
فلسفة وميتافيزيقا
ثلاثية كانط النقدية: دفاع فلسفي عنيد عن العقل
ثلاثية كانط النقدية: دفاع فلسفي عنيد عن العقل.
قال #شوبنهاور مرة أنه “بدأ يقرّ في الأذهان بصفة عامة ان الفلسفة الحقة، أي الفلسفة الجادة، ظلت حيث تركها كانط، وأنني مهما كان من الأمر لا بد من أن أنكر وجود أي تقدم في هذه الفلسفة خلال الحقبة التي تفصل بين كانط وبيني”. كان “فيلسوف التشاؤم” الألماني الكبير الذي إعتُبر أحد الآباء المؤسسين لفلسفة القرن العشرين، يتحدث عن “الجانب النقدي” في فلسفة كانط. وهذا الجانب هو الذي حرّك، دائماً، شغف الباحثين في الفلسفة، وجعلهم يقولون أن الفلسفة الحقة، إذا كانت بدأت مع #أفلاطون، فإنها إختُتمت مع كانط، لأن هذا الأخير عرف تماماً في “الثلاثية النقدية” كيف يجيب، أو يقدّم مفاتيح اساسية للإجابة، على جملة الأسئلة التي لم تكفّ الفلسفة عن طرحها على نفسها، منذ قال العرّاف لـ #سقراط، يوماً ووفق رواية افلاطون، “إعرف نفسك بنفسك”. بالنسبة الى كانط ليس هذا سوى سؤال عملي أساسي. وهو عبّر عن هذا في المؤلفات الثلاثة التي لخص فيها فلسفته كلها، فاتحاً للعقل، بالتضاد مع المثالية التي كانت تصدمه، أبواباً تحدد لهذا العقل مكانته الأساسية في الكون، ليس إنطلاقاً من “قبْليّات” و”مسلّمات” جاهزة لا يتعين على المرء إلا أن يلائم الواقع معها، بل إنطلاقاً من قدرة على تفحّص الواقع –تحديداً في علاقته مع العقل، وليس مع الحدس– للإنطلاق منه نحو فرض حضور العقل في التاريخ، من طريق القدرة على النقد تحديداً.
والكتب الثلاثة التي وضعها كانط في هذا المجال هي “نقد العقل الخالص” و”نقد العقل العملي” و”نقد ملكة الحكم”. وإذا كان كانط أصدر اول الكتب الثلاثة “نقد العقل الخالص” في عام ١٧٨١، و”نقد العقل العملي” في عام ١٧٨٨، ثم “نقد ملكة الحكم” بعد هذا الأخير بسبعة أعوام، أي نشر الكتب الثلاثة بعدما قارب عمره ستين عاماً، فإن الواقع يقول لنا، أن جذور ما جاء في هذه الكتب –متكاملاً– إنما هو موجود في معظم ما كتب كانط طوال حياته. كما أنه كتبه إنطلاقاً من تلك النظرة الكوزموبوليتية، التي تجعله يبدو لنا اليوم وكأنه المؤسس الحقيقي لـ “عولمة” إنسانية، يمكننا تلمس جذورها بوضوح في كتب ثانوية له مثل “ما هي الأنوار؟” و”فكرة وجود تاريخ كلّي إنطلاقاً من وجهة نظر كوزموبوليتية” ناهيك عن كتابه المهم عن مشروع لإقامة سلام دائم…
هنا سيكون من اللافت أن ندرك أن كل واحد من الأجزاء الثلاثة التي تشكل “الثلاثية النقدية” إنما كتبه كانط وسط ركام من كتابات أخرى تبدو مفسرّة للجزء، ويبدو أيضاً من العسير قراءتها في معزل عن ذلك الجزء. إنها عملية تفاعل حقيقية تطغى على ما كتبه كانط، إذاً، خلال عقد من السنين، عملية تجعل كتبه جميعاً تبدو وكأنها سلسلة مترابطة من الأفكار.
أول هذه الكتب النقدية الثلاثة وأصعبها أسلوباً وأكثرها إرتباطاً بالتقنية هو “نقد العقل الخالص”، الذي يقال عادة أنه العمل الذي أخرج كانط من إرتكانه إلى اليقين المريح ليعلن في وجه العالم ليس إنبعاث فلسفة جديدة وحسب، بل أيضاً، ولادة منهج جديدة في النظر إلى المسائل الفلسفية وفي تحليلها. ويحدد الباحث المصري د. زكريا #إبراهيم في كتابه “كانط أو الفلسفة النقدية” أن الأصل في هذه الفلسفة هو “تساؤل كانط عن طبيعة المعرفة البشرية، وحتميتها وحدودها وعلاقتها بالوجود”. ومن هنا، فإن كانط إنطلق في بحثه هذا من أسئلة ثلاثة: “ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ وما الذي ينبغي أن أعمله؟ وما الذي أستطيع أن آمله؟”.
ويلخص د. إبراهيم الأمر بأن “هذه المشكلات النقدية الثلاث هي على التعاقب: مشكلة المعرفة والمشكلة الأخلاقية والمشكلة الدينية. الأولى تخص العقل النظري الخالص والثانية العقل العملي فقط، أما الثالثة فتخص العقل النظري والعملي معاً”. ويرى الباحث المصري أن كانط حين كتب الجزء الأول المؤسس لفلسفته النقدية “لم يكن قد إكتشف بعد الملكة الثالثة من ملكات الذات الإنسانية، ألا وهي ملكة الوجدان أو الحكم الجمالي”.
وبالنسبة إلى “نقد العقل الخالص”، يمكن أن نرى مع #سارتر أن كانط أحدث هنا قلبته في أسلوب طرح المشكلات الفلسفية بما يشبه ما حقق #كوبرنيكوس في مجال علم الفلك. قبل كانط كان من السائد أن معرفتنا كلها كان عليها أن تُضبط تبعاً لحال الأشياء الخارجة عنا، أما مع النظرية النقدية فإنعكس الأمر، صار على هذه الأشياء أن تنضبط تبعاً لمعرفتنا حيث “في الذات، وفي الدينامية الفكرية التي تحول هذه الأشياء إلى خبرة منتظمة، تمتلك هذه الأشياء حقيقتها”. وفي هذا المعنى وكما يقول إميل #برييه (Émile Bréhie) في كتابه الضخم عن تاريخ الفلسفة، لا يمكن “الأنا المفكر” إلا أن يألف وجوداً موضوعياً لكي يثبت نفسه: وبهذا “غيّر كانط مثاليته من المثالية التي كان متعارفاً عليها حتى أيامه، ولا سيما مثالية #باركلي، والحقبة الأولى من تفكير #ديكارت، أي الحقبة التي كان لا يزال يشكك فيها بالعالم الخارجي حتى بعد وضعه للكوجيتو…”.
مهما يكن، فإن كل ما بدا نظرياً وتقنياً، عصيّاً على التفسير أحياناً، في “نقد العقل الخالص” بدا أكثر عملية ووضوحاً في فصول الكتاب التالي “نقد العقل العملي” الذي بدا كأنه تطبيق لنظريات الكتاب الأول. والحال أنه لا يمكن قراءة هذا الكتاب في معزل عن كتاب آخر سبقه، وبدا ممهداً له، وهو “أسس ميتافيزيقا الأخلاق”. ففي هذا الكتاب شاء كانط أن يُخلّص مجال الأخلاق من ضروب الإرتباك والخلط ليثبّت دعائم إستقلال لهذه الأخلاق تجاه كل أشكال وتوجهات الطبيعة المحسوسة: إن الفعل الخيّر أخلاقياً إنما هو ذاك الذي يستجيب للقانون الأخلاقي وحده، وهذا القانون إنما هو المعبّر عن العقل. وفي هذا الإطار تشغل كلمة “الحرية” مكانة أساسية، وتأتي تعبيراً عن قدرة العقل على تحديد السلوكيات و”خلود الروح” و”وجود الله”. وفي “نقد العقل العملي” يتابع كانط هذا المنطق، ولكن بعد أن يحدث فيه قلبة: إذ فيما نجد أن كتاب “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” يجعل الحياة الأخلاقية تشكل الخلفية الفكرية للحرية، حيث أن كل حياة أخلاقية تفترض الحرية شرطاً قبليّاً، تصبح الحرية في “نقد العقل العملي” مسعى تتطلع إليه الأخلاق. أي أن المبدأ الأخلاقي يرتبط مباشرة بمبدأ الحرية، ما يعني أن العقل الخالص يصبح هو نفسه عملياً…
بعد سبعة أعوام من توصّله إلى هذه الخلاصات والنتائج، أصدر كانط “نقد ملكة الحكم” الذي يُنظر إليه أحياناً، في معزل عن الكتابين النقديين السابقين، بوصفه دراسة نظرية تأسيسية في علم الجمال. إنه لكل ذلك فعلاً، لكنه –بالطبع– أكثر من هذا كثيراً. فلئن كان كانط في النقدين الأول والثاني، قد أسهب في الحديث عن الإزدواجية الملتبسة للعلاقة بين المعرفة والرغبة، فإنه هنا وبعد بحث دؤوب تمكّن من أن يوجد صوغاً لـ “شعور اللذة والنفور” بوصفه ملكة ثالثة يحوزها العقل. وينطلق كانط في تحليله هنا من فكرة تأسيسية، لديه، تقول أنه إذا كانت “آلية الطبيعة تشبع نهم الإنسان دائماً، فإنها لا ترضي مخيّلته. ولا سبيل إلى تعويض هذا النقص الكامن في الغائية الطبيعية، إلا إذا كانت هناك غائية أخرى، حرة. من هنا، فإن الفن ليس في جوهره سوى الإنتاج الحر للجمال”.
يحدد كانط أثر هذا الفارق والترابط بين الفائدة الإجتماعية والفائدة الأخلاقية للجمال، محللاً “الجميل” و”السامي”، رابطاً بينهما ديالكتيكياً ولكن بعد تحديد ملكوت كل منهما. ويرى كثر من الباحثين أن أهم ما يميز “نقد ملكة الحكم” إنما يكمن في التفريق الذي يقيمه بين فعل الشعور، وفعل المنطق والفعل العملي، التفريق الذي يسمح للمؤلف بأن يتجاوز نظرات أخرى سابقة للفن كانت غائمة وتتفنّن في إعطائه إستقلالية عن الأخلاق والحياة، أو تكتفي بجعله ملحقاً بهما. وبهذا يكون كانط قد أسّس علم الجمال الحديث… علم الجمال النقدي.
وإذا كانت هذه العجالة لا تسمح بإعطاء أكثر من هذه المفاتيح السريعة لفهم عمل متكامل وتأسيسي متشعب، فإنها لا تكفي كذلك لتصوير حياة إمتلأت بالفكر والمعارك الفلسفية والمؤلفات، هي حياة إيمانويل كانط. ولد كانط ومات في كونيغسبرغ بروسيا الشرقية (١٧٢٤ – ١٨٠٤)، من أسرة ذات أصول إسكتلندية. درس الدين والفلسفة باكراً، ثم إنصرف إلى التدريس، ووضع العشرات من المؤلفات التي أسست الفلسفة المدنية بجوانبها الأخلاقية والجمالية والعملية. ويمكن إعتباره أحد الآباء الشرعيين لنظريات العولمة.