وردة الفيلسوف سيلزيوس التي بلا سؤال فتنت هايدغر وآخرين
وردة الفيلسوف سيلزيوس التي بلا سؤال فتنت هايدغر وآخرين
عندما تبطل لغة الجمال كلام التسويغ العقلاني
مشير باسيل عون
مفكر لبناني
الفيلسوف والشاعر أنغلس سيلزيوس (موسوعة الفلاسفة الألمان)
اختار الشاعر الصوفي اللاهوتي الألماني البولندي الأصل يوهان شفلر (1624-1677) اسم أنغلس (Angelus) للدلالة على سيرة الملاك السرافيمي الذي يتألق بالبهاء والصفاء والنقاوة. لا ريب في أن مسألة الملائكة كانت تلهب مخيلة الشاعر الصوفي حتى إنها تصدرت عنوان مجموعة من قصائده. أما سيلزيوس (Silesius) فيدل على انتمائه القومي إلى منطقة سيلزيا (شلزيين بالألمانية) التي تحاذي نهر الأودر في أوروبا الوسطى وتمتد في ثلاث دول بولونيا وألمانيا وتشيكيا. كان مولده في منطقة سيلزيا البولونية النازفة جراء العنف الديني الذي كان يعصف أثناء حرب الـ30 سنة في اقتتال دموي بين حكام الهابسبورغ الكاثوليك والرعايا البروتستانتيين التشيكيين.
حاول سيلزيوس أن يتجاوز التحجر العقائدي في الأنظومتين اللاهوتيتين الكاثوليكية والبروتستانتية بواسطة روحية التصوف التي تحول الحجارة الصلبة إلى لآلئ تضيء بالبهاء الإلهي. في عرفه أن الانتماء المذهبي ليس باب الخلاص، بل الترحال الكشفي الذي يمنح حجاج الملكوت القدرة على فك رموز الحقائق. ومن ثم لم يكن ينتظم في مؤسسة دينية ويخضع لعقيدة لاهوتية، بل كان يتصور الله متعالياً على جميع الهيئات والعمارات والأنظومات، وكان ينطق بكلام روحي يخاطب به جميع أهل المسكونة الحريصين على البحث عن معنى الحياة الأعمق. جل ما يعنيه في الاختبار الوجداني رغبة كل إنسان في فهم سر الله، فضلاً عن ذلك نشأ في منطقة سيلزيا التي احتضنت إبداعات الشعر الباروكي الوسيطي، وترعرع في بيئة ثقافية تدين للأدب الروحي الذي تجلى في أعمال ياكوب بومه (1575-1624) على وجه الخصوص.
كتابه الأساس باللغة الألمانية (موقع سيليزيوس)
وعليه كان سيلزيوس يظن أن التيار الصوفي المسيحي ينعم بقدر أكبر من الحرية في الكنيسة الكاثوليكية، إذ إن الكنيسة البروتستانتية كانت متشددة في مسألة الروحانيات المنعتقة من مرجعية الكتاب المقدس. وفضلاً عن ذلك لم تكن السلطات البروتستانتية تجيز له أن يعيد نشر مؤلفات معلمه وملهمه ياكوب بومه. أما في الكنيسة الكاثوليكية فإن الاختبار الوجداني يراعي في نظره ضرورات الانتماء إلى الجماعة والانتظام في المؤسسة. ومن ثم آثر الانتقال إلى هذه الكنيسة عام 1653، وما لبث أن سيم كاهناً فيها.
بعد ارتداده إلى الإيمان الكاثوليكي أنشأ مجموعة من القصائد الوجدانية التي تعبر عن شوق النفس إلى الله وعشقها الملكوت السماوي (Heilige Seelensucht). يختلف أسلوب هذه القصائد العاطفي الجياش عن طرائق الوشي في أشعار “الحاج الشروبيمي” (Cherubinische Wandermann) التي تتصف بأرقى خصائص الإبداع الشعري والبلاغة التعبيرية والنقاء البلوري. من آثار الارتداد أيضاً أن سيلزيوس أخذ يذود عن الكنيسة الكاثوليكية بكل ما أوتي من قدرة على الإقناع، حتى إنه تحول إلى داعية دفاعي شديد اللهجة يتخلى بسهولة عن وداعة المتأمل الصوفي الروحي وطراوة الناظم الشعري.
التصوف سبيل الانعتاق من تحجر المؤسسة
رسمة له وخواطر (موقع سيلزيوس)
سرعان ما أدرك سيلزيوس أن مخالطة المتصوفين تخالف أحكام الكنيسة اللوترية التي كان ينتمي إليها، ذلك بأن كل مؤسسة دينية تحرص على الشعائر والطقوس الخارجية، وتخضع لأنظومة أخلاقية متشددة، وتبايع سلطة بشرية تدعي الحكم باسم الله. غير أن الدافع الوجداني الذي كان يحرضه على الكتابة كان يتجلى في رغبته المتقدة في بلوغ الملكوت الجواني الذي يجسد وحدة الإيمان المسيحي والمسعى الميتافيزيائي، لذلك أنشأ غنائية شعرية صوفية أراد بواسطتها أن يخفف من حدة الإسراف التجريدي في خطاب الكنيسة اللاهوتي، ولكنه غالباً ما أهمل متطلبات التفكير الفلسفي الدقيق الصارم.
من الواضح أنه كان متأثراً بعظماء الصوفية المسيحية الألمانية من أمثال المعلم إكهارت (نحو 1260- نحو 1328) وتاولر (1300-1361) وياكوب بومه ورويسبروك (1293-1381) وڤيغل (1533-1588) الذين أبانوا له أسرار الخلق الكوني، وأطلعوه على معاني الشركة العميقة الناشطة بين أجزاء العالم. كان يأنس إلى امتداح الذات الجوانية البلورية الطاهرة التي تلاقي الله في قرائن المحدودية التاريخية. غير أنه كان أيضاً يؤيد المبدأ القائل إن في الكون ناموساً أونطولوجياً أبدياً يصون المتصوف من الانحلال الذوباني الإلغائي في وحدة الوجود المتعالية، ومن الغرق في أوهام الذات المتضخمة.
كان وريث التصوف الألماني الرناني (منطقة الراين الألمانية) يعمد إلى تفسير النصوص الصوفية ويعلق عليها، حتى إنه غدا يجسد خاتمة السلسلة الرائعة من الشخصيات الفكرية الصوفية الاستثنائية الفريدة هذه، ويغني التواصلية الروحية الناشطة بين متصوفي الأرض جميعهم، ومن أبرزهم أفلوطين (205-270) وبروكلس (412-485) والحلاج (858-922) والمعلم إكهارت وياكوب بومه. على غرار هؤلاء كان حريصاً على ترسيخ الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، بحيث طفق هذا الرباط يظهر في أبهى تجسيداته في قصائده وأبيات المثنى المتقابلة.
كتابه “الوردة من دون سؤال” بالترجمة الفرنسية (دار ألبان ميشال)
كان يبني أشعاره من بيتين متقابلين متعارضين يضخ فيهما أشد الدلالات الصوفية تنافراً في الظاهر، وأعمقها تآلفاً في الباطن. المثال على ذلك بيته المقتضب الذي يحرض فيه الإنسان على الاكتفاء بغنى كيانه “ما الذي أصابك حتى أخذتك الرغبة؟ تستطيع وحدك أن تكون السماء والأرض وآلاف الملائكة”. في موضع آخر يعلن في يقين الكاشف الروحي أن “اليوم الفريد هو الآن الأبدي”.
وعلاوة على ذلك يستطيب سيلزيوس الاستعارات المجازية الملهمة، فيستحضر عناصر الطبيعة، ويستثمر طاقاتها الإيحائية في تصوير علاقة الإنسان بالله “إذا سألتني كيف يسكن الله بكلامه في النفس الإنسانية فاعلم أنه يسكن كما يسكن نور الشمس في العالم…”. أما ذروة التعبير الصوفي فيعثر عليه المرء في الوصية الساحرة التي دبجها في آخر قصائده، إذ أخذ يحرض القارئ على الائتمار بهدي وجدانه واختبار التحول الكياني الأبلغ “يا صديقي! إني أقف في كتابتي عند هذا الحد. أما إذا أردت أن تستزيد فاذهب بنفسك وصر بنفسك الكتابة والجوهر”.
رمزية الملاك الشعرية
للملاك مقام جليل في أعمال سيلزيوس الذي أخذ عن الراهب السوري الأفلاطوني المحدث ديونيسيوس الأريوباجي (القرن السادس) تصنيفه مراتب الملائكة، الملائكة السرافيميون هم الأقرب إلى الله، يختبرون الحب في جميع أبعاده، الملائكة الشيربيميون ينفردون بامتلاك العلم الأعلى، أما ملائكة العرش فينعمون بالهدوئية السلامية المطلقة. اختار سيلزيوس عنواناً لقصائده (Cherubinische Wandermann) المرتبة المتوسطة التي يقيم فيها الملائكة الشيربيميون الذين يتصفون بالرؤية الصوفية العارفة. يظن الباحثون أن الثقافة الروحية الألمانية تستحسن هذه المرتبة التي تنطوي على أجمل وعود المعرفة الصوفية الأعمق. الأديب الألماني غوته (1749-1832)، على سبيل المثال، يضع في فم بطل روايته فاوست كلاماً يناسب التوق المعرفي هذا “أريد أن أحلق بالمعرفة أبعد من الملائكة الشروبيميين”. أما الشاعر النمسوي ريلكه (1875-1926) فيستجلي في هوية الملاك مقام المعرفة الأعلى، إذ إنه من الخلائق السماوية التي تعاين اللامنظور في الماضي والحاضر والمستقبل. ومن ثم يستطيع ملاك التاريخ أن يتأمل في مآسي الزمان وتمخضاته الكارثية.
لذلك كان سيلزيوس يعشق الملاك، إذ يعده نفساً أو روحاً لا كائناً من الكائنات، ويعاين فيه إما حال الانتقال من طور إلى آخر وإما وضعية الانسياب الإلهامي المجازي الذي يحمل رسالة المعنى المنحجب إلى أهل الأرض. على مثال الرسالة التي يجسدها الملاك أنشأ سيلزيوس أبياته في حرية الانسياب اللطيف بين المقامات من غير أن يقيد المعنى ويحصره في القول. ومن ثم تنتقل شعريته بالوجدان من العبارة إلى الإشارة، أي من المقول إلى المحجوب. غير أن المتصوف يستطيع أن يفوق الملاك إبداعاً شاعريا “جميل نشيد الملائكة، ولكني أعلم أن نشيدك، إذا ما أسكنته في الصمت، أعز على قلب العلي”. كلام المتصوف صمت بليغ يحاكي تسامي المطلق. إذا استطاع المرء أن ينزل الكلام منزلة الصمت أدرك جوهر المعنى الذي يذيعه الخطاب الملقى أو النص المكتوب.
امتناع الوردة عن تسويغ ورديتها
دراسة عنه بالإنكليزية (أمازون)
كان سيلزيوس بفضل حسه الباطني يستطيع أن يعاين شعرياً الكلية الوجودية، وقد تكثفت فانطوت في اللحظة الآنية. حتى الوردة عينها اختبرت التفتح الانتعاشي في محضر الله “إن الوردة التي تدركها هنا عينك الجسدية قد تفتحت أيضاً في الله منذ الأزل”. من أسرار الوردة أيضاً أنها تمتنع عن الأخذ الحسابي والتسويغ المنطقي “ليس في الوردة سبب. تتفتح لأنها تتفتح. لا تهتم بذاتها، ولا تسأل هل ننظر إليها” (Die Rose ist ohne warum). على غرار الوردة ينبغي أن يتفتح الوجود في الوعي الباطني حتى يقبل إليه الإنسان من غير أن يرتبك بتعليلات العقل العاجز عن إدراك أسرار الكون. وعلاوة على ذلك يجدر بالإنسان أن يحذو حذو الوردة في براءة تفتحها وعفوية عطائها ومجانية عطرها، لذلك يعطل انبساط الوردة اللامنطقي تعليل الوجود المنطقي الذي كان لايبنيتس يسعى إلى الفوز به حين طفق يسائل النفس عن علة الكينونة في استفساره الشهير “لم يكون كائن ما ولا يكون بالأحرى العدم؟”.
يؤثر سيلزيوس تصوف الجواهر القصية أو الماهيات المطلقة (Wesen) التي تتجاوز حقائق اللاهوت والفلسفة، وترتقي بالإنسان الروحاني الصادق إلى مرتبة تخطي التعبير البشري، حتى يستطيع أن يدرك ما هو أبعد من الآلهة التاريخية، ذلك بأن الأنظومات الدينية قيدت البارئ في تصوراتها الثقافية الضيقة، في حين أن المتصوف يروم أن يعاين الألوهة (Gottheit) التي تحتجب وراء مقولات الكلام البشري. يعتصم غالب الناس بصورة الإله، وفي ظنهم أنهم يدركون جوهر الألوهة الذي ما برح عصياً على الأخذ. وحده الإنسان الروحاني الشفاف المتجرد الغارق في لجة الإبصارات السرية يستطيع أن يختبر وجهاً من وجوه تجليات هذه الألوهة. غير أن هذا الاختبار يلغي الإنسان المختبر، إذ إن الألوهة تتجلى فيه من غير أن تخضع لمداركه ومقولاته وتعابيره. شرط اعتلان الألوهة أن يذوب الإنسان فيها حتى يصونها من أي إمساك عقلاني قاهر. المؤمن الحق يحرص على تحرير الله من جميع قيود الزمان والتاريخ.
يقين سيلزيوس أن الإنسان قادر على التحول إلى المقام الملائكي، وعلى الانتقال إلى الخدر الإلهي لكي يذوب في صحراء العدم المطلق، ذلك بأن إعدام الذات سبيل الألوهة “لست أرغب إلا في أن ألقي بنفسي في بحر الألوهة النقي”، ما من سبيل يبلغنا الجوهر الإلهي إلا سبيل إعدام الذات وإخلائها من عدتها الكيانية، وسبيل انعدام الكلام في الله.
كتابه الأساس بالإنكليزية (أمازون)
استوحى هايدغر إذاً من سيلزيوس فضائل العدم الذي يناسب مقام الكينونة التي لا يليق أن ننسب إليها أي صفة أو نربطها بأي محمول. لا يليق بنا أن نصور الله على مثالنا، إذ إنه بحد ذاته استحالة الصورة (Bildlosigkeit). كلا الصورة والمفهوم يشوه التسامي الإلهي، ويعطل المطلق العلوي، ويفرغه من عدميته المغنية.
التأمل والحب سبيلا الخلاص والسعادة
في الثنائيات الشعرية التي أنشأها سيلزيوس كان يروم أن يفصح عن أعمق معايناته الصوفية، ليظهر أن مصير الإنسان مقترن بسر الألوهة المنحجب، ذلك بأن الإنسان هو الكائن التاريخي السائر على دروب الروح والباحث الصبور عن الحق (Wandermann). اسثتارت هذه التأملات ردود الفلاسفة العقلانيين. فعاب عليه لايبنيتس أنه كان يخلط المجال الزمني التاريخي البشري بالمجال الماورائي الميتافيزيائي الإلهي، ويناصر الحلولية التي تعاين الله منغلاً في تضاعيف الوجود، بيد أن غاية المعاينات الصوفية أن ترسم صورة الإنسان الذي يحقق ملء كيانه بالتأمل والحب “الإنسان البار لا يصنع شيئاً بمقتضى الشرائع والوصايا والأحكام، بل جل عنايته أن يسلك مسلك الحب الإلهي”. الواقع أن سيلزيوس كان حريصاً على استنقاذ الإنسان من براثن الرتابة الوجودية المهلكة، لذلك كان يحرضه على طلب المثال الأعلى “ماذا تعني الحياة الملائكية؟ أن يكون الإنسان نقياً، شفافاً، مستسلماً، وأن يحب الآخرين محبة صافية، وأن يخدمهم خدمة صادقة، وأن يتأمل تأملاً جميلاً”.
أثره الفلسفي والصوفي
اكتسبت أعمال سيلزيوس شهرة واسعة، وأثرت تأثيراً بيناً في غنائية سبينوزا (1632-1677) العقلانية، ومثالية فيشته (1762-1814) الذاتية المتعالية، والأسلوب الشغفي الذي كان يعتمده الأديب الألماني غوته. اطلع لايبنيتس (1646-1716) على مؤلفاته وتفاعل وإياه أخذاً ورداً. قرأ هيغل (1770-1831) نصوصه وتأثر بها واستدخل عصارتها في خلاصاته التأويلية التوليفية. أما هايدغر فتناول بضعة من أقواله الشعرية التي تؤيد مسعى الأعراض عن عمليات التسويغ العقلي في فهم سر الكينونة والكائنات. استشهد هايدغر في كتابه “مبدأ العلة” (Der Satz vom Grund) بالعبارة الشهيرة التي تحرر الوردة من كل تعليل سببي، وكأني بهايدغر يريد أن يحرر الفكر المستذكر من كل تسويغ منطقي يقيده في مقولات الميتافيزياء القاهرة.
أما في فرنسا فإن جاك لاكان (1901-1981) كان من أشد المفكرين تعلقاً بروحانية هذا المتصوف يعكف على قراءته والتأمل في دلالات شطحاته الصوفية. من شدة تأثر لاكان بمقولة العدم التي امتدحها سيلزيوس، وبمعطوبية الخليقة التي صورها الشاعر الفرنسي بول ڤالري (1871-1945) في مجموعته “ميلاد الحية” (La naissance du serpent)، أنشد قائلاً “إني في الموضع الذي منه يضطرم الصوت الغاضب الذي يعلن أن الكون عيب يصيب نقاء العدم (اللاكينونة)”. جراء الاقتباسات المغنية هذه، استطاعت حدوس سيلزيوس الصوفية والتماعاته الإشراقية أن تعبر الأزمنة فتلهم العقول الحائرة وتخصب الوجدان الروحي.