتم واستفزاز أحدهم الآخر باتهامه بشيء من الماضي. 1. عدم التخاصم تحت أي مبرر كان بشأن الماضي ولا الاعتراض عليه والإهانة فعلا أو قولا، بل الرضا والعيش معا في طمأنينة كإخوة وأصدقاء ومواطنين خشية العقاب بتهمة اختراق السلم وإدخال الاضطراب على راحة عموم الناس”. هذا النص يستحق وحده تأملا طويلا ويمكن تخيّل تطبيق هذه الإجراءات على أيّ كان من النزاعات التي تدخل الاضطراب على المجتمعات الحديثة. أما المرسوم ذاته فنحن نرى أنه يرتكز على تبرير قِيَمي( سِلْم وأخوّة ومواطنة)، وهو ما يشير إلى نقاش إيتيقي، حيث وقعت مواجهة واقع الوضعية والنظام الأخلاقي للمرجعية. إنّ مثل هذه الممارسات ليست نادرة في بلدان تواجه العنف الدينيّ أو السياسيّ، لكنها تطرح مشكل استتباعات كلّ تدخّل في التاريخ. هناك مثال راهن هو اقتراح الحكومة الإسبانية عام 2006، سبعون سنة بعد ” الحرب الأهلية”، وتحت عنوان ” مشروع قانون للاعتراف وتوسيع نطاق الحقوق الإنسانية لضحايا الحرب الأهلية والديكتاتورية”. يعبّر هذا النص، حيث لا يوجد فيه لا كلمة ذاكرة ولا نسيان أيضا، عن حذر سلطة واعية بالقلق الذي توحي به مقولة الذاكرة التاريخية صلب مجتمع وريث للنسيان- نسيانا أورثته فترة حكم فرانكو  حيث يتعلق الأمر فيه بالثناء على النسيان، على نمط عودة. لاحظ فالتر بنيامين  أنّه يجب أحيانا أن ننسى مرات كثيرة حتى نتذكّر والتذكّر مرّات كثيرة حتى ننسى” ( 70). بيد أن النسيان ليس إلاّ أحد الأنماط الممكنة لمحوِ الماضي، تلك التي تلغي أو تعلّق ماض معين أو استخدامه الذاكرة له. نسيان آخر هو الصفح، الذي هو الآخر يمحو من وجهة نظر أخلاقية، بضمان غفران الأخطاء، لكن العفو يؤكّدّ، حينما يُمنح هكذا، وجود الشرّ ويزيل عنه فكرة الذنب. النسيان والصفح حاضران، وفق نسب متغيّرة- في المضاعفة الراهنة لمشاهد التوبة، والاعتراف بالأخطاء والصفح والاعتذار: تعترف الجمهورية بماضيها الاستعبادي، وتقرّ الكنيسة بفترات معاداة للسامية، ويقدّم الوزير الأول الياباني اعتذاراته للكوريين والصينيين لعنف سنوات 30 و40، وقد وضعت دولة جنوب إفريقيا إجراء للحقيقة والمصالحة، دون الحديث عن كلّ ضروب الديكتاتورية، في أمريكا اللاتينية أو في أماكن أخرى. نرى أن الزمن هو المقصود في عدّة مستويات، إذ يتعلّق الأمر دائما بإلغاء تام نوعا ما للماضي، إلغاء يهدف إلى جعل المستقبل ممكنا. يوجد رابط جدّ قوي بين الصفح والهبة، نتبيّنه بوضوح أكثر في معجمية انجليزية مع القرابة بين forget، forgive. (الصفح والنسيان). إنّ قرار الصفح  أو مرسوم النسيان لا يكون تحليله مثل أريحية خالصة بل بوصفه هبة يستدعي هبة مضادة: هنا نهاية المعاداة، إرساء مقتضيات حسنة، وربّما خلق رابط جديد.  إنّ هذا الوجه المتفائل لنسيان تأسيسيّ، وهذا المقصد الإنساني، هو المعيار الأوّل الذي علينا الاحتفاظ به من إيتيقا النسيان.  وبالفعل،  فإنّ النموذج المطلق على نحو ما، لتدخّل في الماضي، ذاك الذي يحمل في ذاته الأساسيّ من استراتيجية للذاكرة، قد نشأ عن الديمقراطية الأثينية وبالتالي في الحقل السياسيّ، لكنه قد يوفّر شبكة لقراءة أكثر اتساعا، تمسّ إبستيمولوجيا وأخلاق كلّ ممارسة معقولة للنسيان. نحن في أثينا في نهاية الرابع قبل الميلاد. مات بيريكلاس منذ 25 سنة.  عام 404 هو نهاية حرب بيلوبينيس واستسلام أثينا. فرضت اسبرطة شروطا صارمة: فقدت أثينا أسوارها وأسطولها البحري وممتلكاتها الخارجية. واستولى الحزب المضاد للديمقراطية، والمدعوم من اسبرطة، على السلطة، فكان نظام الثلاثين، حكومة اوليغارشية مكونة من ثلاثين قاضيا، علقت العمل بالديمقراطية. وسرعان ما آل هذا الحكم الأوليغارشي إلى الاستبداد والعنف: أضرار لا تحصى لحقت بـ300 جندي، وحاملي السّوط، وانتهاكات للحامية التي تركتها إسبرطة في موضعها. ” يقيم العدوّ على أرض المدينة” يقول كلود موسييه، وفي الجملة فهو الاحتلال – مؤسسة العشرة، المكلفة بحكم منطقة بيرايوس، المعقل التقليدي للديمقراطيين، سلسلة الإعدامات للموطنين الأثرياء الذي صودرت ثرواتهم، ثمّ تأتي بعد ذلك بقليل مجزرة في حق سكان إليوسيس.

في عام 403 وبعد بعض أشهر إذن: تخوض أثينا تجربة الحرب الأهلية. وقعت ملاحقة القضاة الثلاثين. وانتخب بدلا عنهم عشرة، لتشيّد الديمقراطية من جديد. وبعودة الديمقراطيين إلى الحكم قرّر هؤلاء بأن يوضع حد للانقسامات التي عرفتها أثينا والالتفات إلى الوحدة. صدر قرار، لن يكون بموجبه العودة إلى هذا الماضي الأليم الذي انتهى للتوّ. لا يجب تذكّر الموت، والعنف والظلم والحرب. ومطلوب من جميع المواطنين أي كان انتمائهم، نسيان هذا الشرخ، والمصالحة (كل مصالحة هي في جانب منها مكونة من نسيان متفق عليه) وضمان، بفضل استخدام حسن لذاكرتهم، السعادة ومستقبل أثينا:” أن يتبادلوا فيما بينهم موضوعات غبطة في فكر صداقة جامعة”، كما تقول مسرحية ” الضارعات” إسخيلوس Eschyle في أمنياتها للمدينة. وبالفعل فلإجراء الذي وضعه المرسوم 403 مزدوج. يوجد أولا المرسوم نفسه، الذي يرسم طريق النسيان ويُلزم به المدينة، والذي، من حيث هو كذلك، هو وصفة في صورة قصوى. فالأمر يتعلّق بعدم إحياء جروح ما زالت مفتوحة والبقاء بعيدا عن الشرّ. ولتجنب تأبيد النزاعات، لابد من معرفة التوقف في الوقت المناسب. قال بيريكلاس في ختام ابتهاله الشهير بعدُ، للأثينيين في جملة شديدة الكثافة الدلالية:” الآن، وقد أسَلْتم دموعا على أولئك الذي فقدتموهم، انسحبوا “. وبوضوح: اعرفوا كيف تبقون هنا. تبدو هذه الحكمة المدنية أيضا في حكاية مروية عن هيدرودوت: عرض الدراموتورجي فرينيكوس مسرحية تراجيدية، القبض على ميليه، فملء المسرح بكاء. فحكم عليه الشعب بخطية مالية ألف درهم لتذكيره الجمهور بمآسيه. فقد اعتبر التذكير بالمآسي دون ضرورة لدى الإغريق بثاّ للفتنة.

