دراسات وبحوث معمقة

فطرية الإيمان: كيف أثبتت التجارب أن الأطفال يولدون مؤمنين بالله؟

فطرية الإيمان: كيف أثبتت التجارب أن الأطفال يولدون مؤمنين بالله؟
– تأليف: Justin L. Barrett – جستون ل. باريت
الفكرة العامة للكتاب
يسعى جستون باريت، أحد أبرز الباحثين في علم الإدراك الديني، إلى الدفاع عن أطروحة مفادها أن الإيمان ليس فكرة مكتسَبة ثقافيًا بالكامل، ولا نتاج تعليم ديني أو توجيه مباشر، بل هو نزعة فطرية تنمو بشكل طبيعي في ذهن الطفل، تمامًا كما تنمو لديه القدرة على تعلّم اللغة أو تمييز الوجوه أو فهم العلاقات السببية.
يرتكز الكتاب على عشرين عامًا من التجارب النفسية والمعرفية التي أُجريت على أطفال تتراوح أعمارهم بين تسعة أشهر وبضع سنوات، ويعرض لنا باريت كيف أن البنى الإدراكية المبكّرة لدى الأطفال تقودهم تلقائيًا إلى الاعتقاد بأن للعالم صانعًا قصديًا ذا علم وقدرة، وأن هذا الصانع مرتبط بالخير وبالصواب الأخلاقي.
المحاور الرئيسية
1. العقل الطفلـي كمنظومة باحثة عن الغايات والمعنى
يؤكد باريت أن أدمغة الأطفال مهيّأة للبحث عن غرض وراء الأشياء. فحين يرى الطفل جسمًا يتحرّك، أو حدثًا له نتيجة واضحة، فإن أول ما يفترضه هو وجود فاعل خلف هذا الحدث. هذا الميل الطبيعي إلى الغائية لا ينشأ عن تعليم، بل يظهر في عمر مبكر جدًا، قبل أن تتشكّل لدى الطفل أية تصورات دينية اجتماعية.
ومن خلال سلسلة من التجارب التي استخدم فيها الباحثون دمى متحركة، أو كرات تغير اتجاهها، أو ألعابًا تتصرف على نحو مفاجئ، تبيّن أن الأطفال ينسبون وراء كل حركة مقصودة “عقلًا” فاعلًا. هذا الاستعداد المعرفي يمهد لفكرة وجود خالق يفسّر العالم، لأنه ينسجم مع توقعات العقل الطفلي حول أنظمة كونية مقصودة وليست عبثية.
2. الحدس السببي ودوره في الإيمان بخالق
يقدم الكتاب تحليلًا معمقًا للطريقة التي يفهم بها الطفل العلاقة بين السبب والنتيجة. فالأطفال يرفضون، بشكل شبه غريزي، فكرة أن الأشياء تحدث “من تلقاء نفسها”.
في تجربة شهيرة عرضها باريت، يرى الأطفال كرة تتحرك فجأة دون أن يلمسها أحد، فيُظهرون استغرابًا واضحًا ويبحثون عن فاعل خلف الحدث.
من هنا، يوضح المؤلف أن “الإلحاد السببي” – أي الاعتقاد بأن الأشياء تحدث بلا سبب – هو موقف يحتاج إلى تدريب واستدلال لاحق، في حين أن الإيمان بفاعل أول يبدو أكثر انسجامًا مع التكوين العقلي الأولي.
3. تصوّر الأطفال للـخالق: قدرة مطلقة وعلم غير محدود
تبيّن التجارب أن الأطفال لا يتصورون الخالق ككائن يشبه البشر.
بل يفترضون ابتداءً أنه كيان غير مرئي، غير محدود القدرات، متجاوز للزمان والمكان.
حتى عندما يُسألون أسئلة مثل: هل يمكن لهذا الكائن أن يرى كل شيء؟ أن يعلم ما يخفيه الناس؟ أن يخلق شيئًا من لا شيء؟
كانت الإجابات تأتي – عبر ثقافات مختلفة – لتؤكد النزوع نفسه.
هذا ما يسميه باريت “الحدس اللاهوتي الفطري”، وهو حدس غير مبني على تلقين، بل على بنية معرفية تميل إلى تصور وجود “عقل خارق” يتجاوز خصائص البشر.
4. الارتباط الفطري بين الالوهية والأخلاق
يتناول باريت جانبًا آخر بالغ الأهمية: ميل الطفل لربط الفاعل الكلي الخير بالقيم الأخلاقية.
فالطفل يدرك بسرعة أن بعض السلوكيات “جيدة” وأخرى “سيئة”، ومع تطور فهمه لمسؤولية البشر عن أفعالهم، يصبح من الطبيعي بالنسبة له أن يتخيل وجود “مقياس أخلاقي أعلى” يتجاوز البشر.
بهذا يصبح الاعتقاد بـ“إله أخلاقي” نتيجة منطقية لتطور إدراك الطفل للعدالة والقصد والجزاء.
5. الانتشار العالمي للدين عبر التاريخ: تفسير إدراكي
يستنتج باريت أن وجود بنى معرفية مشتركة لدى البشر في مختلف الثقافات يفسّر سبب انتشار الاعتقاد بقوة عليا خالقة عبر التاريخ الإنساني.
فإذا كان العقل الإنساني – منذ الطفولة – مهيّأ لرؤية العالم كمفعول لفاعل قصدي حكيم، فإن انتشار الأديان يصبح ظاهرة قابلة للفهم ضمن إطار التطور المعرفي.
الخلاصة الختامية
يقدّم كتاب «فطرية الإيمان» رؤية علمية رصينة تُسهم في نقاش قديم حول أصل المعتقد الديني عند الإنسان.
فبدل النظر إلى الدين كنتاج خارجي يُفرض على الطفل من المجتمع، يكشف باريت من خلال تجارب مخبرية دقيقة أن العقل البشري منذ بداياته الأولى ينزع إلى الاعتقاد بوجود قوة عاقلة مصمِّمة للعالم، وأن التفكير الغائي، والبحث عن السبب، والإيمان بالعدالة الأخلاقية، كلها ملكات فطرية تُنتج لدى الطفل صورتَه الأولى عن “الخالق”.
وبذلك يعيد الكتاب رسم العلاقة بين الطبيعة البشرية والإيمان، ليبيّن أن التدين ليس استثناءً، بل استجابة معرفية أصيلة لطريقة اشتغال العقل الإنساني.

المصدر:

سالم يفوت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى