
فلسفة وميتافيزيقا
سقراط كما رآه هيغل: الفيلسوف الذي غيّر الوعي الإنساني (الجزء الأول)
سقراط كما رآه هيغل: الفيلسوف الذي غيّر الوعي الإنساني (الجزء الأول)
في لحظة حاسمة من تطور الوعي الإنساني، وعندما بلغت الفلسفة في اليونان القديمة ذروة جديدة من النضج، وُلدت في أثينا شخصية استثنائية لم تتكرر: سقراط.
لم ينبثق سقراط فجأة كما تنبت الفطريات، بل كان ثمرة عصره، متجذرًا في زمانه ومكانه، مرتبطًا أشد الارتباط بالسياق الثقافي والفكري الذي أنتجه. ولهذا، لم يكن مجرد فيلسوف من العصور القديمة، بل أصبح رمزًا عالميًا للفكر، يجسّد منعطفًا جوهريًا في مسار الفلسفة البشرية.
يرى هيغل أن سقراط جسّد لحظة فريدة، لحظة وعي الفكر بذاته. كان نقطة التحول التي انتقل فيها الفكر الإنساني من التأمل في الطبيعة والكون الخارجي، إلى التفكير في ذاته، وفي شروط معرفته وأخلاقه. سقراط لم يكن مجرد محدثٍ صغير في الساحة الفكرية الأثينية، بل كان بداية ثورة عقلية روحية، ستبقى تأثيراتها ممتدة حتى يومنا هذا.

عندما ظهر سقراط في أثينا، كان الفكر اليوناني قد قطع بالفعل شوطًا طويلًا.
فالفلاسفة الأيونيون الأوائل — مثل طاليس وأناكسيمندروس وأناكسيمانس — انشغلوا بالطبيعة، محاولين تفسير الكون عبر مكوناته المادية الأولى، دون أن يلتفتوا بعد إلى الفكر نفسه. كانت الطبيعة، بالنسبة لهم، ساحة البحث والمعرفة، لا الفكر الذي يبحث.
ثم جاء الذريون، الذين رأوا العالم في صورة ذرات وأفكار مجردة، لكنها بقيت كيانات خالية من الروح والذات.
أما أناكساغوراس، فقد رفع الفكر ذاته إلى مرتبة المبدأ الأعلى، القوة الكلية القادرة على نفي كل وجود قائم، ولكنه لم يدفع هذه الفكرة إلى نهايتها: إلى الوعي الذاتي الكامل.
ثم جاء السفسطائيون، وعلى رأسهم بروتاغوراس، ليعلنوا أن “الإنسان مقياس كل شيء”.
هنا تحول الفكر إلى حركة قلقة، حركة يعيش فيها الوعي ضمن كل شيء، لكن دون أن يصل إلى استقرار أو سكينة. كانت الـ”أنا” حاضرة لكنها بقيت فردية، عابرة، لم تتطور إلى ذات كلية.
من قلب هذا الاضطراب بين الذاتي والموضوعي، ومن فوضى الجدل والسفسطة، برز سقراط.
لقد قدم تصورًا جديدًا تمامًا. الوجود الحقيقي هو الأنا الكلية، هو الوعي المستقر في ذاته.
ليس وجودًا متقلبًا مع رغبات الجسد، ولا تأملًا نظريًا في الطبيعة، بل كينونة فكرية روحية واعية بذاتها، متحررة من الحسيات، مستقرة في فكرة الخير.
كان سقراط الابن الحقيقي لفلسفة أناكساغوراس، لكنه حملها إلى ما هو أبعد: إلى السكون الداخلي والأمان الذي يمنحه الفكر المستقر بذاته.

ما أن أعلن سقراط أن الوعي الحقيقي هو وعي الذات بنفسها، حتى بدت الفلسفة وكأنها قد تغيرت إلى الأبد.
لم يعد البحث عن الحقيقة يعني تأمل الطبيعة أو دراسة العناصر المادية، بل أصبح سؤالًا داخليًا:
كيف يعرف الإنسان الخير؟ وكيف يعرف نفسه؟
في هذا الإطار، أكد سقراط أن الخير ليس شيئًا خارجيًا مفروضًا على الإنسان من سلطة عليا أو من قوانين مقدسة مجهولة الأصل، كما كانت أنتيجون تقول عن “قوانين الآلهة الأبدية” دون أن تعرف مصدرها.
بل الخير، في رؤية سقراط، ينبغي أن يُعرف ويُدرك ويُولد من الذات نفسها.
هنا تتجلى الحرية د. أن تكون الحقيقة وليدة الوعي، أن يكون الخير نابعًا من الفكر الحر، لا من تقليد أعمى أو طاعة عمياء.
فالحقيقة بالنسبة لسقراط ليست مجرد شعور أو تصور غامض، بل مفهوم روحي يتوسطه الفكر، ويحققه العقل عبر جدله الداخلي.
هكذا، دخل سقراط في صراع غير مباشر مع عصره:
مع عالم يرى القوانين قائمة بذاتها، ويرى الدين والتقاليد أمورًا مسلمة.
بينما كان سقراط يزرع في قلب هذا العالم فكرة أن كل قانون وكل عقيدة يجب أن تمر على محكمة الفكر الحر، وأن الإنسان يجب أن يعرف الخير بنفسه، لا أن يرثه دون وعي.

بهذا المعنى، وضع سقراط الأساس لما سماه هيغل “الأخلاق التأملية” أو Moralität، في مقابل الأخلاق الطبيعية السائدة قبله.
الأخلاق الطبيعية كانت بسيطة: الأثيني يتصرف بشرف، ليس لأنه فكر مليًا فيما يفعل، بل لأنه نشأ على هذا الفعل، كما ينشأ المرء على عادة مألوفة.
أما سقراط، فقد طرح السؤال الخطير:
هل هذا هو الخير حقًا؟
بهذا السؤال، انتقلت الأخلاق من كونها عادة اجتماعية إلى أن تصبح مسألة وعي ذاتي، ومن تكرار العادات إلى مسؤولية الاختيار والتفكير.
لكن لهذا التحول وجهًا آخر:
حين يبدأ الإنسان بالتساؤل حول القيم، يصبح معرضًا للغرور والاعتداد بالذات، لأن الاعتراف بقدرة الفرد على معرفة الخير قد يغريه بالشعور بتفوقه على الآخرين.
ورغم أهمية هذه الحرية الداخلية، فقد أشار أرسطو لاحقًا إلى نقص في تصور سقراط:
فقد حول سقراط الفضيلة إلى مجرد “معرفة”، مغفلًا الجوانب اللاعقلانية من النفس — العادات، الأمزجة، المشاعر — التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من تحقيق الفضيلة الفعلية.
فالفضيلة ليست مجرد أن تعرف الخير، بل أن تشعر به، أن تسلكه، أن تحيا به بكل كيانك.
وهكذا، نرى أن سقراط أسس لفكرة عظيمة، لكنها بقيت عنده ناقصة:
الفضيلة بصيرة وعقل، لكنها أيضًا طبيعة مجسدة وعادة راسخة.
جميل سالم، قراءة في محاضرات هيغل حول سقراط، ابريل 2025.
(ملاحظة: الأجزاء أعلاه مبنية على نصوص من محاضرات هيغل حول سقراط ضمن مساق الفلسفة في جامعة ينا (جامعة فريدريخ شيلر).