تعبّر إيتيقا النسيان في معيار ثان، عن مقتضى التقدير، وتجنب كلّ مبالغة قاتلة في استخدام الذاكرة. ضرورة النجاح في إيجاد توازن بين التضحيات المقدمة للآلهتين ” الليتي ” و” منيموسين” Léthè et Mnémosyne   آلهة النسيان والذاكرة. إذ ليس النسيان دوما جوابا، فهو لا يمحو كلّ شيء. يوجد ضبط قائم في جورجياس أفلاطون:” إذا كان الظلم الذي ارتكبناه يستحق ضربات، يقول سقراط، ” فلابدّ من نستسلم للضرب، وإذا ما استحق الأغلال استسلمنا لها، وإذا ما كانت خطية مالية وجب دفعها، وإذا كان النفي فلننفى، وإذ ا كان الموت فلنمت”.  وفي النهاية، يوجد من وراء المرسوم، التطبيق الشخصي للإجراء: كلّ مواطن يجب أن يؤدي اليمين بالاسم، وان يَعِدَ بأن لا يُذكّر بويلات المدينة، خشية العقاب المخصص لشهادة الزور. نجد هنا نقطة أساسية تَسِمُ أيضا قسم أبوقراط، الأهمية القصوى للقسم ( هوركوس)في العالم الإغريقي القديم. والخطأ الأساسي هو التذكّر، أي حرفيا التذكير بالآلام والشرور، لكن القَسَمَ المُؤدّى بعدم ارتكاب هذا الخطأ يطابق اختيارا حرّا من المواطن، لقرار شخصي. نجد هنا إيتيقا الالتزام واحترام الذات: سيكون المعيار الثالث نسيانا مسئولاتوجّهٌ لأملٍ إنسانوي، وسط ( بين ” الذكرى التي تجعل الماضي حاضرا بحرية “، كما يقول كانط، والنسيان حينما يجعل الماضي غائبا بكل حرية)، ومقتضى المسؤولية، هي ثلاثة عناصر لتساؤل إيتيقي عن النسيان يمكننا استخراجها من قراءة مرسوم عام403ق.م، إجراء تاريخي أول للنسيان في الديمقراطية. وليست العناصر الوحيدة الممكنة لكنها تمثّل أوّل غربال للتفكير في التصنيف بحسب فئات النسيان، نسيان – الإغفال، نسيان- الكبت، نسيان – المنع، نسيان – التلاعب، نسيان التدمير، الخ، ثم تصنيفا وفق مختلف المباحث مثل النسيان والسياسة والنسيان الأخلاق، والنسيان والتربية، الخ، ومختلف درجات النسيان، النسيان عديم الضرر إلى الذي يكشف الأسوأ، إلى حدّ تصوّر الخطّ الذي يفصل الماضي الذي علينا نسيانه عن الماضي الذي علينا الحفاظ عليه- والحفاظ عليه هنا لا يعني إثارته كلّ الوقت، ناهيك عن تكراره وتفعيله باستمرار. هكذا حلل فانكيلكروت Finkielkraut ما سمّاه ” الحرب المريعة للذاكرة التي هاجت اليوم”. ذهب فانكيلكروت إلى أوسويتش Auschwitz  فوجدها ممتلئة بالسيّاح، وقد تحولت إلى نوع من” بلد البؤس “. فاستنتج بأنّ ” تقدير هذه الأماكن، هو عدم الذهاب إليها”. وبالفعل، فليس من الضروري النسيان ولا حتى الحفاظ على الصمت، ومن عظمة النسيان أحيانا، التعبير عبر صمت ظاهر عن احترام للمقدّس، تستطيع الذاكرة الصاخبة تدنيسه. ويلاحظ فانكيلكروت أيضا بأننا نتمثل بشكل أفضل الأشياء ( وبالتالي بطريقة ما نتذكّر بشكل أفضل، وخاصّة تذكّر ما لم نعشه نحن) بقراءة بريمو لوفي Primo Levi أكثر من زيارة المعسكرات. هذا يفصل ببساطة الذاكرة عن الاشتغال على الذاكرة. وهذا الاشتغال يسمّى تاريخا. وعلى خلاف المظاهر، فالتاريخ هو نقيض الذاكرة. تُقيم الذاكرة علاقة انفعالية مع الماضي، فهي تجعله يستمرّ، بينما ” يؤسّس التاريخ منذ بداية اللعبة مسافة”. لا يتطابق التاريخ، الذي يتزامن اختراعه من الإغريق مع المرسوم 403، الذي عرفه توسيديديز Thucydide، لا يتطابق مع كراس الذكريات ولا الشهادات أو الآثار: إنما هي معرفة تُمثّل توازنا بين سوء استخدام الذاكرة وفقر الذكرى المفقودة.  إنه يحتفظ بالماضي لكنه ينساه بوصفه كذلك ويمنحه حقيقة حاضرة. وتعُبّر الأسطر الأولى للحرب البيلوبينوزية Péloponnèse  لتوسيديديز عن هذا التملّك المستنير والهادئ للزمن الذي يميّز جيّدا المؤرخين والمخرجين والسحرة المبتدئين في الماضي، تحت غطاء الاحترام  والثناء، للعب بذاكرتنا:” حكى توسيديديز عن حرب البيلوبينوزيين والأثينيين” (…) ” وما هو مركّب هنا، هو مكسب للأبد، أكثر منه مقطعا للحكاية عن اللحظة”(86). هذا الماضي، موضوعا عند التقاطع بين الذاكرة والنسيان وبالتالي ثابتا يجعل منه المؤرخ موضوع رواية، هو أيضا نقطة انطلاق نحو المستقبل، في المعنى الذي، بحسب صيغة فارنان برودال،” كان فيه شرطا للوجود”.

إنّ فلسفة للنسيان مثل التي وقع توضيحها، عن الوجود وعلاقته بالماضي، لها أيضا بعدٌ غير منتظر أكثر، علاقتها بالمستقبل. وبالمناسبة، في عام 399 ق. م، أربع سنوات بعد وضع الديمقراطيين لمرسوم النسيان، سيتدخّل نسيان لهذا المرسوم سيكون له آثارا لامتناهية: “…عام 399 ق.م، أقام ديمقراطي اسمه “أنيتوس” دعوى ضدّ سقراط لمحاكمته، وهو الذي كان ينقد الديمقراطية أحيانا بصرامة، ليحصل هذا المدعي في النهاية على حكم بإعدام سقراط. وستكون بالمناسبة آخر كلمات سقراط وقد أثّر فيه السمّ، هي طلبه من أصدقاءه عدم النسيان، قائلا لهم: ” لا تكونوا غير عابئين”، أي ليس في معنى تذكّروا تحديدا، ولكن حرفيا لا تكونوا مُهْمِلين. إنّ النسيان، خطر ورجاء، تهديد مضاعف للتهديد المقابل لعالم لا يَنْسى، علامة تراجيدية للزمانية على وجود البشر، وشرط، كما الذاكرة، للحرية والتقدّم، يؤدّي إلى إلزام ذي طبيعة أخلاقية، واجب اليقظة الذي استودعه سقراط أصدقاءه، أي في النهاية الفلسفة والمدينة، هذين الاختراعين للإغريق اللذين يخوّلان لنا، إلى اليوم، أن نمنح أفقا للأشياء”.

_____
*جان لومبار ” فلسفة النسيان ” محاضرة ألقيت يوم 26 سبتمبر  2019 بمكتبة آلان لوران في سان دينيس ( ريونيان).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى