دراسات وبحوث معمقة

ولادة المادة من الضوء: حكاية عملية بريت-ويلر

ولادة المادة من الضوء: حكاية عملية بريت-ويلر
في قلب الكون، حيث تتلاشى الحدود بين المادة والطاقة، تكمن واحدة من أعمق الأسرار التي سعى العلماء لكشفها: كيف يمكن للضوء، ذلك الكيان عديم الكتلة، أن يتحول إلى مادة؟ هذه ليست قصة من الخيال العلمي، بل هي حقيقة فيزيائية تجسدت في نظرية عمرها أكثر من 80 عامًا، عُرفت باسم “عملية بريت-ويلر”.
البذرة النظرية
في عام 1934، كان عالمان من رواد الفيزياء النظرية، هما غريغوري بريت (Gregory Breit) وجون ويلر (John A. Wheeler)، يغوصان في أعماق ميكانيكا الكم. كانا يستكشفان التفاعل بين الفوتونات، تلك الجسيمات الأولية التي تشكل الضوء، واقترحا فكرة جريئة: إذا اصطدم فوتونان عاليي الطاقة ببعضهما البعض، يمكن أن يتحولا إلى زوج من الجسيمات المادية، أحدهما إلكترون (جسيم سالب الشحنة) والآخر بوزيترون (ضديد الإلكترون، جسيم موجب الشحنة).
هذه العملية، التي أصبحت تُعرف باسم “عملية بريت-ويلر”، كانت بمثابة انعكاس مباشر للمعادلة الأكثر شهرة في تاريخ الفيزياء: E=mc^2. بينما تصف معادلة أينشتاين كيف يمكن للمادة أن تتحول إلى طاقة، فإن عملية بريت-ويلر كانت تصف العكس تمامًا: كيف يمكن للطاقة النقية (الضوء) أن تتحول إلى مادة.
لكن لماذا لم تتحقق هذه الفكرة في ذلك الوقت؟ الإجابة تكمن في متطلبات العملية. لكي تحدث عملية بريت-ويلر، يجب أن تكون طاقة الفوتونين عالية جدًا، وتحديدًا يجب أن تكون طاقتها مجتمعة كافية لإنشاء كتلة الإلكترون والبوزيترون. في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تكن هناك مصادر للضوء (الليزر) قادرة على توفير هذه الكمية الهائلة من الطاقة.
عقود من الصبر
على مدار عقود، ظلت عملية بريت-ويلر مجرد نظرية أنيقة في كتب الفيزياء، لكنها لم تُختبر بشكل عملي. لم يكن العلماء يمتلكون الأدوات اللازمة لرصدها. كانت التحديات هائلة:
* الطاقة الهائلة: كان يتطلب الأمر إنشاء فوتونين بطاقة كافية، وهو ما يتطلب ليزرات قوية جدًا لم تكن متاحة.
* التصادم المباشر: كان يجب أن يصطدم الفوتونان ببعضهما البعض بشكل مباشر، وهو أمر شديد الصعوبة نظرًا لصغر حجمهما.
ومع تطور تقنيات الليزر في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بدأت النظرة إلى عملية بريت-ويلر تتغير. أصبح العلماء يمتلكون أدوات أقوى، وأصبح حلم تحقيقها أقرب إلى الواقع.
ولادة المادة في المختبر
في عام 1997، حقق فريق من الباحثين في مركز ستانفورد للمسرعات الخطية (SLAC) في الولايات المتحدة إنجازًا ثوريًا. لم يقم الفريق بتنفيذ عملية بريت-ويلر المباشرة (التي تتطلب تصادم فوتونين)، بل قاموا بتنفيذ ما يعرف بـ “عملية بريت-ويلر غير الخطية” (Non-linear Breit-Wheeler process).
كانت الفكرة ذكية جدًا: بدلاً من تصادم فوتونين مع بعضهما البعض، قاموا بتصادم إلكترون عالي الطاقة (الذي يتصرف كفوتون افتراضي) مع فوتون ليزر قوي. كان الإنجاز هو أن هذا التفاعل أدى إلى ولادة زوج من الإلكترون والبوزيترون، مما أثبت لأول مرة أن عملية بريت-ويلر ممكنة.
استمرت الأبحاث، وفي عام 2022، أعلن فريق من العلماء بقيادة الدكتور جوناثان كيسيل (Jonathan Keessell) في جامعة روتشستر عن إنجاز تاريخي آخر. باستخدام ليزر “أوميا” (Omeya)، وهو أحد أقوى الليزرات في العالم، قاموا بتنفيذ نسخة أخرى من العملية.
كانت التجربة كالتالي:
* تم إطلاق ليزر قوي جدًا على قرص ذهبي رقيق، مما أدى إلى تسخين القرص وإنشاء بلازما ساخنة للغاية.
* تم إطلاق شعاع ليزر آخر على البلازما، مما أدى إلى توليد فوتونات عالية الطاقة.
* تصادمت هذه الفوتونات مع فوتونات أخرى في بيئة البلازما، وحدث ما توقعه بريت وويلر قبل عقود: وُلدت أزواج من الإلكترونات والبوزيترونات.
أهمية الإنجاز
إن تحقيق عملية بريت-ويلر ليس مجرد إنجاز تقني، بل هو إنجاز علمي عميق يفتح آفاقًا جديدة:
* فهم الكون المبكر: يعتقد العلماء أن عملية بريت-ويلر لعبت دورًا حاسمًا في اللحظات الأولى من عمر الكون، عندما كانت درجة الحرارة والطاقة عالية جدًا. فهم هذه العملية يساعدنا على فهم كيف تكونت المادة الأولية بعد الانفجار العظيم.
* الفيزياء الأساسية: تؤكد هذه التجارب صحة النظرية الكهروديناميكية الكمومية (Quantum Electrodynamics)، وهي إحدى أكثر النظريات نجاحًا في الفيزياء الحديثة.
* تطبيقات مستقبلية: على الرغم من أن الأمر لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن فهم كيفية تحويل الطاقة إلى مادة قد يفتح الباب أمام تقنيات جديدة في مجالات الطاقة أو حتى في فهم التفاعلات النووية.
رحلة لا تتوقف
من مجرد فكرة على ورقة فيزيائيين في عام 1934، إلى حقيقة ملموسة في مختبرات القرن الحادي والعشرين، تروي عملية بريت-ويلر قصة العلم الذي لا يعرف المستحيل. إنها شهادة على قوة التفكير البشري، والمثابرة، والإيمان بأن أعمق أسرار الكون يمكن أن تُكشف، فوتونًا بعد فوتون، حتى تتجسد المادة من رحم الضوء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى