
دراسات وبحوث معمقة
التفكير النقدي ؛ ماهيته، أركانه، متطلباته
“ما ذا نعني بالتفكير النقدي ؟ هل يمثل مغايرة مع أنواع التفكير الأخرى ؛ التفكير العلمي أو التفكير الفلسفي أو التفكير الديني مثلا ؟ لا بد إذا كي نفهم دلالة هذا المركب اللفظي من أن نفكك أجزاءه كي نقف على مركب اللفظتين اللتين كوَّنتا دلالته الجديدة.
فالتفكير يحمل معنيين ؛ الأول الناتج البايولوجي للدماغ، والآخر هو المتحصل الثقافي للفكر، ومن المؤكد أننا نقصد المعنى الثاني لا الأول.
أما النقد فهو تلك العملية التي تتأسس على ثلاثة أسئلة تثار في ذهن الناقد وهو إزاء نص أدبي ما، وهذه الأسئلة هي : ماذا وكيف وهل، فسؤال الـ (ماذا) يسأل عن المضمون أي مضمون العمل الأدبي، وجوابه يكون بالوصف، أما سؤال الـ (كيف) فيسأل عن الطريقة التي اتبعها الأديب في كتابة نصه، وجوابه يكون بالتحليل، ويبقى سؤالـ (هل ) ليسأل عن النجاح أو الاخفاق في العمل الأدبي وجوابه سيكون بالتقويم.
أما المتحصل من جمع مفردة التفكير مع مفردة النقد فمن المؤكد أنه سيكون النقد ذاته لكن بصورته العلمية الموضوعية الدقيقة، وعليه فإن المقصود بالتفكير النقدي هو النقد الأدبي المُبتنى على الاشتراطات التي تؤهل النص النقدي للبقاء والقبول والثقة والاطمئنان.
من هنا يمكن القول أن مراحل النقد هي : الوصف ومن ثم التحليل ومن ثم التقويم، وهذه المراحل تتطلب : جهدا ووقتا ووعيا وثقافة وذوقا رفيعا، فالنقد قبل كل شيء مسؤولية كبيرة قد يؤدي الإخفاق فيها إلى جعل صاحبها في موضع الريبة والشك، وبالتالي فالنقد ليس هواية ولا لهوا لأن الناقد يتعامل مع الآخرين، وليس النقد أيضا كلاما غير مقصود بعناية، بل يمكن القول أن النقد يسعى دائما أن يلامس التفكير العلمي ليفيد منه الدقة والصرامة ومقاييس التمييز والموازنة والمقارنة والتتبع المتأني، ومن سعادة النقد أن يوصف بأنه علم كأي علم آخر بخصوصياته المعروفة.
أركان التفكير النقدي:
لا بد أن يُبتنى التفكير النقدي قبل كل شيء على رؤية فلسفية واضحة، فالناقد فيلسوف بأحد المعاني ؛ يحاول استكناه طبيعة النص بإثارة الأسئلة والشكوك حوله ثم محاولة الإجابة عليها تماما مثلما يفعل الفيلسوف حينما يسائل الوجود.
أما الركن الثاني من أركان التفكير النقدي فيتمثل بالثقافة الموسوعية، فلا نقد دون ثقافة موسوعية تؤهل الناقد أن يلمّ بالنص وما حوله ويفهم ظروفه الداخلية والخارجية، وعلاقاته مع غيره، ثم أننا لا نتصور نقدا دون معرفة تامة بقواعد اللغة الصرفية والنحوية والبلاغية والاملائية ؛ فهذه أدوات الناقد الأساسية، فضلا على معرفة جيدة بالعلوم المجاورة الأخرى كالفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والتاريخ والجغرافية وعلوم الطبيعة، وقد استشعر العرب قديما هذه المسألة وعدوها مدخلا للشعور بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الناقد، لذلك قال عمرو بن العلاء أن علماء الشعر أعز من الكبريت الأحمر كناية على أن المتصدين للنقد وفق الاشتراطات السابقة لم يرشح منهم الا القليل، وهذا واضح في عدد النقاد العرب المعتبرين الذين يمكن أن يعتد بهم، فمن الأصمعي حتى ابن خلدون، أي لمدة ستة قرون لم يفرز الأدب العربي سوى أثنين وعشرين ناقدا.
والركن الثالث من أركان التفكير النقدي يتمثل في التراكمية، فالنقد تفكير عمودي يرتكز حديثه على قديمه ولا يمكن أن نفكر نقديا دون الاستعانة بالجهود السابقة.
متطلبات التفكير النقدي:
من أهم ما يتطلبه التفكير النقدي : الموضوعية، بمعنى أن يكون النقد بعيدا عن الأهواء والميول والرغبات، وإن يكون منطلق الناقد في عمله من النص لا من قبليات ذاتية أو آيديولوجية مسبقة.
ثم أن النص هو المقصود بالنقد وعليه يجب أن تصب الجهود عليه دون سواه، ولا بد للناقد من معرفة تامة بالموضوع الذي يدور حوله النص المنقود، ويمتلك القدرة على الموازنة والمقارنة لكي يتسنى له معرفة موقع النص ومدى افادته من الآخرين أو اتكاءه عليهم، كذلك لا بد أن يتحلى الناقد بالذوق الرفيع فلا يمكن أن نتحسس مكامن الجمال في النصوص دون هذه الملكة، فضلا على أن الناقد لا يمكن أن ينقد نصا وهو محمل بعداء أو حب شديد للنص أو لكاتبه ففي هذه الحالة لا يمكن أن نطمئن للحكم النقدي الذي سوف يصدره، كذلك على الناقد أن يكون مواكبا لما يصدر جديدا، عارفا بالأجواء الثقافية السائدة ؛ ملما بمتغيراتها، وأن يتقبل الجديد بأريحية وموضوعية.”
د. علي حسين يوسف