
دراسات وبحوث معمقة
الدين بين ثقافة المقاومة والاحتلال الاستعماري
الدين بين ثقافة المقاومة والاحتلال الاستعماري
____________________________________________
نبيل عبد الفتاح
____________________________________________
شكلت المراحل التاريخية للاستعمار الغربي الأسوأ فى استغلال ونهب ثروات الشعوب والجماعات المستعمرة التى خضعت للاحتلال فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وغيرها من مجموعات الجزر الأخرى. ارتبط الاستغلال الاقتصادى، بممارسات القهر والاستعباد، والقتل، والسجن، والاعتقالات، والنفى لكل جهود مقاومة المستعمر الوحشى، التى وصل بعضها إلى محاولة إفناءالسكان الأصليين، فى عديد الحالات مثل الولايات المتحدة الأمريكية، واستراليا، وغيرها. من هنا يشكل التاريخ الاستعمارى، الأسوأ فى تاريخ عالمنا، ومن ثم شكل ذاكرة أجيال وراء أخرى فى هذه البلدان، وعلى نحو يناقض كل دعاوى، وقيم الحداثة الغربية الأخلاقية، والإنسانية حول المساواة، والعدالة، والحرية، والأخوة، ومرجعياتها الفلسفية والسياسية، ومعها التنوير!.
من فوائض النهب الاستعمارى، اتسعت القواعد الاجتماعية للتعليم، وحركة البحث العلمى، والتطور التكنولوجى، ومعها الإنتاج فى العلوم الاجتماعية، ونظرياتها، المدارس الفلسفية، وأنظمتها القانونية، والصحف، ثم وسائل الإعلام المختلفة. بعض من هذه التطورات هى نتاج لتوظيف جزء من تراكم فوائض النهب، والاستغلال للمجتمعات المستعمرة.
كانت مقاومة المستعمر الغربى الوجه المقابل للاستغلال والاستعباد والقهر للسياسات الكولونيالية- الحكم غير المباشر البريطانى، والحكم المباشر الغربى.. إلخ-، واعتمدت ثقافة وسياسة المقاومة بعديد المرجعيات لدى بعض الشعوب والجماعات المستعمرة فى عالمنا، بعضها تشكل من داخل التكوينات الاجتماعية التقليدية –ثقافة القبيلة ، والعائلة الممتدة، والجماعات العرقية والدينية الوضعية-، وفى التمسك بذاكرتها الشفاهية النقلية والمكتوبة، وثقافاتها الموروثة، وطقوسها، وأساطيرها وسردياتها الاجتماعية الشعبية، ونظامها فى المأكل والمشرب والملبس، وفى إحياء ذاكرتها الجماعية، وسردياتها الشفهية، لبناء تماسكها الجمعى وتعاضدها فى مواجهة استعلاء المستعمر الغربى، وممارساته المتغطرسة، وطقوس الاستعلاء بالقوة الغاشمة، والوحشية والسلوك إزاء الجماعة/ الجماعات المستعمرة.
مع بعض التغير، والتعليم التقليدى الدينى والحديث الغربى، تبنى بعض أبناء الجماعات المستعمرة، بعض من الأفكار الغربية، حول قيم الحرية والكرامة، والمساواة، والعدالة، والأخوة الإنسانية، سبيلًا للمقاومة مع بعض الوشائج بينه وبين ثقافة الجماعة/ الجماعات المستعمرة، حول الخصوصية الثقافية والدينية والعرقية، والتميز، والتركيز على فظائع الممارسات الاستعمارية فى بلدانهم. بعض هؤلاء القادة التاريخيين المقاومين للاستعمار، وظفوا خطاب الحرية والاستقلال الوطنى مع تشكيل حركات المقاومة المسلحة، والمدنية, بعضهم الآخر –مع التعليم فى الغرب- كانوا جزءًا من بعض تشكيلات البرلمان فى إطار نموذج الحكم الفرنسى المباشر.
فى البلدان العربية المحتلة ، كانت ثقافة المقاومة وحركات التحرر والاستقلال الوطنى، تعتمد على خطاب للمقاومة والاستقلال والحرية متعدد المصادر المرجعية، وذلك على النحو التالى:
1- خطاب النخب الدينية التقليدية، من مشايخ الأزهر فى مصر –على سبيل المثال- الذى يعتمد على السرديات الدينية التاريخية حول الإسلام، حول النص المقدس القرآن– تعالى وتنًزه -، والسنة النبوية الشريفة، والمتون الفقهية التأسيسية، شحذا للهمم، والكبرياء الدينى، والتغاير مع ديانة وثقافة المستعمرمنذ الحملة الفرنسية، والغزو الاستعمارى البريطانى بعد ذلك! من هنا كان أحد الأدوار التاريخية للإسلام، والأزهر ومشايخه هو التصدى للاستعمار، ودعم الحركة الوطنية فى بُعدها الدينى، والتماسك الاجتماعى، ورفض مظاهر التغريب.
2- خطاب النخب المتعلمة والمثقفة والسياسية التى وظفت التاريخ المصرى، والخصوصية الثقافية، والقيم السياسية الغربية فى المطالبة بالاستقلال، والدستور معًا، فى إطار تطور الحركة القومية.
3- الانتفاضات الوطنية الكبرى المتعددة، من حركة العرابيين إلى قيامة 1919 المجيدة، التى رفعت مطلب الاستقلال والدستور معًا فى إطار الوحدةالوطنية .
4- توظيف البرلمان، فى طرح خطاب الاستقلال، واحترام الدستور ضد الملك، والمستعمر البريطانى، وأيضا فى المفاوضات من أجل الاستقلال.
فى بعض الحالات العربية الأخرى، كانت ثقافة المقاومة ضد المستعمر من خلال العمل المسلح، والثقافة والقيم والعقيدة الإسلامية على نحو ما تم فى إطار الحركة الوطنية الجزائرية. كان خطاب الحرية، والاستقلال مندمجين، فى إطار حركات التحرر من الكولونيالية الغربية، وكانت الخصوصيات الثقافية جزءًا من نسيج بعض خطاب الحرية والاستقلال الوطنى .
فى إطار الحرب الإسرائيلية على القطاع، والاعتقالات والقتل والتدمير فى الضفة الغربية، الممنهجة، تطرح مسألة الدفاع الشرعى لإسرائيل فى مواجهة المقاومة، على أساس أن هناك سلطة فلسطينية على الضفة الغربية، وجماعات المقاومة فى القطاع، فى إطار الحكم الذاتى الانتقالى عقب اتفاقية أوسلو، ويتناسى خطاب الدفاع الشرعى – من المنظور الإسرائيلى والأمريكى والغربى – أن الحكم الذاتى لا يعنى نهاية الاحتلال الإسرائيلى، والكولونيالية الاستيطانية، والحصار والعقاب الجماعى للقطاع وإعاقة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة – خاصة اليمينية والائتلافات مع اليمين الدينى المتطرف فى الحكومة الحالية – التفاوض من أجل الحل النهائى ، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ومن ثم المقاومة المسلحة من أجل التحرر والاستقلال الوطنى عمل مشروع أساسًا.
بعضهم صهيونيا، وغربيا وعربيا يعتبرون أن الأيديولوجيا الإسلامية للمقاومة ضد الاحتلال وسياسة الحصار البرى والبحرى والجوى والاغتيالات، والعقاب الجماعى، هما جماعتان ارهابيتان! ويتناسى أن إسرائيل، والصهيونية والدولة الإسرائيلية، تعتمد على وحدة الديانة اليهودية –لأعراق متعددة الأعراق-، وأنها مصدر هوية جماعية للشعب الإسرائيلى وتشكل مكونا رئيسيا من خطاب القادة الإسرائيليين والأحزاب السياسية على نحو ما هيمن مؤخرا فى توظيف النصوص التوراتية السبعينية فى خطابهم، وذلك رغم النظام السياسى الليبرالى على النمط الغربى، وأن وحدة الديانة، ترتكز عليها أطياف الأحزاب السياسية خاصة اليمين الدينى العنصرى الداعم للتطهير العنصرى والإبادة الجماعية ، والدعم المسيحى الصهيونى فى الولايات المتحدة الامريكية للحرب !.يعتمد هذا الخطاب على الدين اليهودى سندًا لشرعنة أساطيره الدينية التأويلية التاريخية حول أرض تاريخية متوهمة فى فلسطين، ورفض حل الدولتين، ودعم سياسة الاستيطان، وخروج الدولة الإسرائيلية، والنظام السياسى، والجيش على القانون الدولى العام، وقانون الحرب، والدولى الانسانى، كما فى الحرب الحالية على قطاع غزة.
يتناسى بعض هؤلاء أن الإسلام–والمسيحية الشرقية- هما مرجعية تاريخية لثقافة المقاومة، وحركات الاستقلال الوطنى العربية، وان هناك فارقا بين حماس كسلطة حكم ذات أيديولوجيا دينية فى القطاع، وأساس شرعيتها الانتخابات، ويمكن رفضها ومعارضتها سياسيا وأيديولوجيا، وبين حماس كحركة مقاومة للحصار والتهجير القسرى، والعقاب الجماعى، والإبادة الجماعية، ومن ثم لها شرعية قانونية، وسياسية، وسند اجتماعى وشعبى واسع فى القطاع.
________________
*المصدر: صحيفة “الأهرام” المصرية.