فلسفة وميتافيزيقا

الميتافيزيقا بوصفها ما وراء الطبيعية: الدلالة والمعنى

الميتافيزيقا بوصفها ما وراء الطبيعية: الدلالة والمعنى*

                                                                                          سفيان بقاش

 

 

مقدمة:

الشائع في الأوساط العامة أن الميتافيزيقا شيء مفارق للواقع، بعيد عن الإنسان، بل وإن هناك من يجعل من الميتافيزيقا مرادفة لللاواقعي، والخرافي، أو ما لا معنى له، فاتجهت تلك الأحكام بما فيها بعض الأحكام التي تنتمي إلى بعض الاتجاهات الفلسفية، مثل مدرسة الوضعية المنطقية إلى تصنيفها على أنها أشباه قضايا، أو قضايا فارغة المعنى، وبما أن الميتافيزيقا أشد التصاقا بالدراسات الفلسفية، فإن تلك الاتهامات المجحفة قد طالت الفلسفة في حد ذاتها، وهذا ما جعل من التفكير الفلسفي يدخل نطاقا خطيرا من التصورات السلبية التي جعلتها كفرا وزندقة، أو ضربا من اللغط والهرطقات التي غرضها الكلام من أجل الكلام، وعليه فإنه يتحتم علينا أن نتوجه إلى ضرورة تحديد أعمق لمفهوم الميتافيزيقا وعلاقتها بغيرها من الدراسات، وذلك قصد الكشف عن الوجه الإيجابي اللصيق بالإنسان في حد ذاته، واللصيق أيضا بجميع العلوم وأنماط التفكير التي تجعل منه همها الأول والأخير، وبما أن الجميع يتفق على أن الميتافيزيقا هي ما بعد أو ما وراء الطبيعة، فإنه الأجدر علينا أن نغوص في هذا المعنى، للكشف عن المعنى الأصيل والبنّاء الذي يحمله هذا التعريف البسيط، فبأي وجه يمكن أن تستثمر الميتافيزيقا في خدمة العلم والفلسفة والإنسان بمجال الدراسات الرصينة القائمة على هذه الاهتمامات بشكل علمي، رغم كون نطاق الميتافيزيقا تتموقع دائرته في ما وراء الطبيعة، ورغم وجود وتنوع أنماط العلم الطبيعي، لا سيما المعاصر منه، مدعيا أنه كفيل بحل مشكلات الإنسان دون الحاجة إلى دراسات ميتافيزيقية، ما جدوى الميتافيزيقا حيال ذلك؟

1- دلالة المفهوم ومشكلته:

من الصعب تعريف الميتافيزيقا وسبب هذه المشكلة في الفلسفة يعود إلى عاملين رئيسين؛ أولهما: أن الفيلسوف نفسه بصدد ذلك تجتمع لديه جملة من العواطف التي تتأرجح بين المدح تارة والهجاء تارة أخرى، والتي تؤدي في النهاية إلى حصول تضارب بعض التعريفات حولها، فنجد على سبيل المثال أن أحد فلاسفة البراغماتية الأمريكية وليام جيمس يهجو الميتافيزيقا بتشبيه عملها بالأعمى الذي يبحث وسط الظلام عن قطة سوداء وتلك القطة لا وجود لها، في حين نجد فيلسوفا آخر مثل كانط يصف الميتافيزيقا بكونها الأساس الأصيل للوجود الحق والدائم للجنس البشري، ولعلنا نلاحظ هنا الفرق جيدا وبوضوح؛ فالأول ينعتها بأنها تعنى بما لا وجود له وبأشياء مفارقة لا يمكن أن تتصل بحياة الإنسان، وبالتالي لا تحمل له نفعا، بل ترمي بالإنسان في دوامة عمل مضنٍ لا يسمن ولا يغني من جوع، فهي ذلك الشيء الزائف الذي لا فائدة منه؛ أما الثاني فينعتها بأنها أساس الوجود الحقيقي والباحث فيها باحث عن الحقيقة الأصيلة، وإذا ما تطرقنا إلى العامل الثاني المؤدي بدوره أيضا إلى تفاقم مشكلة تعريف الميتافيزيقا، فإنه يتمثل في المشكلة الميتافيزيقية بحد ذاتها، لأنها تهتم بأمور قد تبدو بسيطة وعامة، مثل، من أنا؟ ما هو مستقبلي؟ إلا أن هذه البساطة هي سر صعوبة تعريفنا لها، فهي تساؤل لا يتوقف فكلما أجبت عن سؤال ظهر سؤال جديد بموضوع جديد.

