النصّ من تأويله على نهج “أحسن الوجوه” إلى “التَّأويل الشَّفاف”
النصّ من تأويله على نهج “أحسن الوجوه” إلى “التَّأويل الشَّفاف”
د. محمد زكري القضاعي
أنثروبولوجيا المعارف/جامعة إكستر البريطاني
20 سبتمبر 2024
بنيويَّة لامركزيَّة بين القرشي علي بن أبي طالب ع – والألماني هانس جورج غادامير
النَّقد والتَّجديد–
من منّا لم يسمع مقولة علي بن أبي طالب ع. “القرآن حمّال أوجه” أو “القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن الوجوه”
مصداقا لقوله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ “الزمر: 17، 18.
وقد قام العلماء بضبط “حمله على أحسن الوجوه” على قاعدة: وهو ما كان ظاهرا قريبا متبادرا محفوفا بشواهد شرعية، مقرونا بقواعد عربية، مطابقا للأمر نفسه، موافقا لميزان العقل وقانونه من غير كلفة وسماجة. عليه تكون مخرجات الإحتكاك النصي التأويلي مع القرآن العظيم هو إنتاج تأويلات عدة واستخلاص لأكثر من قراءة متباينة التوجهات في حق ذات النص وحول ذات المسألة.
عليه فان النص القرآني ليس بنصٍ قابل لإحتكاره خلف أراء مدرسة فكرية معينة أوسجنه خلف قضبان الرأي الواحد. بل هو نصٌ قابل لإنتاج عدة تأويلات.
هكذا تكون مقولة علي بن أبي طالب ع، “القرآن حمّال أوجه”، مرشدة إلى حقيقة أن القرآن يقر بالتعدد الأفهامي ولكن الشق الثاني “فاحملوه على احسن الوجوه” يرشدنا أن التعدد الأفهامية مرحلة ثقافية وسيطة تنضج بعد خوض تجربة إستخراج تأويلية تعد من جنس ” احسن الوجوه “.
بمعنى آخر من بين التأويلات المتنوعة تخرج تأويلة مثالية مناسبة لظرفها ومكانها تسمى تأويلة حازت بسبق “أحسن الوجوه”.
مصطلح علي بن أبي طالب ع. (ت 40 هجري) “أحسن الوجوه” له مرادف “التأويل الشفاف” وهو من مصطلحات الهرمينوطيقيا الحديثة، صكها هانز جورج غادامير (ت. 2002) الألماني التأويلي الهرمينوطيقي.
كتابات غادامير ثرية بمصطلحاته. ولا يمكن التوغل في أفكاره بدون القبض على ما يقصد من خلال الكلمات التي يستخدمها، منها هذا المصطلح المحوري:
Transparent Interpretation
” التأويل الشفاف “(وهي من أقل مصطلحات غادامير بحثا في ساحة الهرمينوطيقيا). ولكي نشرح (التأويل الشفاف) ونربطه مع مفهوم التأويل الذي يسمى ( أحسن الوجوه) لا بد من وضع مقدمة مدخلية اولية.
من الناحية المنهجية (method) يناشد غادامير كل باحث متأول للنصوص الخروج من براثين الفهم الثابت أو من أسر أنموذج تفكير أحادي Paradigm البرادايم .
ويناشد هانز جورج غادامير the interpreter المتأول أن يمارس خوض تجارب إنتاج فهم من خلال الاستعانة بأكثر من مدرسة تأولية. كما ينصح غدامر من متأول النصوص عندما يتوقف بين افكار مدرسة فكرية او طريقة تفكير أن لا يمر عليها مرور الكرام بل يحث عليه ان يخلص محاولته من أجل الاندماج في مشارب وعقل المدرسة عبر عملية يسميها
“fusion of horizons”
“إندماج الأفاق” ومن ثم إنتاج التأويلة عبر أفكارها. وبعد إندماج المتأول فيها يناشده ان ينتقل الى مدرسة تأولية أخرى لكي يمارس طريقة تفكير أخرى Paradigm، وممارسة إنتاج تأويل ذات النص السابق مرة أخرى عبر عملية أخرى من عمليات “إندماج الأفاق” في مدرسة فكرية أخرى لكي يتمكن من إنتاج معرفة تأولية أخرى وهلما جرى.
لماذا يريد منا هانز جورج غادامير تكرار عملية تأويل النص من ثنايا مرجعيات فكرية متنوعة ومتعددة؟
يعلم غادامير أن ليس كل عملية تأويل تصل الى رتبة
Transparent Interpretation
” التأويل الشفاف ” أو “أحسن الوجوه” بتعبير علي بن أبي طالب ع.
عليه يكون مهمة ممارسة “اندماج الآفاق” إنتاج مجموعة متنوعة من المعرفة التأويلية. لكن القليل فقط من هذه التأويلات يمكن أن تكون بلغت رتبة ” التأويل الشفاف ” أو “أحسن الوجوه”.
فما هو التأويل الشفاف للمعرفة عند غادامير؟
يقول غادامير:
عندما يقوم طالب مبتدأ بعزف مقطوعة من سيمفونية بيتهوفن فإنك لا تسمع بيتهوفن بل تسمع أخطاء عزف الطالب المبتدأ.
تسمع شخصيته تسمع توجهاته لكن لا تسمع بيتهوفن.
وعندما يقوم أستاذ كبير بعزف مقطوعة من سيمفونية بيتهوفن فإن الأستاذ يختفي.
يتحول الى شفاف غير مرأي. إنك عندها وحينها تسمع بيتهوفن.
” التأويل الشفاف ” عند غادامير هو التأويل الذي تكون فيه ميولات المتأول مختفية، تأويل يعبر فقط عن رأي صاحب النص لا عن رأي المتأول.
لكن غادامير يقول أن ” التأويل الشفاف ” تأويل سائل جدا وليس بثابت فالتأويلات الشفافة في العام الماضي لا تناسب العام الحالي.
” التأويل الشفاف ” إنه ذلك الفهم الذي يلتقط المعنى المقصود من النص وفقًا لإحداثيات قوى الوجود والوقت (في إشارة إلى الألماني مارتن هايدجر ت. 1976).
فعندما يحمل التأويل بصمات المتأول فإننا لن نتمكن من التعرف، على سبيل المثال، على القصد القرآني. بل سنسمع أراء المتأول عندها يكون هذا التأويل ليس بذلك ” التأويل الشفاف ” أو “أحسن الوجوه”.
يصر غادامير على إدخال أطروحة مارتن هايدجر زاين (Sein und Zeit) والمقصود هو الكينونة المتواجدة في إحداثي الجماعة تحت قوى الوجود والزمن. فأي تأويل غير مفهوم لوعي الجماعة لن يكون تأويلا شفافا ولن يتمكن من الوصول الى رتبة “أحسن الوجوه”.
وهو في ذلك يحاول غادامير أن يفتح الساحة المعرفية على أساس أنها ساحة تحمل تأويلات محتملة عدة. ولكن ليس كلها يبلغ عند لحظة التأويل رتبة “أحسن الوجوه”. فمن ناحية هذا الموقف اللاهوتي “العلوي – الغدامري ” الهرمينوطيقي يؤسس للتسامح وللتعددية وينفي دكتاتورية الرأي الأوحد. ولكن في ذات الأوان يقول أن على أتباع ثقافة الهرمينوطيقيا الجديدة (القديمة) أن تؤمن بحرية الرأي المتسامح القابل بالتنوع وعليها أيضا أن تدرك أن في كل زمان يخرج تأويل هو في مقام
” التأويل الشفاف ” أو “أحسن الوجوه” وعلينا تقبله لفترة وجيزة الى أن ندخل في الفترة التالية
من زاينات هايدغر (Sein und Zeit)، أي عندما تتغير كينونتنا المتواجدة في إحداثي الجماعة تحت قوى الوجود والزمن إلى كينونة تالية. حيث أن أي تأويل غير مفهوم لوعي الجماعة لن يكون تأويلا شفافا أو يصل الى رتبة أحسن الوجوه.
____________
* نقلًا عن موقع ” التنويري”.