اللاوعي في فلسفة كارل يونغ
اللاوعي في فلسفة كارل يونغ
بقلم العالم البولندي بوغسواف ياشينسكي
“يجد كارل يونغ ان النفس مكونة من ثلاثة عوامل أساسية : الوعي المشروط بصلاته مع ال ( هوego )، واللاوعي الفردي ثم عناصر معينة من اللاوعي الجماعي. وهذه العوامل هي في حالة مواجهة وتكامل في الوقت نفسه، أي التاثير المتبادل لهذه العناصر هو في حالة مدّ وجزر دائميين. فمرة يهيمن العنصر العقلاني ويدفع اللاعقلاني صوب اللاوعي، وأخرى يسود اللاعقلاني متبادلا الأدوار مع الآخر.
ويميز يونغ النفس الخارجية ectopsyche التي تكون العلاقة السائدة فيها علاقة النفس بالعالم الخارجي ، كما هناك النفس الداخلية – endo التي يكون المحور في فهمها علاقة النفس باللاوعي. وهكذا يتكلم يونغ عن موقفين بسيكولوجيين سائدين : المنفتح على الخارج extravertive والمرتد الى الداخل – intro . وكما نرى فهذه البنية للنفس المنشطرة الى عنصرين يتكاملان تارة و يستثني أحدهما الآخر تارة أخرى ، يكملها عامل دينامي هو اللبيدو ، هذه الطاقة النفسية المتوترة بين النقيض والآخر.
ويعني هذا كله أن تلك الطاقة لاتوجد حيث يحقق النقيضان التوازن أو إذا تجمعت في إحدى حلقات هذا التضاد كل القوى التطورية للنفس ، بعبارة أخرى فأن طاقة اللبيدو تزول في حالة التوازن النفسي التام. فعنصرها المحرّك هو الحركة والتذبذب وليس فقط بين المتضادين المذكورين بل كذلك صوب الخارج ، وحينها تكون العملية عملية تكييف النفس للوضع الجديد.
ويكرر يونغ تأكيده الذي يفيد بأن جميع مضامين النفس تخلق عقدها الخاصة ( وليس بالمعنى الفرويدي بالطبع ) ، فهذه هي أحوال وجود مستقلة لا تخضع لإرادة الوعي. وكما قلنا فالنفس تسعى صوب الإكتمال وبلوغ كل أحوال التحقيق ذروتها. وهذا هو دافعها التطوري الأكثر أولية. إلا أن المشكلة تتمثل بإختيار معيار هذا التطور المتوجه صوب الإكتمال. بالنسبة ليونغ تحقق النفس إكتمالها حين تخمد وتزول فيها شتى أنواع الثنائيات dualisms ويتحقق ، فيما بعد ، تكاملها التام على مستو جديد أعلى. وهذه النفس التي يسميها يونغ بالمملوءة تؤدي إليها عملية التفرد individualization أي التعرف التدريجي على مضمون اللاوعي. وهذا الطريق خبره يونغ ذاته وكتب عنه في كتابه الأحمر المعروف ، وهكذا نصل الى مفهوم اللاوعي الجماعي. والحق أن يونغ لم يفرق في المرحلة الأولى ، بينه وبين اللاوعي الفردي إلا أنه يتخلى فيما بعد عن مثل هذا التقسيم ويركز على مفهوم اللاوعي الجماعي فقط. و الأكيد أنه يصعب إيضاح معناه التعريفي ، فيونغ يحدد إدراك وفهم هذا اللوعي عبر سياقاته وما يحصل من أحوال تعقيد أثناءها. وهكذا يقول إن هذا اللاوعي هو مجموعة نماذج أولية archetypes تكون بمثابة وجود مستقل لايملك الصلات بال( هو )، وفي أضعف الأحوال ، بمعنى العلاقات القائمة على مبأا العلة والنتيجة. كذلك يؤكد يونغ بأن اللاوعي الجماعي بحد ذاته ليس طيبا ولا شريرا. إنه قائم فوق القيم ويحافظ على حياده أزاءها.
في سني النضوج يكتسب اللاوعي الجماعي ، عند يونغ ، الصفات الإيجابية ، فهو وجود يسميه بالنفس اللاشعورية psychoid لدى الإنسان. وهذا اللاوعي الجماعي هو كالهواء الذي نتنفسه أي أنه ضروري للحياة بالرغم من أننا لانفقه هذا الشيء ، تماما كالناس العائشين في المدينة الذين لايعرفون منظرها العام إلا إذا كانوا في مشارفها. ومثل هذه المدينة التي تلفها غمامات الهواء هي لاوعي يونغ الجماعي الذي يشمل كل شيء : المادة المعدومة الحياة وجميع أشكال الحياة على السواء. ويكون الطريق الى المشارف حيت يمكن مشاهدة هذا المنظر الحياتي هو طريق التفرد. وعادة يغذ الفرد السير فيه وكذلك الجمع البشري. حينها يسمي يونغ هذه العملية بالتموضع objectivization اي وضع مرآة ترنو من خلالها المنظومة المجتمعية ولربما الجنس البشري كله ، لكنه ينبغي في البدء إدراك أن هذا الدور ليس هو ذاته ، فالشيء الجوهري هو : من يقوم بهذا الدور.
يسمي يونغ هذه المرحلة الأولى من التفرد بمرحلة ( القناع persona ) و ( الظل ). و أيّ شيء هو هذا ( الظل )؟ إنه كل ما يزيحه القناع من منطقة اللاوعي ولكنه لايعيق العيش الخالي من النزاعات مع الآخرين. و بعدها ندرك وكلنا دهشة أننا عشنا في قفص جنسنا ، فحقيقة أنني رجل أو أنني إمرأة تحدد مسالة إدراكي للعالم كما تقرر درجة التوتر وتوزع طاقات نشاطي. فالان أرى الذكورة و الأنوثة. وأيّ شيء هناك عدا مشروطياتهما؟ أنا أريد الآن أن أحس و أجرب هذا الشيء. والآن لا أنظر الى ما ورائي، فأنا أقل وزنا إذ أن أثقال الحياة لا تلقى على كاهلي. وها أنني بلغت المحطة الثالثة في طريقي ( الطريق الى الذات ) – أرى وجه الإنسان المسّن و المغطى بالتجاعيد والجالس مستقيما. فهيئته هي هيئة شاب على الرغم من أنه يحمل تجربة ألف عام. كذلك ارى من هذا القرب الإبتسامة الرقيقة التي تشطب حياتي السابقة. الآن أحس بالبعد الذي يفصلني عن إدراك المنظر الذي تركته. ولاشيء أمامي الآن غير القمة برغم أنني راغب بالبقاء هنا والى الأبد حيث الدفء والإلفة.لا أعرف أين نهايتي وأين بداية العالم – اهذا الشيء هو الذات؟. بالنسبة ليونغ يكون بلوغ الذات المرحلة الأخيرة لكامل طريق التفرد. ومن غير الممكن الإنصياع الى هذه الحالة بإستخدام الكلام المنطقي ، فهذا يعني إنطفاء شتى حالات التضاد والتوتر في حين أن الكلام هو توتر بين الفكر واللغة.
إن كامل مفهوم اللاوعي الجماعي الذي أرسى يونغ عليه فلسفته يبين الكثير من نقاط الشبه مع نظرية أدوارد فون هارتمان E.von Hartmann القائلة باللاوعي الناشط بصورة غائبة. ولربما يكون الأمر متعلقا بإكتشافين حصلا في آن واحد.
كذلك أنا لا أملك الأدلة على أن يونغ قد قرأ هارتمان. والنماذج الأولية التي تملأ ذلك الوعي هي بلاشك إنجاز أصيل يعود الى يونغ. والآن أيّ شيء هو هذا النموذج الأولي؟. إنه نموذج ماقبل الأحوال – أحوال التصرف والسلوك والقانون الخاص الذي يشق ، في بحر اليومي وبشكل واضح ، طريق الحياة ومبدأها وفكرتها الأساسيتين، صائغا شكلها من سلسلة احداث تبدو كما لو أنها حصلت صدفة. لكن يونغ يحذر من ان النموذج الأولي ليس بفكرة ما محددة ، فهو لا يعبر عن شيء ولاينطق بأيّ شيء أيضا. بإختصار فلهذا النموذج طبيعة شكلية وليس مضمونية. إنه شكل لما قبل ( الوجود ) يحمل ميسم التجارب الماضية لكل الجنس البشري.
وبهذه الصورة يكون هذا النموذج ذاكرة لطبقات الإرتقاء evolution الماضية ، لكن من أجل أن يقدر على النشاط بصورة فعلية والتأثيرعلى نفس الفرد وبث طاقة معيّنة ينبغي أن يملأ بالمضمون ( الحياتي ). حينها يصبح جسدا له كينونته. وهنا يشرح يونغ مشكلة تفسيرية دقيقة وهي : هل بقدرة نماذج اولية معينة أن تجذب مضامينا بشكل ما ؟ فإذا كانت قادرة ينبغي النظر الى حياة الفرد بشكل مغاير.
في مثل هذه الحالة يتحول النموذج الأولي الى وجود فعلي وقائم يمنح ذاته القدرة المناسبة. وهكذا لن يكون مجرد أثر لتجارب الجنس البشري السابقة بصنع أشكال السلوك بل وجودا معينا وفوق طبيعي . وعلى الرغم من أنه غير واع فهو يؤثر بصورة فعلية في النفس من خلال مضامين معينة مسجلة فيه. و بذلك فالنموذج الأولي هو ، على السواء ، إستعداد disposition وميل الى شيء أو أنه ( شيء )، وجود معين فوق شخصي. وبهذه الصورة المقتضبة يكون بالإمكان إلقاء الضوء على تطور مفاهيم يونغ في موضوع النماذج الأولية.
يكتب يونغ أنه إذا ( مليء) النموذج الأولي بمضمون الحياة ، يتحول حينها الى رمز معين ، وهذه المرتبة هي أحد مفاتيح اليونغية. وفي الوعي الدارج يحصل الخلط بين الرمز والإشارة في حين أن يونغ يقوم بتفرقة دقيقة بين هذين المفهومين. فالإشارة تخص الواقع المعروف ( المدلول هو واضح من خلال الدال ) في حين أن الرمز يتوجه صوب الواقع غير المعروف حيث المدلول هو خارج نطاق الكلام والمنطق العقلي. بإختصار يكون الرمز جسرا الى السماء / أنظر إستعراضات نظريات الرمز في المؤلف الرائع لجلبير ديران G.Durand ( المخيلة الرمزية ) / وبإنتباه شديد يصف يونغ فكرة الرمز. فهو يدرك بأنه يكشف عن مسلك للإتصال بوجود يفوق الحياة بل الحياة الشارطة ، وهنا نرى مرة أخرى ، الإختلاف الأساسي بين نظريته و التحليل النفسي لدى فرويد. لايكون اللاوعي ، عند يونغ ، شيئا شريرا ، أي عكس ما هو في مفهوم فرويد ، كذلك فليس الرمز ، وكما أراد فرويد ، مظهرا لتفكير أوطأ بل على العكس : إنه شيء مهم وجوهري ومرغوب فيه. فبفضله نتمكن من أن نعيش الإتصال باللاوعي الجماعي والبدء بعملية التفرد.
إلا أن الفارق التفسيري بين فرويد ويونغ والذي يخص وظيفة الرمز ودوره الفعلي في حياة الفرد النفسية هو شيء هامشي كانت تربته الخلافات الشفهية حسب، تكون عاقبته المباشرة مفهوما آخر للثقافة مغايرا. فلدى فرويد تكون ظاهرة الثقافة المعقدة و ذات الطابع الخاص ، قد سيقت ، في واقع الحال ، صوب المحددات determinants الفيزيولوجية و الطبيعية في حين أن هذه الظاهرة تكون لدى يونغ مدركة ( بكسر الراء ) لقضايا الروح. فهنا يتم منح خصوصيات الثقافة وظيفة تجاوز transcendent صوب اللاوعي. أو ليس من المحتمل أن الإنسان قد تأنسن وسما ومنحت الحياة معناها الصحيح بفضل هذه المفاهيم ؟.
كان يونغ يقسّم الرموز الى فردية تملك دلالتها عند شخص معين هو في طريقه صوب تحقيق الفردية ، وأخرى جماعية توفر المعرفة لكل المجموع البشري. وأنا كنت قد إستخدمت عن عمد ، فيما يخص الرموز الجماعية ، مجاز المرآة التي ينظر الجنس البشري الى ذاته فيها. إنه مجاز مستعار من هيغل وكان قد إستخدمه في ( الأستيتيكا ). وبإعتقادي يكون ممكنا أن نلاحظ هنا أحوال تماثل معينة : الروح الهيغلي المطلق الذي نلقى تعبيره في أعمال الفن يقوم بوظيفة هي مشابهة لعمل اللاوعي الجماعي اليونغي.
وكان يونغ قد كرس مكانا كبيرا للفن في تأملاته، ونحن نفهم الاسباب إذا تذكرنا مفهومه عن الرمز . ونجد تأملاته الرائعة المكرسة للشخصية الخالقة أي سرّ الكاتب الذي يجرّ ال ( هو ) الخلقي ( بفتح الخاء ) وراءه ، ذلك الظل الحياتي لعدم التكيّف الأبدي ، ما زالت تثير الإهتمام والقلق في الوقت نفسه. ويجد يونغ أن الفن إما أن يكون رمزيا وإما بسيكولوجيا. فالأول يتميز بالميل الى التعبير الخارجي
ومادته هي الرؤى المتوجهة صوب اللاوعي الجماعي ، أما الثاني ( ويسميه يونغ بالعرضي symptomatic ) فيتميز بالأسلوب الإستبطاني في تشكيل المادة النفسية ، إذ يستمد الإلهام بالدرجة الرئيسية من حياة الإنسان الواعية ، وهنا نقدر على الكلام عن ( الجمال ) و ( الجمالية ) و ( الشكل الفني ).
إن الفن الرمزي يهدم هذه القوانين أو لايكون هدفه الحفاظ عليها. إلا أنه خلاق ، فبين جميع الوظائف التي يؤديها الفن تلقى الوظيفة الرمزية لدى يونغ التقدير حيث يرى أن المهمة هي التعرف من خلال الرموز. فمهمة الفن هي تطوير الجانب الإنفعالي في الشخصية. أما مهمته كمانح للذائقة والمتعة والمذاق فتكون آخر الوظائف.
إن هذه المقولات التي تنبع ، عضويا ، من كامل مفهوم يونغ ، تكون مهمة للأستيتيكا المعاصرة. والملاحظ أن كبار معلمي الإنسانية أمثال غاندي وتولستوي قد عاملوا بهذا الشكل الظاهرة الفنية أي مجال تكوين الشخصية. وقال المهاتما غاندي : بالنسبة لي لايقدّم الجانب الخارجي أيّ قيمة على الإطلاق عدا حالة واحدة وهي حين يقوم بمساعدة الداخل. وفي كل فن حقيقي يتم التعبيرعن النفس.
بإعتقادي أن يونغ وتولستوي قادران على تكرار هذا الراي.
وليس الفنان وحده يتوجه صوب اللاوعي الجماعي حين يخلق عمله. فالمتلقي لايكرر بشكل ما ، عملية الإلتزام النفسي ذاتها ، إذ أنه يتلقى الفن حدسيا قبل كل شيء، و يرى فيه النماذج الأولية للاوعي الجماعي. ويقف كلاهما امامه عند التعامل مع العمل الفني الرمزي وليس كفرد بل كممثل للبشرية كلها. فالأنا الفردية تختفي كي تفسح المكان لنشاط اللاوعي بنماذجه الأولية. ولايخبر الفن الرمزي عن النفس ( كما هو الحال في الفن البسيكولوجي ) بل يستفزها من أجل أن تتسامى فيما بعد.
أكيد أن يونغ قد قدّم بنظريته الشهادة على الفلسفة الحديثة ، حين تكلم عن الإنسان الذي يكون بدوره الإشكالية الأهم في الفكر الحديث.”