فلسفة وميتافيزيقا

روايات عالمية…

تلقيت العديد من الرسائل .. معظمها يتسائل عن العديد من الشفرات فى الرواية … اليوم تفكيك الرواية وكأننا كنا مع ستندال عندما كتبها.
هي تشريحٌ فلسفيٌّ لِما يُسمَّى بـ”الشرط الإنساني” في عصرٍ تتصارع فيه الأيديولوجيات
“الأحمر والأسود”
مرآة المجتمع وصراع الهوية في عصر النفاق والثورة
لستندال
♣︎♣︎ مقدمة: الرواية كسِفْرٍ فلسفيٍّ للوجود الاجتماعي.
في رواية “الأحمر والأسود” (Le Rouge et le Noir) الصادرة عام 1830، ينسج ستندال (1783-1842) حكايةً لا تُختزل في سرد أحداث جوليان سوريل، الشاب الطموح الذي يسعى للارتقاء من قاع المجتمع إلى قمته، بل تُعَدُّ نقداً جريئاً للمجتمع الفرنسي في حقبة ما بعد الثورة، حيث يتحول الفرد إلى مسرحٍ لصراعات الوجود: بين النفاق والأصالة، بين الطموح والهوية، بين الحب كعاطفة والحب كاستراتيجية. الرواية، التي حملت عنواناً فرعياً: “وقائع القرن التاسع عشر”، ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي تشريحٌ فلسفيٌّ لِما يُسمَّى بـ”الشرط الإنساني” في عصرٍ تتصارع فيه الأيديولوجيات كالألوان: الأحمر (الجيش/الثورة) والأسود (الكهنوت/المحافظة) .
♣︎♣︎ تلخيص الرواية
سردٌ مأساوي لطموحٍ يلتهم ذاته في عصر الأقنعة.
في بلدة فرينير الصغيرة، حيث تُخفي جبال الألب الفرنسية أسرارها تحت ضبابٍ كثيف، يبدأ مصير جوليان سوريل، ابن النجار الفقير ذو العينين السوداوين المتوهجتين بالطموح، الذي يحمل بين ضلوعه قلباً يخفق بحلمٍ مستحيل: أن يهرب من قيود الفقر ليصبح نبيلاً مثل نابليون بونابرت، بطل طفولته المُعَذَّب. لكنَّ زمن الأبطال قد ولى، ففرنسا ما بعد 1815 – تحت حكم البوربون المُعادين – لم تعد أرض الثوَّار، بل أرض الوجوه المزيَّفة، حيث يرتدي الجميع أقنعة التقوى والطبقة ليخدعوا بعضهم بعضاً. هنا، في هذا العالم المُقلوب، سيرسم جوليان طريقه بدماء قلبه وحِقد روحه، مُستخدماً سلاحين: ذكاءه الحادّ الذي يخترق النفاق، ومظهره الوسيم الذي يذوب فيه النساء كالشمع.
الفصل الأول: البداية.. عندما يلتقي الحلم بالعار.
يُقَدَّر لجوليان، بفضل ذاكرته الخارقة في حفظ النصوص اللاتينية، أن يصير مُعلِّماً لأبناء السيد دي رينال، عمدة بلدة فرينير المتعجرف، الذي استأجره ليس لإيمانه بموهبته، بل لِيُري جاره أنه قادرٌ على توظيف “مُثقف”! في منزل العمدة، تلتقط مدام دي رينال، زوجة السيد دي رينال الشابة البريئة، شرارة التمرد في عيني جوليان. هكذا تبدأ لعبةٌ خطيرة: هو يغازلها كجزءٍ من “خطته” للانتقام من طبقتها، وهي تسقط في حبه كطفلةٍ تبحث عن دفءٍ في زواجٍ بارد. لكنَّ الشرر يتحول إلى حريق حين ينجح جوليان في إغوائها، ليس بدافع الحب، بل بدافع إثبات تفوقه على سيده. الغرفة المُظلمة التي يلتقيان فيها سراً، والهمسات الخائفة، وخطابات الحب المليئة بالكذب، كلها تفاصيلٌ تدفع القارئ لأن يتساءل: أهذا انتصارٌ للفقراء أم بداية سقوطٍ لا مفر منه؟
الفصل الثاني: باريس.. حيث تُباع الأرواح في صالونات النبلاء
بعد فضيحة علاقته بمدام دي رينال، يهرب جوليان إلى باريس، حاملاً رسالة توصية إلى الماركيز دي لا مول، أحد أقطاب النظام الملكي. هنا، في قصر الماركيز الفخم، حيث تُحاك المؤامرات السياسية بين رشفات الشمبانيا، يجد جوليان نفسه أمام تحدٍّ جديد: ماتيلد دي لا مول، ابنة الماركيز المتعجرفة، التي ترى في حبها لـ”الخادم” الفقير تمرداً على قيود طبقتها. العلاقة بينهما أشبه بحربٍ باردة: هي ترفعه إلى السماء ثم ترميه إلى الوحل، وهو يُداري غروره المُنهار خلف ابتسامةٍ باردة. في مشهدٍ لا يُنسى، تتسلق ماتيلد إلى غرفته ليلاً حاملةً رأسها على كفِّها، مُعلنةً استسلامها له، لكن جوليان، الذي تعلم أنَّ الحب في هذا العالم سلعةٌ تُبادل بالمنفعة، يرفضها في البداية كي يُذلَّ كبرياءها. هل سينجح في تحويل هذه العلاقة إلى سُلَّمٍ اجتماعي؟ أم أنَّ نيران كبريائه ستلتهم كل شيء؟
الفصل الثالث: الخطيئة الأخيرة.. عندما ينقلب السحر على الساحر
بينما يبدو أنَّ جوليان قد نجح في خداع الجميع – فها هو على وشك الزواج من ماتيلد، بعد أن منحه الماركيز لقباً نبيلاً وأراضيَ – تصل إليه رسالةٌ من مدام دي رينال، كُتِبَت تحت إكراه كاهنٍ متطرف، تُدينه فيها بالخيانة وتفضح أسرار علاقتهما. في لحظة جنون، يطلق النار عليها داخل كنيسة البلدة، أمام أعين المصلين المُدَّعين. لكنَّ الرصاصة لا تقتل مدام دي رينال، بل تقتل أحلام جوليان. في زنزانته الباردة، حيث يقضي أيامه الأخيرة، يكتشف أنَّ كل طموحه كان سراباً، وأنَّ الحب الوحيد الحقيقي في حياته كان لتلك المرأة التي حاول تدميرها. هنا، في المشهد الأكثر إثارةً فلسفياً، يتحول جوليان من “المخادع” إلى “الفيلسوف”، حيث يرفض التماس العفو من الطبقة الحاكمة، ويختار الموت على ركبتيه. هل هذا تكفيرٌ عن ذنبه أم استسلامٌ أخير لِما كان يُحاربه طوال حياته؟
★ المقصلة.. النهاية التي تبدأ بها الأسطورة
على منصة الإعدام، يرتدي جوليان ثوب الضحية بكرامةٍ تليق ببطل تراجيدي. ماتيلد، التي تحمل رأسه المقطوع لتدفنه بيدها في الجبل، تُحاول تحويله إلى أسطورة، بينما مدام دي رينال تموت بعد أيامٍ من الحزن. لكنَّ ستندال لا يتركنا مع نهايةٍ عاطفية، بل يدفعنا للتساؤل: مَن الجاني الحقيقي هنا؟ أهو جوليان الطموح الذي تجرأ على خرق القواعد، أم المجتمع الذي حوَّل الحب إلى جريمة والطموح إلى خطيئة؟ الرواية تُغلق آخر صفحاتها، لكن صدى المقصلة لا يزال يُدوي في أذن التاريخ، كتحذيرٍ من أنَّ الثورات الفردية تُسحق دائماً تحت عجلة النظام… حتى لو كان النظام فاسداً.
♣︎♣︎ السياق التاريخي الثقافي الاجتماعي للرواية
تشريحٌ لجذور الثورة والنفاق في فرنسا ما بعد النابليونية
♧ فرنسا بين أنقاض الثورة وعباءة البوربون
رواية “الأحمر والأسود” (1830) ليست مجرد سيرة جوليان سوريل، بل هي مرآة عاكسة لفرنسا في عصر الاستعادة البوربونية (1815–1830)، حيث تتصارع قيم الثورة الفرنسية (1789–1799) مع محاولات إعادة إحياء النظام الإقطاعي والكنسي. هذا العصر، الذي يُطلق عليه المؤرخون اسم “حقبة النفاق المُؤسسَطَر”، شهد تحولات جذرية في البنية الطبقية والسياسية، حيث حاولت النخبة الملكية المُعادَة إلى السلطة محو إرث نابليون بونابرت، بينما ظلّت ذاكرة الثورة والحرية تعتمل في وجدان الطبقات الدنيا .
♧ الصراع الأيديولوجي – الأحمر (الجيش/الثورة) vs. الأسود (الكهنوت/المحافظة)
يشير العنوان نفسه إلى التناقض الجوهري في فرنسا القرن التاسع عشر:
الأحمر: رمز الجيش النابليوني والثورة، الذي مثّل صعود الفرد عبر الجدارة، وهو حلم جوليان سوريل الذي يحفظ خطب نابليون عن ظهر قلب.
الأسود: لون رداء الكهنوت الكاثوليكي، الذي تحالف مع الملكية لاستعادة النظام القديم، مُستخدِمًا الدين كأداة للسيطرة الأخلاقية والسياسية .
لكنّ هذا التقسيم لم يكن ثنائياً بسيطاً. فالكهنوت نفسه انقسم بين كهنة ريفيين فقراء (مثل الأب شيلان) ونخبة كنسية فاسدة مرتبطة بالبلاط (مثل المونسنيور دي فرينار). هذا الانقسام يعكس أزمة الهوية الدينية في مجتمعٍ تحوّل فيه الإيمان إلى سلعةٍ سياسية .
♧ الاقتصاد الاجتماعي – صعود البرجوازية وسقوط النبالة الزائفة
بعد الثورة، ظهرت طبقة برجوازية جديدة استفادت من مصادرة أراضي النبلاء، لكنّها ظلّت تُقلّد أنماط حياة الطبقة الأرستقراطية المُنهارة. السيد دي رينال، عمدة بلدة فرينير، هو نموذج لهذه البرجوازية الطموحة: يشتري الأراضي ويُوظِّف جوليان كـ”مُعلّم” ليس لإيمانه بذكائه، بل لِيرفع مكانته الاجتماعية أمام جيرانه .
أما النبلاء، مثل الماركيز دي لا مول، فلم يعودوا يملكون سوى ألقاباً فارغة. صالونات باريس، التي توصف في الرواية، كانت مسرحاً لـ”كوميديا الأقنعة”، حيث تُبادَل المؤامرات السياسية بين رشفات الشمبانيا، بينما تُباع الأعراض كضمان للتحالفات. هنا، تتحول ماتيلد دي لا مول، ابنة الماركيز، إلى رمزٍ لليأس الأرستقراطي: فهي ترفض زواجاً تقليدياً لِتتحدى نظاماً لم يعد قادراً على إنتاج أبطال حقيقيين .
♧ الثقافة السائدة – الصحافة السرية والأدب الممنوع
في ظلّ الرقابة الملكية المشددة، انتشرت الصحف السرية والأدبيات الثورية، التي كان يقرأها جوليان خفيةً. هذه الكتابات، مثل أعمال فولتير وروسو، لم تكن مجرد نصوصٍ فلسفية، بل أسلحة فكرية ساعدت في تشكيل وعي جيلٍ كامل. لكنّ ستندال يسلط الضوء على مفارقة: فالشباب الذين تأثروا بهذه الأفكار (مثل جوليان) تحوّلوا إلى “منافقين مثقفين”، يستخدمون الخطاب الثوري للارتقاء الاجتماعي، لا للتغيير الجذري .
أما الأدب الرسمي، المُمَجد للملكية، فكان يُروج لأسطورة “الوفاق الاجتماعي”، التي حاولت تلميع صورة لويس الثامن عشر وشارل العاشر كحُكّامٍ مستنيرين، بينما كانوا يقمعون الحريات ويُعيدون فرض الضرائب الإقطاعية .
♧ الخبايا التاريخية – المؤامرات الكنسية وجمعيات السرية
تكشف الرواية عن شبكة مصالح خفية بين المؤسسة الدينية والدولة، حيث استخدمت الملكية المؤسسات الدينية لِترويج “الخطيئة الأصلية للثورة”. الأب بيرار، المرشد الروحي لمدام دي رينال، ليس مجرد كاهنٍ تقي، بل عميلٌ للمونسنيور دي فرينار، الذي يُدير شبكة تجسس كنسية لمراقبة المتمردين .
في المقابل، كانت جمعيات السرية، مثل الكاربوناري (التي انضم إليها جوليان لاحقاً)، تُخطط لانقلاباتٍ فاشلة، مستغلةً السخط الشعبي. هذه الجمعيات، التي تأثرت بثورة يوليو 1830، لم تكن قادرة على تجاوز الانقسامات الداخلية، مما جعلها تُنتج “ثورات مسرحية” بلا تأثير حقيقي .
♧ المرأة كساحة حرب – الجسد بين التحرر والعبودية
النساء في الرواية، مثل مدام دي رينال وماتيلد، هنَّ ضحايا نظامٍ ذكوري يُجبرهنَّ على تبادل المشاعر كعملةٍ اجتماعية. مدام دي رينال، المُقيَّدة بزواجٍ بارد، تجد في حب جوليان هروباً من “سجن الفضيلة الزوجية”، لكنّ هذا الحب يتحول إلى فخٍّ يذكّرها بهشاشة وجودها كامرأة في مجتمعٍ يقدس العذرية ويُجرّم الشهوة .
أما ماتيلد، فتمثل الجيل الجديد من النساء اللواتي قرأنَ رواياتٍ عن البطولة الرومانسية (مثل أعمال مادام دي ستايل)، وحاولنَ تحدي الأدوار النمطية عبر علاقاتٍ غرامية “مُتمرِّدة”، لكنّ تمردهنَّ ظلَّ فردياً وغير قادر على زعزعة النظام الأبوي .
★ الرواية كنبوءةٍ لثورات المستقبل
كتب ستندال روايته قبل أشهرٍ فقط من ثورة يوليو 1830 التي أطاحت بشارل العاشر. جوليان سوريل، الذي يُعدم كـ”مجرم”، يصبح شهيداً رمزياً لنظامٍ قمعي سينهار لاحقاً. الرواية، برغم تركيزها على الفرد، تُقدّم تحليلاً استشرافياً لِما سُمي لاحقاً “صراع الطبقات” عند ماركس، حيث يصبح الفشل الفردي مؤشراً على أزمة بنيوية ستتفجر في ثورات 1848 .
بهذا، تتحول “الأحمر والأسود” من سردٍ روائي إلى وثيقةٍ تاريخية تعكس التناقضات المؤسِّسة للحداثة الأوروبية: بين الحرية والانضباط، بين الثورة والنفاق، وبين الحلم الفردي وقسوة الواقع الجمعي.
♣︎♣︎ ما بين سطور “الأحمر والأسود”: الرسائل الخفية التي لم يجرؤ ستندال على كتابتها صراحةً
(قراءة في اللاوعي السياسي والوجودي للرواية)
1. “نابليون كان سيصير مجرماً في عصر البوربون”: نقدٌ مبطَّن لأسطورة البطولة
رغم إعجاب ستندال بنابليون، إلا أن الرواية تُلمح إلى أنَّ “عصر الأبطال” مات مع الثورة. جوليان سوريل، الذي يحفظ خطب نابليون عن ظهر قلب، يُجبر على ارتداء ثوب الكاهن كي ينجو. هذه المفارقة تُشير إلى سؤال ستندال المُحتجب:
“هل البطولة الحقيقية ممكنة في عالمٍ حوَّل القيم إلى سلع؟”
الإجابة المُبطنة: نابليون نفسه لو عاش في 1830 لصار “جوليان سوريل آخر” – طموحه سيتحول إلى جريمة، وشجاعته إلى جنون.
2. “الدين أفيون الشعوب… لكن حتى الماركسية لن تنقذكم”: نبوءةٌ لا واعية عن فشل الأيديولوجيات
الرواية تُظهر أنَّ الكنيسة أداةٌ للسيطرة، لكنها في الوقت نفسه تفضح فشل البدائل الثورية. جوليان الذي ينضم إلى جمعية سرية (إشارة للكاربوناري)، يكتشف أنَّ الثوريين الجدد ليسوا سوى “مرتزقة أفكار” يتبادلون الشعارات الرنانة مقابل المناصب.
هنا، يتنبأ ستندال (دون قصد) بفشل ثورات 1848 التي تحولت إلى ديكتاتوريات، وكأنه يقول: “النفاق لا يختفي – يغير أقنعته فقط”.
3. “المرأة كائنٌ ثوري… لكن الثورة ستأكل أبناءها”: إحباطٌ نسوي مُقنَّع
ستندال يُصوِّر مدام دي رينال وماتيلد كضحايا لنظام أبوي، لكنه يدفن رسالةً أكثر جرأة:
مدام دي رينال: تمردها العاطفي (خيانة زوجها) هو شكلٌ بدائي من الليبرالية الأنثوية، لكنها تُعاقب بالعار والموت، وكأن المؤلف يقول: “الحرية النسوية لا تزال طفلة في مهد الاستبداد”.
ماتيلد: محاولتها تحطيم الطبقة عبر حب جوليان تفشل لأنها – كامرأة – لا تملك أدوات الثورة الحقيقية سوى جسدها.
الرسالة الخفية: الأنوثة في هذا العصر “ثورة بلا جيش”.
4. “الذكاء لعنةٌ في عالم الأغبياء”: سيرة ذاتية مُشفَّرة
جوليان سوريل هو مرآة ستندال نفسه:
كلاهما يكره الدين لكنه يتقن استغلاله (ستندال كتب عن الكنيسة الإيطالية رغم إلحاده).
كلاهما عانى من الفشل في تحقيق الطموح (جوليان يُعدم، ستندال يُهمش أدبيًّا).
كلاهما رأى في الحب محاولةً للهروب من العزلة الوجودية.
الرواية تُخفي اعترافًا شخصيًّا: “العبقرية في عصر النفاق هي أقسى أنواع الوحدة”.
5. “الجمهورية مستحيلة… والملكية فاسدة: فماذا بقي؟” – يأسٌ من التاريخ
المشهد الأخير حيث تموت مدام دي رينال حزنًا، ويُدفن جوليان في الجبل كأسطورة، بينما المجتمع يستمر في دورانه الفاسد، هو استعارةٌ لرؤية ستندال الكئيبة:
“التاريخ لا يتقدم – يدور في حلقة كالكلاب التي تطارد ذيولها”.
حتى الثورة التي يتغنّى بها جوليان (رمز التقدم) هي في الرواية مجرد “حنين إلى ماضٍ لم يكن موجودًا”.
6. “الجنس سلاحُ الضعفاء”: تحليلٌ جريء لم يُعلَنْ
العلاقات الجنسية في الرواية ليست تعبيرًا عن الشهوة، بل عن الاستلاب الاجتماعي:
جوليان يمارس الجنس مع مدام دي رينال كـ”انتقام طبقي”.
ماتيلد تستخدم الجنس لتأكيد تفوقها الأرستقراطي (“أنا من يجب أن يختار وقت اللقاء”).
الرسالة المكبوتة: “الجسد في عصر البوربون لم يعد ملكًا لصاحبه – إنه أرض معركة”.
★ الرواية كـ”صندوق أسود” لِما لم يقله ستندال
“الأحمر والأسود” هي روايةُ ما بين السطور أكثر مما هي روايةُ السطور نفسها. كل جملة تحمل شفراتٍ لأسئلة وجودية لم يجرؤ ستندال على طرحها مباشرةً:
هل البشر أحرار أم أنهم دمى تتحكم فيها الطبقة؟
هل الحب ممكن أم أنه مجرد تبادل مصالح؟
هل الثورة تغييرٌ حقيقي أم مجرد استبدال الأقنعة؟
★★ الرواية لا تجيب، بل تدفع القارئ لأن يكتب إجابته الخاصة… وهذا هو العبقري في ما لم يقله ستندال.
♣︎♣︎ تحليل الرواية
الفصل الأول: جوليان سوريل – البطل المتناقض كتجسيدٍ للعصر
جوليان سوريل، ابن النجار الفقير، ليس بطلاً رومانسياً تقليدياً، بل هو “كائنٌ هجين” يجسّد التناقضات التي مزَّقت فرنسا في عصر الاستعادة البوربونية (1815-1830). ذاكرته الفذة التي حفظت نصوصاً دينيةً وملاحم نابليونية ترمز إلى الصراع بين قيم الثورة (التي تمثلها الأحمر) وقيم الكنيسة (الأسود) . إنَّ تسلقه الاجتماعي عبر خداع النساء (مدام دي رينال وماتيلد دي لا مول) ليس مجرد فعل انتهازي، بل هو محاولةٌ يائسة لـ”صنع الذات” في مجتمعٍ يرفض الاعتراف بالجدارة الفردية إلا عبر الألقاب والثروة . هنا، يتحول الحب إلى سلاحٍ ذي حدين: وسيلة للارتقاء، وفخٌّ يُذكِّر جوليان بهشاشة وجوده. فحين تقول مدام دي رينال: “لقد أحببتُه كطفلٍ ضال”، تُجسِّد تناقضَ العلاقة بين البراءة والمكر .
♧ النفاق كبنيةٍ اجتماعية – السخرية والمرايا المكسورة
“الرواية مرآةٌ تسير على الطريق”، كما يصفها ستندال في فصلٍ استهلالي، لكن هذه المرآة لا تعكس الواقع بل تكشف تشققاته. المجتمع الفرنسي، بحسب الرواية، مبنيٌّ على “كوميديا الأقنعة”: رجال الدين يمارسون الفساد خلف رداء التقوى، والنبلاء يتغنون بالفضيلة وهم يسرقون حقوق الفقراء، والنساء يُجبرن على تبادل المشاعر كعملةٍ اجتماعية . حتى جوليان، الذي يدرك نفاقه، يتحول إلى “ممثلٍ بارع” في مسرح الحياة، لكن سقوطه النهائي – بإطلاق النار على مدام دي رينال – يكشف أنَّ الأقنعة تسقط حين تصطدم الذات بحقيقتها. هذه السخرية المُرّة تجعل من الرواية نبوءةً عن انهيار الأنظمة الأخلاقية الزائفة، التي ستتفجر لاحقاً في ثورة 1848 .
♧ السياسة والجنس – أداة السيطرة ورهان التحرر
رغم ادعاء ستندال أنَّ “السياسة طلق ناريٌّ في حفل موسيقي” ، إلا أنَّ الرواية تُغرق القارئ في تفاصيل الصراعات السياسية: من المؤامرات في صالونات باريس إلى الصراع بين البونابartistsيين والملكيين. جوليان، الذي يعتبر نابليون مثله الأعلى، يجد نفسه عالقاً بين عالمين: عالم الثورة الذي انتهى، وعالم المحافظة الذي يرفضه. هنا، تتحول علاقته بماتيلد، ابنة الماركيز الثرية، إلى معركةٍ رمزية بين الطبقات: فـ”حب الكبرياء” الذي تتبناه ماتيلد ليس سوى محاولةٍ للتمرد على قيود النبلاء، بينما يحوّله جوليان إلى وسيلةٍ للانتقام من النظام . الجسد هنا يصير ساحة حرب: فـ”الغواية” ليست فعلَ شهوةٍ بل فعلَ سلطة.
♧ الزمن كعقابٍ فلسفي – بين نابليون والمقصلة
الزمن في الرواية ليس خطياً، بل هو حلقةٌ مفرغة: جوليان يحلم بأن يصير “نابليوناً جديداً”، لكن نابليون نفسه صار أسطورةً ميتة. حتى المشاعر تتكرر: حب مدام دي رينال يعود كشبحٍ في المشهد الأخير، حيث يعترف جوليان بأنَّ طموحه كان “سراباً” وأنَّ حبه الوحيد الحقيقي كان لها. هذا الانزياح الزمني يُذكِّر بفلسفة نيتشه عن “العود الأبدي”، لكنه هنا يصير لعنةً: فجوليان يُعدم في النهاية كـ”ضحيةٍ للتاريخ”، بينما يستمر المجتمع في دورته الفاسدة . المقصلة، التي تنهي حياة جوليان، تُشير إلى أنَّ التمرد الفردي محكومٌ عليه بالفشل في عالمٍ يقدس القطيع.
★★★ “الأحمر والأسود” كروايةٍ لا تنتهي
بعد قرنين من نشرها، تبقى الرواية نصّاً حياً لأنها تطرح أسئلةً وجوديةً لا تزال ملحّة: كيف نصنع هويتنا في عالمٍ يفرض علينا أدواراً جاهزة؟ هل الحب خلاصٌ أم وهم؟ هل الثورة ممكنةٌ أم أنَّ التاريخ يُعيد إنتاج استبداده؟ ستندال، الذي تنبأ بأنَّه “سيُفهم عام 1880” ، لم يكتب روايةً بل كتب مرثيةً للإنسان الحديث: الكائن الذي يحمل في داخله أحمر الثورة وأسود اليأس، والذي يُجبره العالم على اختيار لونٍ واحد… أو الموت.
كل قراءة لـ”الأحمر والأسود” تكشف طبقةً جديدة من تناقضاتها، كمرآةٍ لا تنكسر، بل تتشظى لتعكس وجوهنا نحن.
♣︎♣︎ نبذة عن هنري بييل (ستندال): سيرة ذاتية أكاديمية
(1783–1842)
1. النشأة والتعليم: طفولة مُعذَّبة وجذور الرفض
وُلد ماري-هنري بييل (المعروف بستندال) في 23 يناير 1783 في غرينوبل بفرنسا، لأسرة بورجوازية. كانت طفولته مُثقلة بالصراعات:
فقدان الأم المبكر: توفيت والدته وهو في السابعة بسبب مضاعفات إجهاض، مما ترك جرحًا عميقًا في نفسيته .
علاقة متوترة مع الأب: والدُه، المحامي المتزمت، احتقره لاهتماماته الأدبية، بينما وجد العاطفة لدى جده الطبيب المُتأثر بأفكار التنوير .
تربية قاسية: تربى تحت وصاية عمّة متشددة وكاهن كاثوليكي، مما زرع فيه كراهية عميقة للدين والمؤسسات الدينية .
الملاذ الوحيد: وجد عزاءه في القراءة، خاصة أعمال فولتير وروسو، وفي الرياضيات التي أبدى فيها تفوّقًا مدرسيًّا .
2. الشباب والحياة العسكرية: بين نابليون وإيطاليا
الالتحاق بالجيش النابليوني: في 1799، انتقل إلى باريس للدراسة في معهد البوليتكنيك، لكنه انجذب إلى الجيش بعد انقلاب نابليون (18 برومير). رافق الحملات العسكرية في إيطاليا كملازم فرسان، واكتشف سحر الثقافة الإيطالية التي أصبحت لاحقًا مصدر إلهامه .
الحلم بالإمبراطورية: حلم بأن يصير “بارونًا” في الإمبراطورية النابليونية، لكن استقالته من الجيش عام 1801 (بعمر 19 عامًا) أنهت طموحاته العسكرية .
3. التحول إلى الأدب: التحديات والإخفاقات المبكرة
بدايات فاشلة: حاول كتابة المسرحيات والتجارة في مرسيليا، لكنه فشل في كليهما. عانى من الفقر والعزلة، وعمل موظفًا حكوميًّا في إدارة الأثاث الإمبراطوري بباريس .
الاسم المستعار “ستندال”: اختار الاسم عام 1817 تكريمًا لمدينة ستندال الألمانية، رمزًا لانفصاله عن هويته البورجوازية .
النفي الذاتي إلى إيطاليا: بعد سقوط نابليون، استقر في ميلانو (1814–1821)، وكتب أعمالًا عن الفن الإيطالي مثل تاريخ الرسم في إيطاليا، لكن اُتهم بالعمل لصالح البوليس النمساوي، فطُرد .
4. التحديات الأدبية والسياسية: صراع مع العصر
الفشل التجاري: روايته الأولى أرمانس (1827) بيعت بـ 20 نسخة فقط في عقد كامل. حتى الأحمر والأسود (1830) لاقت فشلًا تجاريًّا وانتقادات لاذعة .
الليبرالية المثيرة للجدل: انتقد نظام البوربون الملكي بقسوة، مما جعله هدفًا للرقابة. وصفه خصومه بأنه “عميل للثورة” .
العزلة الفكرية: معاصروه لم يُقدّروا أسلوبه الواقعي الجريء، الذي تميز بالتحليل النفسي والسخرية، واعتُبرت أعماله “سابقة لعصرها” .
5. الأعمال الرئيسية: إرث أدبي ثوري
أ. الأحمر والأسود (1830):
رواية تسخر من النفاق الاجتماعي في عصر البوربون، عبر قصة جوليان سوريل، ابن النجار الطموح الذي يُدمره صراعه بين الثورة (الأحمر) والمؤسسة الدينية (الأسود).
اعتُبرت لاحقًا نموذجًا للرواية الواقعية النفسية.
ب. دير بارما (1839):
كتبها في 52 يومًا، وتحكي مغامرات فابريزيو ديل دونغو في بلاط بارما. أشاد بها بلزاك كـ”رواية عظيمة”، لكنها لم تُبِع سوى 300 نسخة خلال 10 سنوات.
ج. عن الحب (1822):
دراسة فلسفية تحلل الحب كظاهرة اجتماعية، فشلت تجاريًّا لكنها أثرت في الفكر الرومانسي.
6. السنوات الأخيرة: مرض وتراث مُهمَل
القنصلية والإهمال: عُين قنصلًا في سيفيتافيكيا بإيطاليا (1831)، لكنه عانى من الملل والمرض (النقرس). كتب مذكراته ذكريات أنانية، التي نُشرت بعد وفاته بـ 60 عامًا .
الوفاة الغامضة: توفي في باريس عام 1842 إثر سكتة دماغية أثناء سيره في الشارع. نقش على قبره: “عاش، كتب، أحب” بالإيطالية، تعبيرًا عن حبه لإيطاليا .
♣︎♣︎ التراث والنقد: اعتراف متأخر
لم يُكتشف عبقريته إلا في القرن العشرين، حين أُشيد بأسلوبه التحليلي وتصويره للصراعات الداخلية. اليوم، يُعتبر ستندال أبًا للواقعية الأدبية، ومصدر إلهام لكُتّاب مثل نيتشه وكامو، الذين رأوا في أعماله تشريحًا للشرط الإنساني في عصر الحداثة .
والى روايات وكتب أخرى قريبا ان شاء الله
الكاتب والروائى خالد حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى