تصوّف وعرفان نظري

التصوف في المدينة الحديثة (خمسة مداخل)

 

التصوف في المدينة الحديثة (خمسة مداخل)

  

                                                                                                        وليد الخشاب

  شاعر وأكاديمي مصري، مقيم في مدينة تورنتو – كندا  

 

كيف نتصوف -إن أردنا- في القرن الحادي والعشرين وكيف يكون التصوف في مدينة، في مجتمع رأسمالي معولم حديث؟ هل التصوف ممارسة تراثية لا يمكن استعادتها اليوم؟ هل التصوف نوع من التدين، أم على العكس نوع من الخروج على قوانين التدين؟ هل هو حكر على أهل الطريقة وسر لا يفهمه إلا من يُسْمَح له بذلك؟ وهل التصوف يتم تسليعه وإعادة تدويره وبيعه كمنتج من منتجات السعادة في حياتنا المعاصرة؟ في هذا الكورس، نتأمل تعريفات مختلفة للتصوف وعلاقته بخطابات وأطر أخلاقية وروحية أخرى مثل الدين، أو السياسة، من خلال نصوص تراثية ومعاصرة، ومن خلال ممارسات مختلفة في الحياة اليومية تتشبع بالتصوف أو تتلامس معه، دون أن تظهر الطبيعة الصوفية لتلك الممارسات بالضرورة. التصوف موقف أخلاقي وملموس وليس مجرد دروشة أو زهد، وأبعاده الروحية تتلامس يوميا مع الحياة.

بين ديسمبر 2022 ومارس 2023 استضاف صالون تفكير دورة دراسية قدمتها بعنوان “التصوف في المدينة الحديثة”، والدراسات المجموعة في هذا الملف هي جزء من نتاج تلك الدورة. إن التصوف ليس ممارسة تراثية فقط، وليس مجموعة من نصوص العصور الوسطى أو ممارسات قادمة من تلك العصور. بل هو نشاط فكري فردي وجماعي حاضر وفاعل إلى يومنا هذا، وليس مقصوراً على زوايا وتكايا منعزلة ولا صوامع أو أبراج عاجية، بل هو جزء من حياة المدينة الحديثة في القرن الحادي والعشرين. لهذا اقترحت عمل تلك الورشة أو الحلقة الدراسية المسلسلة حول موضوع “التصوف في المدينة الحديثة”. وقد أثلج صدري تحمس الصديق جمال عمر، راعي ومنشط الصالون الأكبر، للفكرة وكذلك تعبير الكثيرين من أعضاء صالون تفكير عن اهتمامهم بتأمل الموضوع.

#مجلة_تفكير

أقارب تلك القضية من خمسة مداخل: 1)محاولات وأرضيات مختلفة لتقديم تعريف أو مفهوم للتصوف، 2)والانطلاق من بعض النصوص المؤسسة لفكر التصوف عند الفارابي وابن عربي والغزالي، 3)ومراجعة الممارسات الجماهيرية الحديثة المتصوفة مثل الموالد، 4)وتسليع التصوف وتقديمه كمنتج يمكن استهلاكه وشراؤه وإعادة تدويره وامتصاصه في آليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك وتوليد السيولة النقدية والثروة من خلال المنتج الصوفي، 5)وتتبع التصوف كبعد فاعل في الإنتاج الفني والثقافي من خلال الموسيقى والأغاني والأفلام والأدب.

إن مرونة تعريف التصوف وتعدد مداخله تعكس تقاطع التصوف كفكر وممارسة مع دوائر عديدة، أجملها، بعد محاولات التعريف، في أربع نقاط: أ)التصوف المعرفي والعرفاني، الكتبي، المنطلق من قراءة نصوص تعود غالبيتها إلى العصور الوسطى، مثلما عند الفارابي وابن عربي والغزالي، الذين يمثلون مختلف أطياف الموقف من فكرة وساطة الدولة والقانون بين الإنسان ورغباته، ويشكلون ثلاثة اتجاهات معرفية: واحد فلسفي عند الفارابي، وواحد روحي عرفاني عند ابن عربي، وواحد وتمسك بالشريعة وبدور الدولة المحوري في تنظيم المجتمع عند الغزالي -الذي يعادل في عصره الموقف الذي يطلق عليه اليوم “دولتي” أو “دولجي”. ب)التصوف الشعبي الشعائري الذي يتمثل في أداء شعائر مادية وروحية معاً، مثل حلقات الذكر والخلوات والموالد، والذي يمثل فكرة ذوبان الذات الفردية في ذات جماعية. تماس الدائرة البشرية هنا مع آخر كبير هو الذات الجماعية، وذلك التماس والتمازج ركن ركين في مفهومي للتصوف.

ج)التصوف المعولم، الذي يتمثل في الاحتفاء بتراث أعلام الصوفية المشهورين في الغرب مثل مولانا جلال الدين الرومي(604 هـ – 672 هـ)، وفي الانخراط في السوق العالمية من خلال شراء وتوزيع والترويج لمنتجات ترتبط بالصوفية بوصفها جزءًا من الروحانيات الغربية الحديثة. د)التصوف في الفن، الذي يحتفي بفنون مثل رقص الدراويش المولوية أو إنشاد أغان كلماتها هي أشعار كبار الصوفية مثل ابن عربي وابن الفارض، أو استلهام الموضوعات الصوفية في كتابات ذات طابع روحي مثل كتابات باولو كويلو أو روايات ألف شفق (التي يحلو للبعض كتابة اسمها “أليف شافاك”).

إن التصوف في المدينة الحديثة في القرن الحادي والعشرون يبدو لي موضوعاً راهنياً ويتطلب مقاربة خارجة عن المألوف. من المعتاد أن نقارب الصوفية باعتبارها مجموعة من النصوص القديمة التي تنتمي إلى العصور الوسطى. وربما اهتم بعض الباحثين بالتصوف باعتباره مجموعة من الممارسات الشعائرية مثلما في الموالد وزيارات الأضرحة. لكن ما ينقصنا هو تأمل ممارسات التصوف النظرية والعملية، الفكرية والعادية، في الحياة اليومية بشكل عام، لا فقط في إطار دراسات أنثروبولوجية تحول التصوف إلى نشاط غرائبي.

تعريفات متعددة لمفهوم التصوف

أنتمي إلى تلك الأقلية التي تري أن مصطلح “الصوفية” هو تعريب بالحروف العربية لكلمة صوفيا الإغريقية (Sofia ) والتي تعني “الحكمة”. أهل الصوفية هم أهم الحكمة. يرفض معظم المستشرقين وعلماء الفيلولوجيا -مثل الفرنسي ماسينيون صاحب الموسوعة عن “آلام الحلاج” على وزن آلام المسيح- ذلك التفسير لأصل كلمة الصوفية، رغم أن هذا التعريف هو الأقرب للمنطق.  التفسير العربي الشهير لأصل كلمة التصوف هو نسبته للصوف باعتبار أن المتصوف هو من يرتدي أو يسعى إلى ارتداء الصوف، إشارة للخرقة الصوفية التي كانت من الصوف الخشن. لكن ذلك المعنى للتصوف يؤديه تعبير “الزهد” و”الفقر”، وإلى اليوم هناك مفهوم الزاهد أو الفقير (إلى الله)، لكن المفهومان قد يتقاطعان ولا يتطابقان، فليس كل كبار المتصوفة فقراء. نقرأ عن إبراهيم بن أدهم أنه تزهد، لكن نقرأ أن العطار كان تاجرا كبيرا. كما يشتهر في المصادر الكلاسيكية تخريج آخر لأصل كلمة التصوف وهو نسبة المصطلح إلى “أهل الصُفَة” إشارة إلى هؤلاء الذين كانوا يجلسون على صفة أو على دكة خارج بيت النبي انتظاراً له وللطعام المهدى من بيته. من ناحية قواعد الاشتقاق اللغوي والصرف لإنتاج مفردات جديدة، ومن ناحية المنطق لا يبدو لي هذا التفسير وجيها. فالنسبة للصفة تكون الصفية لا الصوفية. ومرة أخرى التركيز على فكرة الفقر لدرجة التفرغ للذهول والاعتماد على المساعدات للحصول على قوت اليوم تختزل التصوف في الزهد وتقصي الفكر وبقية الممارسات المرتبطة بالتصوف.

في تأمل معنى التصوف، أركز على التراسل بين الثقافات العربية واليونانية (والغربية بشكل عام) والهندية (والآسيوية الشرقية) كذلك. أذكر دائما ما أورده العالم الكبير سامي النشار نقلا عن البيروني من رصده لالتقاء مفاهيم مؤسسة في التصوف مع مفاهيم قديمة في الديانات والروحانيات الهندية في نقاط تقاطع، منها فكرة الفناء وكذلك فكرة الزهد. أتصور التصوف كأرضية متعددة الثقافات والأعراق واللغات، وهي بذلك أرضية ذهنية صالحة للانطلاق في عالم اليوم المعولم متعدد الثقافات والذي يحفي ويتوتر معاً من تلك التعددية في كافة المجالات.

أتصور التصوف مفهوماً سياسياً، لا بالمعني الفكري والعقائدي والحزبي، بل بالمعنى المعرفي. التصوف هو مساحة تحرر الفرد والجماعة من وساطة الدولة أو القانون بين الإنسان ورغباته أو سعادته، أو على الأقل راحته. هو أيضاً تجاوز وساطة سلطة المحافظة الأخلاقية أو الصلابة العقائدية. هو مساحة تتفعل فيها علاقة مباشرة بين الدائرة البشرية والدائرة التي يسميها المنظر والمحلل النفسي جاك لاكان: “الآخر الكبير”، والتي قد نسميها -وفقاً لانحيازاتنا وتفضيلاتنا الروحية والإيمانية والفكرية- الدائرة الإلهية، أو الطبيعة، أو اللانهاية، أو الأبدية، إلخ.

النصوص المؤسسة لفكر التصوف

رغم تأكيدي على راهنية التصوف وبعده عن النخبوية، أو على الأقل تأكيدي على عدم اقتصاره على فكرة نخبوية مثل فكرة الانقياد للشيخ في علاقة التلميذ بأستاذه والمريد بشيخه، ورغم إلحاحي على أن التصوف هنا الآن، اليوم، في مدننا الحديثة، وليس فقط في ذلك العالم “الخيالي” البعيد عنا، عالم الكتب الصفراء، عالم العصور الوسطى الذهبية للحضارات العربية المسلمة، إلا إن أي تأمل للتصوف لابد أن ينطوي في رأيي على إعادة قراءة لنصوص المنظرين الأقدمين للتصوف. إعادة زيارة الفارابي مهمة لأنه واحد من أقدم الفلاسفة الذين كتبوا بالعربية وجمع بين التأملات الصوفية والتأملات الفلسفية، في زمن لم يكن الفارق المعرفي والحدود “العلمية” بين هذين العالمين قد تحددت بما يفصل التصوف عن التفلسف. ما يشدني فيما وصلنا من كتابات الفارابي، لاسيما تأملاته التأويلية العرفانية في بعض ألفاظ وآيات القرآن هو اتجاهه إلى ما أسميه الصوفية الجذرية، أو الصوفية الراديكالية، التي تعلي من شأن العلاقة بالله بوصفها قمة السلم الأخلاقي، ولا تعير الأهمية نفسها للالتزام بالشعائر من صلاة وصيام.

كذلك ألمس الموقف نفسه عند الشيخ الأكبر -أو المنظر الأكبر- ابن عربي، الذي يشتهر عنه أنه وازى بين أهل بدر وأهل التصوف. قدم ابن عربي قياساً على المروية التي تعفي أهل بدر من التكليف، والتي تصاغ بعبارتي كما يلي: “يا أهل بدر اصنعوا ما شئتم فإن موقعكم الجنة” واستخلص منه أن أهل التصوف الحق قريبون من الله، مثلما أن المشاركين في موقعة بدر أقرب ما يكون على الله، وبالتالي فإن أهل التصوف الحق لا يفترض أن يشغلوا أنفسهم بالشعائر أو بالتكليفات من صلاة وصيام وحج، مثلما لا يفترض ألا ينشغل بها أهل بدر، ما دام موقعهم الجنة في جميع الأحوال. طبعاً لم تكن عبارة ابن عربي بهذه الصراحة وهذا الحسم، وإنما أقدم قراءتي لتأملات الصوفي القرطبي الكبير.

في المقابل، أرى في مفهوم التصوف عند الغزالي مجرد إضفاء مسحة روحانية على الممارسات الأخلاقية والورعية التقليدية. فهو يشدد على أهمية الشريعة والأحكام الشعائرية، بالإضافة إلى جهاد النفس، بمعنى مقاومة إغراء الشهوات. أي أنه لا يتحدى مبدأ وساطة القانون -أو الشريعة، التي تعني “القانون” بالضبط- بين الإنسان ورغباته. وهذا التحدي يشكل في رأيي اساساً معرفياً هاماً في تعريف التصوف كما أتصوره.

الممارسات الجماهيرية وتصوف الموالد

ينتشر بين أنصار التنوير المتشدد وبين المتمسكين بالاستقامة الصارمة في تطبيق الشريعة على حد سواء، تصور أن التصوف إما إغراق في الغيبية والتغييب والبعد عن أنوار العقل، أو أنه انحراف عن السنة وانجراف إلى البدع والخرافات. ويمثل طقس المولد الشعبي، لا سيما موالد الأولياء الكبار، مثل مولد الحسين ومولد السيدة زينب نموذجاً قوياً للممارسات التي تسبب هلع المثقفين العلمانيين وأنصار التشدد الأرثوذوكسي المسلم، أي التيار السني المحافظ، والتي تسبب قلقاً للسلطات. لا أرى في ممارسة الفرح في المولد إلا تهديداً لفكرة سيطرة الدولة على الأفراد وتحكمها في التحامهم في جسد جماعي، ولعل هذا هو السبب الذي يجعل كافة السلطات في كافة العصور تحتفي بالموالد وتحسب لها ألف حساب في آن. لأن اجتماع الآلاف يشكل طاقة عاطفية وروحية لكن قد تكتسب بعداً سياسياً مباشراً، لكن هذا الاجتماع وذلك الذوبان يشكلان أيضاً لحظة تنفيس كرنفالية تسهم في خفض التوتر في المجتمع. فلأيام معدودات يتولى الناس تنظيم أنفسهم ويتراجع وجود قوات الشرطة غلا على أطراف ساحة المولد، أي أن الآية تنقلب لأيام معدودات فيسيطر الناس على الفضاء العام وتكتفي الدولة بالهامش.

ليس المولد ممارسة احتفالية فقط، ولا سياسية بالمعني المباشر، وإنما هو تجسيد لفكرة وحدة الذات الفردية مع ذات آخر كبير، هو الذات الجماعية، وهو تفعيل لفكرة اندماج الكل في كل روحي يمثله حضور (روح) الولي الصوفي المحتفى به، حاضناً كل الناس حضناً رمزياً ما ورائياً، لكن حضناً له بعد مادي ملموس متجسداً في الناس وارتفاع أصواتهم ولهوهم وفرحهم وتعبدهم عن طريق الأذكار. التصوف الشعائري، لا سيما في المولد، لم يزل يشكل حضوراً لفكرة ولممارسة التصوف على المستوى الشعبي، إلى يومنا هذا بعد مضي ربع القرن الحادي والعشرين، وفي كل مدن الإسلام الحديثة.

تسليع التصوف في السوق المعولمة

ليس التصوف مجرد تأملات فكرية أو روحية، ولا فقط شعائر مادية تستدعي حضور الروحانيات في مادية الحياة وتتجسد في اليومي والعادي. التصوف يتحول عند البعض إلى سلعة، مثله مثل أية ظاهرة في عالمنا الرأسمالي الحديث، في السوق المعولمة التي عرضها السماوات والأرض -من دائرة الأقمار الصناعية في السماوات، إلى مشرق الأرض ومغربها في حركة التجارة العالمية- ويدخل في علاقة مفارقة بين أصله كممارسة روحية تتجسد في عالم الشهادة، وبين راهنيته عند البعض، التي تجعل منه منتجاً أو مولداً لمجموعة من المنتجات يمكن الترويج لها وتسويقها وتحويلها على أموال ومدخولات مالية. أبسط مثال على التصوف المُسَلَع في عالمنا الحديث هو تلك التجارة الرائجة لتماثيل صغيرة ولماجات القهوة والشاي التي تحمل رسم درويش مولوي، والتي تمثل مبيعاتها ملايين الدولارات في جميع أنحاء العالم. هذا نموذج واضح على تحول التصوف وعلاماته ورموزه البصرية ذات البعد الروحي على سلعة تدخل في صناعة وتجارة سوقها الكوكب بأسره وتبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.

ومثل فكرة دمج مجموعة من المنتجات في باقة واحدة، كأن يعرض محل الملابس القميص والبنطلون والجاكيت المتناسقين معاً، بدلاً من ان يعرض قطعة منفردة، فالمنتجات ذات النكهة الصوفية أصبحت في عالم اليوم جزءًا من صناعة السياحة. على سبيل المثال، ضمن برامج ترويج السياحة لتركيا التي ينسب إليها مولانا الرومي، يُعْرَض على السائح شراء التذكارات المولوية مثل الماج ذي الدرويش، وشراء تذاكر لعروض رقص مولوي، وزيارات لتكايا مولوية، وأسطوانات عليها موسيقى تستلهم اشعار الرومي أو تصاحب أذكار المولوية. تتداخل إذاً صناعة السياحة مع بعض الصناعات الثقافية مثل صناعة الرقص المولوي على المسرح، أو صناعة الأسطوانات المسجل عليها الموسيقى المولوية وصناعة الكتب المنشور فيها شعر مولانا. بالإضافة إلى ذلك، يدخل التصوف كسلعة في صناعة الروحانيات الجديدة (على الغرب) مثله مثل اليوجا والتعاليم الهندية المختلفة، والرياضات الروحية الآسيوية بشكل عام، التي يعاد تغليفها وعرضها على المستهلك الغربي المتعولم الباحث عن “شراء وصفات” للسعادة أو راحة البال، من خلال صناعة الراحة ( Wellness).

هذا الوضع الذي يواجهه التصوف رغما عنه يطرح سؤال علاقة التصوف بالمال -هل التصوف زهد أم استغناء دون افتقار، مثلاً؟- ويضع الباحث عن طريق التصوف في مأزق، إذ عليه أن يوفق أو يختار بين تصوف لا تشوبه شائبة التسليع والتحول إلى مال، وبين تصوف روحي ذي بعد مادي خارج منظومة السوق والسلعة. لكن -للأمانة- فعولمة التصوف لها جانبها المحبب، لنه يخلق أرضية مشتركة بين أناس من ثقافات مختلفة، لا سيما من الشرق والغرب.

التصوف في الفن

نشرت في عام 2022 بمجلة ألف التي تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة مقالاً أكاديمياً عن مفهوم الفناء في الفن بعنوان “عن الفناء في الفن المتصوف. الموت بوصفه حياة”. استعرضت فيه أداء بعض المغنيين لأشعار صوفية لابن عربي والحلاج، على سبيل المثال، مثلما فعلت دلال أبو آمنة الفلسطينية وظافر يونس التونسي. وأبرزت كيف أن دلال أبو آمنة تركز في أدائها لشعر ابن عربي على عبارة “ديني لنفسي ودين الناس للناس” التي تكررها بشدة، فتكتسب معنى جديداً في سياقنا المعاصر، وهو نزوع الفرد على التأكيد على فردية وذاتية الممارسة الروحية كما تتصورها العلمانية الغربية: التدين أمر خاص لا شأن للناس به. في المقابل، كان أداء ظافر يوسف لشعر الحلاج إعادة صياغة لمدلوله، إذ قدمه المغني التونسي في قالب الجاز، وجعله متنجاً محبباً لكن منسجماً موسيقياً مع سوق موسيقى العالم (World Music ).

في ذلك المقال، تناولت أيضاً استخدام بعض المخرجين السينمائيين لموتيفات وأفكار صوفية في أفلامهم، مثلما فعلت الإيرانية الأمريكية شيرين نشاط، التي قدمت معادلا بصريا لفكرة فناء الذات في ذات أرحب (إلهية أو روحية متسامية) من خلال استخدام الخيال والحركة البطيئة والإيحاء بتحليق الممثلين واستخدام تقنية الفيد أوت، التي تجعل صورة شخص تذوي ثم تذوب في صورة أخرى، وكأنها تجسيد بصري لعملية الفناء الصوفي. أعتبر فيلم “نساء بلا رجال” من إخراج نشاط فيلماً صوفياً بحق.

الحقيقة إن التصوف حاضر بقوة في المنتجات الفنية المعاصرة التي هي جزء من الثقافة اليومية الدارجة، وليس مقتصراً على المنتجات الفنية الرفيعة التي تتطلب ذوقاً نخبوياً وتدريباً. بشكل عام، التصوف حاضر في صناعة الكتب التي تنشر الكلاسيكيات -ومنها كلاسيكيات التصوف، مثل أعمال ابن عربي أو الحلاج. وهو جزء من عالم الموسيقى والغناء، إذ لا يكاد يمر شهر في كبرى حواضر الثقافات المسلمة إلا وكان فيها حفل إنشاد صوفي، لا سيما في الأوبرا أو المسارح التي تقوم مقامها. وبالتالي فالتصوف حاضر من خلال الإنشاد في مسارح وساحات واسطوانات ومواد تليفزيونية ومواد على منصات افتراضية مثل يوتوب أو منصات تواصل اجتماعي مثل فيسبوك، وبهذا يصير التصوف جزءًا من حياتنا اليومية في تلك المنطقة الملتبسة بين الاقتصاد الثقافي والترفيهي (لأن الإنسان يحتاج أن يدفع مقابلاً للعروض المسرحية التي بها إنشاد أو رقص مولوي، ويحتاج أن يشتري كتب الشعر الصوفي، إلخ) وبين الممارسة الثقافية والترفيهية (لأن الإنسان يفترض أنه يستمتع فكرياً ووجدانيا بالمواد المتعلقة بالتصوف) وبين الجانب الروحي وتجلياته المادية.

هذا الملف

يتضمن هذا الملف خمس مساهمات قدمها المؤلفون المختلفون في إطار تلك الحلقة الدراسية التي قدمتها في صالون تفكير عن التصوف في المدينة الحديثة. يثبت تنوع موضوعات المقالات وتباين المقاربات تعدد مظاهر تفاعل التصوف مع المدينة الحديثة كما أجملت سابقاً. تنوعت المقالات بين تأملات في النظرية والتاريخ وتحليلات لمنتجات ثقافية محورها التصوف ودراسات لقضايا كلاسيكية تطرحها الصوفية.

يقدم أكمل صفوت تساؤلاً مفصلاً عن علاقة التصوف بالمدينة وعن تجذر تلك العلاقة منذ بدايات التصوف، ويؤصل لعلاقة التصوف بالسياسة منذ تلك العصور الأولى للثقافة المسلمة عموما والصوفية خصوصاً.

وتتتبع نهى حنفي تمثلات جلال الدين الرومي في الفنون البصرية تحديداً، وترصد كيف تحول تصوير الرومي من استدعاء لهالة القداسة الروحية التي تحيط بالشيخ في العصور الوسطى، إلى إنتاج لصور يقبل عليها المستهلكون في الحقبة المعاصرة، كنموذج على تسليع التصوف الذي ظهر بقوة على ساحات الثقافة العالمية منذ التسعينات على الأقل.

ينطلق بهاء الريدي من منطلق مشابه، وهو دراسة منتج ثقافي يتمحور حول الصوفية. اختار الريدي أن يدرس ثلاث مسرحيات بطلها شخصية صوفية هامة: “رابعة العدوية” لعدنان مردم و الحلاج في “مأساة الحلاج” لصلاح عبد الصبور “وأيوب” لميخائيل نعيمة وأن يتتبع كيف تفاعلت هذه النصوص مع سياقاتها الاجتماعية ومع السياقات الاجتماعية التي وجدت فيها الشخصيات الصوفية التاريخية، مع الاهتمام بفكرة الصبر (على البلاء).

أما علي غرس الله فقد اختار أن يتأمل التصوف باعتباره حركة روحية، بمنطق أكثر رحابة من اقتصار التصوف على الارتباط بالدين. ويطرح أن التصوف يشكل أرضية للتفاهم بين ثقافات متعددة، ويتخذ تجليات متعددة، فيبرز بعض نقاط التلاقي في فكر المهاتما غاندي بين التراث الروحي الهندي التقليدي والفكر الصوفي، وكذلك بعض الملامح الشبيهة بالتصوف المسلم في فكر وممارسة الدالاي لاما البوذي التيبيتي. ويتجول غرس الله بين الولايات المتحدة وتركيا وباكستان وغيرها من بلاد ذات غالبية مسلمة أو ذات جاليات مسلمة نشيطة ليتأمل تفاعل الفكر الصوفي مع تيارات فكرية حديثة مثل الحركة الإيكولوجية أو حركة حماية البيئة، وتيارات التنمية البشرية.

وختاماً، يستعرض وسام يونس ثلاث قضايا محورية يقدمها في دروسه شيخ صوفي معاصر وأستاذ في الهندسة، هو الدكتور/السيد أحمد رافع، إذ يناقش العلاقة الجدلية بين إرادة الله ومسئولية الإنسان، وتأكيد الدكتور رافع على وجوب تفعيل الإنسان لقدراته، وربط الدكتور بين واجبات العبودية وتبلورها في حرص الإنسان على التساؤل المستمر عن الحقيقة وعن منشأه ومنتهاه، ليكثف ويطور وعيه البشري.

لا تغطي المقالات الخمس كافة المداخل الخمس المقترحة هنا، وإن تفاعلت مع معظمها، من تأمل في أصل ونظرية التصوف عند أكمل صفوت، والنظر في تسليع التصوف عند نهى حنفي، و دراسة التصوف في الفن عند بهاء الريدي، وتحليل انفتاح التصوف على ثقافات عديدة عند علي غرس الله، بما يعد نظرة إيجابية لعولمة التصوف. أما وسام يونس فهو يتأمل في قضايا تساهم في تعريف هموم التصوف الأخلاقية، بما يعد استمراراً لتراث التأملات النظرية عند المتصوفة الكلاسيكيين، لكن اختياره لشيخ صوفي معاصر يؤكد حيوية و راهنية التصوف. ربما كان تصوف الموالد هو المدخل الوحيد المطروح في بداية هذا المقال والذي لم تتعرض له دراسة بالتفصيل، لكنه هم مشترك بين العديد من مقالات هذا الملف، باعتبار أن الحضور الجماهيري عنصر هام في المسرح، وهو عماد ممارسة الموالد، وباعتبار أن تأصيل التصوف في المدينة منذ عصر البدايات يفترض أن تؤخذ في الاعتبار الكتلة السكانية الكثيفة في المدينة، التي تتجلى كثافتها أوضح ما تتجلى في الموالد وحلقات الذكر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى