فنون وآداب

الخط العربي بين الجمال والقداسة

 

الخط العربي بين الجمال والقداسة

 

(صحافية تونسية): مريم السكوحي

 

جامع “أولو” في مدينة بورصة التركية

 

 

عرف الخط العربي منذ بداية انتشاره تطورًا كبيرًا، مكنه من الريادة متفوقًا على العديد من الفنون التي عرفها العرب قديمًا وحديثًا، حتى تغنى به الشعراء وخصصت له الموائد الأدبية لدراسته والغوص في أسراره، لما له من بُعد جمالي وقداسي أيضًا.

 

فكرة “التحريم” في الفن.. بداية الازدهار

يعتبر فن “الخط العربي” من أصعب الفنون الإسلامية التي تتطلب مهارات عالية في تطبيق القواعد وذوقًا رفيعًا في التركيب والتنسيق، مما جعل العديد يتهافتون لتعلم هذا الفن المفعم بكل ما هو جميل وأصيل.

حين نعود إلى فترة ازدهار فن الخط العربي والأسباب وراء ما اكتسبه هذا الفن من أبعاد جمالية ميزته عن باقي الفنون السائدة في تلك الفترة، ننتبه إلى أن فكرة “التحريم” في الفن أو التضييق على فناني المدينة الإسلامية بعد ما شدد به الفقهاء (لا بد من خلو أماكن العبادة من صورة كل ذي روح) واستنكار كل تصوير تجسيدي، أدى إلى تفجير الطاقات الفنية في الحرف العربي فطوروه وجعلوا منه زينة لملابسهم وأوانيهم وقصورهم ومساجدهم، وتنافسوا فيه فأبدعوا وابتكروا أنواعًا يصعب حصر عددها.

جامع “أولو” أكبر وأقدم جامع بمدينة بورصة التركية

 

إن الروح الجمالية للشخصية الصوفية تتجسد في أجناس مختلفة من الفنون من سماع وإنشاد ورقص فعمارة فخط ورسم ومنمنمات، فنون تشتغل فيها سيمياء العواطف لتعبر عن توترات وتقلبات أحوال الصوفية، هؤلاء الخاصة الذين عرفوا بـ”الخيال الخلاق” وسمو الذوق ومهارة اليد.

هذا الرقي الروحي أكسب الخطاط نظرة إجلال واحترام وتكريم من عامة الناس خصوصًا الخطاط الذي خطت أنامله كلام الله المقدس، فاعتبرت كتابة الآيات القرآنية تشريفًا عظيمًا، وقال علي بن خلف في كتابه “مواد البيان”: “هذه الصناعة من الصنائع الظاهرة الشرف والجلالة، الحائزة للسيادة والنبالة”.

وقد عزز هذا الاعتقاد البعد الرمزي للخط العربي، وكما تداولت بعض المعتقدات لدى خطاطي تركيا العثمانية التي كان أغلب خطاطيها منتمين لطرق صوفية، فكما لدى مريدي الطرق الصوفية أورادهم وآدابهم مع الشيخ المربي كذلك الحال مع دارسي ومتعلمي الخط العربي من حيث المواظبة والجلسة المستقيمة والعناية بأدوات الكتابة والطاعة التامة للأستاذ أو الخطاط المعلم، فأصبحت آداب الكتابة بمرور الزمان قواعد ثابتة وهي عبارة عن طقوس ذات دلالات متعددة.

 

على عكس الفن التشكيلي عند الغرب الذي امتاز بشاعرية الرسالة البصرية التجريدية يبدو الخط العربي لكل ناظر واضحًا مباشرًا مقيدًا بقواعد إلا أن هذا لم يجعله محدودًا

 

كما أولى الخطاطون عناية كبيرة بالقلم، فليس للحرف وحده سمة القداسة بل كذلك للأداة (القلم) التي رسمته استنادًا إلى النص القرآني وسير وتوصيات القدامى، وقد اهتم عبد الله بن السيد البطليوسي في كتابه “الاقتضاب في شرح أدب الكتاب” بكاتب الخط فقال: “سواد المداد وجودته وتفقد القلم وإصلاح قطته وجودة التقدير…”.

إن تطابق ما يفرضه التصوف من أدب كركيزة أساسية في مقام الإحسان مع أدب الخطاط في فنه إذ يقول الشاعر:

“تعلم قوام الخط يا ذا التأدُب                      فـما الخط إلا زيـنة المتأدِب

فإن كنت ذا مالٍ فخطك زينة                     وإن كنت محتاجًا فأفضل مكسبُ”

سرعة انتشار الخط العربي، جعلته ينتقل من مجرد أداة للكتابة في بداياته، إلى قيمة مميزة مع وحي الإسلام، كما أصبحت له بسرعةٍ كبيرة، في قلب الحضارة العربية الإسلامية، واستخدامات ثُلاثية: دينية ووظيفية وتزيينية.

 

دلالات تعبيرية عميقة

على عكس الفن التشكيلي عند الغرب الذي امتاز بشاعرية الرسالة البصرية التجريدية يبدو الخط العربي لكل ناظر واضحًا مباشرًا مقيدًا بقواعد إلا أن هذا لم يجعله محدودًا، بل إن الخطاط ومن خلال التأملات الصوفية للحرف ينتقل إلى روحانية الخط العربي ويرى رمزية كل حرف فيغدو ألف اللام إشارة للقيام واللام إشارة للركوع والميم إشارة للسجود، إلخ.

 

اكتسب الخط العربي طابعًا وجدانيًا فلسفيًا شد انتباه أعلام الصوفية

 

ولعل إدراك المتصوفة لمستوى شكل الحرف استقامة وميلاً وانكسارًا وانحناءً وعملهم على تقديس وضعية الحرف وهيبته ساهم بحظ وافر في إثراء الوعي الفني عند الخطاطين الذين تحقق لديهم اقتران التخطيط بالإيحاء الدلالي، ويبقى الخطاط العربي اليوم محافظًا على هذه العلاقة التي اقترن بها الشكل وأوضاع الحرف من دلالات تعبيرية عميقة متصلة بخلجات الإنسان في تطلعه إلى الخالق وتأملاته لمواطن الجمال في الكون والمخلوقات.

اكتسب الخط العربي طابعًا وجدانيًا فلسفيًا شد انتباه أعلام الصوفية، ففي الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي نطلع على قراءاته المثيرة لعلم الحرف من خلال روحانية الحروف العربية باعتبارها ذوات وخلق من خلق الله تعالى فيقول: “الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا” ويقصد أهل القوم أي المتصوفة الذين أحاطوا بأسرار الحرف العربي.

إن نضج الفنان وتربيته الروحية تساهم بشكل لافت في تهذيب العملية الإبداعية والارتقاء بما يقدمه من فن حد الخلود بل الفناء

تطورت الكتابة العربية منذ القرن السابع وحتى اليوم، فهناك من الخطاطين من اختار منحى التجديد والابتكار ومنهم من بقي متشبثًا بالتجارب الماضية واعتبر الكنوز الخطية الأولى أقصى درجات الجمال واعتمدها مرجعًا، غير أن الجانب الروحاني يبقى حاضرًا لكل من اختار السير في هذا المجال فلم يكن التصوف يومًا بمنأى عن فن الخط، فنضج الفنان وتربيته الروحية تساهم بشكل لافت في تهذيب العملية الإبداعية والارتقاء بما يقدمه من فن حد الخلود بل الفناء.

 

_______________________________

*نقلًا عن موقع ” ن بوست”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى