دراسات وبحوث معمقة

المفكِّر الصادق الفقيه: على العرب استكشاف استراتيجيات للتغلب على التبعية والتخلف

المفكِّر الصادق الفقيه:

على العرب استكشاف استراتيجيات للتغلب على التبعية والتخلف

 

 

                                                                                 عبدالحكيم أحمين

 

المفكر والدبلوماسي السوداني الصادق الفقيه يوقع كتابه “مقدمات في الدبلوماسية” (وكالة الأنباء الأردنية)

 

تمتد جذور العلاقات بين العالم العربي وأفريقيا عميقاً في التاريخ، حيث تشابكت الثقافات والحضارات عبر قرون من التفاعل والتبادل. واليوم، في ظل تنافس القوى العالمية على النفوذ والموارد في القارة السمراء، تبرز أهمية إعادة النظر في هذه العلاقات وتطويرها بما يخدم مصالح الشعوب العربية والأفريقية.

يقول المفكر والدبلوماسي السوداني الدكتور الصادق الفقيه إن “السياق التاريخي حاسم لتفسير الوضع الحالي للعلاقات العربية الأفريقية”. ويضيف أن “العلاقات العربية الأفريقية الحالية هي في المقام الأول معاملاتُ ثقة سياسية ومصالح اقتصادية”.

في هذا الحوار الشامل، يستكشف الدكتور الفقيه التحديات الفكرية والثقافية التي تواجه تعزيز التعاون العربي الأفريقي، ويقترح سبلاً لبناء جسور التفاهم والتعاون. كما يناقش دور المثقفين والمفكرين في صياغة رؤية مشتركة للمستقبل، مؤكداً أن “التعاون الفكري هو مفتاح الفكر السياسي وصنع القرار”.

من قضايا الهوية والانتماء إلى فرص الاستثمار والتنمية المشتركة، يقدم هذا الحوار نظرة ثاقبة لمستقبل العلاقات العربية الأفريقية في عالم متغير. فكيف يمكن للدول العربية والأفريقية أن تستفيد من إرثها المشترك لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يؤديه المثقفون والمفكرون في بناء جسور التفاهم والتعاون؟

هذه الأسئلة وغيرها تشكل محور هذا الحوار الثري، الذي يدعونا إلى التفكير في مستقبل العلاقات العربية الأفريقية وأهميتها الإستراتيجية في عالم اليوم.

نعلم جميعًا أن لدى أميركا والصين وروسيا طرقا مختلفة لاستخدام التعاون والمنافسة لغرض اكتساب النفوذ والسيطرة على الدول الأفريقية.
فأفريقيا جزء من إستراتيجية أميركا للتنافس مع الصين، التي قامت بعدد كبير من الاستثمارات المتعلقة بالبنية التحتية الاقتصادية في مختلف البلدان الأفريقية.

وتسعى أميركا إلى الاستفادة من العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتقول إنها تسعى لتعزيز الحكم والممارسات الديمقراطية والمؤسسات في أفريقيا.
كما تقول إن بعض البرامج التي تنفذها، تهدف إلى المساعدة على تعزيز المجتمع المدني واحترام حقوق الإنسان وقيم الأمن البشري.

كما تقوم الدولة الروسية بأنواع مختلفة من التعاون العسكري وصفقات اتفاقية الموارد الاستخراجية المقترحة.
وتناصر دولة مثل تركيا مختلف أنواع العلاقات في أفريقيا، مثل المنظمات الإقليمية، وهي تلعب دور الوسيط، في حين أن لديها أنواعا مختلفة من العلاقات الاجتماعية وعلاقات المجتمع المدني مع أفريقيا.

وهذه الدول كلها أضعف، في تقديري، وأقل قدرة مما تبدو عليه في الالتزام بعدالة علاقاتها مع أفريقيا.
ومع ذلك، لديها الوسائل لجر العالم إلى حرب توسع إمبريالية عبر الاقتصاد والاستثمار، أو غيرهما.

ورغم ذلك، تحتاج البلدان الأفريقية إلى أن تضع في اعتبارها أن تصبح ساحة اللعب في هذه المنافسة الدولية، كما فعلت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ولا يقتصر الأمر على أن هذه الدول لا تقدم دعمها لاستقلال أفريقيا وتحريرها، بل إن تدخلها في الشؤون الأفريقية غالبًا ما يوفر الدعم لأولئك الذين يستغلون الشعوب الأفريقية ويقتلونها.

ولا ننسى أنه كانت هناك فوائد أخرى للبلدان الأفريقية من وجود قوى عالمية سيئة النية في سياساتها، وفي تجارتها في السابق، ومن الواضح أن هذه الدول لم تكن قادرة على تحقيق أي تقدم في هذا الصدد.

وتستند هذه الفوائد أيضًا إلى التفاعل الاقتصادي، لذلك، فإن الاستثمار في هذه البلدان يستخرج أكثر أساليب الإنتاج ربحية مع القليل جدًا من الاهتمام بالظروف الاجتماعية والسياسية للبلدان المضيفة، مما يزيد من اعتماد هذه البلدان على اقتصاد المستعمر، وهذا يؤسس لنمط سري من الاستغلال الاقتصادي يمكن إدارته بشكل جماعي من قبل النخبة الحاكمة الجديدة.

ولذلك، فإن التدخل التنافسي لكل من القوى الصاعدة والرأسمالية العالمية يعزز أحيانًا الموقف التفاوضي للبرجوازية الأصلية في عملية المفاوضات، وفي الموقف التفاوضي للأخيرة فيما يتعلق بالرذائل الاقتصادية؛ مثل القروض والمساعدات العسكرية ومبيعات الأسلحة، فضلًا عن درجة الحرية الاقتصادية المسموح بها.
لكن هذه القوى بشكل عام لا تعمل إلا على ترسيخ النخب السياسية والمساهمة في زيادة معاناة الجماهير.

أميركا والصين وروسيا تتنافس في أفريقيا عبر استثمارات وتأثيرات مختلفة، مما يزيد الاستغلال الاقتصادي ويعزز النخب (شترستوك)

  • كيف يمكن للدول العربية استثمار التنافس الدولي على أفريقيا في تعزيز العلاقات العربية الأفريقية؟

تتشابك مسائل التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي بشكل وثيق، وهو ما يوجب أن تتضمن مناقشة هذه القضية الانقسام الأيديولوجي لما له من آثار كبيرة على التماسك الاجتماعي، وبالتالي في مسألة التنمية الوطنية.
وهناك عدد من التحديات المترابطة التي تحدد مسارات التنمية في البلدان العربية، بما فيها مشاكل الحوكمة والمساءلة القانونية نتيجة لهيمنة الأنظمة الريعية. كما أن انخفاض مستويات التعليم وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب يُميزان التنمية في معظم أنحاء الوطن العربي.

وقد كافحت المنطقة من أجل إدارة مواردها الطبيعية الهائلة، ولا تزال هناك مناهج محدودة لبناء الأمن المائي والغذائي. وغالبًا ما يُنظر بعين الريبة إلى التدخلات الدولية والنماذج التنموية القائمة على خطابات الليبرالية والرأسمالية والديمقراطية، ويجب أن تأخذ الرؤية في الاعتبار كيفية تفسير هذه الأيديولوجيات في بيئات متنوعة أيديولوجيًا.
وللمساعدة في تحليل توضيحي، تنقسم مسارات التنمية في الوطن العربي إلى إستراتيجيات إنمائية متشعبة، مثل: تحرير التجارة، والاستثمار مع أو بدون ارتباط بالابتكار، والإستراتيجيات الهامشية. وتستمر الحجج والدراسات الدائرية التي تتعمق في جانب واحد فقط من الاقتصادات الوطنية؛ في ترسيخ هذه الآراء المتشعبة.

ونحن نجادل بأن الدول الأكثر استقطابًا يمكن أن تتفق على الروايات والأفكار، وأن التركيز على نقاط الخلاف لا يؤدي إلا إلى خلق المزيد من العداء. لذلك، فإن المخاوف المشتركة، مثل الشرعية الديمقراطية، والتغلب على الأبوية والريعية، وتحسين خدمات الدولة، توفر للدول ذات الوضع الأيديولوجي المتنوع مجالًا واسعًا للتعاون.
ويتطلب تطوير خطط بديلة مختلفة؛ التعاونَ وتعزيز الثقة. ولن تحتاج الأطراف المتعارضة إلى تأييد مواقف بعضها البعض،
بل ينبغي لهم أن يتقبلوا حقيقة مفادها أن العداء الحالي غير مستدام وغير مُنتج. ومع ذلك، لا يوجد تعاون يذكر بين الكتلتين. ولذلك، فإن غياب جهود الوساطة في ظل هذا الجمود الأيديولوجي يفاقم المخاطر المجتمعية وأشكال التنمية والإصلاح.
ولم موقف التجمعات الجغرافية الصغيرة نسبيًا لبعض الدول العربية موحدًا أبدًا، بل استلزم تقدير المناطق التعددية ثقافيًا واجتماعيًا والدول ذات الثقافات المتباينة ومسارات التنمية وأشكال الحكم.
وقد أدى التشرذم السياسي وغير قليل من التطرف إلى تعميق الانقسامات القائمة، مما يجعل الأنظمة السياسية تُظهرُ شخصية ممزقة. وتوخيًا للإيجاز، غالبًا ما يُنظر إلى الدول على أنها متماسكة، بينما هي في الواقع عبارة عن خليط من مجموعات اجتماعية متعددة، وأحيانًا متداخلة ومتناحرة، وذات انتماءات أيديولوجية لا جامع بينها.
من جانبهم، إذا سعى المثقفون العرب للحصول على الدعم من دولهم ذات الصلة، أو قادوا المناقشات فيها حول بنية العلاقات الدولية في ضوء مشاركة مختلف القوى الإقليمية الكبرى والمتوسطة والصغيرة مثل أميركا وروسيا والصين، فإن الأمر متروك لإستراتيجيات الدول العربية الأفريقية للحصول على درجة معينة من سيادتها.
إنها لَحقيقة شاخصة أن الإستراتيجية العربية الأفريقية للصين وأميركا في ملاحقة الدول الأفريقية تنقسم إلى مجموعتين مختلفتين. وتهتم البلدان الأفريقية بالأعداد الكبيرة من اتفاقيات الشراكة التي تنفذها بلدانها، وتبحث عن شراكات متعددة الأطراف تعود بالنفع على الصندوق المالي والمصالح الواسعة النطاق لأفريقيا القائمة.

الدول العربية تواجه تحديات تنموية معقدة بسبب الانقسامات الأيديولوجية والحوكمة، مما يعوق التماسك والتنمية (الجزيرة)

  • ما هي التحديات والفرص إذن؟

العبء الحقيقي في الوطن العربي هو الانتقادات التي لا بدائل أو رؤية علمية وموضوعية فيها، والتي تثقل كاهل المجتمعات العربية فيما يتعلق بتنميتها الاقتصادية والاجتماعية.
وردًا على ذلك، من الضروري إجراء “حوار الفشل”، أو بعبارة أخرى؛ حوار يعترف فيه المثقفون بهذا الفشل، ويناقشوا -مع أنفسهم أولًا وقبل كل شيء- التحديات التي تواجه مجتمعاتنا، خاصة أن العديد من الاقتصادات العربية جامدة هيكليًا ومعقدة سياسيًا، ويتعين عليها أن تدمج الشباب في قوة العمل، وأن تحدّ من أوجه عدم المساواة، وأن تقدم تعليمًا مهنيًا واسعًا من خلال نظام مدرسي لا يهمشهم منذ البداية.
وتطرح البطالة المزمنة للشباب العربي والانفجار في مؤهلاتهم التعليمية مشاكل متعددة، اقتصادية وأيديولوجية على حد سواء. وفيما يتعلق بالمحرومين اجتماعيًا واقتصاديًا، توجد شكوك كبيرة حول العدالة التعليمية، حيث يمكن للنظام التعليمي أن يهمش جزئيًا الأطفال من البيئات الفقيرة.
بشكل عام، تواجه الإصلاحات الاجتماعية والتعليمية في الوطن العربي ثلاثة قيود مجتمعة: الجمود السياسي، والعيوب في حوكمة المالية العامة، وانخفاض أو غياب مستويات الحوار الاجتماعي والرؤية المشتركة بين الطبقات الحاكمة العربية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني.
ويصف البعض تعدد التيارات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية في الوطن العربي بأنها أقطاب تكاملية. ومن هذا المنظور، تنشأ الخلافات الأيديولوجية في الواقع في كثير من الأحيان داخل مختلف التنظيمات والتيارات والتيارات الثيوصوفية والأيديولوجية، وبين القادة السياسيين والمجتمعيين الذين يتفاعلون بشكل متكرر وأقل انفتاحًا مما هو مرئي في الشارع العربي.
وقد تكون مراجع اجتماعية تفتح الطريق بسهولة أكبر للسلطة الأيديولوجية. ويمكن أن يكون للتعددية الأيديولوجية آثار سياسية إيجابية تسمح بالتكيف التدريجي لمختلف المجتمعات في الوطن العربي مع التغيرات العميقة، التي غالبًا ما تنتشر، إذ يتطلب كل تحول أيديولوجي إطارًا اجتماعيًا، ومصالحة سياسية، وقدرًا كبيرًا من الوقت، وقبولًا للوكالة الاجتماعية.
ويجب دعم الجهود والإصلاحات الرامية إلى إصلاح المجتمعات العربية من قبل إدارات الدولة المستعدة للتحلي بالمرونة. وبمجرد النظر إلى هذه الاختلافات الأيديولوجية كمصدر للتنمية، فإنها يمكن أن تعزز هوية كل شخص وبلد عربي وتحولها من مصادر للمأساة والصراع إلى مصادر للحوار والإبداع الأيديولوجي.

الوطن العربي يواجه تحديات تنموية كبيرة بسبب الانتقادات بلا حلول، لذا يجب إجراء “حوار الفشل” وتعزيز التعليم وإدماج الشباب لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية (رويترز)

  • ما المجالات التي يجب أن تعمل عليها النخبة الفكرية من أجل مساعدة باقي النخب السياسية والاقتصادية وغيرها للخروج من نفق التبعية والتخلف؟

تماشيًا مع رغبة هذه النخب في التغيير الذاتي كوسيلة للخروج من التبعية الخارجية، استكشف العرب دائما إستراتيجيات للتغلب على التبعية والتخلف.
وقد دعت مناشدات كثيرة إلى ما يرتبط بالإصلاح من استحقاقات، أو شجعت عليها مجموعة ملتزمة، أو قالت بضرورته مجموعة أخرى خلال فترات التوافق الأيديولوجي بين المثقفين الفاعلين، ومنها؛ تنويع الهيكل الاقتصادي لتجنب الاعتماد على بلد واحد، وتنويع القدرات الاقتصادية لتفادي الاعتماد على بلد واحد، وتوسيع نطاق هذا الهيكل الاقتصادي ليستوعب المستجدات، وتصنيع الوطن العربي بدلًا من الاعتماد على النفط وحده. وينبغي أن تستند التنمية إلى الكفاءة والقوى العاملة، والتركيز على الاكتفاء الذاتي، والانخراط في التعاون العربي الإقليمي وتعزيز الوحدة العربية من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي. وأهم من كل ذلك، اتباع نهج حضاري للتنمية بدلًا من الاعتماد على النماذج الغربية الجاهزة.
لهذا، فإن تصميم إستراتيجيات بهذا الفهم سيعمل على تقليل نفوذ الغرب، وذلك بالتشجيع والدعوة إلى استخدام الموارد المحلية واستبدال السلع الاستهلاكية بالمنتجات المحلية.
وذهب بعض المنظرين إلى أقصى الحدود في هذا الصدد بالنداء إلى عزل شعوب المنطقة عن التدخل الخارجي. ومن المتوقع أن يشجع هذا النهج، الذي يمكن تبنيه في شكل إصلاح تعليمي، على ظهور قدرة إبداعية تتحول إلى قدرة ابتكارية لتوليد أنشطة جديدة في القطاعات الاجتماعية والبشرية والاقتصادية.
وقد أظهرت إستراتيجيات مماثلة عناصر أيديولوجية لم يأخذها النظام السياسي بأكمله على محمل الجد، لأن أولئك الذين دافعوا عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية عادة ما يتبنون واحدة أو أكثر من هذه الإستراتيجيات المختلفة القائمة على “العلم” و/أو الأيديولوجية.
على أي حال، يمكن أن يتفقوا جميعًا على أنه من الضروري تحرير الاقتصاد من الهيمنة الأجنبية، وتعزيز الابتكار، وإدماج الفرد في عملية الإنتاج، وضمان الاستقلال وتقرير المصير الاقتصادي.

تسعى النخب العربية للتغلب على التبعية من خلال تنويع الاقتصاد وتعزيز الاكتفاء الذاتي والابتكار (الجزيرة)

  • ما هو دور المثقفين العرب في تشكيل العلاقات العربية الأفريقية في ظل التنافس الدولي؟

لعب المثقفون العرب دورًا مهًما عبر التاريخ في تشكيل العلاقات بين المجتمعات العربية وبين العرب والمسلمين وغيرهم من غير العرب وغير المسلمين، وخاصة أفريقيا التي تَجَوَّلَ فيها كل الرحالة العرب منذ قديم الزمان.

كما لعبوا دورًا مهما في توجيه السياسة الخارجية والفكر والعمل العربي نحو العرب البعيدين الذين يعيشون في أفريقيا، أو الذين يعيشون في بلدان تُعتبر جغرافيًا وتاريخيًا أجزاءً من أفريقيا، ولكنها ليست مرتبطة ثقافيًا، أو سياسيًا في الآونة الأخيرة.

من الطبيعي جدًا أن يكون المثقفون العرب قد عززوا العلاقات بين الجانبين العربي والأفريقي، والعكس صحيح، وكذلك كل المنتمين إلى الدائرة الثقافية القديمة العظيمة.

وفي ظل التنافس العالمي المعاصر والصراع الدولي على الموارد الأفريقية بعيدًا عن الصراع المسلح، فإن دور المثقفين العرب مؤشر محتمل لطبيعة العلاقات العربية الأفريقية المستقبلية، خاصة إذا علمنا أن المؤسسة الوحيدة المشتركة بين الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي هي المركز الثقافي العربي الأفريقي، الذي يتخذ من العاصمة المالية باماكو مقرًا دائمًا له.

وقد تتخذ العلاقات العربية الأفريقية مسارات عديدة، اعتمادًا على عوامل مختلفة مثل المواقف الفكرية ودرجة المنافسة الدولية على الثروات والأسواق الأفريقية.
في النهاية، ما يهم هو إعادة تكييف واستعادة وتعزيز العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية العربية الأفريقية للتعامل مع القضايا الملحة الجديدة.

إن هناك على الأقل ثلاث مسارات يمكن اتخاذها في المستقبل القريب والمتوسط من خلال الاتصال بين الشعوب العربية والأفريقية.
المسار الأول، هو نهج مشترك قائم على العوامل الثقافية والسياسية بين الجانبين.

وفي مثل هذا النهج، يتناول المثقفون العرب والأفارقة عملية مقاربة الشرق مع الوطن العربي للانخراط مع الغرب والدول الأفريقية.
والعامل الثقافي هو القاسم المشترك لمثل هذا الارتباط، في محاولة للجمع بين هذين الكيانين المهمين ذَوَيْ النوايا الحسنة التاريخية والثقافية العظيمة والإرث الحضاري المشترك.

أما المسار الثاني، الذي يقوم أيضًا على العلاقات الثقافية والسياسية، فهو الإجماع على اتباع نفس المسار، الذي يتبعه الآخرون في بناء الجسور الثقافية بين الشرق والغرب وبين الجنوب والجنوب.

والمسار الثالث المحتمل، يرفض هذه الوحدة القائمة على الإرث الاستعماري في العلاقة الأفروآسيوية والديناميات الجيوسياسية الحالية.
وهكذا، فإن مفهوم المثقف هو مفهوم حاسم، وربما الأكثر أهمية، في آفاق الوسط المستقبلي في ضوء المسار الثالث.

والواقع أن المثقف هو الذي يشكل الطريقة التي ينظر بها العرب والأفارقة إلى بعضهم البعض، وكيف ينظر غير العرب من أصل أفريقي، أو الأفارقة غير العرب، إلى أقاربهم الشرقيين.

وقد يتكيف المثقفون العرب ويطورون فهمهم، رغم أن العقبات التاريخية والمعنوية والسلوكية موجودة وحقيقية.
ولكن تلك العقبات تعتبر تحديات لا ينبغي تجاهلها، أو التغاضي عنها، وإنما يجب معالجتها لمصلحة المستقبل.

ويتيح الرابط التاريخي لمحات شاملة عن الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين أفريقيا والعالم العربي.
ومع ذلك، فإنه لم يربط بين المنطقتين ولم يجعلهما حالة ثقافية واحدة، بسبب الفئات والمعايير التي نظمت العلاقات.

إن السياقات المحلية والعالمية للعلاقات التاريخية متشابكة بطبيعتها، مما يغذي العلاقة العربية الأفريقية.
وكان أكثرها تأثيرًا هو دور المثقفين العرب الذين عُرف عنهم أنهم تفاعلوا في الغالب مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منذ بدايات الدعوة الإسلامية.

وقد شكلت الكتابة العربية، أو أثرت بشكل كبير، على العلاقات المعاصرة بين شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، خاصة في البلدان التي شهدت الصحوة الإسلامية، وعلى نطاق واسع في مالي، وما اشتُهِرَ من نهضة تمبكتو الفكرية.

لكن الأفارقة جنوب الصحراء الكبرى بشكل عام ما زالوا يفتقرون إلى معرفة كبيرة بالعالم العربي وأدواته السياسية والتاريخية لتحليل الماضي.

علاوة على ذلك، نجد في مالي، التي أشرنا إليها كمثال، أن اهتمام النخبة الجديدة فيها بالعالم العربي حديث نسبيًا.
لقد كان إلى حد كبير عابرًا للثقافات، في حين أن الوجود جنوب الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا تاريخي.

وهذا السياق التاريخي لا يفسر كل شيء، لكنه ضروري بالفعل لفهم جيد للتقارب الذي يمكن أن يحدث أحيانًا بين العرب وشعوب أفريقيا السمراء، وفي أحيان أخرى يمكن لكل شيء أن يفصل بينهما، وعلينا تحليل ما يجمع ويفصل بين المنطقتين.

فالتاريخ الاستعماري لم يغير بعمق أساس التبادلات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل إنه لم يغير أيضًا تغييرًا حقيقيًا؛ الانطباعات السلبية التي تعمّد تعميقها، وأثرت بقوة على الخيال الجماعي للأقاليم.

فقد قامت القوى الاستعمارية بالفعل بتنظيم مصطنع للمساحات الاجتماعية والسياسية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وفي بعض الحالات، لم تؤخذ في الاعتبار الروابط التي تربطها بالعالم العربي بالمعنى الدقيق للكلمة.

وهكذا، تم عزل دول مثل نيجيريا ومالي عن الساحل الليبي، مما حرم رجال الصحراء من مساحاتهم الاقتصادية التي تحتفظ بها التجارة القديمة عبر الساحل.

أدى المثقفون العرب دورًا مهمًا في تعزيز العلاقات العربية الأفريقية، مع التركيز على الثقافة والسياسة. ورغم التحديات التاريخية، يمكن لتعاونهم أن يساهم في بناء مستقبل مشترك، لكن العوائق لا تزال قائمة (الأناضول)

  • هل يفسر هذا وجهات نظر المثقفين العرب حول العلاقات العربية الأفريقية؟

الحقيقة أن معظم الناس في الوطن العربي لا يكادون يعرفون شيئًا عن أفريقيا، وعندما يفعلون ذلك، فإنه يتم في الغالب من خلال مصادر خارجية، أو عبر عدسة غربية استعمارية بحتة، تعيق المنظور الإستراتيجي، الذي يحدد الوكالات السياسية العربية، التي تُنظم وتُشكل من خلال العلاقات الدولية ضمن التحولات العالمية والإقليمية الأكبر، ولطالما طالب المثقفون العرب بتوثيق الروابط العلمية والسياسية بين الوطن العربي وأفريقيا.
لقد دافعت وسائل الإعلام العربية مرارًا وتكرارا عن عدم الانسحاب العربي من الاتحاد الأفريقي وعارضته، في حين عبّر السياسيون العرب باستمرار عن رهاناتهم ورؤاهم للقارة الأفريقية. وقد فسر بعض المحاورين العرب الفشل السياسي والاقتصادي في أفريقيا من خلال الإشارة إلى الوحشية الاستعمارية الفطرية، والاستمرار في التدخل سرًا في السياسة والحكم الداخلي الأفريقي.
ويشير التحليل الدقيق للعلاقات بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي إلى مدى فعالية المنطق الأمني العربي الراسخ في الربط بين القوى الإقليمية، من دون مراعاة حقيقية للجوانب الأخرى.
وهناك دور ثانوي، ولكنه مرتبط بالدور الذي تم التطرق إليه في الإجابة على السؤال السابق، يُشير إلى بعض الانزعاج من رواسب في العلاقات العربية الأفريقية، يعرفها القراء اليقظون.
والباحثون الذين عملوا على النهضة الفكرية العربية يتجنبون مناقشة هذا الموضوع. والقضية، التي يبدو أن المثقفين العرب لا يملكون إجابة عليها، هي: لماذا، أو متى، على سبيل المثال، أيّد اليسار العربي قراءة الانتماء القومي العربي، أو التضامن، الذي يمكن أن يشمل ترابطًا غير متمايز مع أفريقيا؟
وغالبًا ما تغفل القراءات القومية العربية النظر في روابطها الأفريقية. ومع أن المثقفين العرب أخذوا على عاتقهم باستمرار توصيف الروابط الثقافية والدينية والتراثية بين العرب والأفارقة لخلق صلات تمثيلية داخل “الوطن العربي”، فإن الجدل حول ما إذا كانت هذه القراءة يمكن وينبغي أن تنطوي على تضامن، أو شراكة، أو كيفما يمكن للمرء أن يطلق على هذه الروابط، واجهَ اتجاهات فكرية وسياسية متباينة.

يشير التحليل الدقيق للعلاقات بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي إلى مدى فعالية المنطق الأمني العربي الراسخ في الربط بين القوى الإقليمية، من دون مراعاة حقيقية للجوانب الأخرى (الفرنسية)

  • فهل يمكن أن تكون آثار هذا الانزعاج الذي أشرتم إليه، الواضحة في الدراسات حول العرق فيما يسمى “العالم العربي”؛ مرئية في المخرجات العلمية والسياسية المعاصرة؟

أقول، وبشيء من الاطمئنان، إنه كما أن الانقسامات الأيديولوجية حول مدى كون الدول العربية جزءًا من القارة الأفريقية واضحة أيضًا بين المفكرين وعلماء الدين العرب، فإن المنتج الثقافي الذي يعبر عنها، ضئيل جدًا.
وعلى مدار تاريخها، ارتبطت علاقات الدول العربية مع أفريقيًا ارتباطًا وثيقًا بتوسع التجارة والاستعمار وإنهاء الاستعمار.

كما انقسم العلماء المعاصرون حول هذه المسألة، وكرس بعض القوميين العرب اهتمامهم وطلبوا دعم الدول الأفريقية لحقوق العرب في تقرير المصير والحصول على الاستقلال الوطني. كما دعم بعض المفكرين الإسلاميين نضال أفريقيا من أجل العدالة والاستقلال على أساس الأخوة الدينية.

ومع ذلك، فإن غالبية المثقفين العرب -ومعظمهم من علماء الدين- ارتبطوا بأفريقيا، وخاصة الأشخاص ذوي الجذور الأفريقية، وأيدوا إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
واليوم، يواصل العديد من علماء الدين العرب التعبير عن هذا الرفض في الخطب، وفي الدوائر الموكلة إليهم، وضمن وسائل الإعلام المختلفة، متسلحين بما قدمته جنوب أفريقيا لغزة وفلسطين.

وبناء على ذلك، يبدو أن بعض علماء الدين والقوميين يريدون فتح الباب من جديد للحوار وتقريب الشقة مع المثقفين الأفارقة.
ومع ذلك، فإن القليل منهم ممن لا يمثلون القاعدة الشعبية الواسعة داخل مجتمعاتهم العربية لأسباب متنوعة، لا يُعيرون أهمية لذلك.

إن تكريس الطوائف القومية والدينية جعل من الأصل العرقي والأمة العربية الدعامةَ الأساسية في بناء الهوية العربية، بينما يتم تعريف غير العرب على أنهم غرباء.
لذلك، فإن العلاقة مع الآخر المختلف مطلوبة فقط إلى الحدّ الذي لا يُعطل المفهوم القومي.
والحقيقة أن التعصب بين الشعوب موجود لدى كلا الجانبين.

كما يرفض الأفريقي أن يُسمَّى عربيًا ويشعر بأنه جزء من آخر، حتى لو كان مواطنًا قوميًا في الدولة العربية.
ويتحمل المثقف العبء الأكبر لأنه فعلَ الكثير للقومية العربية ودعمَ القضية العرقية، الأمر الذي له عواقب عديدة تؤثر على الأنشطة التي تهدف إلى توطيد العلاقات العربية الأفريقية.

لهذا، فإن بناء الوحدة الفكرية بين العلماء المعنيين في العالم العربي وأفريقيا يمثل تحديًا، فهناك اختلافات هائلة بين مناهج الباحثين العرب؛ الماركسيين والإسلاميين والقوميين، وجميعهم يصنفون أنفسهم في مجموعات أكثر محدودية ضمن المجتمع العربي العريض.

وهذه الاختلافات والخلافات والعداوات التاريخية بين بعض الدول العربية والأفريقية، غالبًا ما تعرقل مهمة دمج هذه المستويات الفكرية، التي تشترك في عدد من التفاعلات، والقيود، والطموحات، والقوى المتضامنة.
كما أدت في بعض الأحيان إلى تحريض متعمد ومنهجي لخلق مفاهيم خاطئة صارت ثابتة ومنظمة في نفسية هؤلاء الباحثين.

________________

*المصدر: “الجزيرة”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى