دراسات وبحوث معمقة

المنطق كعلاج

المنطق كعلاج

ادريس هاني

 

لطالما حاولنا الإسهام في تحرير الكائن من عبودية العقل، لا من حيث منحه سلطة شمولية على الأشياء، بل من حيث أنّ العقل برغسونيا غير قادر على احتواء كلّ هذا التّدفق الحيوي للحياة نفسها. غير أنّ لحظة خضوع الكائن لهذه السيطرة التي تحاصر الحياة نفسها، يتمادى حتى يصبح أقل من تلك الحدود الأولى. يتمنطق للوهلة الأولى ليس تعزيزا لشمولية العقل، بل فقط للإفلات من المسؤولية التي يفرضها تدفّق الحياة، حتى إذا نجح في مهمّة السقوط، تنكّر لتلك الشروط نفسها، للحياة والعقل معا. وهذا يفرض عودة حميدة للميزان، عسانا نتفق على الحدّ الأدنى من المعنى.

منح الكائن العقل معنى ووظيفة غير مؤهّلة لاحتواء كل نشاطاته في الوجود، حتى أنّه اختزل العقل في مسلك من مسالك الدماغ، في سُلم من سلاليم الحياة، ولكنه عجز أن يجعل العقل قادرا على احتواء الحياة، أي أن يتسع لآخر-العقل(l’autre de la raison). المنطق مسلك من مسالك الحياة ولكن ليس كلّ الحياة.

إنّ نقاشنا ليس في هذا السّلم، بل في صميم المنطق نفسه، كيف نتعاطاه دون مخطط انتهازي خقي، حتى لا يصبح المنطق مناهضا للحياة. فبأيّ نيّة نمسك بناصية المنطق حتى لا يكون المنطق نفسه آلة، ليس لتصحيح الفكر، بل لتغليطه؟

تستطيع أن تحاسب فيلسوفا قادما من التقاليد المدرسانية انطلاقا من القوانين المنطقية، لأنّه لا غنى عن المنطق في أي فنّ نعاقره ابتداء، لكن ماذا عن صنائعنا التي لم تعد تستشعر الحاجة إلى الميزان، وهي لا تتجه نحو التصالح مع تدفق الحياة وحدسها العظيم؟ وخلافا لتهتُّك أنماط التكوين المعاصرة، يمكن أن تتقن فنّا دون أن تدرك قواعد الميزان.

ويوم وجد البصّاصون في عنوان الشّفا للشيخ الرئيس مفارقة، حيث كان أولى أن يطلق هذا العنوان على كتابه في الطب(القانون) لا في المنطق(الشّفا)، كان أحرى بنا أن نستهضم هذا العنوان، ونحمله على محمل جميل، وهو أنّ المنطق هنا كعلاج من أدواء المغالطة. وهذا التعريف أراه مناسبا أكثر من التعريف التقليدي للمنطق، لأنّ الفكر هو أوسع من الأورغانون، ومن ناحية أخرى لأنّ تعريفا كهذا لا يمنح الوظيفة المنطقية مناعة فحسب، بل قد يجعلها قادرة على أن تتلاءم مع التدفق الحيوي للحياة بحدسها العظيم، فميزان كهذا ومعيار للعلوم وليس للحياة، سيدرك حدّه بل يساهم في التحوّل السلس من سلم في التفكير إلى فضاء للحياة، كلّ يدرك حدّه ووظيفته. وهنا تكمن معضلة الأيديولوجيا، في هذا الاختلال الذي ينتهي بخلط الوظائف، حين يستبد سلم ما بباقي السلاليم، حين يسعى المقيد لاحتواء المطلق، حين يسعى المتداني لاحتواء  المتعالي، حين يسعى الأورغانون لاحتواء الحدس العظيم.

 

أي قيمة لمعيار فقد مناعته المعيارية؟

يغرق الفضاء العمومي في المغالطة،وهي اليوم قضمت ما تبقى من قواعد المنطق، واكتسبت مناعة ميكروبيولوجية حدّا لم يعد يفيد معها المنطق التقليدي. نحتاج إلى المنطق ليس لندرك الآماد الأوسع للحياة، بل فقط هي حاجة تكتيكية للخروج من الوضعية المكروبيولوجية للمغالطة، من هذا الوباء المستفحل والذي تنقله رياح الخطاب، فينتشر بقوة العدوى. ولأنّ المغالطة باتت أكثر خفاء وأكثر طيرانا، كان لا بدّ لها من هازم من منطق كُمُومي أيضا يلاحقها في مسار تهتُّكها ويصطادها في مكامنها ويلاحقها في سائر منازلها. إنّ زمن المغالطة هو من زمن موضوعه، فالمغالطة لها طبيعة فيروسية، وهي ترعى من قواعد المنطق نفسها، إنّها تقلب موازينه ولها خاصية الاستنزاف. إنّ سرعة المغالطة وقدرتها الفائقة على التّخفّي والمناورة، يتطلّب نباهة وحدسا واستنفارا لكل الملكات، لأنّها عربدت بما فيه الكفاية.

المغالط هو أيضا يستعمل كلّ الملكات في إرباك الميزان. تمنحه طبيعته الإستنزافية قدرة على محاصرة التفكير حدّ إكسابه حالة من الشعور بالذنب. يصبح المغالط في مقام القاضي بينما يمنح المنطقي مقام المتّهم. إنّ الحقيقة لا تهمّ المغالط، لأنّ له حقيقة مسبقة يسعى لتعزيزها بكل الأدوات الممكنة، وبالمنطق نفسه بعد اختراقه وتغيير مسالكه. بتعبير إدواردو غاليانو: أننا حين امتلكنا كل الأجوبة، بدلوا الأسئلة.

هذا تعبير وافي عن حالة الاستنزاف التي تضعنا فيها المغالطة، لا سيما تلك التي تتمترس بالمنطق بعد أن تغيّر علبة السرعة(boîte à vitesses).

في عصرنا الرّقمي الذي زاد الوضعية تعقيدا، لأنّه حقق ثورة في تداول المعلومة والاتصال لا في منطقها، مما جعل المهمّة التاريخية صعبة، لأنّ المغالطة اكتسبت لها إمكانيات هائلة، بحيث اتسع مدى انفلاتها من الرّقابة، لا سيما في عالم افتراضيّ شكّل ملاذا للسوبر-مغالطة. بما أنّ أصل لعبة المغالطة لم ينحل في الأزمنة السابقة، فما الجديد اليوم، سوى أنّ العدوى ستنتقل مع البرمجة والدّاتا الملوّثة إلى العصر الرقمي، لنتحدث عن شيء مستبعد اليوم من جملة ما نتحدّث عنه في إطار الأمن السيبراني، حيث أرى أنّ جوهر المعضلة تكمن في دور المغالطة في العصر الرقمي، الأمن السيبراني إذن يبدأ من جملة التحرّيات التي تستهدف المغالطة المرقمنة، وهذه التحرّيات تُحْسَمُ في الواقع قبل الافتراضي…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى