فلسفة وميتافيزيقا

ما هو التاو؟

ما هو التاو؟

 

تأليف: ألان واتس

ترجمة: د. رمزي صالحة

 

 

 

يقدّم كتاب “ما هو التاو؟” رؤية معمّقة لفلسفة التاو بوصفها ممارسة في العيش والتناغم مع حركة الطبيعة ومع العالم كما هو. ينطلق ألان واتس من فكرة أساسية مفادها أن الإنسان المعاصر أصبح محاصرًا في شبكة من المعتقدات الثقافية الصلبة التي تقف على النقيض من التدفق الطبيعي للحياة. وبالتالي يهدف الكتاب إلى تحرير القارئ من وهم السيطرة المفرطة، والعقلانية القسرية، والهوية المنفصلة عن الكون. يقوم التاو على الإدراك الباطني بأن الواقع ليس موضوعًا خارجيًا نواجهه، بل عملية حية نحن جزء منها، وأن الطريق إلى الحكمة يكمن في “اللافعل”، أي عدم القسر ومجاراة التيار المنسجم للطبيعة.

 

أصل الفكرة التاوية وطبيعتها

 

يبيّن واتس أنّ جذور الطاوية تمتد إلى العالم الشاماني في الصين القديمة، حيث كان الإنسان قريبًا من الأرض ومن الإيقاع الفصلي للأشياء. لقد رأى القدماء في الطبيعة معلّمًا أوليًا، يعلّم الصبر والتواضع والانفتاح على التحوّل. ومن هنا ظهر مفهوم “الطريق” الذي لا يفرض نفسه بواسطة إرادة الحديد، بل يتحقق من خلال الإصغاء العميق والتفاعل الذكي مع الوجود. يقارن واتس بين هذه النظرة وبين التقاليد الغربية التي غالبًا ما تسعى إلى تغيّر الطبيعة والسيطرة عليها، فيما تدعو الطاوية إلى فهمها والتكيّف معها. التاو هنا ليس قانونًا مفروضًا، بل ديناميكية رشيقة تمنح الأشياء شكلها من دون تدخل خشن.

 

الإنسان والهوية في ظل التاو

 

في هذا القسم يطرح واتس نقدًا لاذعًا لمفهوم الهوية الفردية كما تشكّل في الحداثة. يتساءل: من نحن حقًا؟ هل نحن كيان معزول داخل جلدٍ محاط بحدود؟ يجيب بأن هذا الوهم يولّد الاغتراب والقلق. التاو يدعونا إلى إدراك أن الهوية ليست كتلة صلبة، بل تدفق مستمر يشبه موجة لا يمكن فصلها عن البحر. يشرح أن الإرادة الحرة ليست قوة تُمارس على الطبيعة، بل طاقة تتكشف معها، وأن الحكمة ليست في العناد، بل في الانسجام. يشبّه واتس هذا المبدأ بحركة الماء: طيّع، ولكنه قادر على نحت الصخور عبر الزمن، ولذلك فإن المرونة أقوى من الصلابة. هذا الطرح يعيد تعريف الحرية بوصفها انسجامًا مع الذات العميقة، لا هروبًا من القوانين الطبيعية.

 

اللافعل (وو وي) ومعنى عدم التدخل

 

يحلّل واتس مفهوم “وو وي”، وهو أحد أعمق مفاهيم الطاوية وأكثرها سوء فهم لدى القراء الغربيين. اللافعل لا يعني الكسل أو التخلي عن المسؤولية، بل يعني الامتناع عن مقاومة التدفق الطبيعي للأحداث والعمل من داخل إيقاعها. الإنسان الذي يمارس اللافعل يشبه الحرفي الذي يشق الخشب بمحاذاة الألياف، لا ضدها. هو فعل ينساب بانسيابية، كحركة رامي السهام حين يصبح الهدف امتدادًا لإحساسه الداخلي. بحسب واتس فإن المجتمعات الحديثة تسير بعكس هذا المبدأ عبر التخطيط المفرط والعقلانية المُجدِبة التي تحوّل البشر إلى آلات. أما التاو فيقدّم ذكاءً عضويًا، يعرف متى يتقدّم ومتى يترك الأمور تنضج لوحدها.

 

الطبيعة والكون والصيرورة

 

يُقدّم واتس رؤية كونية ترفض الفصل بين الإنسان والطبيعة. في الطاوية الكون ليس سيارة تحتاج إلى سائق، ولا آلة عمياء، بل وجود حي يتنفس ويتغيّر. كل موجود يجد طريقه وفق قوانين خفية تعمل بلا مركز ولا سلطة. وعندما يحاول الإنسان تغيير جوهر هذا النظام فإنه يزرع الفوضى في نفسه قبل البيئة. لذلك تصبح العودة إلى الطبيعة عودة إلى البساطة، إلى الحكمة التي نسيها الذهن وسط ضجيج المدنية. يدعونا واتس إلى التعلّم من الأنهار والغيوم والرياح، فهي لا تخترع طريقها بل تكشفه وتتبعه.

 

اللغة وأسرار التاو

 

ينبّه واتس إلى أنّ اللغة البشرية بطبيعتها تميل إلى التجريد والتقسيم، بينما التاو متدفّق لا يمكن تثبيته في تعريف. لذلك وصفه الحكماء بأنه “الذي لا يمكن تسميته”. شرح التاو بالكلمات يشبه محاولة التقاط الريح في قبضة اليد، وما نحتاجه ليس الفهم المنطقي فحسب، بل التجربة الداخلية. هذا الجانب يجعل التاو فلسفة عملية أكثر من كونها نظرية؛ يجب أن تُمارس لتُفهم. ومن هنا نفهم السبب وراء عيش واتس في كوخ جبلي، حيث الهدوء يسمح لجوهر الأشياء بأن يتكلم.

 

الخلاصة الختامية

 

ينتهي الكتاب إلى أن التاو ليس فكرة تُضاف إلى رصيد المعلومات، بل منظور يعيد تشكيل علاقتنا بالعالم. هو دعوة إلى الثقة بالتدفق الكوني، والتخلّي عن وهم السيطرة، وإدراك أن الكينونة شيء نتشاركه مع الكون، لا نمتلكه. في عالم غارق في السرعة والضغط، يقدّم التاو مسارًا للتحرّر الداخلي، حيث يصبح الفرد أكثر انسجامًا مع ذاته ومع البيئة. إن الطريق إلى الحكمة، بحسب واتس، لا يتم بإرادة قسرية، بل باحترام الحركة الطبيعية للأشياء، والإنصات إلى ما يقوله العالم عندما نتوقف عن الصراخ فيه.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى