ميتافيزيقا المثنَّى
ميتافيزيقا المثنَّى
دُربة العارف إلى توحيد الله وتوحيد العالم
د. محمود حيدر*
*مفكِّر وباحث في الفلسفة والإلهيَّات- لبنان.
ملخَّص إجمالي:
مسعى هذا البحث الذي بسطناه تحت عنوان “ميتافيزيقا المثنَّى”، هو التعرُّف على واحدة من أهمِّ وأبرز معضلات علم الوجود، عنينا بها الكيفيَّة التي قُورِبَ فيها الموجود الأول وظهور المكثّرات الوجوديَّة. ولأنَّ مقتضى المسألة جلاءُ حقيقة التوسُّط بين الله والعالم، فقد ابتنينا مسعانا على فرضيَّة وجود موجود بَدئي بسببه ومنه ظهرت الموجودات على تنوُّعها واختلافها وتنوُّعها وتكثُّرها الَّلامتناهي. وهذا الموجود البَدئيُّ هو ما سنمضي إلى نعته بـ “المثنَّى”، نظرًا لأنَّه الكائن الأوحد الذي يجمع إلى فرادته خاصِّيَّة البساطة والتركيب في آن. هنا سوف نتبيَّن مشكلًا محوريًّا يعكس أساسًا لمعضلة كبرى في عالم الميتافيزيقا، إذ غالبًا ما مزجت الفلسفات غير الوحيانيَّة بين هذا الكائن والله. ومن ذلك نشأت معضلة المكوث المستدام في السؤال عن ماهيَّته وكيفيَّة ظهوره ونسيان كونه موجودًا بالتبعيَّة لموجِده. وأمَّا الإنسان الذي هو نقطة الدائرة في حضرة المثنَّى، فإنَّما هو نظير الكون الأكبر الحاوي للموجودات كلِّها، وسيكون عليه أن يتولَّى تنجيز مهمَّته العظمى في الاستخلاف. ومبتدأ هذه المهمَّة ركنان متلازمان: توحيد الخالق وتوحيد المخلوقات. فإذا كان مقتضى الأول توحيد الخالق بتنزيهه عن الثنائيَّة والتركيب، فمقتضى الثاني توحيد الخَلق، وتدبير حاجاتهم على كثرتها وتنوُّعها واختلافها.
مفردات مفتاحيَّة: المثنَّى – توحيد الله – زوجيَّة العالم – الحقُّ المخلوق به – الخلق الأول – المطلق المحدود – علم البَدء – علم كان.
التمهيد إلى معنى المثنَّى:
المثنَّى موجود أزليٌّ دلَّ عليه الكلام الإلهيُّ بالخلق الأول.[1] وهذا الموجود المفطور على الزوجيَّة مؤلَّف من زوجين متَّحدين في واحد كلِّيّ. وهذا التوحُّد هو في طبيعته التكوينيَّة قائم على وحدة أضداد ينتظمُها تدافعٌ وتضادٌّ أبديَّان في ما بينها؛ وتلك سَيْريَّة جوهريَّة تحفظ تنامي المخلوقات وتجدُّدها المستدام. والمثنَّى زوجٌ ينثني كلٌّ من زَوْجَيه في نظيره ويتكاملان معًا. ولا ينأى ما تقصده العلوم الإلهيَّة في الزوجيَّة المؤسِّسة لعالم الخلق، عمَّا ذهبت إليه بعض مذاهب الحكمة القديمة باعتبار الزوجيَّة مبدأ تفسير الكون وفهم أسراره. من ذلك يمكن أن نستذكر على سبيل المثال، ثنائيَّة الأضداد وتعاقبها عند اليونان القدماء، أو ثنائيَّة الواحد وغير المتناهي عند الفيثاغوريين، أو عالم المُثُل عند أفلاطون… إلخ. لكن من المفيد الإشارة إلى أنَّ الثنويَّة التي قالت بوجود أصلين للوجود، ولكلٍّ منهما وجود مستقلٌّ في ذاته، ومن غير هذين الأصلين لا يمكن فهم طبيعة الكون[2].. إنَّما هي ثنويَّة تختلف جوهريًّا عن المثنَّى كمخلوق حاوٍ للمخلوقات ذات النشأة الواحدة[3].
- الماهيَّة الأنطولوجيَّة للمثنَّى:
في المقام الأنطولوجيِّ ينفرد المثنَّى بما هو جوهر بَدئيٌّ للكون، بالقدرة على الربط بين الظواهر المتضادَّة التي يُتَوهَّم أنَّها منفصلة. فالتضادُّ في المثنَّى رابطة تماثل وتكامل وانسجام وهو نفيٌ للتناقض والتشظِّي. ذلك بأنَّ الحالتين المتضادَّتين إذا تتالتا، أو اجتمعتا معًا في المدرِك نفسه كان شعوره بهما أتمَّ وأوضح، وهذا لا يَصدُق على الإحساسات والإدراكات والصور العقليَّة فحسب، بل أيضًا على جميع حالات الشعور كالَّلذَّة والألم. وكما في التعريف الشائع، فإنَّ الأشياء تتميَّز بأضدادها، وقانون التضادِّ هو أحد قوانين التقابل (opposition) الذي يدلُّ على علاقة بين شيئين أحدُهما مواجِهٌ للآخر، أو علاقة بين متحرِّكين يقتربان سويَّة من نقطة واحدة، أو يبتعدان عنها. في المنطق، يأخذ التقابل وجهين: أحدهما تقابل الحدود، والآخر هو تقابل القضايا. فالمتقابلان في تقابل الحدود هما الَّلذان لا يجتمعان في شيء واحد، في زمان واحد[4]. ومن هنا نستطيع أن نستظهر التمايز الجوهريَّ بين وجهَيْ التقابل، حيث يستوي المثنَّى كقضيَّة تعرب عن الواحديَّة الحاوية للتعدُّد، وكنقيض للإثنينيَّة كما سيتبيَّن لاحقًا.
ثمَّة إذن، فارق تكوينيٌّ بين ماهيَّة المثنَّى المتأسِّسة على التناغم والانسجام الذاتيِّ، والإثنينيَّة المُنبَنِية على جدل الاختصام والتناقض. مؤدَّى الأطروحة: أنَّ كلَّ تناظرٍ بين متقابلين في الإثنينيَّة آيلٌ إلى التنابذ والفِرقة، بينما كلُّ الأشياء في حضرة المثنَّى محمولة على الانسجام والجمع؛ ذاك بأنَّ زوجيَّة المثنَّى لا تعمل إلَّا وفقًا لقانون التكامل، ولأنَّها كذلك فإنَّ سعيها نحو الوحدة يجري طبقًا لمبدأ الامتداد الجوهريِّ في الواحديَّة الجامعة للكثرة والتنوُّع. وعلى أساس هذا المبدأ الساري عبر الانسجام والتناسب بين أضداد المثنَّى لا يعود ثمَّة قطيعة في ما بينها، بل تكاملٌ، وتفاعلٌ في الآن نفسه. أمَّا مصطلح القطبيَّة فيقول بوجود ثنائيَّة أصليَّة لها قطبان متعارضان، في كلِّ شيء، ولكنَّهما متعاونان، ولا قيام لأحدهما من غير الآخر. ومن تضادِّهما، وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود وتستمرّ[5]. في النفس البشريَّة تجتمع ثنائيَّات خلَّاقة كامنة في أغوار النفس الإنسانيَّة. فالحياة غريزة واضحة الأثر في حركاتنا وسكناتنا، والموت غريزة ماثلة أمام أعيننا، والسواد والبياض موجودان جنبًا إلى جنب في الحياة، ويمكن القول: إنَّ مظاهر الحياة كلِّها هي نتيجة ذلك التجاذب بين قطبَي هذه الثنائيَّة[6].
يُستفاد ممَّا ذُكِر، أنَّ التحامًا جوهريًّا بين الأزواج قد حلَّ في حضرة المثنَّى. فلا يستطيع أيٌّ من عناصره أن ينفكَّ عن نظيره انفكاكًا تامًّا. هما من نفس واحدة، لكنْ لكلِّ فردٍ في الكثرة الأصليَّة نفسٌ فرعيَّة تدبِّر له أمره ويتدبَّر بها شأنه، إلَّا أنَّه لا يقدر على أن يبرح عالم الزوجيَّة والقوانين الكلِّيَّة التي تنتظمه. أمَّا الوجود الوحيد الذي لا ضدَّ له، بسبب تعاليه على الثنويَّة والمثنَّى في آن، هو ما يسمَّى أحيانًا الحقيقة الغائيَّة، أو الذات الإلهيَّة، أو المبدأ الإلهيّ. في حين أنَّ العمليَّة الخَلقيَّة أو فعل إيجاد العالم يستلزم التضادَّ بطبيعته. حتى في النظام الإلهيِّ الذي يكتنف فضلًا عن الذات المتعالية أو الواحد المطلق، هنالك توسُّطات- أو حسب التعبير العرفانيِّ الإسلاميِّ أسماء وصفات إلهيَّة – يمكن عن طريقها معاينة الكثرة، ونظام الضدِّية الذي تحتكم إليه. ويجوز القول تبعًا لمبدأ التوسُّطات المشار إليها، أنَّ دائرة الأسماء والصفات الإلهيَّة هذه هي التي تنطلق منها مساحات النسبيَّة. ولذا، فإنَّ ظهور أشياء هذا العالم كافَّة، وهي الصادرة عن الأمر الإلهيِّ، إنَّما يتمُّ عن طريق أضدادها[7]. وبهذا، فالحياة في عالم الظهورات، أو في مرتبة التجلِّي، حياة سارية في عالم أضداد لا ترتفع إلَّا في الوجود الجامع للأضداد (Coincidentiaoppositorum). وعليه، فالأضداد في مرتبتها الوجوديَّة تتعارض في الغالب، وتفتقر إلى التحمُّل والتسامح حيال بعضها. ولهذا، لم يكن التسامح أو عدم التسامح مجرَّد أمور أخلاقيَّة، بل هي ذات بعد آفاقيٍّ، وهذه نقطة جرى التشديد عليها في التعاليم التراثيَّة الشرقيَّة التي أكَّدت أنَّ القوانين البشريَّة والنواميس الأخلاقيَّة غير منفصلة بعضها عن بعض. وعلى ذلك لا ينبغي النَّظر إليها على أنَّها مجرَّد خيار أخلاقيٍّ أو قيميٍّ، بل ينبغي اعتبارها حقيقة أنطولوجيَّة أيضًا. أي أنَّها ذات أصل وجوديٍّ حيث تتموضع الحقيقة الأخلاقيَّة في الحقيقة الأساسيَّة لنظام الخلق. إلَّا أنَّ الكثرات الموجودة في نشأة الظهور والتجلِّي، رغم توفُّرها على وجودات متلائمة ومتكاملة بعضها مع بعض، فإنَّ بعدها الصراعي يمكن ملاحظته في المتضادَّات السلوكيَّة، كالتضادِّ بين الصدق والكذب، والجمال والقبح، والخير والشرّ[8].
أمَّا بصدد مبدأ الضدِّيَّة في المعرفة العرفانيَّة، فإنَّ العُرفاء يربطون بين المعرفة العرفانيَّة (وهي هنا المشاهدة والكشف) ومفهوم الأضداد من جهة، وبين الدهشة أو الصدمة من جهة ثانية. ومثل هذا الربط عائد إلى حكمة نظام المثنَّى التي توفِّر الحقل الخصيب لتكامل الأضداد وانسجامها. فالمعرفة في الأدب العرفانيِّ بوجه عام، تحتمل الانتقال من إدراك مجال، إلى مشاهدة مجالٍ آخر مخالف له، وهي معرفة تتضمَّن الخروج أو الانتقال من “الظلمة العظيمة إلى النور العظيم”، ومن الغفلة المطلقة إلى الوعي المطلق. ويمكن لنا أن نتبيَّن في ما يلي، سِمَتين أساسيَّتين لمبدأ الضدِّيَّة في المثنَّى العرفاني:
السِّمة الأولى: أنَّ للمعرفة الصوفيَّة علاقة وثيقة بمفهوم الأضداد: فمشاهدة الحقيقة الإلهيَّة الحاضرة والقريبة والموجودة في كلِّ شيء- {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[9]– تولِّد لدى الصوفيِّ قبولًا بفكرة الأضداد باعتبارها لحمة الوجود وأساسه، سواء على المستوى الأخلاقيِّ أم الوجوديِّ العامّ. ففي هذه المعرفة يتجلَّى التقابل الضدِّيُّ بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والمُحدَث، وبين الثابت والزائل، وبين الخالد والفاني. والله تعالى جعل الأضداد كامنة في الأضداد: فجعل العلوَّ كامنًا في الدنوِّ، والعزُّ كامنًا في الذلِّ، إلى غير ذلك من الأوصاف العلويَّة مع الأوصاف السفليَّة…”. فـ”الأشياء كامنة في أضدادها ولولا الأضداد لما ظهر المضادُّ كما يقول بعض العارفين”[10].
السِّمة الثانية: أنَّ الوعي بالأضداد في المعرفة الصوفيَّة يقتضي الشعور بالدهشة عند الوقوف على الحقيقة، أو الوقوف عند مرحلة التحقيق: وكلما كان الضدَّان متباعدين كان الالتقاء بينهما مصحوبًا بدهشة قويَّة من طرف العارف أو المتأمِّل”. وهنا سنلاحظ أنَّ من العرفاء من ذهب بعيدًا في التمثيل بالدهشة الناتجة من التقاء الأضداد في تجربة الانتقال من الكفر إلى الإيمان. فالمشاهدة – كما يبيِّن العارف بالله ابن عجيبة الحسني – تتقوَّى لدى أهل الكفر الذين تابوا من كفرهم ورجعوا إلى مشاهدة الحقيقة الإلهيَّة أكثر من أهل الإيمان”[11]. وهكذا، فإنَّ هذه الدهشة التي تميز المعرفة الصوفيَّة هي صيرورة دائمة تتواصل بتواصل المعرفة: فإذا كانت الدهشة هي بداية الفلسفة أو التفكير كما قيل، فإنَّ الدهشة في الفكر الصوفيِّ مصاحِبة للمعرفة منذ بدايتها وخصوصًا في غايتها. وعند إشارة ابن عجيبة إلى الفرق بين أنوار التوجُّه (الإسلام والإيمان) وأنوار المواجهة (الإحسان)، نراه يؤكِّد أنَّ الصوفيَّ السالك يتَّجه إلى إدراك نور “حلاوة المشاهدة وهو الروح، وهو أول نور المواجهة فتأخذه الدهشة والحيرة والسَّكرة: فإذا أفاق من سكرته وصحا من جذْبته وتمكَّن من الشهود… ورجع إلى البقاء، كان لله وبالله”[12].
2- المثنَّى بما هو“المطلق المحدود”:
يجري في عالم الميتافيزيقا تمييز دقيق بين المطلق بوصفه الواحد بالوحدة الحقيقيَّة أي الله تعالى، وبين المطلق بما هو الواحد بالوحدة الحقيقيَّة الظلِّيَّة، أي الموجود بغيره؛ وهو ما يُنعت بالمطلق المحدود. فالمطلق بمعناه الأول هو التامُّ والكامل والمتحرِّر من كلِّ قيد، وهو واجب الوجـود المتجـاوز للزمان والمكـان، ولذا فهو يتَّســم بالثبات والكلِّيَّة. أمَّا بمعناه الثاني فهو النسبيُّ الذي يُنسَب إلى غيره ويتوقَّف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلَّا مقرونًا به. وهذا النسبيُّ مُقيَّد وناقصٌ ومحدودٌ، وهو مرتبط بالزمان والمكان، ويتلوَّن بهما ويتغيَّر بتغيِّرهما، ولذا فهو ليس بكلِّيّ[13]. في الفلسفات الحديثة، يعدُّ هذا التعريف للمطلق والنسبيِّ تعريفًا عامًّا ولا يؤدّي غايته المثلى. ولذا يرى أحد فلاسفة مدرسة الحكمة الخالدة المعاصرين السويسري فريذوف شوان (1907-1998)[14] أنَّ اللَّانهائيَّة والكمال من الأبعاد الكامنة في المطلق، وتبرهن على ذاتها “في اتجاه هابط” حسب النشأة الكونيَّة للتجلِّيات. حتى ليتسنَّى لنا القول أنَّ الكمال هو صورة المطلق في انعكاساته في الوجود، وهوما يُؤلِّف اللَّانهائيَّة، وهنا تتدخَّل العناية الربَّانيَّة حيث ينبثق من المطلق لانهائيَّة فاعلة تتجلَّى في الخير، وترسم بالتالي بنية أقنوميَّة في اتجاه “خالقٍ” حتى نهاية التجلّيات[15].
وقد تعمَّق شوان في تحديد ماهيَّة المطلق متجاوزًا التحليل الُّلغويَّ المعجميَّ، وهو يقدِّم مجموعة من التساؤلات حوله. يقول: “لو سُئلنا عمَّا هو المطلق، لقلنا أولًا إنَّه الجوهريُّ واجب الوجود، وليس العرضيُّ ممكن الوجود فحسب، وبالتالي فهو لانهائيٌّ وكامل، ولقلنا ثانيًا إنَّه كلُّ ما انعكس في الوجود، كوجود الأشياء بحسب مستوى السؤال، ولا وجود بغير المطلق، ويتجلَّى وجه المطلقيَّة في وجود شيء ما يُميِّز الموجود عن اللَّاموجود، فحبَّة الرمل الموجودة معجزة بالقياس إلى الفضاء الفارغ.. ولو نحن سُئلنا عمَّا هو اللَّانهائيُّ لقلنا إنَّه المنطق شبه التجريبيِّ الذي يطلبه السؤال نفسه، ويتبدَّي في الوجود كصيغ للمدِّ والجزر، شأنَّه شأن المكان والزمن والشكل والعدد والتكاثر والمادَّة، وحتى نكون أكثر دقَّة نقول بطريقة أخرى: إنَّ هناك صيغة حافظة هي المكان وصيغة مُحَولةً هي الزمن، والذي يعني لانهائيَّة اطِّراد التحوُّلات، لا تحديد الدوام فحسب، وصيغة كميَّة هي العدد الذي يعني لانهائيَّة العدد ذاته لا تحديد الكمِّ فحسب، وصيغة ماديَّة هي المادَّة وهي الأخرى لا حدود لها كتجلّي النجوم في السماء، ولكلٍّ من هذه الصيغ امتداد في الحال الحيويِّ وما وراءه، فهي أعمدة الوجود الكونيّ. وأخيرًا، لو سُئِلنا عن الكمال أو الخير الأسمى، لقلنا إنَّه الله سبحانه، والخير هو ما يتجلَّى في الوجود على شكل فضائل، أو بالحريِّ ظواهر كيفيَّة تتبدَّى في كمال الأشياء لا في وجودها فحسب، والمطلق واللَّانهائي والخير، لا تناظر الوجود والأنواع الموجودة وما يتعلق بكيفيات وجودها فحسب، بل هذه العوامل معًا في آن، لتبيّن معنى الأوجه الربَّانيَّة فيما وراء العالم لو جاز القول”[16].
الواضح أنَّ وصف شوان المطلق بصفات مثل اللَّانهائيِّ، والكمال، والخير الأسمى، قد يعادل وصف المثال الأفلاطونيِّ الذي يتَّسم بالثبات من ناحية، وهو الخير الأسمى الذي تفيض منه الموجودات وتتشاكل معه عن طريق النفس من ناحية أخرى. لكنَّ شوان يختلف عن أفلاطون في مبدأ التجلِّي الربَّانيِّ حيث يتجلَّى المطلق للنسبيِّ، في حين كانت العلاقة غامضة بين مثال المثل والمحسوسات عند أفلاطون؛ وهو الأمر الذي جعلنا نرتطم بأمواج من التفسير والتأويل لفهم معنى التشاكل، وكيفيَّة تجلّي الكلّيِّ في الجزئيِّ ومشاركته الوجود[17].
بحسب شوان، يمكن أن ندرك المطلق سبحانه على قمَّة الهرم الأنطولوجيِّ، أو بالأحرى في ما وراءه، وهو الذي تشتمل طبيعته على اللَّانهائيَّة والكمال، واللَّانهائيَّة تشعُّ من الباطن والظاهر، أي أنَّها تشتمل على قدرات المطلق عزَّ وجلَّ وتنشرها في الآفاق. وأمَّا الكمال الذي تماهى مع هذه القدرات هو الذي يعكسها في عالم النسبيَّة، وهو الذي يتفجَّر منه إمكان الصفات كافَّة سواء أكانت في الوجود، أم في العالم، أم في أنفسنا. وإذا كان المطلق هو الحقيقة الصرف، فإنَّ اللَّانهائيَّة هي الإمكان، والكمال أو الخير الأسمى هو جُماع محتوى اللَّانهائيّ[18].
ولأجل تجنُّب ما وقعت فيه بعض تيَّارات وحدة الوجود من جمع حلوليٍّ بين الله والعالم، راح شوان يميِّز بين نوعين من الوجود من حيث الإطلاق وهما: الوجود المطلق والوجود المحض. أمَّا الوجود المطلق فيمثِّل انعكاس المطلق المحض الذي يتجلَّى في النسبيَّة، ولا يمكن أن يتحوَّل الوجود المطلق إلى الوجود المحض كما يدَّعي فلاسفة النسبيَّة المعاصرة، ولو حدث التحوُّل، وهذا مستحيل، لتنزَّهت الثنويَّات والثالوث عن مخالطة البشر أو محادثتهم، لأنَّ التنزيه من صفات المطلق المحض، وهكذا يقول شوان “لا يتطابق الوجود المُطلق مع المطلق المحض الصمديّ، فهو تابع للنظام الربَّانيِّ بقدر ما هو انعكاس للمطلق في عالم النسبيَّة، ومن ثمَّ يمكن تسميته مطلقًا نسبيًّا رغم ما تحمله التسميَّة من تناقض، ولذا فهو أقنوم ربَّانيّ. وإذا كانت الأقانيم الربانيَّة هي المطلق بما هو لتنزَّهت عن مخاطبة الإنسان”[19]. والوجود المُطلق هو المطلق النسبيُّ أو المطلق المحدود، أو هو الرب مطلقًا نسبيًّا قادرًا على الخلق، فالمطلق المحض الصمديّ أي “غيب الغيب” يتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ويشتمل المطلق أو الجوهر على اللَّانهائيَّة التي تشعُّ بنوره، فالنور الإلهيُّ يعكس الجوهر على “الفراغ” من دون أن “يخرج” إليه بأيِّ شكل كان، إذ إنَّ المبدأ معصوم لا ينقسم، ولا يمكن أن يُغتصب منه شيءٌ، فانعكاسه على اللَّاشيء يتجلَّى بصيغة “أشكال” بادية و”أفعال” حادثة، و”حياة” اللَّانهائيّ ليست فعالة بقوَّة مركزيَّة centrifugal فحسب، ولكن أيضًا ببنية مركزيَّة centripetal، وبشكل تبادليٍّ أو متزامن بدءًا بالإشعاع وعودًا إلى المبدأ، والمبدأ الأخير يعني نشورًا وعودة الأشكال والحوادث إلى الجوهر، ومن دون أن يزيد أو يُنقص من الجوهر شيئًا، فهو النعمة والكمال مطلقًا، وهو خصيصة من خصائص المطلق كما لوكان حياته الباطنة، أو حبه الذي يفيض ليخلق العالم[20].
ويرى شوان أنَّه رغم ما تعرَّضنا له من تعريف للمطلق، فهذا نسبيَّة محضة، ويمكن إحلالها بأيِّ ألفاظ، فلا تساوي الصفات الذات، وإنَّ محاولة التعريف خطوة نحو الفهم، والخوض فيها إدراك للماهيَّة وليس إدراكًا للذات. وتعريف المطلق بما هو، لا بدَّ من أن يكون مطلقًا بدوره، وكلُّ محاولة لوصفه تنتمي بالضرورة إلى النسبيَّة بموجب تنوُّع طبيعة محتوياتها، وليست غير صحيحة لهذا السبب ولكنَّها بالأحرى عرضيَّة محدودة قابلة للإحلال بغيرها، حتى أنَّ المرء لو حاول أن يضفي على المطلق تعبيرًا مطلقًا لما أمكن سوى أن يقول “الله واحد”، ويقول الصوفيَّة إن “التوحيد واحد”، ويقصدون بذلك أنَّ التعبير في حدود إمكانيَّاته لا بدَّ من أن يكون متوحِّدًا مع غايته[21]. وهكذا لا يُدرك المطلق في حدِّ ذاته لكنه يتبدَّى في وجود الأشياء، ولذلك يمكن القول بصورة مفارقة أنَّ اللَّانهائيَّة تتجلَّى في التنوُّع الذي لا ينتهي، وكذلك يتجلَّى الكمال في صفات الأشياء الكيفيَّة، إذ يبيِّن الزهد أمام المطلق في تجلِّي اللَّانهائيِّ، فالأمور تتبدَّى في تناغمها وهندستها[22].
3- المثنَّى والواحد وقانون العلِّيَّة:
يتَّخذ المثنَّى من قانون العلِّيَّة سبيلًا لتدبير العالم. وطبقًا للقاعدة التي قرَّرتها الحكمة الإسلاميَّة، فإنَّ “كلَّ معلول هو مركَّب في طبعه من جهتين: جهة بها يشابه الفاعل ويحاكيه، وجهة بها يباينه وينافيه. فهو مطلق ونسبيٌّ في آن. وقاعدة الكلام عن معلوليَّة المثنَّى رغم فرادته وخصوصيَّة تركيبه، هي قاعدة تنطبق على كلِّ فرد في عالم الكثرة. ودليل أصحاب هذه القاعدة هو التالي: إذا كان الموجود يشبه فاعله من جميع الجهات، يلزم إلَّا يكون هناك أيُّ اختلاف بين العلَّة والمعلول، وحينذاك لا معنى لمسألة الصدور. ولو خالف الموجود فاعله من جميع الجهات، يلزم أن تتناقض العلَّة مع المعلول، في حين لا يقع نقيض الشيء معلولًا له، لوجود تمانع بين الموجودين المتناقضين[23]. وإذن، فالموجود المعلول- بحسب هؤلاء- ذو جهتين دائمًا: جهة متعلِّقة بالفاعل وتشير إليه، وجهة متعلِّقة به. وعليه فهو يُعدُّ “وجودًا” من حيث جهة الفاعل، ويُعدُّ “ماهيَّة” من حيث جهته، وفي حين تسمَّى جهة وجود الموجود بالجهة النورانيَّة، تسمَّى جهة الماهيَّة بالظلمانيَّة[24]. وهكذا، فإنَّ نسبة المعلول إلى فاعله كنسبة الظلِّ إلى الضياء. فالظلُّ من حيث هو مضيء يكشف عن الضياء، ومن حيث هو مزيج بنوع من الظلمة، متناقض مع الضياء ويحكي عن الظلام. فمثلما لا يمكن أن ننسب الجهة الظلمانيَّة للظلِّ إلى وجود الضوء، كذلك لا يمكن أن تُنسب جهة الماهيَّة إلى الفاعل. وعليه، يمكن القول بأنَّ الجعل والإيجاد لا يتعلَّقان بالماهيَّة قطّ، وإنَّما يتعلَّقان بالوجود فقط. أي لا بدَّ من أن يعدَّ الجعل والإيجاد والإفاضة والإشراق، خصوصيَّة خاصَّة بالوجود. ودور الماهيَّة على صعيد الموجودات البسيطة والمجرَّدة كدور المادَّة على صعيد الموجودات الماديَّة والمركَّبة. وكما أنَّ مقتضى الكثرة في الموجودات المادّيَّة والمركَّبة هو وجود المادَّة الأولى أو الهيولي، كذلك مقتضى الكثرة في الموجودات البسيطة والمجرَّدة هو الماهيَّة. ولذا يمكن القول أنَّ الكثرة في عالم البسائط والمجرَّدات، ناشئة من الماهيَّات فقط. الشيخ الرئيس ابن سينا يأخذ بهذه الفكرة أيضًا ويعتبر الماهيَّات مصدر كلِّ تركيب وتعدُّد في عالم البسائط. وفي كتاب “الإلهيَّات” بحث القاعدة المعروفة “كلُّ ممكن زوج تركيبي”. حيث تكشف هذه القاعدة جيدًا عن ضرورة البحث عن أيِّ تركيب وتعدُّد، في الماهيَّات. ولذلك تُعدُّ الماهيَّات مثار الكثرة ومنشأها[25]. النتيجة أنَّه بالإمكان القول أنَّ أثر الفاعل ليس سوى مثال الفاعل، ولهذا السبب يكشف الفعل عن الفاعل دائمًا. أي أنَّه يمكن معرفة الفاعل عن طريق الفعل. وقد تناول صدر الدين الشيرازي هذه المسألة في كتاب “الأسفار” وصاغها على الوجه التالي: “إنَّ كلَّ منفعل عن فاعل، فإنما ينفعل بتوسَّط مثال واقع من الفاعل فيه. وكلُّ فاعل يفعل المنفعل بتوسُّط مثال يقع منه فيه. وذلك بيِّنٌ بالاستقراء. فإنَّ الحرارة الناريَّة تفعل في جرم من الأجرام بأن تضع فيه مثالها وهو السخونة. وكذلك سائر القوى من الكيفيَّات. والنفس الناطقة إنَّما تفعل في نفس أخرى مثلها”.[26] كذلك تفعل العلَّة الأولى في حكمة المثنَّى. فهي مع كونها فاعلة لمعلولات لا متناهية، إلَّا أنَّها ليست وحدة عدديَّة كوحدة المحسوسات، فهي تنتمي إلى وحدة المعقولات مع كونها متَّصلة بعالم الممكنات وناظمة لحياتها الجوهريَّة. ومن البيِّن في الحكمة الإسلاميَّة أنَّ الوحدة في الأمور المعقولة ليست كالوحدة في الأمور المحسوسة، لأنَّ الوحدة في الأمور المحسوسة، هي من نوع الوحدة العدديَّة، في حين لا تعدُّ الوحدة في الأمور المعقولة من نوع الوحدة العدديَّة. والمثنَّى الذي كان إيجاده بالأمر والإرادة والكلمة هو واحد، إلَّا أنه لا يتكرَّر، فهو مطلق ونسبيٌّ في الآن عينه.
4- تجلّيات المثنَّى في المعرفة العرفانيَّة:
ماهيَّة المثنَّى كما تُستقرأ في الإلهيَّات والعرفان النظريِّ، تستوي على نصاب معرفيٍّ مفارق لما اشتغل عليه الإغريق، فضلًا عن المتأخّرين من بعدهم. فقد اتَّخذ الكلام على الموجود الأول في الميتافيزيقا العرفانيَّة مسالك شتَّى؛ إلَّا أنَّ جامعًا مشتركًا حول ماهيَّته ظلّ ينتظم دائرة واسعة من تلك المسالك. وفي المجمل كان يُنظر إلى هذا الموجود على أنَّه مطلقٌ من حيث كونه أول موجود في مشيئة الإيجاد الإلهيِّ، ونسبيٌّ من حيث كونه محتاجًا لموجِدِه ومركَّبًا على الزوجيَّة والكثرة.
في العرفان النظريِّ يتوسَّع أفق التنظير والاستشعار، حتى لنجدُنا تلقاء مساعٍ فريدة ومفارقة بغية الخروج من العثرات التي تحول دون الأجوبة الآمنة. ولأجل الوقوف على أهمِّ هذه المساعي نلقي الضوء بداية على قاعدتين تؤلّفان أبرز التنظيرات التي عَنِيَت بنظام معرفة الموجود البَدْئيّ، وقد ذكرهما ابن عربي في ردِّه على أسئلة الحكيم الترمذيِّ، وهما: علم “كان” و”علم البدء”[27].
– القاعدة الأولى- علم “كان”: ولهذه القاعدة صلة نَسَبٍ وطيدة بحكمة المثنَّى. فالمقصود من هذا العلم هو تنزيه الله تعالى عن كلِّ ما سواه من أشياء الكون. وتأسيسًا على قوله تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ}[28]. يقرّر علم “كان” أنَّه سبحانه لا تصحبُه الشّيئيَّة، ولا تنطلق عليه.. فقد سَلَب الشيئيَّة عنه، وسَلَب مَعيّة الشيئيَّة. إنه مع الأشياء، وليست الأشياء معه. لأنَّ المَعيَّة تابعة للعلم: إنَّه يعلمُنا فهو معنا، ونحن لا نعلمُه فلسنا معه.. وأمَّا لفظة (كان) فليس المراد منها التّقييد الزمانيَّ، وإنما المراد بها الكون الذي هو (الوجود). فتحقيق “كان” أنَّه حرف وجوديٌّ، لا فعل يطلُب الزمان. ولهذا لم يَرد ما يقوله علماء الرُّسوم، من المتكلّمين، وهو قولهم “وهو الآن على ما عليه كان”، فهذه زيادة مُدرجة في الحديث ممَّن لا علم له بعلم (كان)، ولا سيَّما في هذا الموضع كما يبيِّن ابن عربي.. ويضيف: ولئن تصرَّفت “كان” تصرُّف الأفعال، فليس من أشْبَه شيئًا من وجه ما يُشبهه من جميع الوجوه، بخلاف الزيادة، بقولهم “وهو الآن”، فإنَّ “الآن” تدلُّ على الزمان. وأصل وضعه أنها لفظة تدلُّ على الزمان الفاصل بين الزمانين (الماضي والمستقبل).. فلمَّا كان مدلولها “الزمان الوجودي”، لم يُطلقه الشارع في وجود الحقِّ، وأطلق (كان) لأنَّه “حرف وجوديّ”، وتخيَّل فيه الزمان لوجود التصرُّف: من كان ويكون فهو كائن ومُكوَّن.. فلما رأوا في “الكون” هذا التصرُّف، الذي يلحق الأفعال الزمانيَّة. تخيّلوا أنَّ حكمها حكم الزمان، فأدرجوا “الآن” تتمَّة للخبر وليس منه[29].. وعليه كان تقرير الشيخ ابن عربي حول علم “كان” أنَّ الله موجود، ولا شيء معه. أي ما ثمَّ من وجوده واجب لذاته غير الحق. والممكن واجب الوجود به لأنَّه مظهره، وهو ظاهر به. والعَيْن الممكنة مستورة بهذا الظاهر فيها.. فانْدَرج الممكن في واجب الوجود لذاته “عَيْنًا”، واندرج الواجب الوجود لذاته في الممكن “حُكمًا”..[30]…
– القاعدة الثانية: علم البَدء: لا ينأى هذا العلم عن علم “كان” في منظومة ابن عربي، بل هو الحلقة التالية في علم التوحيد. فإذا كان علم “كان” هو علم الإقرار بالذات الأحديَّة وتنزيهها عن الفقر والإمكان، فإنَّ علم البَدء هو علم الإقرار بحاصل الكلمة الإلهيَّة “كن”. أي بالموجود البَدْئي كأول تجلٍّ إلهيٍّ في دنيا الخلق. على هذا الأساس يعرِّفه ابن عربي بأنَّه علم الفصل بين الوجودين، القديم والمُحدث. وهو علم عزيز وغير مقيَّد. كما يصرِّح الشيخ الأكبر ويضيف: إنَّ أقرب ما تكون العبارة عنه، أن يُقال: البَدْء افتتاح وجود الممكنات على التّتالي والتّتابُع، لكون الذات الموجدة له اقتضت ذلك من غير تقييد بزمان. فالزمان من جملة الممكنات الجسمانيَّة، وهو لا يُعقل إلَّا إرتباط ممكن بواجب لذاته. فكان في مقابلة وجود الحقِّ، أعيان ثابتة، موصوفة بالعدم أزلًا، وهو الكون، الذي لا شيء مع الله فيه، إلَّا أن وجوده أفاض على هذه الأعيان، على حسب ما اقتضته استعداداتها، فتكوَّنت لأعيانها، لا لهُ، من غير بينيَّة تُعقَل أو تتوهَّم. فوقعت في تصوُّرها “الحَيْرة” من طريقين: طريق “الكشف”، وطريق “الدليل الفكريّ”. والنُّطق عما يقتضيه الكشف، بإيضاح معناه، يتعذَّر: فإنَّ الأمر غير مُتخيَّل، فلا يُقال، ولا يدخُل في قوالب الألفاظ. وسبب عزَّة ذلك، كما يبيّن الشيخ الأكبر، يعود إلى الجهل بالسبب الأول وهو “ذات الحق”. ولما كانت سببًا، كانت إلهًا لمألوه لها، حيث لا يعلم المألوه أنه مألوه. بعضهم قال: “إن البدء كان عن نسبة القهر”، وقال غيرهم. “بل كان عن نسبة القدرة”.. والذي وصل إليه علمُنا من ذلك – وَوَافَقنا الأنبياء عليه – كما يضيف ابن عربي- أنّ “البدء عن نسبة أمْر، فيه رائحة جَبْر”. إذ الخطاب لا يَقَع إلَّا على عَيْن ثابتة، معدومة، عاقلة سميعة، عالمة بما تسمع: بسَمْع ما هو سمع وجود، لا عقل وجود، ولا علم وجود. فالْتَبست، عند هذا الخطاب بوجوده. فكانت “مَظْهرًا له” من إسمه (الأول-الظاهر). وانسحبت هذه الحقيقة، على هذه الطريقة، على كلِّ عَيْن إلى ما لا يتناهى.. فإن مُعطي الوجود لا يُقيّده ترتيب الممكنات، إذ النسبة منه واحدة. فالبَدْء ما زال، ولا يزال. وكل شيء من الممكنات له عين الأوليّة في البدء. ثُمّ إذا نُسبت الممكنات، بعضها إلى بعض، تعيّن التقدُّم والتأخُّر، لا بالنسبة إليه سبحانه.. فوقف “علماء النَّظر” مع ترتيب الممكنات، حيث وَقَفنا نحن مع نسبتها إليه تعالى[31]..
ثمَّ ينتقل ابن عربي إلى طور متقدِّم في تعريف هذا الموجود فيقول: “إنَّ أوليَّة الحقِّ هي أوليَّة (العالم)، إذ لا أوليّة للحق بغير العالم، ولا يَصحّ نسبتها ولا نَعْته بها، وهكذا جميع النّسب الأسمائيَّة كلِّها.. فعَيْن الممكن لم تَزل، ولا تزال، على حالها من الإمكان.. والأمور لا تتغيَّر عن حقائقها، باختلاف الحكم عليها، لاختلاف النّسب. ألا ترى إلى قوله تعالى {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـًٔا}[32]، وقوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[33]، فنَفى الشّيئيَّة عنه وأثْبَتها له، والعين هي العين، لا غيرها…[34]
سيكون لهاتين القاعدتين حضورٌ بيِّنٌ في مقتربات العرفان النظريِّ للمخلوق الأول. وعليه سوف نحاول في ما يلي استظهار طائفة من المقتربات الواردة في أعمال عدد من العرفاء، وهي تدور على الإجمال مدار التعريف بطبيعة الموجود الأول، وخصوصيَّته وكيفيَّة صدوره، والمهمَّة الإلهيَّة التي أوكلت اليه. ويمكن القول أنَّ هذه المقاربات وإن تباينت في سرديَّاتها حول ماهيَّة وهويَّة هذا المخلوق، فإنَّها تتقاطع على الجملة حول منزلته الفريدة ومكانته المفارقة في عالم الوجود.
سنورد في ما يلي أبرز ما أطلق عليه من نعوت وأوصاف في هذا الخصوص:
الأوَّل: الموجود المنفرد بذاته:
يستهل العرفاء سَفَرهم لمعرفة المخلوق الأول من خلال السعي لإثباته بالدليل العقليّ. ومؤدَّى قولهم في هذا المسعى أنَّ مقتضى القوانين العقليَّة تثبت وجود موجود في الخارج قائمٍ بنفسه غيرِ ذي وضع، ومشتملٍ بالفعل على جميع المعقولات، التي يمكن أن تخرج إلى الفعل، بحيث يستحيل عليه وعليها التغيُّر والاستحالة والتجديد والزوال، ويكون هو وهي بهذه الصِّفات أزلًا وأبدًا[35]. من الحكماء من ذهب إلى تسميته حينًا بالعقل الكلِّيّ، وحينًا آخر بـ “الَّلوح المحفوظ”. ويقول المحقِّق والفيلسوف صائن الدين ابن تركة عن هذا الموجود أنَّه يعادل “نفس الأمر” الذي هو عبارة عن حقائق الأشياء بحسب ذواتها، وبقطع النظر عن الأمور الخارجة عنها. ويضيف: “أن نفس الأمر هو أيضًا كناية عمّا ثُبتت فيه الصور والمعاني الحقَّة، وهو العالَم الأعلى الذي هو عالم المجرَّدات، كما يُطلق عالم الأمر على هذا العالم؛ ذلك لأنَّ كلَّ ما هو حقٌّ وصدق من المعاني والصور، لا بُدَّ وأن يكون له مطابَق في ذلك. فالعالم الأعلى هو الحيُّ التامُّ الذي فيه جميع الأشياء، وأنَّ فعل الحقِّ هو العقل الأوّل؛ فلذلك صار له من القوَّة ما ليس لغيره، وأنَّه ليس هناك جوهر من الجواهر التي بعد العقل الأوَّل إلّا وهو من فعل العقل الأوّل؛ وعليه فإنَّ الأشياء كلّها هي العقل، والعقلَ هي الأشياء، وإنَّما صار العقل جميعَ الأشياء، لأنَّ فيه جميعَ كلّيَّات الأشياء وصفاتِها وصورِها، وجميعُ الأشياء -التي كانت وتكون- مطابِقةٌ لما في العقل الأوّل. ثم يمضي ابن تركة إلى إنشاء علاقة وطيدة بين هذا الموجود ومنشأ المعرفة البشريَّة ليرى أنَّ معارفنا -التي في نفوسنا- مطابقة للأعيان التي في الوجود، ولو جوَّزنا غير ذلك -أعني أن يكون بين تلك الصُّور التي في نفوسنا وبين الصور التي في الوجود تباين أو اختلاف- ما عرفنا تلك الصور، ولا أدركنا حقائقها؛ لأنَّ حقيقة الشيء ما هو به هو، وإذا لم يكن، فلا محالة غيره، وغير الشيء نقيضه؛ فإذن جميع ما تدركه النفس وتتصوَّره من أعيان الموجودات، هو تلك الموجودات، إلّا أنَّه تنوَّع بنوع ونوع[36].
كلام ابن تركة حول ماهيَّة الموجود الأول يحيلنا إلى الفضاء الذي اشتغل عليه العرفاء. فالمقطوع به أن ما تداوله جلَّ هؤلاء عن هذا الموجود ليس هو نفسه الكون الذي عرَّفه الإغريق بادئ الأمر ثم أخذه عنهم كثرة من المتأخّرين من الفلاسفة وعلماء الكلام. فهو عندهم الكائن المنعتق من كلِّ علاقة بالزمان الفيزيائيّ.. إلَّا أنَّه مع ذلك هو الحاضن لكلِّ موجوديَّة، لكونه يؤلِّف صيغة الظهور الذي به تظهر الأشياء من دون أن تلزمه أن يمتلئ بها ليحقِّق هذا الظهور…
الثاني: عالم الإمكان وعالم الأمر:
يناظر المثنَّى بصفته موجودًا بدئيًّا عالم الإمكان أو عالم الأمر. بل هو عالم الوجود المطلق، وهو أنَّ الموجودات موجودة فيه على وجه الإطلاق، غير مقيَّدة بهيئة. أي أنَّ المخلوقات موجودة فيه ذكرًا لا عينًا. مادَّتها واحدة، لا يمكن تمييزها بعضها عن بعض، يعني أن زيدًا موجود في عالم الإمكان، لكنه موجود بالذكر، لا بالعين، يعني: مادة ليست متعيّنة، ولا متخصّصة.[37] ويُسمَّى أيضًا بعالم الأمر، وهو مأخوذٌ من قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[38].
ويقابل الوجود المطلق الوجود المقيّد، وفيه المخلوقات موجودة وجودًا مقيّدًا بصورة، وموجودة فيه ذكرًا وعينًا. ويكون تقييدها بالحدود الستة، وهي: الكم، والكيف، والجهة، والرتبة، والزمان، والمكان، ويُسمّى هذا بعالم التكوين، يعني زيد في هذا العالم موجود بالذكر والعين، مادَّته تعيَّنت وتخصَّصت بالحدود المذكورة. ويسمَّى أيضًا بعالم الخلق. ويمثل ذلك المحبرة: تحتوي حروفًا، لكنها موجودة ذكرًا لا عينًا. وبالكتابة تخرج من الإطلاق إلى التقييد فتكون: – (ص) أو(ن) و(ع)، وحينئذٍ تُعتبر مقيّدة، فيحكم عليها بأنها (ص) و(ن) و(ع)، فقد أصبحت موجودة ذكرًا وعينًا. فالمخلوقات لمَّا كانت في عالم الإمكان لم تكن متمايزة، ولما أُلقِيَ عليها التكليف، وقَبِلت حِصَصها، كلّ حسب قدره ظهرت وتميَّزت في عالم التكوين.
الثالث: الممدُّ الأول أو العرش:
يذهب ابن عربي إلى وصف الموجود البَدئيّ بما وصفه به الخالق وأفاضه عليه من حُسن التدبير. فقد منحه من صفاته وأسمائه الحسنى الإمداد والرعاية. وعليه فقد أعطاه حقَّه من التنظير المخصوص على نحو يجعل منه مخلوقًا وخلَّاقًا في الآن عينه. يبيّن ابن عربي في هذا الموضع، أن ما أطلَقَ عليه بعض المحقّقين من أهل المعاني المادَّة الأولى، كان الأولى بهم أن يطلقوا عليه المُمِدّ الأول في المحدثات؛ لكنهم سمَّوه بالصفة التي أوجده الله تعالى لها. وليس بمستبعد أن يسمَّى الشيء بما قام به من الصفات. يضيف: “وإنما عُبِّر عنه بالمادَّة الأولى فلأن الله تعالى خلق الأشياء على ضربين: منها ما خلق من غير واسطة وسبب، وجعله سبباً لخلق شيء آخر. ومنها وهو الاعتقاد الصحيح أنَّه تعالى أوجَدَ الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، خلافًا لمخالفي أهل الحقّ. والذي يصحُّ أن أول موجود مخلوق من غير سبب متقدم ثم صار سببًا لغيره ومادة له ومتوقّفًا ذلك الغير عليه على العقد الذي تقدَّم، كتوقُّف الشبع على الأكل، والريِّ على الشرب عادة؛ وكتوقُّف العالم على العلم، والحيّ على الحياة عقلًا وأمثال هذا؛ وكذلك كتوقُّف الثواب على فعل الطاعة والعقاب على المعصية شرعًا. فلمَّا لحظوا هذا المعنى سمَّوه المادة الأولى وهو حَسَنٌ، ولا حرج عليهم في ذلك شرعًا لا عقلًا[39].
لكن الشيخ الأكبر يكتفي بما عَرَضه قدماء الإغريق وسواهم في تعريف الموجود الأول، لذا سينتقل إلى أرض العرفاء حيث عبَّر عنه بعضهم بالعرش. والذي حملهم على ذلك أنَّه لما كان العرش محيطًا بالعالم في قول، أو هو جملة العالم في قول آخر، وهو منبع إيجاد الأمر والنهي، ووجدوا هذا الموجود المذكور آنفًا يشبه العرش من هذا الوجه أعني الإيجاد والإحاطة. فكما أنَّ العرش محيط بالعالم وهو الفلك التاسع [في مذهب قوم]، كذلك هذا الخليفة محيط بعالم الإنسان. ثم يومئ إلى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[40] على أنَّه في معرض التمدُّح لهذا المخلوق. فلو كان في المخلوقات أعظم منه لم يكن تمدُّحًا. فالعرش المذكور في هذه الآية هو مستوى الرَّحمن، وهو محلُّ الصفة؛ والخليفة الذي سمَّيناه عرشًا حملًا على هذا مستوى الله جل جلاله؛ فبين العرشين ما بين الله والرحمن، وإنه كان، فلا خفاء عند أهل الأسرار فيما ذكرناه[41]. وحد الاستواء من هذا العرش المرموز قوله (ص): “إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته”؛ فالعرش الحامل للذات والمحمول عليه للصفة، فتحقَّق أيُّها العارف وتنبَّه أيها الواقف، وأمعن أيها الوارث، (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)[42].
الرابع: المعلِّم الأول والإمام المبيّن:
من صفات الموجود البَدئيِّ ما عبَّر عنه بعضهم بالمعلِّم الأول. والذي حملهم على ذلك أنه لما تحقَّق عندهم خلافته وأنَّه حامل الأمانة الإلهيَّة، ونسبته من العالم الأصغر نسبة آدم من العالم الأكبر، وقد قيل في آدم (ع){وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[43]؛ كذلك هذا الموجود، ثم خاطب الملائكة فقال:{أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[44] {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[45] فأمر الخليفة أن يعلّمهم ما لم يعلموا فأمرهم الله سبحانه بالسجود لمعلمهم [سجود أمر] كسجود الناس إلى الكعبة، كسجود أمر وتشريف لا سجود عبادة. وفي ما يعتبره سرًّا من أسرار الخواصِّ في فهم المخلوق الأول، يرى ابن عربي أنَّ سرَّ السجود هنا لا يمكن إيضاحه، وهو ما أشار إليه من قبل في “مطالع الأنوار الإلهيَّة”؛ وقد عبَّر عنه بعضهم بمرآة الحقِّ والحقيقة، ذلك أنَّهم لمَّا رأوه موضع تجلّي الحقائق والعلوم الإلهيَّة والحكم الربانيَّة، وأنَّ الباطل لا سبيل له إليها، إذ الباطل هو العدم المحض، ولا يصحُّ في العدم تجلٍّ ولا ظهور كشف، فالحقُّ كل ظهر. والسبب الموجب هو لكونه مرآة الحقِّ قوله (ص): “المؤمن مرآة أخيه”.[46] والأخوة هنا عبارة عن المثليَّة اللغويَّة في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[47]؛ وذلك عند بروز هذا الموجود في أصفى ما يمكن وأجلى ممكن ظهر فيه الحق بذاته وصفاته المعنويَّة لا النفسيَّة، وتجلَّى له من حضرة الوجود؛ وفي هذا الظهور الكريم قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[48]؛ فتأمَّل هذه الإشارة فإنَّها لباب المعرفة وينبوع الحكمة[49].
وينقل ابن عربي عن الشيخ العارف أبي الحكيم بن برّجان[50] وصفه الموجود البَدْئيُّ بالإمام المبين، وهو – حسب تأويل الشيخ الأكبر – الَّلوح المحفوظ [المعبر عنه بكلِّ شيء في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ}[51] وهو الَّلوح المحفوظ. والذي حمله على ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[52]، ووجدنا العالم كلّه أسفله وأعلاه محصى في الإنسان فسمَّيناه الإمام المبين، وأخذناه تنبيهًا من الإمام المبين الذي هو عند الله تعالى، فهذا حظنا منه[53].
الخامس: المُفيض ومركز الدائرة:
من العرفاء من نعَتَ الموجود البَدئي بالمُفيض: وهو ما ورد عن أحد أساتذة ابن عربي العارف بالله أبو مدين شعيب التلمساني[54]– ومنهم من اعتبره “مركز الدائرة”. والذي حمل هؤلاء على مثل هذا الاعتبار- كما يبين الشيخ الأكبر- أنَّهم لما نظروا إلى عدل هذا الخليفة في ملكه واستقامة طريقته في هيئاته وأحكامه وقضاياه، فقد سمَّوه مركز دائرة الكون لوجود العدل به، وإنما حملوه على مركز الكرة نظرًا منهم إلى أن كلَّ خط يخرج من النقطة إلى المحيط مساويًا لصاحبه رأوا ذلك غاية العدل فسمّوه مركز الدائرة لهذا المعنى. وأمَّا تأويل ذلك فإنَّ نقطة الدائرة هي أصل في وجود المحيط، ومهما قدَّرت كرة وجودًا أو تقديرًا فلا بدَّ من أن تقدر لها نقطة هي مركزها؛ فلا يلزم من وجود النقطة ووجود المحيط ووجود الفاعل من هذه الدائرة ورأس الضابط ولا دائرة في الوجود كان الله ولا شيء معه، وفخذاه يداه المبسوطتان جودًا أو إيجادًا؛ والفخذ المختصَّة بالنقطة يد المغيب والملكوت الأعلى، والفخذ المختصَّة بالمحيط يد عالم الملك والشهادة: فالواحدة للأمر والأخرى للخلق والله {بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ}[55]، {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[56]؛ فَيد المركز معرَّاة عن الحركة القاطعة للأحياز، ويد المحيط متحرِّكة؛ فتأمَّل نوَّر الله بصيرتك لهذه الإشارات، فقد مهَّد لك السبيل. ثم يختم ابن عربي حديثه في شأن هذا المخلوق الأول بقوله: ولو تقصّيت آثاره وتتبّعت خصائصه وأطلقت عليه [من ذلك] ألقابًا لما وسعها ديوان؛ فاقتصرنا في هذا الإيجاز على هذا القدر لندل بذلك على شرفه واجتبائه من بين سائر المحدثات.[57]
السادس: العينُ الثابتة وظهوُرها بالكلمة:
استنادًا إلى كونه معادلًا للأعيان الثابتة بما هي الوجود الكامن في مقام الألوهيَّة. فقد ثبت أنَّ المثنَّى لم يوجد من عدم. بل إنَّ فعل إيجاده متصل بكمونه وقابليَّته للظهور حالما يجيئه الأمر الإلهيّ. على هذا الأساس لم يكن ابن عربي ليصرِّح بما وصف به هذا المخلوق، لولا أنَّه استشعر منزلته المؤسّسة لعلم البدء. من أجل ذلك سيطلق على متعلِّق هذا العلم اسم الأعيان الثابتة. والأعيان الثابتة – على ما نتبيَّن من أعمال العرفاء- هي مفتاح الكثير من المعضلات التي واجهت النظريَّات الوجوديَّة. أمَّا فهمها فيقوم على أن عمل الخلقة لا يعني ظهور موجودات مستقلَّة إلى جانب الله تعالى. وإنّما هو عبارة عن تجلّي الحقِّ وتشؤّنه في صور الأشياء. وعليه فإنَّ صورة الأشياء لا تُخلق بواسطة الله، ما لم تكن موجودة فيه. فكلُّ شيء يظهر، إنما يظهر من شيء شبيه به. يعتقد ابن عربي في هذا الخصوص أنَّ إنشاء الخلق يقتضي توفُّر طرفين: الأول هو الفاعل والذي عبارة عن أسماء الله. والثاني هو القابل والذي عبارة عن الأعيان الثابتة. والاثنان – أي الفاعل والقابل – موجودان في مقام الألوهيَّة، أي أنَّ الفاعل والقابل مجتمعان معًا: فإنَّه أعلى ما يكون من النسب الإلهيَّة أن يكون الحقُّ تعالى هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات فما ثم إلَّا وجود عين الحقِّ لا غيره؛ والتغييرات الظاهرة في هذه العين هي أحكام أعيان الممكنات فلولا العين لما ظهر الحكم، ولولا الممكن لما ظهر التغيير، فلا بدَّ من الأفعال من حق وخلق[58]. ويرى ابن عربي أنَّ هذه الأعيان موجودة بوجود الله من جانب، ومعدومة من جانب آخر لأنها تقبل الوجود. إذن فالخلق من العدم يعني الخلق من الأعيان الثابتة. وها هنا تظهر مفارقة الوجود والعدم. والأعيان الثابتة أشياء لا وجود لها في الخارج. صحيحٌ أنها تحظى بالشيئيَّة لكنها لا تتمتَّع بالوجود كوجود عينيّ وظهور في عالم الشهادة حتى يفيض عليها الله بأمر الإيجاد. وهنا بالذات يبطل ابن عربي وسائر العرفاء الإلهيون نظريَّة الخلق من عدم. وفي هذا الشأن يضيف الشيخ الأكبر “لأنَّ أعيان الموجودات معدومة وإن اتَّصفت بالثبوت، إلَّا أنَّها لم تتَّصف بالوجود[59]… لأن العدم الثابتة فيه ما شمَّت رائحة من الموجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات[60]. أمَّا الأعيان الظاهرة فهي مظهر تلك الأعيان الثابتة. ويمكن القول على ضوء وحدة الظاهر والمظهر- إنّها نفسها. أي أنَّها الأعيان الثابتة الظاهرة التي ما زالت في البطون أيضًا. بتعبير آخر: إنَّ وحدة الحق والخلق لا يكون لها معنى إلَّا إذا كان أحد الطرفين معدومًا. والمخلوقات ليست سوى هذه الأعيان الثابتة التي قلنا إنَّها معدومة إلَّا أنَّها تتَّحد مع وجود الحقِّ في عالم الشهادة. وحسب ابن عربي، أنَّ الحقَّ يقول ما ثمَّ شيء أظهر اليه لأنّي عين كل شيء، فما أظهر إلَّا لمن ليست له شيئيَّة الوجود فلا تراني إلَّا الممكنات في شيئيَّة ثبوتها، فما ظهرتُ إليها لأنَّها لم تزل معدومة، وأنا لم أزل موجودًا فوجودي عين ظهوري، ولا ينبغي أن يكون الأمر إلَّا هكذا.[61]
يسوِّغ القائلون بالأعيان الثابتة مدَّعاهم الآنف الذكر بما أسَّس له الكتاب الإلهيُّ عن علم الله الأزليّ. فالله عالم مطلق، وعلمه غير محدود، وأزليٌّ، ولا يتغيَّر. ولديه علم بكلِّ شيء قبل ظهوره. كما أنَّ ماهيَّة العلم تكشف عن حقيقة المعلوم. إذن لا بدَّ قبل ظهور الخلقة، من وجود معلوم أزليٍّ لا يتغيَّر. ويعتقد ابن عربي بأنَّ الأعيان الثابتة هي هذا المعلوم، وأنَّها أيضًا علم الله الأزليّ الذي لا يتغيَّر طبقًا لوحدة العلم والمعلوم. وقد سمّيت بالثابتة لأنَّها لا تتغيَّر. وهو يذكر العديد من الآيات الدالَّة على حضور الأشياء عند الله، والتي تستخدم كلمة “عند”، مثل: {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}[62] – {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا}[63] – {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}[64]–{وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُ}[65].
يرى الشيخ الأكبر أنَّ كلمة “عند” لا ظرف زمان، ولا ظرف مكان، كما أنَّها ليست “ظرف مكانة” في جميع الموارد، ولا بدَّ من أن تكون إشارة إلى تلك الأعيان الثابتة: إنه يخلق الأشياء ويخرجها من العدم إلى الوجود وهذه الإضافة تقضي بأنَّه يخرجها من الخزائن التي عنده فهو يخرجها من وجود لم تدركه إلى وجود تدركه فما خلقت الأشياء إلى العدم الصرف بل ظاهر الأمر أنَّ عدمها من العدم الإضافي، ذلك أنَّ الأشياء في حال عدمها مشهودة له يميّزها بأعيانها مفصّلة بعضها عن بعض ما عنده فيها إجمال[66].
عند العرفاء، إنَّ ظهور الموجود البَدئيّ هو حاصل فعل الحبِّ الإلهيّ. فالله فاعل بالحب، أي أنَّه خلق العالم من أجل الحب. ولأنَّه يحب العالم فقد تعلَّقت إرادته بالخلق. والعالم ليس سوى مظهر تفصيليّ له. وهذا أمر يؤيّده حديث الكنز الخفيّ الذي سيأتي تفصيله بعد قليل. فالمسألة هي أنَّ إرادة الايجاد تتعلَّق بشيء معدوم. وعليه لا بدَّ وأن يتعلَّق حب الله وإرادته في خلقة العالم بشيء ينبغي أن يكون شيئًا أولًا، ومعدومًا ثانيًا. وهذا ما يدلُّ عليه معنى العين الثابتة. وقد مرَّ معنا أنَّ الأعيان الثابتة تتعلَّق بإرادة الله، والله يطلب وجودها الخارجيّ[67]. يشرح ابن عربي الحديث القدسيّ في: “كنت كنزًا مخفيًّا لم أعرف، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرَّفت إليهم فعرفوني”. يقول: ولما ذكر المحبَّة عَلِمْنا من حقيقة الحبِّ ولوازمه مما يجده المحبّ في نفسه. وقد بيَّنا أنَّ الحب لا يتعلَّق إلَّا بمعدوم يصحّ وجوده. وهو غير موجود في الحال والعالم محدث والله كان ولا شيء معه، وعلم العالم من علمه بنفسه فما أظهر في الكون إلَّا ما هو عليه في نفسه وكأنَّه كان باطنًا فصار بالعالم ظاهرًا[68].
وفي تأويله لقوله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[69]، يلاحظ ابن عربي أنَّ ذلك الشيء الذي يستمع أمر “كن” ويطيعه، ويظهر إلى الوجود بعد أن كان معدومًا، هو العين الثابتة، وهو ذاك الذي قصدنا به المثنَّى أو الموجود البَدئيّ والحقّ المخلوق به حسب وصف الشيخ الأكبر. والعين الثابتة التي تدلُّ على مجمل الأوصاف التي مرَّت معنا هي في حقيقة أمرها ذاتٌ وجوديَّة مهديَّةٌ وهادية في الآن عينه.
وعلى نحو ما تفصح عنه هذه المقاربة التأويليَّة ينوجد المثنَّى كعين ثابتة ثمَّ يظهر في عالم الإمكان كحاصل للمشيئة الخالقة من خلال تلازم ثلاثة أفعال إلهيَّة هي: الأمر والإرادة والكلمة. وهو ما نستدلُّ عليه من الآية التي وردت في سورة يس وأدَّت قصد الآية السابقة نفسه {إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[70]. فالآية هنا تشير إلى نظام مثلَّث الأضلاع ينتظم الفعل الإلهيُّ في إيجاد الموجودات. فالأمر فعل الإرادة، ولا إرادة لمجهول. والنتيجة أنَّ الشيء سابق في إيجاده على إيجاده الأمريّ، تمامًا كما يسبق الوجود الذهنيّ الوجود الواقعيّ في الصقع الربوبيّ. أمَّا الكلمة “كن” الواسطة الإلهيَّة التي ظهر بها عالم الوجود الإمكاني. بذلك يكون فعل الكلمة انكشَفَ الله عن أمره وإرادته ليظهر المخلوق الأول كتجلِّ للأمر والإرادة معًا. ولعل السرَّ في جعل متعلّق إرادته سبحانه في “كن” هو استبعاد دخولها تحت توصيف “ما بالقوَّة – ما بالفعل” التي زخرت بها البحوث الميتافزيقيَّة في عالم الممكنات. أمَّا في بحوث العرفان فسنجد قراءة مفارقة مؤدَّاها: أن يكون ما بالفعل هو عين ما بالقوَّة تجاوزًا. لكن تحت حيطة ارادته المطلقة وبصورة الرسم انمحاء الواو في “كن” “تعبير” عن ذلك. فليس شيء بحاجة إلى كون ما دام في مخطوطة علمه للذي هو في الوقت ذاته إرادته. وبهذا يتبيَّن لنا أنَّ الحاصل الأنطولوجيّ للعلم والإرادة هو التجلِّي البَدئي الذي سمَّاه الحقّ تعالى “كن”. ولذا فإنَّ هذه الكلمة الايجاديَّة هي الطريق بين الكون (ما دون الصقع الربوبي) وبين العلم في تعلق الإرادة. وبهذا المعنى تصير الإرادة وسيط العلم إلى الكينونة.
السابع: المثنَّى بما هو الحادث القديم:
يميّز ابن عربي بين مرتبتين للوجود: مرتبة الوجود المطلق، وهو وجود الذات، ومرتبة الوجود المقيَّد، وهو الوجود العينيّ الحسّيُّ للعالم. فالوجود المطلق هو الوجود الحقُّ منبع كلِّ موجود، وهو النور الذي يسطع على الممكنات، فيخرجها من حيّز الإمكان إلى حيّز الوجود الفعليّ[71]. إلَّا أنَّ التمييز الذي يجريه ابن عربي بين المرتبتين له تكملة جوهريَّة في منظومته العرفانيَّة.
وإنَّما كان الممكن قابلًا للوجود من دون العدم؛ لأنَّ له مرتبة الوجود في العلم الإلهيِّ، ومن ثمَّ ترجح جانب الوجود فيه على جانب العدم؛ لأنَّ له وجهًا إلى الحقِّ، ونسبة تغلب على جانب العدم، فلذلك قبل الظهور بالوجود، وصار وجوده وجودًا إضافيًّا نسبيًّا، وفي هذا المعنى يتنزَّل قوله: “علمنا قطعًا أنَّ كلَّ ما سوى الحقِّ عَرَضٌ زائل، وغَرَضٌ ماثل، وأنه، وأن اتَّصف بالوجود، وهو بهذه المثابة في نفسه، في حكم المعدوم، فلا بدَّ من حافظٍ يحفظ عليه الوجود، وليس إلَّا الله تعالى. ولو كان العالم أعني وجوده لذات الحق لا للنسب لكان العالم مساوقًا للحقِّ في الوجود، وليس كذلك، فالنسب حكم الله أولًا، وهي تطلب تأخُّر وجود العالم عن وجود الحقِّ، فيصح حدوث العالم، وليس ذلك إلَّا لنسبة المشيئة، وسبق العلم بوجوده، فكان وجود العالم مرجّحًا على عدمه، والوجود المرجع لا يساوق الوجود الذاتي الذي لا يتَّصف بالترجيح”.
وبناءً على ذلك، يصحُّ وصفك العالم بالقِدم إذا نظرت إلى مرتبة الوجود العلميِّ، ويصحُّ وصفك إيَّاه بالحدوث إذا نظرت إلى مرتبة الوجود الحسّيِّ، وكلاهما مرتبتان، ونسبتان إلى حقيقة وجوديَّة واحدة.
ولا يني ابن عربي يردِّد أنَّ الأسماء الإلهيَّة، ويجمعها اسم جامع هو الألوهيَّة، ليست إلَّا مجموعة من التعلُّقات والإضافات لا أعيان لها، بمعنى أنَّه ليس لها وجود حسّيٌّ مستقلٌّ، بل وجودها وجود عقليٌّ مفهوم، وممَّا يدعم وعيه هذا التصوُّر الذهنيُّ المعقول للألوهيَّة قوله، تقريبًا لهذا المعنى من الأذهان: “إنَّ الشيء الواحد تثنيه نفسه لا غير، فأمَّا في المحسوس فآدم ثناه ما فتح في ضلعه القصير الأيسر من صورة حواء، فكان واحدًا في عينه، فصار زوجًا بها، وليست سوى نفسه التي قيل بها فيه إنَّه واحد. وأمَّا في المعقول فالألوهيَّة ليست غير ذاته تعالى، ومعقول الألوهة خلاف معقول كونه ذاتًا، فثنت الألوهة ذات الحقِّ وليست سوى عينها”.
ومن ثمَّ، تكون الألوهيَّة مفهومًا ذهنيًّا معقولًا يتوسَّط بين الذات الإلهيَّة والعالم، أو بين الوجود الحقِّ المطلق والوجود المقيَّد المضاف، ويصعب أن توصف بالوجود أو العدم بمعناهما الحسّيِّ، بل الألوهة فاصلة واصلة في آن، إنَّها أمر ثالث بين الوجود المطلق والوجود المقيّد “لا يتَّصف لا بالوجود، ولا بالعدم، ولا بالحدوث، ولا بالقِدم، وهو مقارن للأزليِّ الحقِّ أزلًا، فيستحيل عليه، أيضًا، التقدُّم الزمانيُّ على العالم والتأخُّر، كما استحال على الحقِّ وزيادة؛ لأنه ليس بموجود، فإنَّ الحدوث والعدم أمر إضافيٌّ يوصل إلى العقل حقيقة ما، وذلك أنَّه لو زال العالم لما أطلقنا على الواجب الوجود قديمًا، وإن كان الشرع لم يجىء بهذا الاسم – أعني: القديم – وإنما جاء بالاسم الأول والآخر؛ إذ الوسط العاقد للأوليَّة والآخريَّة ليس ثم، فلا أول ولا آخر، وهكذا الظاهر، والباطن، والأسماء، والإضافات كلُّها، فيكون موجودًا مطلقًا من غير تقييد بأوليَّة، أو آخريَّة”[72]. وهكذا يستبين لنا أنَّ الأسماء الإلهيَّة ليس لها وجود إضافة كالعالم، وإنما هي مجموعة من التعلُّقات التي تصل بين كينونتين؛ الأولى هي الذات الإلهيَّة بوجودها المطلق حتى عن الإطلاق، والثانية هي العالم بوجوده العينيِّ المضاف لا بوجوده العلميِّ الأزليّ[73]. وتلك النسب، والإضافات، والتعلُّقات هي التي تقيّد إطلاق الذات الإلهيَّة، ومن ثم تجمع بينها وبين العالم، وبذلك يكون الله متعاليًا ومحايثًا في آن، والتعالي والمحايثة مظهران للحقِّ، فالتعالي للحقِّ باعتباره ذاتًا إلهيَّة مجهولة العين، والمحايثة باعتبار العالم مجلى لألوهيَّتها؛ أي: مظهرًا لأسمائها، وانعكاسًا لصفاتها.
فالوقوف عند التعدُّد – كما يذكر الشارحون لعقيدة التوحيد الوجوديِّ عند الشيخ الأكبر- يعني الوقوف مع كثرة الأسماء الإلهيَّة، والوقوف عند وحدة المسمَّى، يعني: الوقوف مع الذات الإلهيَّة مستقلَّة عن العالم، وعن تعلُّقات أسمائها بالعالم[74]. يقول ابن عربي: “وأعلم أن الله، من حيث نفسه، له أحديَّة الأحد، ومن حيث أسمائه له أحديَّة الكثرة”، لكن الله والعالم متلازمان ضرورة، “فمدلول الله يطلب العالم بما فيه، فهو كالإسم الملك، أو السلطان، فهو اسم للمرتبة لا للذات”[75].
نحن، إذًا، إزاء ثلاثيَّة تحلُّ محلَّ الثنائيَّة القديمة (الله/العالم) في الفكر الدينيِّ، والوسيط الفاصل الواصل بينهما هو الألوهة، وهي ذات وجود ذهنيٍّ معقول؛ إذا لا أعيان لها، وليس معنى ذلك أننا إزاء ثلاث كينونات مستقلَّة منفصل بعضها عن بعض، وإنما نحن إزاء مراتب ثلاث لحقيقة واحدة هي الوجود الحقُّ المطلق، إذا نظرنا الى هذه الحقيقة في مرتبة الإطلاق والتجرُّد قلنا: “الذات”، وإذا نظرنا إليها من حيث أحكامها الباطنة المعقولة قلنا “الألوهة”، وإذا نظرنا إليها من حيث ظهور هذه الأحكام في حقائق حسّيَّة كثيرة قلنا “العالم”، فهذه ثلاث مراتب للوجود هي الوجود الذاتي، أو ذات الوجود(الذات الإلهيَّة)، والوجود العقليّ (الألوهة) وهو نفسه يسمّيه ابن عربي الحقَّ المخلوق به، والوجود الحسِّيَّ (العالم)[76]. وقد تنبَّه بعض المستشرقين إلى هذا المعنى، فنفى عن وحدة الوجود عند ابن عربي المعنى المادّيَّ الاندماجيَّ، وعلَّل ذلك بأنَّ الله عنده هو الوجود الطلق، الذي عنه تكوَّنت الموجودات، فليست الموجودات مماثلة لله، متطابقة معه، مماهية له، وإنما هي مجرَّد انعكاسات لأسمائه، وصفاته[77].
فالله هو الحقُّ الوحيد، أمَّا العالم فلا وجود له من ذاته، وإنما وجوده موقوف على إيجاد الله إيَّاه، وحفظه الوجد عليه، فلا مجال للحديث عن وحدة وجود مادّيَّة محايثة ترجع الله إلى العالم، وتجعله ماثلًا فيه، ولا عن وحدة وجود فيضيَّة تعدُّ العالم سيلانًا، واندفاقًا من الذات، وإنما هي وحدة عمادها الإيمان بالله الواحد الحقِّ الفرد الصمد الذي لا يتبدَّل، فهو نفسه في حقيقته الغيبيَّة المتعالية، وهو نفسه في المظاهر المتعلقة بالكون المخلوق.
الثامن: المثنَّى بوصفه التجلِّي الأوَّل:
السؤال الإشكاليُّ الذي يطرحه قرَّاء ابن عربي بإزاء الصلة بين الله والعالم، أو بين الحقِّ والخلق هو التالي: كيف للوجود الحقِّ أن يظهر في مراتب وظهورات مختلفة؟
في جوابهم يسعى هؤلاء لمتاخمة ركن بارز في أركان التنظير عند ابن عربي، عنينا به مفهوم التجلِّي، والوظيفة المعرفيَّة المسندة إليه في التوحيد الوجوديّ: يرى هؤلاء أنَّ مفهوم التجلّي هو بمثابة الأداة الإجرائيَّة؛ التي بفضلها يفسِّر ابن عربي تعدُّد المراتب الوجوديَّة، مع أنَّ عين الوجود واحدة، وبفضل هذا المفهوم المفتاح يؤسِّس ميتافيزيقا التجلّي، وهي ميتافيزيقا وحدويَّة تصل بين الله والعالم، فتجعل من العالم مرتبة من مراتب التجلّي الإلهيّ الدائم، ويعتاض بها عن ميتافيزيقا الفيض، كما نظر لها الفلاسفة، وعن ميتافيزيقا الخلق من عدم كما نظر لها المتكلّمون. تلك التي تتأسَّس على مبدأ الإله المفارق المتعالي، والعالم المنفصل عنه؛ ولذلك أتيح له أن يحقِّق مقصوده من تمييز نسق تفكيره الخاص من الفلاسفة والمتكلمين معًا بفضل استصفاء هذا المصطلح.(…) ثم إنَّ ميتافيزيقا التجلّي تجعل المفارق محايثًا من غير أن يفقد مفارقته، وتعاليه، فهو متعالٍ من جهة ذاته، محايث من جهة أسمائه، وهذا التجلّي له جانبان: جانب وجوديٌّ وجانب معرفيٌّ؛ لأنَّه نوعان: “تجلٍّ عامٌّ إحاطيٌّ، وتجلٍّ خاصٌّ شخصيٌّ، فالتجلّي العامُّ تجلٍّ رحمانيٌّ، وهو قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[78]، والتجلِّي الخاصُّ هو ما لكلِّ شخص من العلم بالله، وهو ما يسمَّى (التجلِّي الوجوديُّ) و(التجلِّي الشهوديُّ)، فضلًا عن أنَّ الأسماء الإلهيَّة، على تعدُّدها، وتنوُّع حضراتها، وفاعليَّتها في الأكوان كلِّها، يمكن إرجاع الأفعال المتصلة بها إلى نوعين من التجلّي هما: تجلّي الجمال، وتجلّي الجلال[79].
أمَّا من الوجه الوجوديّ فالتجلّي هو حركة الوجود الأزليَّة الأبديَّة، عنها يظهر الوجود في كلِّ آن في ثوب جديد، وتتعاقب عليه الصور التي لا تتناهى عددًا من غير أن تزيد فيه، أو تنقص شيئًا من جوهر ذاته، فإنَّ للحقِّ في كلِّ خلق ظهورًا… فالحقُّ محدود بكلِّ حد[80].
وقد ذهب عدد من أقطاب الصوفيَّة المتأثّرين بالشيخ الأكبر إلى تأصيل نظريَّة توحيد الوجود، فميَّزوا بين مراتب الوجود ليؤدُّوا تنزيه الحق الواجد ورعايته بالحقِّ الموجود وفق مبدأ الوصل والوصل. ومثل هذا التمييز سنجده لدى المتصوِّف الكبير الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي (1050- 1143هـ) الذي يبيّن في كتابه “الوجود الحق والخطاب الصدق” أن “الوجود الواحد الحقّ، وإن كان في ذاته مطلقًا عن جميع التقادير، والتصاوير، والقيود، والحدود، قد تجلَّى، وانكشف، وظهر بجميع التقادير، والتصاوير، والقيود، والحدود؛ لأنَّه فاعلها، وخالقها، وصانعها على مقتضى ما جرى في علمه، وقرَّرته إرادته، وأنشأته قدرته، فليس ثمَّة إلَّا وجود وقيود وحدود قائمة بالوجود، والقيود والحدود هي المعلومة المشهودة بالحسِّ والعقل، والوجود غيب عن الحسِّ والعقل من حيث ذاته، وشهادة لهما من حيث ظهور القيود، والحدود به[81].
وهكذا سنرى أنَّ الخلق في – منظومة ابن عربي العرفانيَّة – ليس إيجادًا لشيء لا وجود له، فذلك مستحيل عقلًا وفعلًا، ولا هو فعل قام به الحق في زمن مضى، دفعة واحدة، ثم فرغ منه، كلَّا، فليس الخالق عنده بمعنى الموجد من عدم، أو المبدع على غير مثال سابق، وإنما الخالق ذاتٌ أزليَّة أبديَّة تظهر في كلِّ آن في صور ما لا يحصى من الموجودات كثرة، فإذا ما اختفت فيه صورة تجلّى في غيرها في الَّلحظة التي تليها، فعمليَّة الخلق هي حركة التجلّي المتجدِّد، والمخلوق هو تلك الصور المتغيّرة الفانية التي لا قوام لها في ذاتها، وإنما قوامها بالحقِّ الذي يوجدها بمقتضى علمه، ويحفظ عليها وجودها على النحو الذي يشاء، بمقتضى قدرته، وإرادته. فـ: “إذا قلت القديم فني المحدث، وإذا قلت الله فني العالم، واذا أخليت العالم من حفظ الله، لم يكن للعالم وجود وفنيٌّ، وإذا سرى حفظ الله في العالم بقي العالم موجودًا، فبظهور وتجلّيه يكون العالم باقيًا… وبهذا يصحُّ افتقار العالم إلى الله في بقائه في كلِّ نفس، ولا يزال الله خلَّاقًا على الدوام[82].
إنَّ الخلق عند ابن عربي هو التجلّي؛ أي: إخراج ما له وجود في حضرة من حضرات الوجود إلى حضرة أخرى، بمعنى إخراجه من الوجود في العلم الإلهيِّ الى الوجود في العالم الخارجيِّ، أو هو إظهار الشيء في صورة غير الصورة التي كان عليها من قبل، فالعالم، من حيث بطونه في العلم الإلهيِّ، حقيقة أزليَّة دائمة لا تفنى، ولا تتبدَّل، ولا تتغيَّر إلَّا من حيث صورها، أما حقيقة ذاتها وجوهرها فلا تخضع للكون والفساد، وإنَّما تخضع لهما صورها المتكثرة، ومظاهرها المتعدِّدة[83].
ذلك هو الخلق في اصطلاح ابن عربي؛ تجلٍّ إلهيٌّ دائم في ما لا يحصى عدده من صور الموجودات، وتغيُّر دائم في ما لا يحصى من صور الموجودات، وتحوُّل مستمرٌّ في الصور في كل آن، وهو ما يطلق عليه اسم (الخلق الجديد) و(تجديد الخلق مع الأنفاس)[84]، زاعمًا أنه المشار إليه في قوله تعالى: {بَلْهُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[85]. والحقَّ أن مفهوم الخلق المتجدِّد، الخلق المستمرِّ، أو تجدُّد الوجود، أقرَّ به، قبل ابن عربي، الغزالي، ومن قبله المتكلّمون، وهو في الأصل مقالة عريقة في القِدم، لم تكن من إبداع ابن عربي، ولا الغزالي، ولا المتكلّمين، بل ترجع إلى بعض المذاهب في الثقافة الهنديَّة القديمة، وقد تبنَّاها إخوان الصفاء[86].
فالله هو الوجود المطلق، وكلُّ موجود من الموجودات صورة من صوره، والصورة إن أخذت في جزئيَّتها ليست هـي الله فـي إطلاقـه، إنَّمـا هـي مجلـى مـن مجاليــه، وإنما {كَفَـرَ الَّذِيـنَ قَالُـوا إِنَّ اللَّه هُـوَ الْمَسِيـحُ ابْـنُ مَرْيَمَ}[87]، في رأي ابن عربي؛ لأنهم حصروا الحق الذي لا تتناهى صوره في تلك الصورة الجزئيَّة بعينها، ولو قالوا: إنَّ المسيح صورة من صورة الله التي لا تتناهى، لما كفروا، فالصورة، وإن كانت من صور الحق، ووجوها العينيّ صورة من وجوده، فإن الله، باعتباره ذاتًا مطلقة ليس من حيث إطلاقه، واستغنائه الذاتيّ عنها، وعن غيرها أي نسبة اليها، ولا لها هي نسبة إليه، فليس فيها من ذلك المطلق شيء، وإنما هي مجرَّد مجلى ومظهر[88].ومن ثم، يمكن القول: أنَّ الموجودات، من حيث حقيقتها الجوهريَّة التي بها قوام وجودها، هي الله، لكن الله ليس هو الموجودات، لا بمعنى أنَّ حقيقته تُقصي الموجودات؛ وإنَّما لأن الموجودات الزائلة الفانية ليست شيئًا مذكورًا أمام إطلاقه، ولا نهائيَّته، فهي ملغاة أمامه.
إنَّ مفهوم التجلّي، كما استقرَّ عند ابن عربي، أشبه ما يكون بمفتاح سحريٍّ يفتح المستغلقات، فقد رأينا، من الناحية الوجوديَّة، أنَّه شرط وجود الأشياء واستمرارها في الوجود وبقائها، فالحقُّ يظهر بالتجلّي في صور كلِّ ما سواه من الموجودات، “فلولا تجلّيه لكلِّ شيء ما ظهرت شيئيَّة ذلك الشيء”[89]. ومزيَّة هذا التجلّي الإلهيِّ هي الدوام، “فالتجلّي الإلهيُّ لا ينقطع”[90].
التاسع: المثنَّى أو الحقّ المخلُوق بِه:
يكتشف العارف خلال معراجه المعرفيِّ واختباراته المعنويَّة سرَّ الوجود في ذاته. وهو في هذا يتفادى الجدل الذي يشهده فقه الفلسفة لجهة التعارض بين الخلق من العدم والخلق من شيء، وهو تعارض لا نعرف معه الخاصّيَّة التي يتمتَّع بها الحقُّ المخلوق به فلا يشاركه فيها أيُّ مخلوق. فهو مخلوق متفرِّد بذاته، فاعل بالخلق منفعل بالحقِّ الأعلى ولذلك حظي بمنزلة الخلق الأول والتجلّي للكلمة الإلهيَّة البدئيَّة “كن”. فهذه الكلمة يمثِّلها ابن عربي بـ “النفس الإلهيّ. وهي تعني الانبلاج كما ينبلغ الفجر. وأمَّا الخلق هنا فهو أساس كشف الذات الإلهيَّة لنفسها، ولذا فلا مجال هنا للخلق من عدم لفتح هوَّة لا يمكن لأيِّ فكر عقلانيٍّ أن يمدَّ فوقها جسرًا، لأنَّ تلك الهوَّة نفسها وبطابعها التمييزيِّ تقوم بالمعارضة والإبعاد بين الأشياء. فالتنفُّس الإلهيُّ يخرج ما يمسيه ابن عربي نَفَسًا رحمانيًّا وهذا النَفَسُ هو الذي يمنح الوجود والحياة لكلِّ الأجسام “اللطيفة” التي تشكِّل الوجود الأوليَّ والتي تحمل اسم العماء[91].. في هذا المجال يشير المفكِّر الفرنسيُّ هنري كوربان إلى الحديث المنسوب إلى النبيِّ(ص) لمَّا سُئل أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فأجاب: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء.
يرى كوربان أنَّ هذا العماء الذي يصدر عنه والذي فيه يوجد أزلًا الكيان الإلهيّ، هو نفسه الذي يقوم في الآن ذاته بتلقّي الأشكال كلِّها، ويمنح للمخلوقات أشكالها: إنه نشط وسكونيٌّ، متلقٍّ ومحقِّق، وبه يتمُّ التمييز داخل حقيقة الوجود باعتبارها الحقَّ في ذاته. إنه من حيث هو كذلك الخيال المطلق واللَّامشروط. وعمليَّة التجلّي الإلهيِّ الأصليَّة التي من خلالها “يظهر” الوجود لنفسه بالتميز في وجوده الخفيّ، أي بإظهاره لذاته ممكنات أسمائه وصفاته والأعيان الثابتة، هذه العمليَّة تعتبر خيالًا فاعلًا وخلَّاقًا وتجلّيًا. العماء بهذه الدلالة هو الخيال المطلق أو التجلّي الإلهيُّ أو الرَّحمة الموجِدة، تلكمُ هي بعض المفاهيم المترادفة التي تعبِّر عن الواقع الأصل نفسه، أي الحقَّ المخلوق به كلُّ شيء، وهو ما يعني أيضًا “الخالق المخلوق”. فالعماء هو الخالق، بما أنَّه النفيس الذي يصدر عنه لأنَّه مخبوء فيه: وهو من حيث هو كذلك اللَّامرئيُّ و”الباطن”. والعماء هو المخلوق باعتباره ظرفًا ظاهرًا. فالخالق المخلوق يعني أنَّ الوجود الإلهيَّ هو المحجوب والمكشوف أو أنَّه هو الأول والآخر[92].
تتضمَّن كلمة “كن” التي كان بها الحقُّ المخلوق به كل شيء، إيحاءً غيبيًّا من خالقه مؤدَّاه: “لست أنت الذي يخلق حين تخلق، ولهذا فخلقك حقيقيّ. وهو حقيقيٌّ لأنَّ كلَّ مخلوق له بعد مزدوج: فالخالق المخلوق ينمذج وحدة الأضداد. ومنذ الأزل وهذه المصادفة متأصِّلة في الخلق لأنَّ الخلق ليس من عدم وإنَّما هو تجلٍّ، ومن حيث هو كذلك فهو خيال. فالخيال الخلَّاق هو خيال شهوديٌّ، والخالق مرتبط بالمخلوق المتخيّل، لأنَّ كلَّ خيال خلَّاق هو تجلٍّ وتجدُّد للخلق. وعلم النفس لا ينفصل عن علم الكون: وخيال التجلّي يصرفهما في سيكوكسمولوجيا. وبالحفاظ على هذه الفكرة حاضرة في الذهن يلزمنا مساءلة ما يكون عضوها في الكائن الإنسانيِّ، أي عضو الرؤى والتنقيل، وتحويل كلِّ الأشياء إلى إشارات ورموز.[93]
العاشر: المثنَّى بما هو الوجود المنبسط:
تعدَّدت الآراء حول كيفيَّة صدور الكثرة عن الصادر الأوَّل. لكن الرأي الشائع في الحكمة الإسلاميّة ما ذهب إليه الفارابي وابن سينا من أنَّ العالم صدر من الصادر الأوَّل على نحو الترتيب والترتُّب. وظهرت قاعدة “الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد” من أبرز القضايا الإشكاليَّة في تاريخ الميتافيزيقا والعلوم الإلهيَّة. ومن الباحثين من يشير إلى أنَّ هذه القاعدة لم تكن مسلَّمة عند الحكماء[94]، ومنهم من تصدَّى لها بالنقد والتفنيد، في مقدَّمهم الفيلسوف أبو البركات البغدادي (ت 447هـ)، حيث بيَّن أنَّ حكماء المشَّائيَّة من المسلمين لم يستعملوا هذه القاعدة استعمالًا صحيحًا[95].
وبناءً على أنَّ الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، كَثُر التساؤل عن ماهيَّة وطبيعة وصفة ذلك الواحد الصادر أوَّلًا من المبدأ الأعلى. في تعريفات مدرسة الحكمة المتعالية أن الصادر الأوّل ممكن لا يحتاج إلى غيره من الممكنات بل يجب أن يكون هو واسطة في وجودها، وينحصر احتياجه إلى الواجب نفسه وحسب، وهي ترى إليه على أنَّه الممكن الأشرف. والوجود المطلق المنبسط. وهو أوّل ما ينشأ من الوجود الحقّ. ويجمع صدر الدين الشيرازي بين القولين أي الممكن الأشرف والعقل الأوّل باعتبار هذا الأخير صادرًا أوّل بالقياس إلى الموجودات المتعيّنة المتباينة المتخالفة الآثار. فالأوّليَّة ههُنا بالقياس إلى سائر الصوادر المتباينة الذوات والوجودات، وإلَّا فعند تحليل الذهن العقل الأوّل إلى وجود مطلق وماهيَّة خاصَّة ونقص وإمكان حكمنا بأن أوّل ما ينشأ هو الوجود المطلق المنبسط ويلزمه بحسب كلِّ مرتبة ماهيَّة خاصَّة، وتنزَّلٌ خاصٌّ يلحقه إمكان خاصّْ[96]“.
وللفيلسوف الملَّا هادي السبزواري تعريف آخر يبدو فيه أقرب إلى ما يقرِّره أهل العرفان. فهو يرى أنَّ: “الوجود المنبسط ليس صادرًا إنَّما هو صدور حقيقيٌّ وإشراقه تعالى الفعلي ولا مستشرق هناك ولو بالتعمّل. فالعقل أوّل الصوادر وليس مسبوقًا بصادر وإن كان مسبوقًا بالصدور[97]“، ولعلّ مراده بالصدور هنا، كما يظهر عند تتبُّع عباراته في موارد مختلفة، هو ظهوره تعالى ومعروفيَّته، وظهور الشيء لا يباينه. ثمّ بعد صدور العقل الأوّل تتوالى الصدورات وتحصل الكثرة في العالم، فالعقل الأوّل وإن كان واحدًا لكن فيه كثرة اعتباريَّة، فإنَّ له وجودًا وماهيَّة، وأنَّه مجرَّد عقل له تعقُّل لذاته وتعقُّل لمبدئه، حينئذٍ بتعقُّله لمبدئه يصدر العقل الثاني وبتعقُّله لذاته يصدر الفلك الأقصى، وهكذا العقل الثاني يصدر منه عقل ثالث وفلك ثانٍ، وتستمرُّ سلسلة الفيض والصدور هذه حتّى تصل إلى العقل العاشر، وهو العقل الفعَّال المكمِّل للنفوس الناطقة، ثمّ تتصل العقول الطوليَّة هذه بعقول أخرى عرضيَّة، فيكون ترتيب العوالم كالآتي[98]:
1- عالم الجبروت، وهو عالم العقول مطلقًا (الطوليَّة والعرضيَّة)، العقول الطوليَّة تتقدَّم كلُّها على العقول العرضيَّة المتكافئة، وأنَّ العقول الطوليَّة هي أيضًا مرتبة بتقدُّم العقل الأوّل على الثاني، والثاني على الثالث، إلى أن ينتهي إلى آخر العقول الطوليَّة المتّصلة بالعقول العرضيَّة[99].
2- عالم الملكوت، وهو عالم النفوس الكلّيَّة المحرِّكة للسماوات، “ثمَّ عالم المُثُل المعلَّقة وهو عالم المثال والخيال المنفصل أي عالم الصور المجرَّدة عن المادَّة المعبَّر عنه بعالم الذرِّ في القوس النزوليِّ، وعالم البرزخ في القوس الصعوديِّ بلسان الشرع”، والمُثُل المعلَّقة هذه تختلف عن المُثُل الأفلاطونيَّة (السابقة الذكر)، فالأخيرة مُثُلٌ نوريَّة عقليَّة بينما هذه عبارة عن أشباح مقداريَّة موجودة في عالم متوسِّط بين عالم المفارقات وعالم الماديَّات، وعالم المثال هذا هو أوّل ما ينفتح للإنسان عند غيبته عن العالم الجسمانيِّ، وفيه يشاهد أحوال العباد بحسن صفاء الباطن وقوّة الاستعداد، وأكثر ما يكاشف به أرباب المكاشفة من أمور غيبيَّة يكون في هذا العالم، فالكشف الذي يحصل للمرتاضين من أحوال الناس والحوادث التي تقع إنَّما يحصل فيه، ولكن لا يلتفت إليه الكُمَّل من أهل العرفان لكونه غير مخصوص بأهل الإيمان ولعدم اهتمامهم بالحوادث الزمانيَّة[100].
3- عالم الملك والشهادة المعبّر عنه بالناسوت، وهو العالم المشتمل على الصور والمواد حيث تتقدّم الصورة على الهيولى “فآخر ما ينتهي إليه تنزُّل الوجود هو الهيولى، ولذا تكون مرتبتها مرتبة صف النعال من الوجود، وبها يختتم القوس النزوليُّ، كما أنَّ منها يفتتح القوس الصعوديُّ فيتصاعد إلى الصورة إلى عالم المثال إلى الملكوت إلى الجبروت إلى أن ينتهي إلى العقل الأوّل ما يناظر قوله تعالى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}[101]، وهنا يكون التنزُّل من الأشرف إلى الأخسِّ حتّى ينتهي إلى الهيولى، والتّصاعد من الأخسِّ إلى الأشرف حتّى ينتهي إلى العقل الأوّل”[102].
الحادي عشر: وحدة الخالقيَّة في صيغة المثنَّى:
نستنتج ممَّا مرَّ معنا أنَّ الله تعالى خلق الخلق بصيغة المثنَّى، وهذه الصيغة الخالقيَّة هي بمثابة الإعراب الإلهيِّ عن التوحيد الأفعاليِّ الذي يمكن فهمه ضمن قاعدتين:
القاعدة الأولى تقول: ليس في عالم الوجود إلَّا خالقٌ أصيل ومستقلٌّ واحد، وأمَّا تأثير العلل الأخرى وفاعليَّتها فليست إلَّا في طول خالقيَّة الله وعليِّته وفاعليَّته ومحقَّقة بإذنه.
القاعدة الثانية تقول: لا مدبِّر للعالم إلَّا الله، ولا تدبير لغيره إلَّا بإذنه[103].
هاتان القاعدتان تميِّزان بين التوحيد في الخالقيَّة والتوحيد في التدبير والربوبيَّة. الربُّ هنا ليس بمعنى الخالق، وإنَّما بالمعنى الذي يُقصد منه إيكال الأمر إليه لإصلاح أمر الخلق فردًا كان أو جماعة. على أنَّ الربوبيَّة والخالقيَّة الَّلتين تنسبان إلى أفعال الله في العالم، إن هي إلَّا توسُّطات رحمانيَّة وألطاف إلهيَّة. وهو ما توضحه الآيات البيِّنات بأن ليس ثمة خالقٌ مستقلٌّ وأصيلٌ إلَّا الله. وأمَّا خالقيَّة ما سواه فهي في طول خالقيَّته تعالى وليس لها أيُّ استقلال في الخلق والإيجاد[104]. وهنا طائفة من الآيات تدلُّ على ما ذهبنا إليه:
{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[105]
{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[106]
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[107]
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[108]
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}[109]
وهكذا فإنَّ جميع الأسباب والمسبِّبات، ورغم ارتباط بعضها ببعض بحكم قانون العلِّيَّة، فهي مخلوقة لله جميعًا، فإليه تنتهي العليَّة، وإليه تؤول السببيَّة، وهو معطيها للأشياء. وعليه، فالمراد من كون أفعال العباد مخلوقة هو أنَّها فعلًا له سبحانه بلا مشاركة العبد، بل المراد هو عدم استغلال العبد والعلل كلِّها في مقام الإنشاء والإيجاد، وإلَّا لزم أن يكون في صفحة الوجود فاعلون مستقلّون في الفعل وهو بمنزلة الشرك[110].
ولو تدبَّرنا الخالقيَّة من وجه كونها السرَّ الكامن في التوحيد الأفعاليِّ، لتكشَّفت حُجُبٌ شتَّى في المعارف التوحيديَّة. منها على الأخصِّ ما يتعلَّق بمخلوقيَّة المثنَّى والعلَّة الغائيَّة لإيجاده. نحن إذن، تلقاء كيان إلهيٍّ متوحِّد في جوهره اللَّامشروط، ولا نعرف عنه إلَّا أمرًا واحدًا يتعلَّق بالضبط بتلك الوحدة الأصليَّة التي جعلته ينكشف في المخلوقات التي تظهره لنفسه طالما ظهر هو لها[111].
الثاني عشر: الإنسان الكامل كتجلٍّ لحقيقة المثنَّى:
لم ترِد لفظة المثنَّى في الأدب العرفانيِّ على نحو صريح؛ إلَّا أنَّنا سنلقاها مطويَّة في منظومته الوجوديَّة الشاملة، وخصوصًا في تأويليَّات العُرفاء لمَّا تحدَّثوا عن البعد المزدوج للموجودات. فالمثنَّى المستظهِر نصوصهم معادل لتجلّي الواحد في العالم الكثير، وهو مصداق هذا التجلّي في الآن نفسه، أمَّا أصالته فمأخوذة من الواحد ومرعيَّة باعتنائه. وتلك مسألة لا يدركها العقل الحسير[112] مهما دأب على اختبارها بالاستدلال، إذ كلَّما مضى هذا العقل إلى مقايستها والبرهنة عليها وفق قاعدة المقدِّمات والنتائج عادت خائبة إلى سيرتها الأولى. والعارف الذي يقطع جسور الاستدلال يعرف أنَّ مسألة كهذه ممتنعة على الفهم فلا يجد العارف حالئذٍ سوى التأويل سبيلًا إلى التعرُّف.
لقد بذلت المنظومة الفلسفيَّة العرفانيَّة جهودًا مضنية للوصول إلى حلٍّ لهذه المعضلة، حيث أخذت المساحة العظمى من مكابداتها. كان التناظر في البعدين الوجوديَّين للموجودات واقعًا في أصل تلك المكابدات التي اتَّخذت مسلكًا متماديًا في التأويل. ذلك ما يبيّنه الفيلسوف المستشرق هنري كوربان في سياق اشتغاله على ما ذهب إليه ابن عربي في هذا الصدد. لقد أشار إلى واحديَّة المنهج الأكبريِّ في فقه التعرُّف على النظام الدقيق الذي يحكم صلات الوصل بين وحدة الحقِّ ووحدة الخلق “فالقول بأنَّ التجلّي الإلهيَّ شيء آخر غير الله – كما يلاحظ كوربان -. لا يعني القدح في ذلك التجلّي باعتباره “وهميًّا”، بل بالعكس تثمينه وتأسيسه بوصفه رمزًا يحيل على المرموز الإلهيِّ، الذي هو الحقُّ، وبالفعل فإنَّ الظاهر هو خيال وتجلٍّ، وفي الآن نفسه فإنَّ حقيقته الباطنة هي الحقّ. إنَّ الظاهر خيال، ويتطلَّب ضرورة تأويلًا للصورة المتجلّية فيه، أي تأويلًا يؤول بتلك الصور إلى واقعها الحقيقيّ. ليس عالم المنام وحده، بل العالم الذي نسمّيه عادة عالم اليقظة أيضًا بحاجة بالمقدار نفسه للتأويل[113].
للمثنَّى في المنظومة العرفانيَّة حقيقته المفارقة. هو واحد وكثير في الآن عينه. وحين يصل العارف إلى هذا المقام يكون قد تمثّل ماهيَّته وصار هو عين المثنَّى وحقيقته. ولذا سنرى كيف ابتنى سيره وسلوكه على الغيريَّة الخلَّاقة حيال سائر الموجودات وفي مقدَّمها النوع الآدميّ. ذلك بأنَّه الآن في مقام معرفيٍّ مبنيٍّ على حاضريَّة الله في عالم الاختلاف والكثرة. وما ذاك إلَّا لأنَّ هذه الحاضريَّة المتعالية المعتَنِية في الآن نفسه، تجعل العارف كائنًا راعيًا للمجتمع الإنسانيّ، وليس مجرَّد كائن اعتياديٍّ شأنه شأن سائر البشر. فهو مهاجر إلى الجود الإلهيِّ ليكسب عظمة الإيثار والإنفاق. وما غايته من متاخمة الألوهيَّة إلَّا لتمنحه صفاتها في العطاء والجود والُّلطف. ولذا جاءت حاضريَّة الله في هجرة النظير، حاضريَّة تدبير ولطف، حيث يستوي فيها النوع الآدميُّ بالعدل على نشأة النفس الواحدة.
ولمَّا كان مسعانا في هذا الفصل بيان منزلة العارف كنظير للمثنَّى في نظريَّة المعرفة العرفانيَّة، فقد ارتأينا بداية إيضاح ماهيَّته وهويَّته وغايته على الوجه التالي:
أـ المثنَّى هو الذي يستوي جناحاه على مبدأ الاعتدال في رؤية ذاته ورؤية العالم من حوله.
- وهو الآدميُّ الجامع للكثرة الإنسانيَّة، على اختلاف ألسنتها وألوانها ومعتقداتها.
ج- وهو صاحب النفس المحترمة، المستخلف في الأرض، وهو بوصفه عارفًا وأصلًا يتحرَّك تحت إشراف الحقِّ الأول وعنايته.
د- وهو الذي يقرُّ بأنَّ حقَّ الغير فيه هو حقّ متأتٍّ من فيض الله لا من كهف النفس البشريَّة وأنانيَّتها.
وإذا شئنا شرح ما مرَّ معنا فنقول إنَّ التناظر في عالم الاثنينيَّة آيلٌ إلى الاختصام والتشظّي، بينما كلُّ شيء في وحدة المثنَّى محمول على جمع الشمل. ذاك أنَّ زوجيَّة المثنَّى لا تؤدّي وظيفتها إلَّا وفقًا لقانون التكامل والانسجام. وإنَّ إدراك هذا القانون توفِّرُه واحديَّة المثنَّى بوصف كونها سيريَّة امتداديَّة ترتق القطيعة المتوهّمة بين الله والعالم، وتقرُّ بالقيوميَّة الإلهيَّة في الآن عينه. أمَّا مؤدَّى هذه السيريَّة فهي أنَّ الحقَّ خارجٌ عن الأشياء لا كخروج شيء عن شيء، وداخلٌ في الأشياء لا كدخول شيء في شيء.
وتبعًا لاستحالة الانفصال بين الوجود والموجود في مقام القيوميَّة الإلهيَّة، يمكن للعارف الآخذ بمبدأ المثنى ان يتدبَّر شأن الخلق بعين الحقّ. ففي هذا المقام المتعالي تغمر الرحمانيَّة كلَّ الموجودات وخصوصًا العالم الإنسانيّ. وعليه يصبح هذا العالم مرعيًّا بمبدأ المثنَّى؛ بحيث يكون كلُّ ما تقدِّمه الذات إلى الغير من عطاء جميل فهو منه تعالى، وما الذات الإنسانيَّة إلَّا واسطة لفيضه وعطائه اللَّامتناهي. هكذا لا تعود ثنائيَّة الذات والآخر محكومة بالتناقض ما دامت موصولة بالألوهة. وعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة المعرفة على خطِّ الإستواء والإستقامة. حيث تعرف الذات نفسها ونظيرها على نصاب العدل، ثمَّ لتبدأ سَيْرِيَّة معاكسة من التعرُّف ليعرف النظيرُ نظيره على القدر نفسه من المودَّة والرَّحمة. أمَّا ما يحكم التفاعل في المثنَّى الذي يسكن الآخر والذات معًا، فإنَّما هو مبدأ التحوُّل والتكامل. ذاك أنَّ طَرفَيْه في حالة امتداد وتواصل جوهريَّين بحكم أنَّ نهاية الطرف الأول (الذات) هي بداية الطرف الثاني (الآخر).
إنَّ فهم ماهيَّة المثنَّى وهويَّته على مثل هذا النصاب المتعالي، فهمٌ لا يتحقَّق على التمام إلَّا إذا عاينَّاه بعين الحقِّ لا بعين ذاتنا، إذ لا تستقيم الرؤية التوحيديَّة مع الدنيويَّة المكتظَّة بالنقصان، والأنانيَّة، ونكران الجميل. فقاعدة التناظر في الكثرة الخَلْقيَّة هي قاعدة أصيلة ثابتة ينفرد بها الخالق وحده. والخلق المأمورون بتمثُّلها لا ينالون بلوغها إلَّا بالمجاهدة. ولهذه المجاهدة شرائط معرفيَّة وسلوكيَّة، هي من مقتضيات السفر المعرفيِّ المديد في المباحث الإلهيَّة والعمل بمحاسن السير والسلوك.
بوصف كونه تمثيلًا حيًّا للانسجام بين الواحد والكثير في عالم الاختلاف. وبسبب من هذا الانسجام يصبح التعرُّف بديهيًّا بين طرفيه المتناظرين كما لو أنه يجري مجرى القوانين التي تنظِّم حركة الطبيعة. ولذا سنجده على “النشأة الأصليَّة للنوع الآدميِّ، حيث يؤالف بين اثنين من أصل واحد. وهو ما نجده في زوجيَّة المثنَّى حيث لا انفصال للأصل، وإنَّما ضرب من تمييزٍ بين كلٍّ من طرفَي الزوجيَّة في الصفة والهويَّة. فكلُّ متقابلين على نحو التناظر، هما نظيران متعادلان في أصل تقابلهما وجهًا لوجه. وبذلك يؤول التناظر إلى مبدأ الإيجاد. فالكون مثلًا يدار بسلسلة من الأنظمة والقوانين الذاتيَّة الثابتة التي لا تتغيَّر. وهذه القوانين والأنظمة هي نظائر متعادلة في أصل ظهورها في الوجود رغم الاختلافات والتفاوتات بين شخوصها وأفرادها.. ويقوم العدل في نظام النشأة الكونيَّة على وجود مراتب مختلفة ودرجات متفاوتة للوجود. وهذا هو منشأ ظهور الاختلاف والنقص والعدم. ولأنَّ التفاوت والاختلاف والنقص في المخلوقات أمور لا تتعلَّق بأصل الخلق، بل هي من لوازم ومقتضيات تلك المخلوقات، فمن الخطأ الظنُّ بأنَّ الخالق فد رجح بعض مخلوقاته على بعض. أمَّا الترجيح فهو الذي يؤدّي إلى نقض العدالة والحكمة فإنَّه من فعل الفاعل البشريّ. أي من المخلوق. أمَّا الذات الإلهيَّة المقدَّسة، فلما كانت وجودًا صرفًا وكمالًا محضًا، وفعليَّة خالصة، فهي إذن، منزَّهة عن تلك الوسائل والأفكار والوسائط، وبالتالي عن كيفيَّات الترجيح التي هي من لوازم الاجتماع البشريّ. ولذا فالعدل ـ بمعنى التناسب والتوازن ـ من لوازم كون الله حكيمًا وعليمًا. فهو سبحانه بمقتضى علمه الشامل، وحكمته العامَّة، يعلم أن لبناء أيِّ شيء مقادير معينة من العناصر. ولذا فهو من يركب تلك العناصر، لتشييد ذلك البناء. وضمن دائرة ارتباط العدل بالحكمة باعتبارهما صفتين من صفات الحقِّ تعالى، يتجلَّى العدل الإلهيُّ من خلال فيضه على كلِّ مخلوق بقدر ما يستحقّ. وعلى قول الفيلسوف نصير الدين الطوسي: لا يوجد حكم لائقٌ غير حكم الحقّ.. ولن يأتي حكم يفضُلُ الحكمَ الحق، وكلُّ شيء موجود قد أُوجد كما كان ينبغي، ولم يوجد شيء لا ينبغي وجوده”.. ولأنَّ لازم الحكمة والعناية الإلهيَّة هو أن يكون للكون والوجود معنى وغاية، فأيُّ شيء يوجد، إمَّا أن يكون خيرًا بنفسه، وإمَّا أن يكون وسيلة للوصول إلى الخير… فالحكمة من لوازم كونه عليمًا ومريدًا، هي توضيح أصل العلَّة الغائيَّة للكون. أمَّا العدالة فليس لها علاقة بصفتي العلم والإرادة، ولكنَّها بالمعنى الذي مرَّ تكون من شؤون فاعليَّة الله، أي أنَّها من صفات الفعل وليست من صفات الذات[114].
الثالث عشر: المثنَّى بما هو الرَّاعي الرَّحمانيُّ للموجودات:
لئن كان المثنَّى هو في حيثيَّة ما حاصلُ لقاء الغيريَّة في الموجودات، فذلك يعني أنَّ حاضريَّته في الوجود هي نتيجة فعليَّة لاستبدال مفهوم التناقض الوضعيِّ بمفهوم التدافع الإلهيّ. ولذا فهو لا يقوم على قانون نفي النَّفي كما تقرِّر المادّيَّة الديالكتيكيَّة، ولا على قانون التناقض كما وجدت الهيغليَّة، وإنَّما على ما نسمّيه بـ “زوجيَّة التكامل في عالم المثَّنى”… ففي هذا العالم بالذات يولد المثنَّى من دون أن تشوب ولادته شائبة.
فلو أوَّلنا المثنَّى في توليده للتناظر الخلَّاق بين الكثرات الوجوديَّة لظهر لنا ما نعتبره مجازًا بـ”ديالكتيك التوحيد”، بحيث لا يعود النظير نقيضًا لنظيره وإنَّما هو سيريَّة امتداد جوهريٍّ للنظائر المتآلفة في ما بينها. وهو ما لا يقدر على إدراك حقيقته إلَّا العارف المقيم في رحاب الألوهة لحظة تلقّيه الرَّحمانيَّة وامتلائه بها..
وعليه، لا تعمل النظائر خارج مبدأ المثنَّى.. ولأنَّه متَّصل بالرَّحمانيَّة، لا يرتضي المثنَّى لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن الإثنين، بحيث لو تآلف هذان الإثنان من بعد المكابدة في مشقَّة التناقض، أن يظهر كثالث يروح يستعيد استبداد الأنا بالغير ليصبح أوَّلًا من جديد.
لو فعل العارف هذا ما كان ليبلغ السموَّ، ولا تسنَّى له أن يكون له حظُّ المفارقة، ذلك أنَّه محفوظ في محراب المثنَّى، فلا يغادره بأيِّ حال. فالأنا باقية تحتفظ بفرديَّتها واستقلالها، وكذلك الآخر باق ٍ على فرديَّته واستقلاله، لكنهما إذ يجريان مجرى القربى سوف يُفتح لهما باب الكمال لينالا مقام الحريَّة المؤسَّسة على العدل.
في هذا المقام بالذات، سوف يُرى المثنَّى في ضمير الأنا والغير الَّلذين اكتملا بالمثنَّى، ثم توثَّقت صلته بالحقِّ الأعلى. سوى أنَّه لا يفارق الجيرة الحميمة ليستقلَّ بذاته، فهو ممتدٌّ معها على أرض الأخوَّة الفاضلة. وتبعًا لمبدأ الامتداد يصير كلُّ نظير آخرَ في الأنا، وتصير الأنا نظيرًا في الآخر، فيما تتولَّى الرحمانيَّة بعنايتها تثبيت المثنَّى وتسديده. ولذا يدخل كلُّ موجود بحسبه في سنَّة التدافع، بما هي سنَّة عمرانيَّة تمنع الفساد في الأرض، وتؤسّس لإعمار دنيا الإنسان وتيسِّر سبيله إلى السعادة القصوى.
بهذه الصيرورة لا يُشتقُّ المثنَّى من ضدَّين: الأنا والآخر. بل هو مما يُشتقُّ منه، لا من سواه، نظرًا لأصالته، وكذلك بما هو مفارق للأضداد. يستطيع الأنا أن يتمثَّل حال سواه ويكونه، بشرط أن يعقد النيَّة على الخروج من كهف الثنائيَّة واحترابها. ففي هذا الكهف تحتدم الموجودات مع ما يغايرها هويَّتها. وحالئذٍ يغدو كلٌّ منهما نقيضين متنافرين لا يلتقيان على كلمة سواء. بل قد يسعى كلٌّ منهما لتدمير نظيره، أو- في أحسن حال – ليقيم معه توازن هلع لا يلبث بعد هنيهة أن ينفجر لتصيب شظاياه الإثنين معًا. وإذن، لا يولد المثنَّى الكامل إلَّا في مكان ٍنظيف خارج الكثرة المشحونة بالتحاسد وسوء الظنّ. وسيكون له ذلك حين تبلغ أحوال العالم درجة الإختناق. فعند هذه الدرجة لا يعود ثمَّة انبثاق للحقيقة السامية إلَّا حين يفارق النوع الإنسانيُّ جاهليَّته ليصبح معادلًا للصفاء الكونيّ.
على هذا النصاب من جمع الظاهر إلى الباطن سيُكتبُ لعالم الموجودات أن يجتاز التناقض ليرى الوحدانيَّة في المثنَّى. وفي هذه الحال يصير كلُّ شيء بالنسبة إليه قابلًا لسَرَيان الزوجيَّة واختلافاتها في الوجود. لقد صار الأمر بينًّا لمن رأى نقيضه قائمًا في ذاته، وفي هذه الحال لا حاجةٍ لأحدٍ من طرفَي الزوجيَّة إلى البحث عن صاحبه في غير ذات زوجه، لأنَّ كلًّا من الزوجين النقيضين قائمٌ في ذات الآخر، وكلٌّ منهما يحسُّ بزوجه، ولولا رؤية كلٍّ من الباطن والظاهر قائمًا في الآخر لما استطاع الإنسان أن يتلاءم مع صروف الدهر، فيحيا النقيض في نقيضه، ليُعدَّ لكلِّ حال عدّته مزوَّدًا من غناه لفقره، ومن صحَّته لمرضه، ومن راحته لتعبه ومن شبابه لهرمه. وإذا كان الفردُ العاديُّ يحيا هذا التناقض فطرةً وسليقةً وطبعًا بحياته النقيضين معًا، فإنَّه على بصيرة من أمره، فكيف حياة أهل الغرام التي لا يعرفها إلَّا أصحابها، ولعلَّ السبب في غيابها عنَّا هو أنَّنا قد تجافينا عن فطرتنا، فلم نعش النقيض قائمًا في ذات نقيضه؟[115]
ولهذا كان علمُنا بباطن الشيء يجعلنا نعلم ظاهره ضرورة وبداهة والعكس بالعكس. ولنا في هذا مثال: فلو علمتَ أنّ الحركة في كلّ من الزوجين النقيضين من كلِّ شيء، تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لوجدت أنَّ السبب في ذلك إنما هو من أجل أن تظلَّ مستمرّة دائمًا وأبدًا. فالشيء المتحرّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنَّما هي حركةٌ مستمرَّةُ لا تتوقَّف، وفيها تتمثّل الصلة بين الخالق والمخلوق،- وبين النظير ونظيره-، وذلك في صورة رحمته التي وسعت كلَّ شيء[116]. وفي استمرار هذه الصلة المتبادلة على السواء والتعادل المتبادل، يتجلَّى سرُّ هذا الوجود في صورة قيام النهاية في البداية والبداية في النهاية في كلِّ شيء. فإذا نظرت مثلًا إلى معنى التزاوج الذي يتَّجه إلى الاتصال مستقلًّا عن معنى التجاوز الذي يتَّجه إلى تعدّي الشيء الذي تتجاوزه منفصلًا عنه، وجدت أنَّه ليس إلى تعرُّف أيٍّ منهما من سبيل إلَّا من خلال الآخر.
وإذن، فالانفصال محال آخر في مقام القيوميَّة الإلهيَّة. ففي هذا المقام المتعالي تغمر الرحمانيَّة كيانهما معًا، لذا فإنَّهما يثبتان عليها ويتبادلانها بالتعادل والتساوي من دون أن تتخلَّل العمليَّة التواصليَّة بينهما عقدة العطاء المشروط بالأنانيَّة. ذاك أنَّ العطاء في هذه الحال هو عطاء صادر من المعطي الأول، وما تقدِّمه الذات إلى الغير من عطاء جميل فهو منه تعالى وما الذات الإنسانيَّة إلَّا واسطة لفيضه وعطائه اللَّامتناهي. وهكذا لا تعود زوجيَّة الذات والآخر محكومة بالتناقض ما دامت غير مقطوعة الوصل بالألوهة. فعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة المعرفة على خطِّ الاستواء والاستقامة. حيث تعرف الذات نفسها ونظيرها على نصاب العدل، ثم لتبدأ سَيْرِيَّة معاكسة من التعرُّف ليعرف النظيرُ نظيره على القدر نفسه من المودة والرحمة. أمَّا ما يحكم التفاعل في المثنَّى الذي يسكن الآخر والذات معًا، فإنَّما هو مبدأ التحوُّل والتكامل. ذاك أنَّ طرفَي المثنَّى هما في تحوُّل مستمرٌّ بحكم أنَّ نهاية الطرف الأول (الذات) هي بداية الطرف الثاني (الآخر).
المصادر:
العربيَّة:
- القرآن الكريم.
- إبراهيم، نعمة محمَّد، علم ما بعد الطبيعة في فلسفة أبي البركات البغدادي، ط1، دار الضياء، النجف الأشرف، 2007.
- ابن تركه، صائن الدين – تمهيد القواعد – تقديم وتصحيح وتعليق: سيد جلال الدين آشتياني – مركز النشر الإسلامي في الحوزة العلميَّة – قم – إيران 1381 هـ .
- ابن عربي – “الفتوحات المكّيَّة” – دار صادر – بيروت 1990.
- ابن عربي – “فصوص الحكم” تحقيق وتعليق: أبو العلا عفيفي- ط2- دار الكتاب العربي- بيروت 1980.
- ابن عربي – أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكيم الترمذي – إعداد وتحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبي – مكتبة الثقافة الدينيَّة – ط 1- القاهرة – 2006.
- ابن عربي، محيي الدين – التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الإنسانيَّة- تحقيق: عاصم ابراهيم الكيالي الحسيني – الطبعة الثانية – دار الكتب العلميَّة – 2003.
- أبو زيد، نصر حامد، فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي – دار التنوير – ط 1- بيروت 1983.
- آل سلمان، العلَّامة هاشم – رسالة الملَّا حسن بن أمان- تحقيق: توفيق ناصر البدعلي – مؤسَّسة الإحقاقي للتحقيق والطباعة والنشر- بيروت 2011.
- الحسن، عيسى: موسوعة الحضارات، الأهليَّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2007.
- الحسني، ابن عجيبة – وإيقاظ الهمم في شرح الحكم – المكتبة الثقافيَّة – بيروت- بالإشتراك مع مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – القاهرة – 1982- ج 1.
- الحسني، ابن عجيبة، الفتوحات الإلهيَّة في شرح المباحث الأصليَّة – الجزء الثاني- تحقيق: عاصم الكيالي – دار الكتب العلميَّة – بيروت – 2000.
- حمادة أحمد علي – المطلق النسبي وغيريَّة الموجود – فصليَّة “الاستغراب” – العدد العاشر – شتاء 2018.
- حيدر، محمود: الفيلسوف الحائر في الحضرة، فصليَّة “الاستغراب”، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيَّة، العدد الخامس، السنة الثانية، بيروت، خريف 2016.
- الديناني، غلام حسين الإبراهيمي – القواعد الفلسفيَّة العامَّة في الفلسفة الإسلاميَّة – الجزء الثاني – تعريب: عبد الرحمن العلوي – دار الهادي- بيروت- 2007.
- الديوب، سمر – الثنائيَّات الضدِّيَّة – المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيَّة – بيروت 2017.
- السبحاني، جعفر، مفاهيم القرآن – تقرير: جعفر الهادي- ج1- مؤسَّسة الإمام الصادق – ط 5- قم – إيران 1430هـ.
- الشيرازي، صدر الدين – الأسفار العقليَّة الأربعة في الحكمة المتعاليَّة – الجزء الأول – مصدر سابق – ص 419.
- الطيب، محمد بن – عقيدة التوحيد الوجودي عند ابن عربي – بحث في اطار كتاب جماعي بعنوان: الإيمان في الفلسفة والتصوُّف الإسلاميين – إشراف: نادر الحمامي – منشورات: مؤمنون بلا حدود – الرباط – المغرب – 2016.
- عبد الوهاب المسيرى: موسوعة اليهود واليهوديَّة، الجزء الأول، دار الشروق، القاهرة، 1999.
- العبيدي، حسام علي حسن – معالم العرفان عند الشيعة الإماميَّة (الملَّا هادي السبزواري) أنموذجًا – الناشر: العتبة العَلويَّة المقدَّسة – النجف الأشرف – العراق 2011.
- العفيفي، أبو العلا- التعليقات على فصوص الحكم – الجزء الثاني.
- الكاكائي، قاسم – وحدة الوجود برواية ابن عربي وماستر ايكهارت – تعريب: عبد الرحمن العلوي – دار المعارف الحِكْميَّة – بيروت – 2018.
- كوربان، هنري، الخيال الخلَّاق في تصوُّف ابن عربي – ترجمة: فريد الزاهي- منشورات مرسم – الرباط – المغرب – 2006.
- محمد عنبر- مقدمة لديوان العارف بالله العلَّامة الشيخ أحمد محمد حيدر “النغم القدسي” – دار الشمال – طرابلس – لبنان – 1997.
- مرتضى مطهَّري- العدل الإلهي – ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني – الدار الإسلاميَّة – بيروت – 1997.
- النابلسي، الوجود الحق.
- نصر، سيد حسين – جذور التسامح واللَّاتسامح – رؤى في المبادئ الميتافيزيقيَّة – مجلَّة “قضايا إسلاميَّة معاصرة” – العدد (28-29) – 2004.
-الأجنبيَّة:
- Frithjof Schuon: From The Divine to The Human، Survey of Metaphysics and Epistemology، Translated into English by Gustavo Polit and Deborah Lambet، World Wisdom Books 1981،
- Frithjof Schuon: the play of masks، world Wisdom Books INC 1992.
- Frithjof Schuon: Sufism Veil and Quintessence، Translated from French by William Stoddart، world Wisdom Books INC،1981،
- Valodia، Glossary of Terms Used by Frithjof Schuon،http://www.frithjof schuon.com/Glossary%20Schuon%20Revised.pdf.
[1] – أنظر قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لَبسٍ من خلق جديد}. {سورة ق، الآية 15}.
[2] – أنظر: الحسن، عيسى: موسوعة الحضارات، الأهليَّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2007- ص 246.
[3] – أنظر: الديوب، سمر– الثنائيَّات الضدِّية – المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيَّة – بيروت 2017- ص 15.
[4]– المصدر نفسه، ص 285.
[5]– أنظر: حيدر، محمود: الفيلسوف الحائر في الحضرة، فصليَّة “الاستغراب”، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيَّة، العدد الخامس، السنة الثانية، بيروت، خريف 2016، ص 15.
[6]– الديوب، سمر- الثنائيَّات الضدِّيَّة – مصدر سابق – ص 17.
[7]– نصر، سيد حسين – جذور التسامح واللَّاتسامح – رؤى في المبادئ الميتافيزيقيَّة – مجلَّة “قضايا إسلاميَّة معاصرة” – العدد (28-29) – 2004.
[8]– نصر، سيد حسين – المصدر نفسه.
[9]– سورة البقرة- الآية 15.
[10]– الحسني، ابن عجيبة، الفتوحات الإلهيَّة في شرح المباحث الأصليَّة – الجزء الثاني- تحقيق: عاصم الكيالي- دار الكتب العلميَّة – بيروت – 2000، ص 144.
[11]– المصدر نفسه – ص 37.
[12]– الحسني، ابن عجيبة- وإيقاظ الهمم في شرح الحكم- المكتبة الثقافيَّة- بيروت- بالإشتراك مع مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – القاهرة – 1982- ج 1، ص 63.
[13]– د. عبد الوهاب المسيرى: موسوعة اليهود واليهوديَّة، الجزء الأول، دار الشروق، القاهرة، 1999، ص59.
[14]– ولد فريذوف شوان بمدينة بازل في سويسرا عام 1907، واعتنق الإسلام في السادسة عشرة من عمره، وحمل اسم الشيخ عيسى نور الدين. كتب ما يربو على العشرين مؤلَّفًا في الميتافيزيقا والتصوُّف، ولاقت مؤلَّفاته قبولًا منقطع النظير في القرن العشرين. من أعماله: عين القلب، العرفان حكمة ربانيَّة، المنطق والتعالي، لعبة الأقنعة، طرق الحكمة الخالدة، مقامات الحكمة، تحوُّلات الإنسان، الوحدة المتعالية للأديان، أحوال الإنسان وجذورها، كنوز البوذيَّة، الشمس المجنَّحة، الطريق الى القلب، المسيحيَّة والإسلام.
[15]– FrithjofSchuon: From The Divine to The Human، Survey of Metaphysics and Epistemology، Translated into English by Gustavo Polit and Deborah Lambet، World Wisdom Books، 1981، P15
[16]-Ipid. P: 8
[17]– للمزيد من الإيضاح حول مفهوم المطلق النسبي، راجع مقالة حمادة أحمد علي- المطلق النسبي وغيريَّة الموجود- فصليَّة “الاستغراب” – العدد العاشر- شتاء 2018.
[18] -FrithjofSchuon: From The Divine to The Human p75.
[19]– FrithjofSchuon: the play of masks، world Wisdom Books INC، 1992، p45.
[20]– FrithjofSchuon: Sufism Veil and Quintessence، Translated from French by William Stoddart، world Wisdom Books INC،1981، p165.`
[21] -Valodia، D. Glossary of Terms Used by Frithjof Schuon،http://www.frithjof schuon.com/Glossary%20Schuon%20Revised.pdf،pp 3-5.
[22]– علي، حمادة أحمد- المصدر نفسه.
[23]– الديناني، غلام حسين الإبراهيمي- القواعد الفلسفيَّة العامَّة في الفلسفة الإسلاميَّة – الجزء الثاني- تعريب: عبد الرحمن العلوي – دار الهادي- بيروت- 2007 – ص 355.
[24]– الديناني- المصدر نفسه- ص 356.
[25]– المصدر نفسه.
[26]– الشيرازي، صدر الدين- الأسفار العقليَّة الأربعة في الحكمة المتعالية – الجزء الأول- مصدر سابق- ص 419.
[27]– ابن عربي- أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكم الترمذي- إعداد وتحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبي – مكتبة الثقافة الدينيَّة – ط 1- القاهرة – 2006 – ص 41-42.
[28]– سورة الشورى، الآية 11.
[29] – أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكيم الترمذي- المصدر نفسه، ص 45.
[30] – المصدر نفسه، ص 50.
[31]– المصدر نفسه، ص 52.
[32]– سورة مريم، الآية 9.
[33]– سورة النحل، الآية 40.
[34]– ابن عربي – أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكيم الترمذي- المصدر نفسه- ص 44.
[35]– ابن تركه، صائن الدين – تمهيد القواعد – تقديم وتصحيح وتعليق: سيد جلال الدين آشتياني- مركز النشر الإسلامي في الحوزة العلميَّة – قم- إيران 1381 هـ – ص 182.
[36]– ابن تركة- المصدر نفسه- ص 183.
[37]– آل سلمان، العلامة هاشم – رسالة الملا حسن بن أمان- تحقيق: توفيق ناصر البدعلي – مؤسَّسة الإحقاقي للتحقيق والطباعة والنشر- بيروت 2011- ص 15.
[38]– سورة الأعراف، الآية 54.
[39]– ابن عربي، محيي الدين – التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الإنسانيَّة- تحقيق: عاصم ابراهيم الكيالي الحسيني- الطبعة الثانية- دار الكتب العلميَّة- 2003- ص 22.
[40]– سورة طه، الآية: 5.
[41]– التدبيرات الإلهيَّة- ص 22.
[42]– سورة الأحزاب – الآية: 4.
[43]– سورة البقرة – الآية 32.
[44]– سورة البقرة – الآية 31.
[45]– سورة البقرة – الآية 32.
[46]– للحديث رواية أخرى هي: “المؤمن مرآة المؤمن” أخرجه أبو داود (أدب 49).
[47]– سورة الشورى – الآية 11.
[48]– سورة التين- الآية 4.
[49] – التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الإنسانيَّة- مصدر مرَّ ذكره- ص 23.
[50]– هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي (انظر ترجمته في فوات الوفيات 1/274، وفي الاستقصاء 1/129، وفي لسان الميزان 4/13، وفي مفتاح السعادة 1/44 وفيه وفاته 727 خطأ).
[51]– سورة الأعراف، الآية 145.
[52]– سورة يس- الآية: 12.
[53]– التدبيرات الإلهيَّة- المصدر نفسه – ص 24.
[54]– هو شعيب بن الحسن الأندلسي التلمساني 594 هـ – 1198 م)، أبو مدين، صوفي، من مشاهيرهم، أصله من الأندلس، أقام بفاس، وسكن “بجاية” وكثر أتباعه حتى خافه السلطان يعقوب المنصور، وتوفي بتلمسان، وقد قارب الثمانين أو تجاوزها. له “مفاتيح الغيب لإزالة الريب، وستر العيب”. الأعلام 3/166، وجذوة الاقتباس 332، وشجرة النور 164، وشذرات الذهب 4/303.
[55]– سورة فصلت، الآية 54.
[56]– سورة مريم، الآية: 9.
[57]– ابن عربي- التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الانسانيَّة – المصدر نفسه – ص 27.
[58]– الفتوحات المكيَّة، ج 3- مرجع سبق الرجوع إليه في فصول سابقة- ص 211.
[59]– فصوص الحكم، ج1، ص 102.
[60]– المصدر نفسه، ج1، ص 76.
[61]– الفتوحات المكيَّة، ج 4، سبق ذكره- ص 8-9.
[62]– سورة النحل – الآية 96.
[63]– سورة الكهف – الآية 65.
[64]– سورة الأنعام – الآية 59.
[65]– سورة الحجر – الآية 21.
[66]– الكاكائي، قاسم – وحدة الوجود برواية ابن عربي وماستر ايكهارت – تعريب: عبد الرحمن العلوي – دار المعارف الحكميَّة – بيروت – 2018- ص 632.
[67]– لمزيد من التوضيح حول هذه النقطة راجع قاسم الكاكائي – وحدة الوجود برواية ابن عربي وماستر إيكهارت – مصدر سبق ذكره – ص 635.
[68]– الفتوحات المكيَّة، ج 2، ص 399.
[69]– سورة النحل – الآية 40.
[70]– سورة يس- الآية 82.
[71]– الطيب، محمد بن- عقيدة التوحيد الوجودي عند ابن عربي – بحث في إطار كتاب جماعي بعنوان: الإيمان في الفلسفة والتصوُّف الإسلاميين- إشراف: نادر الحمامي- منشورات: مؤمنون بلا حدود – الرباط- المغرب- 2016- ص 252.
[72]– المصدر نفسه – ص 253.
[73]– م. نفسه – الصفحة نفسها.
[74]– م. نفسه – الصفحة نفسها.
[75]-الفتوحات، الجزء الثالث- ص 101.
[76]– أبو زيد، نصر حامد، فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي – دار التنوير – ط 1- بيروت 1983.ص 64.
[77]– المصدر نفسه.
[78]– سورة طه – الآية 5.
[79]– الطيب، محمد بن- مصدر سابق.
[80]– فصوص الحكم، 1-68.
[81]– النابلسي، الوجود الحق، ص 30-31.
[82]– ابن عربي – الفتوحات المكيَّة، الجزء الأول مصدر سبق ذكره – ص 454.
[83]– العفيفي، أبو العلا- التعليقات على فصوص الحكم – الجزء الثاني- مصدر سبق ذكره – ص 213.
[84]– فصوص الحكم، الجزء الأول- ص 155.
[85]– سورة ق – الآية 15.
[86]– الطيب، محمد بن – عقيدة التوحيد الوجودي عند ابن عربي- مصدر سبق ذكره – ص 354.
[87]– سورة المائدة – الآية 72.
[88]– عفيفي، التعليقات على الفصوص – الجزء الثاني – ص27-28.
[89]– الفتوحات، ت. عثمان يحيى، الجزء الثالث- ص 193-194.
[90]– المصدر نفسه، 10-287.
[91]– المصدر نفسه.
[92]– ابن عربي – فصوص الحكم – الجزء الثاني – ص 313.
[93]– كوربان، هنري- المصدر نفسه – ص 184.
[94] العبيدي، حسام علي حسن – معالم العرفان عند الشيعة الإماميَّة (الملَّا هادي السبزواري) أنموذجًا – الناشر: العتبة العلويَّة المقدَّسة – النجف الأشرف – العراق 2011- ص 84-85.
[95]– إبراهيم، د. نعمة محمّد، علم ما بعد الطبيعة في فلسفة أبي البركات البغدادي، ط1، دار الضياء، النجف الأشرف، 2007، ص91، و196.
[96]– الشيرازي، الأسفار، ج2، ص270-271.
[97]– العبيدي، حسام علي حسن – المصدر نفسه- ص83.
[98]– المصدر نفسه – ص84.
[99]– الآملي، حسن زادة، في تعليقته على شرح غرر الفرائد، قسم الإلهيّات بالمعنى الأخص، ص272.
[100]– الآملي، حسن زادة – المصدر نفسه – ص273.
[101]– سورة الأعراف – الآية 29.
[102]– العبيدي – المصدر نفسه – ص 88.
[103]– المصدر نفسه- ص 331.
[104]– أنظر: السبحاني، جعفر، مفاهيم القرآن – تقرير: جعفر الهادي- ج1- مؤسسة الإمام الصادق- ط 5- قم- إيران 1430هـ – ص 330.
[105]– سورة الأعراف – الآية 54.
[106]– سورة الرعد – الآية 16.
[107]– سورة الزمر – الآية 62.
[108]– سورة الأنعام – الآية 102.
[109]– سورة الحشر – الآية 24.
[110]– ابن تركه، صائن الدين – تمهيد القواعد – مصدر مرَّ ذكره- ص 182.
[111]– كوربان، هنري، الخيال الخلاق في تصوُّف ابن عربي – ترجمة: فريد الزاهي- منشورات مرسم- الرباط- المغرب- 2006- ص 162.
حديث رواه البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين. رقم الحديث 7418.
[112]– والمقصود به العقل الاستدلالي الذي يدور مدار عالم الممكنات ولا يغادره أبدًا، وهو عقل غير قادر على الامتداد إلى ما فوق أطواره الدنيويَّة. وبذلك فإنَّه كلما قطع شوطًا باتجاه معرفة الحقائق عاد إلى نشأته الأولى فحلّت بصاحبه الحسرة. وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ*ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (سورة الملك الآية 3-4).
[113]– كوربان، هنري- الخيال الخلاَّق في تصوُّف ابن عربي– ص 179 –180.
[114]– مرتضى مطهَّري- العدل الإلهي – ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني – الدار الإسلاميَّة – بيروت – 1997- ص 82.
[115] – محمد عنبر – مقدِّمة لديوان العارف بالله العلَّامة الشيخ أحمد محمد حيدر “النغم القدسي” – دار الشمال – طرابلس – لبنان – 1997 – ص 18.
[116]– المصدر نفسه – ص 19.