إذن فعلى هذا النحو، فإن كلامنا لا يخلو من الإشارات والمعاني الميتافيزيقية، التي تبدو متداولة كألفاظ في حياتنا العامة، لكن جوهر تلك الدلالات في حقيقة أمره يحمل كينونة ميتافيزيقية تدل على البعد الميتافيزيقي المتصل بالإنسان، بعيدا عمّا يمكن أن يتصوره البعض من الناس في كونها، علاقة بين الإنسان وأشياء مفارقة للعالم الطبيعي المألوف.

إن الميتافيزيقا في معناها اللغوي كلمة يونانية تنقسم إلى كلمتين: ميتا بمعنى “بعد” وفيزيقا بمعنى “الطبيعة”، ومن هذا المنطلق، فإنها تشير في نهاية الأمر إلى ما شاعت به مرادفتها؛ أي باصطلاح “ما بعد الطبيعة”.

تسمية الميتافيزيقا لا تعود إلى أرسطو، بل هي تسمية أطلقت على أحد كتبه، وذلك استنادا إلى الوظيفة التي منحها أرسطو لهذا العلم، والتي تتلخص في البحث عن الوجود من حيث هو موجود؛ فالميتافيزيقا تهتم بالبحث عن إجابات لما عجز العلم الطبيعي عنه، وكذلك شتى العلوم الجزئية؛ فالقضايا الميتافيزيقية قضايا تتجاوز قدراتها وتفوق حدود طاقات العلم الطبيعي، فهي تخترق مجال الطبيعة إلى ما بعدها، أي إلى مالم تستطع الطبيعة الإحاطة به في علومها المعبرة عنها، وبما أن الميتافيزيقا تهتم بالوجود من حيث هو موجود، فهذا يعني أن الميتافيزيقي يوجه جهده للبحث عن نظرية عامة للعالم الطبيعي، إذن فشأن الميتافيزيقا هنا مع العلم الطبيعي هو ذات شأن الفلسفة مع هذه الأخيرة، ذلك أن الفلسفة هي الأخرى تهتم بما هو عام وما هو كلي، عكس العلم الطبيعي الذي يهتم بالجزئي في دقائقه وتفاصيله.

لعل هذا يعطي للميتافيزيقا كل المشروعية، حتى تتخذ من ميدان الدراسة الفلسفية الموطن الأساسي لتترعرع فيه، ومن ثمة حظيت بالاهتمام من طرف الفلاسفة، خاصة وأنها تتشابه مع خصائص الفكر الفلسفي، وهذا ما يجعلنا أيضا في المقابل أمام سؤالين رئيسين: هل ما هو فلسفي ميتافيزيقي؟ وهل ما هو ميتافيزيقي فلسفي؟ إذن فمسألة توضيح مدلول معنى “ما وراء الطبيعة” يقتضي ضرورة التمييز بين الفلسفة والميتافيزيقا، وكذا تأسيس الحدود بين المفهومين إن اقتضى الأمر ذلك، بموجب أن الفلسفة في نهاية الأمر ترتكز على ضرورة تحديد المصطلحات على حد تعبير هنري بوانكاريه.

قد يتبادر لبعض الأذهان أن الميتافيزيقا هي الأسطورة، مبررين ذلك أن كلا منهما يتحدث عن أشياء سامية وغير عادية تخالف الواقع، لكن “الأسطورة ليست بنية ميتافيزيقية”، الميتافيزيقا هي دراسة طبيعية لعالم ما بعد الطبيعة؛ أي للعالم الخفي وراء العالم الظاهر، والذي قد يكون حاضرا ضمن هذا الأخير، وهنا نتعرف على وظيفة أخرى للميتافيزيقا في محاولتها للربط بين عالمين كبيرين؛ هما العالم الطبيعي المحسوس والعالم الذي تعجز عنه الحواس والمتواجد حولنا؛ أي الربط بين الإنسان وما هو غائب عن وجوده، ويود الإنسان في المقابل أن يكون حاضرا مع البعد الغائب عن إطاره الأنطولوجي المعلوم بالنسبة إليه، والذي يشكل جزءا من حقيقة أنطولوجية كبرى تمثل حقيقة وجودية ترتبط بالعالم الأول، بينما الأسطورة فهي تعبر عن الخيال، واللاواقعية والخرافة التي تمتزج بشيء من الواقع. أما الميتافيزيقا، فهي بحث عن الحقيقة الغائبة والواقعية التي تختبئ في عالم لا تظهره الطبيعة الحسية.

إذن فتعالي الميتافيزيقا عن رصيد الحواس يجعل منها في قفص الاتهام، الذي يحيلها إلى نفي العلاقة بينها وبين المعرفة الإنسانية، وخاصة العلمية التجريبية على وجه الخصوص، كون القضايا الميتافيزيقية تنزع إلى التجريد بعيدا عن الملابسات الحسية، حتى على مستوى المفاهيم، فظهرت اتجاهات فلسفية تنادي برفض الميتافيزيقا وتدميرها، والدعوة إلى تطهير الفلسفة منها وإخراجها من كل عمليات التفلسف، رغم أن العلوم والفلسفات العلمية التي تتخذ من التجربة كمعيار لها تعتمد على الكثير من المفاهيم الميتافيزيقية، مثل مفهوم: الزمان، المكان، ……إلخ.

إذن فالميتافيزيقا هي ليست تجاوزا للواقع وليست ابتعادا عنه، بل هي التعمق في ذلك الظاهر والكشف عما يخفيه من حقائق وراء ظاهر حسي مقنَّع، من شأنه أن يخدعنا، حقائق ترتقي بالمعرفة من إطارها الحسي إلى إطار أرقى وأعظم هو الإطار الخالص والمجرد، والهدف في نهاية المطاف فلسفي وعلمي في آن معا هو بلوغ اليقين الذي لن يكن يوما من نصيبها، فما حظ كل المساعي التي تسلك سياقاتها سوى الظفر بمقاربات تبرهن على نفسها مستدلة بحجج، لتكتسب طابعا من المعقولية، حتى يمكن الاعتماد عليها كفرضيات أو كمبادئ لإتمام صرح الفكر الإنساني الذي لا ينتهي.

2- الإنسان والهم الميتافيزيقي:

تشير الميتافيزيقا كما تقدم سابقا، في ترجمتها الحرفية عن اليونانية إلى “ما بعد الطبيعة”، ومنذ زمن أفلاطون حتى عصر ديكارت، بل وحتى القرن العشرين، يمكن القول إن الموضوع الأساسي للميتافيزيقا هو الوجود وطبيعة الله ووجوده وبتطور العلوم، لاسيما الرياضية والطبيعية بدأت الميتافيزيقا بطرح تساؤل جديد حول إمكانية وجود عوالم أخرى.

ونحن الآن في زمن التطور التكنولوجي والعلمي عموما، الميتافيزيقا ليست غائبة كما يتصورها البعض ولم تتلاش، رغم سلسلة الهجمات العنيفة التي لاتزال الكثير من الفلسفات تشنها عليها، بل إن مجال بحثها قد اتسع وكذلك مباحثها اتسعت، فبعد أن كانت أسئلتها أنطولوجية تتعلق بالوجود فقط، فهي بعد ظهور الإبستيمولوجيا قد ارتبطت بها واتخذتها مبحثا من مباحثها، ومثال ذلك أن الأسئلة التي طرحها الفلاسفة حول مصادر المعرفة وإمكانيتها والتساؤل عما إن كانت هناك حواس أخرى غير التي يمتلكها الإنسان هي أسئلة إبستيمولوجية ذات أساس ميتافيزيقي، ومن المؤكد أن سبب تطور الميتافيزيقا راجع إلى مدى تطور الوعي البشري، وعلى العموم، فإن الميتافيزيقا ظلت طوال تاريخها تهتم بمواضيع ظلت ثابتة معها إلى حد الساعة مثل: الوجود الإلهي كما تقدم سلفا، وجود العدم، الزمان، المكان، المادة، السببية، الجوهر…………إلخ.

نستنتج من خلال هذا الكلام، أن تطور العلم لم يكن سببا لتخلي الناس عن التفسيرات الميتافيزيقية، بل لم يؤد التطور العلمي والإبستيمولجي إلى تلاشيها، بل على العكس من ذلك، لقد اتسع مجال الاشتغال الميتافيزيقي وتوسعت جغرافية الميتافيزيقا في ساحة الفكر الفلسفي خاصة.

وعلى العموم، فقد حاول “محمد توفيق الضوى” في كتابه “دراسات في الميتافيزيقا” أن يحصر لنا مواضيع الميتافيزيقا الثابتة في مجموعة من الأسئلة وهي: “ما هو الوجود الحقيقي المقابل للظاهر؟ ما المقصود بقولنا حقيقي؟ هل هناك وحدة تربط كافة الموجودات؟ هل الجوهر هو العنصر المشترك بين جميع الموجودات؟ وإن كان كذلك فما طبيعته وما هي تطبيقاته؟ هل ترد الموجودات إلى أصل واحد أم أصول كثيرة؟ ما طبيعة الألوهية وعلاقة الموجود بها؟ هل هناك اتحاد بين الذهن والبدن؟ وهل هناك تأثير متبادل بينهما؟ ما طبيعة الزمان وما طبيعة المكان؟ كيف نعرف؟ هل تتم المعرفة عن طريق الأفكار العامة أو الأفكار الجزئية؟”.

وعلى هذا الأساس، فالميتافيزيقا تهتم بـقضايا الأنطولوجيا، والإبستيمولوجيا، الميثولوجيا، الكوسمولوجيا، إضافة إلى ذلك فالملاحظ أيضا أن لها مقولات ترتبط بحياتنا بشدة، ونستعملها حتى في معاملاتنا اليومية مثل: الزمان، المكان، الله، …إلخ فهل يعني هذا يا ترى أن الميتافيزيقا تتواجد بقوة في حياتنا اليومية البسيطة بعيدا عن المجالات المعرفية وحقول الدراسة الأكاديمية والجامعية؟ إن هذا التساؤل الأخير يدفعنا إلى الحديث عن الميتافيزيقا في حياتنا اليومية.

3- هل الميتافيزيقا جزء من حياتنا اليومية؟

هذا السؤال هو سؤال حول إمكانية تغلغل الفكر الميتافيزيقي لدى أوساط العامة أو بقائه حكرا فقط على الفيلسوف المحترف الذي يعيش بميتافيزيقاه، بعيدا عن غيره من الناس، ويعتقد “إدوارد تايلر” أن المشكلات الميتافيزيقية تظهر في حال ما ظهر التناقض في ذهن الإنسان، وذلك اعتمادا على خبراته اليومية، فإذا ما أخبرته خبراته تلك بوقوعه في التناقض بدأ الإنسان ذهنيا بالبحث عمّا هو حقيقي وراء ما يبدو أنه حقيقي في الظاهر، جراء ذلك الشعور.

وهذا الحكم بالتناقض كما هو ملاحظ، يدفع إلى الغوص أكثر في الواقع بدل النفور منه بحثا عن الحقيقة الخفية نتيجة للاستفزاز العقلي الذي تعرض نشاط الإنسان في التفكير، لقد كانت الميتافيزيقا تعبيرا عن حاجة ألح عليها العقل البشري من المنظور الكانطي، وكان النقد الذي تمت ممارسته على المعرفة الظاهرة بوابة للدخول في عالم الميتافيزيقا، فالنقد وظيفته فحص ما يبدو على أنه حقيقة ظاهرة بمحاولة الكشف عما وراءها وكذلك تفعل الميتافيزيقا، وهنا تكون للميتافيزيقا وظيفة نقدية تسلط على الواقع لمسح الغبار عنه واستجلاء الحقيقة الكامنة فيه، وهو ما يفعله العقل، وهو ما أطلق عليه كانط بالميتافيزيقا العقلية التي لا تريد إشباع ما يدور داخل الذهن من استفزازات عقلية بالأوهام، بل بالنقد الهادف إلى تحصيل الحقيقة المقاربة للكمال، وما دام العقل خاصية إنسانية وظيفتها النقد وأن هذه الوظيفة يمكن أن تأخذ بعدا ميتافيزيقيا، فإن الميتافيزيقا كتفكير هي نشاط عقلي، وهذا يعني أنها مرتبطة بالإنسان بشدة ومادام الإنسان ينقد فهو يمارس نشاطا ميتافيزيقيا هدفه نقد الحقيقة للحصول على حقيقة أكثر سطوعا ونورا.

وجدير بالتذكير ها هنا أن ديكارت أيضا، كان قد وجه هو الآخر نقده لكل شيء لدرجة الشك في كل شيء حتى في مبادئ العلوم والأحكام القبلية التي كانت بديهيات يقينية، والدليل على ذلك قول ديكارت: “في البداية أخذت بالأسباب التي جعلتني أشك في كل الأشياء الأساسية على الأقل في ما تحصلنا عنه من أساسيات في العلوم ….قبل استعمال الشك لا بد من إخفاء الأحكام القبلية”، هذا ما قاده في ما بعد إلى اكتشاف قواعد الطريقة التي شيَّدت أهم كتبه على الإطلاق “مقال في المنهج”، وغرضه في ذلك كان تصحيح التفكير وبناء قواعد متينة لقيادة العقل؛ فمن الملاحظ إذن أن ديكارت قد استعمل الميتافيزيقا في كل ذلك، وأنها كانت مفتاحه الذي فتح به فلسفة الحداثة برمتها التي وصفت بأن أباها هو ديكارت.

لقد أخذت هموم ديكارت أبعادا ميتافيزيقية حينما أعلن شكه، وحتى في صيرورته إلى غاية وضع أسس منهجه في قيادة العقل بخطواته، الأمر لا يتعلق فقط بطبيعة الكينونات والكائنات الميتافيزيقية فحسب، بل في العالم الميتافيزيقي ككل، بوصف أن عالم الميتافيزيقا يتجاوز العالم الطبيعي في كماله، ولذلك فكل تفكير بشكل بديهي سينهل من ذلك العالم الذي يخفي الحقائق الكامنة والكاملة.

الميتافيزيقا ليست بعيدة عن الإنسان، بل هي شديدة الإحاطة به، وهو شديد الغرق فيها، لأن الميتافيزيقا تُعنى في الأساس بالبحث عن أصل الإنسان وحقيقة وجوده والجانب الخفي منه كمسألة الروح مثلا.

والسؤال الميتافيزيقي سؤال لا يغيب فيه تسليط على واقع الإنسان؛ لأن الدراسة الميتافيزيقية تتساءل بل وتصر على البحث في جوهر الواقع وحقيقته إضافة إلى كونها تتعامل مع مختلف الجوانب من الخبرة الإنسانية كما فعل كانط في مجال الأخلاق، والغرض كما أسلفنا القول هو الوصول إلى جواهرها، ولهذا تتخذ الميتافيزيقا من مسألة الجوهر إشكالية ومحورا أساسيا فيها، لا بد من معالجته ليكون مفتاحها للكشف عن الحقيقة التي تختفي وراء ما نعتقد أنه حقيقة.

الغيب الإبستيمولوجي أو الفلسفي أو المعرفي، غيب ميتافيزيقي، هو موطن الحقائق المتحجبة، والسطو على تلك الحقائق يحتم علينا أن نسطو على الميتافيزيقا وهذا الأمر ينفي الادعاء القائل بضرورة بتر الميتافيزيقا عن الفلسفة وعن اهتمام الإنسان بشكل عام.

4- درس من خلال مباحث الميتافيزيقا

إن الميتافيزيقا مع تقدم العلم لم تتراجع، بل إن مباحثها قد اتسعت، لاسيما بظهور مباحث فلسفية جديدة مع العصر الحديث والمعاصر، مثل الإبستيمولوجيا، لكن تقسيم الميتافيزيقا إلى مباحث لم يكن إلا في فترة متقدمة، ومن بين التقسيمات التي وضعت للميتافيزيقا هو التقسيم الذي قدمه فيلسوف التنوير الألماني كريستيان فولف، والذي كان من بين المهتمين بها، وتقسيمه هو ما سنعتمده ها هنا نظرا لكونه من أكثر الفلاسفة اهتماما بتقديم تقسيم لمباحث الميتافيزيقا حسب إقرار الدكتور “إمام عبد الفتاح إمام” وهذه المباحث هي: الأنطولوجيا، الكوسمولوجيا، الثيولوجيا الطبيعية، السيكولوجيا العقلية.

إن الأنطولوجيا حسب تعريف جميل صليبا هي: “علم يبحث في الموجود في ذاته مستقلا عن أحواله وظواهره، أو علم الموجود من حيث هو موجود” والغرض من ذلك هو تحديد علاقة الماهية بالوجود، وبتحليلنا للتعريف الذي يقدمه جميل صليبا، فإن الأنطولوجيا تهتم بالموجودات من حيث هي جواهر مجردة من كل عرض لأن جوهر الشيء هو ما يكشف وما يعبر عن طبيعة الموجود الحقيقية وليس من خلال محمولاتها وظواهرها بالمعنى الديكارتي إن صح التعبير.

بمعنى آخر، إن الفلك الذي يسبح فيه أي دارس للميتافيزيقا، فهو لا يخلو من محاولة الإحاطة بالمواضيع الأساسية للفلسفة، ولذلك قد لا نكون ظالمين إذا أصدرنا حكما فحواه القول إن مباحث الفلسفة تمثل مباحث ميتافيزيقية.

تهتم الميتافيزيقا بالبحث في الخصائص العامة للوجود، ومع العصور الحديثة بدأ هذا المبحث يرتبط بالإبستيمولوجيا لخضوعه لدراسة نقدية لمبادئه، كما هو الشأن مع ديكارت وكانط في الشك والنقد، فضلا عن تحول المقولات الأنطولوجية إلى درجة من الدرجات الخاصة بالمعرفة.

أما ثاني هذه المباحث، فهو الكوسمولوجيا الذي يعني “علم الكون”، والذي يهتم بدراسة قوانين العالم في شكلها العام بحثا عن أصول تكوينه، فهو مبحث بالأساس يهتم بأصل العالم، وهو ما يذكرنا بمناسبة الأمر وبوضوح بالفلاسفة الطبيعيين الأوائل الذين جعلوا من هذه المسألة لب فلسفاتهم.

أما ثالث هذه المباحث، فيتمثل في السيكولوجيا أو علم النفس العقلي، الذي يهتم بدراسة طبيعة النفس البشرية في تركيبها وتفاعلاتها مع غيرها من الأنفس، وكذا الأبدان وكذا مصيرها وكيف كانت، وكيف ستكون إضافة إلى موضوع الإرادة ومشكلة الحرية.

أما المبحث الأخير، فهو مبحث اللاهوت أو الثيولوجيا التي هي حسب تعريف لالاند: “علم الله، علم صفاته وصلاته بالعالم والإنسان”، لكن العمل الميتافيزيقي يظل بالأساس عمل بشري في بحثه، إما عقليا أو تجريبيا، وبالتالي فإن الباحث الميتافيزيقي يقوم بدراسة ذلك انطلاقا مما هو متاح له في عالم الطبيعة الحسية، مثل بحثه مثلا عن أدلة وجود الله والدين الحق، وهذا ما يسمى باللاهوت الطبيعي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن اللاهوت الذي تعنى به الميتافيزيقا هو لاهوت طبيعي.

تكشف مباحث الميتافيزيقا بمضامينها إذن، أنها لا تتعارض مع اهتمامات الإنسان، بما في ذلك الاهتمامات الطبيعية؛ فالإنسان في مناقشة التصورات الميتافيزيقية وحتى أثناء عمليات التحليل وإصدار الأحكام، لا يبتعد عن التصورات التي يستعيرها في العالم الحسي شكلا أو مضمونا، كما أن المعطيات والمسلمات التي يتبناها، سواء من منطلق الخبرة العقلية او التجريبية أو إلى غير ذلك من الخبرات المتاحة أمامه، تمثل الأرضية التي يبني عليها بناءه الميتافيزيقي الذي بسبب علوه وارتفاعه عن الأرضية الحسية يبدو مفارقا لمعطيات العالم الطبيعي ومخالفا للاهتمامات التي يفرضها علينا، ومخالفا لاهتمامات الإنسان، وهذا يمثل أحد أهم الأسباب الداعية إلى رمي الميتافيزيقا وكل فلسفة داعية إليها في النار، والحكم على مشتغليها أنهم أناس يمارسون عبثا وترفا فكريا.

5- الميتافيزيقا والفلسفة

رغم أنه لا يوجد للفلسفة تعريف محدد، إلا أنه يمكن تعريف الفلسفة على أنها “التفكير في كل شيء على أساس مبادئ العقل، (…) فتؤدي حتما إلى مواقف بالإيجاب والسلب” وهذا يعني أنه إذا كانت الميتافيزيقا هي الأخرى عمل يقوم به إنسان عاقل باحث عن الحقيقة وراء الظاهر الذي يخفي الحقيقة، أو يدعي أنه يمتلك الحقيقة التي يتم تحصيلها بالتأمل والتفكير، فإن الفلسفة هي الأخرى تفكير وهدفها بلوغ الحقائق العامة، ومادامت الفلسفة تفكيرا في كل شيء تفكيرا واعيا، فإن الميتافيزيقا ومواضيعها هي مواضيع للتفكير الفلسفي أيضا.

إذن لا يمكن فصل الميتافيزيقا عن الفلسفة، فالفلسفة تستند بقوة على الميتافيزيقا، ذلك أن هذه الأخيرة تمثل دعامة أساسية من دعائم الفلسفة، التي لا تقوم إلا بها، وهو ما يوضحه لنا الدكتور محمد توفيق الضوى في كتابه “دراسات في الميتافيزيقا” بقوله: “للفلسفة دعائم أربع هي المنطق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة والقيم”.

يكرس القول السابق للدكتور محمد توفيق الضوى لوثاقة العلاقة بين الفلسفة والميتافيزيقا، رغم أن الفلسفة في الكثير من أوجهها تتصف بطبيعة ميتافيزيقية، وبما أن قيمة الشيء لا تظهر للعيان إلا حين فقدانه، ففصل الميتافيزيقا عن الفلسفة في هذه الحالة شبيه بنزع الروح عن الجسد، فلا حياة لفلسفة دون ميتافيزيقا، لأنها ستكون عرجاء في جميع آلياتها بسبب بتر الدعامة الميتافيزيقية، إن لم يكن ذلك بترا للفلسفة في حد ذاتها.

تغطي الميتافيزيقا مساحات شاسعة من القضايا الفلسفية، مثل علم الجمال، الأخلاق، ……إلخ، فعلى سبيل المثال فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يؤلف كتابا عنوانه “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق”، وهو بعد دراسته للأخلاق بشكل فلسفي نقدي أراد أن يخضعها لدراسة ميتافيزيقية؛ أي للبحث عن مدى حقيقة ما توصل إليه في مرحلة أخرى للتفلسف يمكن وصفها بأنها نقد للنقد، على اعتبار أن الذات المتفلسفة عند كانط هي ذات ناقدة، وعمل الفلسفة الرئيس في كل مرحلة من مراحلها لا يجب أن يخلو من الطابع النقدي، وعلى هذا الأساس، فإنه يمكن القول بأن الميتافيزيقا عند كانط بمثابة “نقد للنقد”؛ أي نقد للمنتوج الفلسفي الذي قام على نقد منتوج فلسفي آخر. والقصد هاهنا أن الميتافيزيقا بوصفها ذات بنية فلسفية تقوم على النقد، فإنها في نفس الوقت موضوع ومنتوج فلسفي يخضع لنقد الفلسفة أيضا.

6- الميتافيزيقا والعلم

مع الفلسفات المعاصرة وفي أوج ازدهار العلم، فالميتافيزيقا لا تتراجع، بل إنها هي الأخرى تزداد تقدما ومساحاتها تتوسع باتساع العلم، لاسيما بعد المحاولات العلمية لبناء الميتافيزيقا بطرق تجريبية علمية كما هو شأن التيار الكانطي الجديد من أمثال: تيودور فشنر الذي حاول دراسة العلاقة بين الأشياء الفيزيائية والجانب السيكولوجي للنفس، معتبرا أن للنفس وجودا فيزيائيا فضلا عن حقيقتها المجردة، ليصدر حكما مفاده أن الماورائيات هي تكملة للعلوم المادية وللعلوم الأخرى عموما، هدفها تقديم صورة عامة عن الواقع في حقيقته قدر الإمكان.

لقد قام فيشنر بإصدار حكم حدد طبيعة العلاقة بين الميتافيزيقا والعلم، على اعتبار أن العلم يميل إلى رصد الظواهر الجزئية المادية، وأن الميتافيزيقا تبحث في كليات جوهرية مجردة عن المادة الحسية؛ فالجانبان بالنسبة إلى فيشنر لا توجد بينهما قطيعة حتى ولو كانت جزئية، لأن العلم ما يدعي تمام تصوره في مخياله، فهو بالنسبة إلى التفلسف بل وبين يدي العلم المعاصر خاصة بعد انهيار فكرة البديهية، صار يعد مقاربة تحتاج مقاربات أخرى لبلوغ المنتهى الذي قطعت جميع السبل المؤدية إليه.

بل إن علاقة الميتافيزيقا بالعلم هي أقدم من ذلك، حيث إنه في العالم القديم لم يكن الناس يكادون يفرقون بين العالِم والميتافيزيقي، كما هو شأن طاليس الذي كان يعد من أكبر علماء الطبيعيات في عصره، والذي طرح سؤالا حول مصدر الوجود كسؤال ميتافيزيقي، وفي نفس الوقت هو سؤال في العلم الطبيعي الذي يهدف معرفة المادة النواة للكون أو المشكلة الخاصة بالبنية الكونية والمادية للعالم، إنه سؤال: “ما أصل العالم؟” إنه سؤال في المادة وسؤال في الأنطولوجيا، سؤال في العلم وفي الميتافيزيقا معا، وهنا يتجسد تداخل كليهما معا، ومعنى هذا أن البداية الفلسفية للفكر البشري كانت وحدة تجمع العلم والميتافيزيقا معا بشكل غير منفصل وغير متمايز، يضاف إلى هذا، أن كلا من العلم والميتافيزيقا يتوخيان الغاية نفسها، وهي الوصول إلى الحقيقة، منطلقهما الآداتي في آلية العمل الفلسفي واحد وهو العقل.

خاتمة:

لا يمكن فصل الميتافيزيقا عن الدراسات الفلسفية والعلمية، إنها موطن العلل الأولى والحقائق الكامنة التي تطمح إليها جميع أنواع المعارف ومختلف أشكال التفكير الإنساني، ولذلك فإن المحاولات التي يرجى منها طرد الميتافيزيقا من ساحة التفكير الإنساني هي محاولات غير مجدية، لأن الإنسان في واقعه يحيط به جانب ميتافيزيقي، ربما هو أوسع نطاقا من الجانب الفيزيقي، ثم إن مطلب الحصول على أسمى الحقائق أكثر من كونه مطلبا فلسفيا أو علميا إنه يستحق أن يطلق عليه مطلب ميتافيزيقي نظرا للخصائص الجوهرية الميتافيزيقية التي تتمتع بها الحقيقة المطلقة، إن ما ينبغي الإشارة إليه في نهاية هذا المقال، أن التنكر للميتافيزيقا هو تنكر لجانب آخر من الإنسان وحياته بمعناها الواسع، إنه تنكر لجانب يحتل حيزا أكثر من بنيته التي لا يزال يجهل الكثير عنها إلى غاية يومنا هذا، رغم التطور الهائل على المستوى العلمي، وبعبارة أخرى، إن العلم الطبيعي عاجز على أن يمد الإنسان بكامل حقيقته خاصة أمام براديغم النسبية الذي قهر كل منتوج فكري، وعليه فمن الواجب علينا أن نبحث في ما وراء كل شيء طبيعي.

قائمة المصادر والمراجع:

قائمة المراجع:

أ- باللسان العربي

أليكسي لوسيف، فلسفة الأسطورة، ترجمة منذر بدر حلوم، دار الحوار، سورية، 2000، ط1.

إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى الميتافيزيقا، شركة نهضة مصر، مصر، 2005، ط1.

كريس هورنروإمريسويستاكوت، التفكير فلسفيا، ترجمة ليلى الطويل، الهيئة العامة السورية للكتاب، سوريا، 2011، د. ط.

محمد شطوطي، المدخل إلى الفلسفة العامة، دار طليطلة الجزائر، 2009، د. ط.

محمد توفيق الضوى، دراسات في الميتافيزيقا، دار الثقافة العلمية، مصر، د. ط، د. ت.

تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانويل كانط، ترجمة عبد الغفار مكاوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965، د. ط.

ب- باللسان الأجنبي

ReneDescartes, lesmeditationmétaphysique, MCLR, leancamvast et piere le petit, Paris.

قائمة المعاجم والموسوعات والقواميس:

أ- باللسان العربي

أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، المجلد1، منشورات عويدات، بيروت، 2001، ط1.

بيتر كونزمان وآخرون، أطلس الفلسفة، ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، لبنان، 2007، ط2.

جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، د.ط.

ب- باللسان الأجنبي

Didier Julia, Dictionnaire de la philosophie, classique abrégés, France, 2007

__________________________

*نقلًا عن موقع “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى