مدوّنات د. محمود حيدر

مـقـام الـتصـوُّف السياسي

مـقـام الـتصـوُّف السياسي:

دولة العارف الواصل فـي سيرة الأمير عبد القادر الجزائري**

 

 د.محمود حيدر

  باحث في الفلسفة والإلهيات، رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمقة  بيروت – لبنان.

 

«التصوف السياسي» أو ما نميل إلى تسميته بـ«سياسة التصوّف» هو مقترح لمفهوم وجدنا أن ننتزعه من «شائعة» معرفية مفارقة هي: اللقاء بين التصوّف والسياسة على أرض واحدة. هذه الشائعة نوجزها بالتساؤل التالي: كيف لأمر، هو من شأن الفرد، ومضنون به على غير أهله، وشديد الخصوصية والتعقيد والاحتجاب، ونادر التحول إلى إيديولوجيا، ولو تحول تحت هذا الاعتبار أو ذاك إلى ظاهرة أيديولوجية فلن يتعدى كونه طقساً يؤنس الأتباع.

ثم كيف لعالم يدور مدار الأرض والسماء، ويترجح بين الحضور والغيب، ويكتظ بالأسرار، أن يلتقي على سياق واحد مع السياسة؟

ثمة إذاً، إشكالية تفضي إليها مفارقة الجمع بين التصوف والسياسة، ومسعانا في هذا البحث استجلاء منهج يوحّد ضفتي الثنائية لتغدو عبر التجربة ضفّتي نهر واحد. ولقد وجدنا في مقاربة السيرة الشخصية للأمير العارف بالله السيد عبد القادر الحسني الجزائري منفسحاً لتناول هذه الإشكالية. فلو كان لنا أن نقترب من هذا المنفَسح لتظهير تصوفه لأقمناه في دائرة العرفان العملي. وذلك لا يشي، وإن بقليل من الظن، أن الجزائري لم ينجز معارفه النظرية في الفلسفة والإلهيات والتصوف النظري. فقد وقف على موارد التصوّف الإسلامي منذ بداياتها، وأحاط بأبرز شواهدها، من الحسن البصري إلى أبي يزيد البسطامي ومحمد بن عبد الجبار النفري إلى أبي حامد الغزالي وعبد الكريم الجيلي إلى العارف بالله الشيخ محمد الفاسي، وصولاً إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي ألمح الأمير إلى مريديته له، في أكثر من مطرح ومناسبة. لكن العرفان العملي كتجلٍّ أعلى لتجربته الدينية، سوف يدخله ضمن حيّز مخصوص ظهر فيه التصوّف السياسي عنواناً بيّناً لتلك التجربة.

أما مرجعية اللقاء بين التصوف والسياسة عند الأمير فتعود لديه إلى إنجاز أربعة أحياز معرفية: هي العلم الشرعي، والعلم البرهاني، وعلم العرفان، وعلم الحرب والجهاد. وتعود كذلك إلى فهم للدين قوامه وحدة الشريعة والطريقة والحقيقة.

والسيد الأمير، مثل سواه من العرفاء الواصلين، رأى أن ما تظهره الشريعة من أحكام هو عين حقيقتها الباطنة. وأما قصد الحكماء وأكابر الصوفية بالسياسة، إنما هو فضاء النظر الذي يكون موضوعه الدرس والتحقيق والتفكّر بالحكومة وأنواعها وظواهرها، وكذلك بنظام المؤسسات والغايات السياسية. فالسياسة بهذا المعنى الذي يصرّحون به، هي الحكمة العملية التي يطلق عليها في الفلسفة الإسلامية «تدبير المدن والعلم المدني» كما هو الحال عند الفارابي في «آراء أهل المدينة الفاضلة». أو هي كما يبيّن الفيلسوف وعالم الأصول نصير الدين الطوسي «أن الحكمة المدنية هي النظر في القوانين العامة التي تكون مقتضى المصلحة العامة، لكونها تهتم بالتعاون للوصول إلى الكمال الحقيقي».

والأصل الذي انعقد عليه إجماع العرفاء والحكماء هو أن الإنسان مدني بالطبع. أي أن طبع الإنسان يقضي برجوعه إلى أفراد نوعه لأجل رفع احتياجاته الأولية والضرورية. ولما كانت هذه الاحتياجات مرافقة للنوع، أوجبت تشكيل الاجتماعات التي تشكل أولى أهدافها رفع الاحتياجات الأولية، وبهذا يتم تأسيس اللبنة الأولى للحضارة.

والسياسة عند العرفاء من الصوفية هي عين الحكمة، وهي الغاية الفاضلة التي يفيض بها الحق تعالى على المختارين من عباده. {وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}. وفصلُ الخطاب هو جوهر الحكمة. ومن أفضاله وإحسانه تعالى على بعض خواص عبيده إعطاؤه الحكمة لهم فسُمُّوا حكماء وعلماء. أي جعل من اختصه حكيماً تحكم عليه الحكمة، ويحكم بها.

وإذا كانت السياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه -كما يقول لسان العرب- فهي بهذا التعريف عين ما قصدت إليه حقائق التصوف العملي. ولقد أوضح أبو البقاء هذا المعنى لمَّا رأى إلى السياسة على أنها استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وهي من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم. وهي من السلاطين والملوك على كل فهم في ظاهرهم لا غير. وهي كذلك من العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير. وأما السياسة الدينية فهي تدبير المعاش على العموم على سنن العدل والاستقامة.

أما الأنبياء الذين أورثوا الأولياء علوم الظاهر والباطن فقد أتموا غاياتهم بسياسة العدل والحق، في حين كان العنوان الكبير الذي اندرجت فيه حركة المرابطة والجهاد في القرآن هو «سبيل الله» {الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}.

وسنرى فيما أفصحت عنه تنظيرات التصوف العملي المكانة التي تحتلها السياسة فيها. أي بما هي فعل تدبيري يوجبه الاستخلاف الإلهي في التاريخ الإنساني. ولعل أظهر ما آلت إليه تلك التنظيرات، أن الحق الأول تعالى أوجب السياسة على الإنسان كمهمة ينبغي له أن يؤديها بالعمل والنظر في سياق تكليفه واستخلافه. وهناك من وجد أن كل مسألة لا يبنى عليها عمل، فالخوض فيها غير مستحسن، لأن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم.. فالعلم المعتبر –طبقاً لهذا الرأي- هو العلم الباعث على العمل.

بانتسابه إلى ميدان التصوّف العملي تعامل الأمير عبد القادر مع المصطلح الصوفي وفقاً لمقاصد الشريعة وحقائقها، لا كما ورد في ظاهر لفظٍ مما تقدّم من تقريراتٍ لبعض فقهاء التصوف. فالزهد عنده عيش وفهم. وهو لا يعني عدم ذات اليد، وإنما هو حال يعبّر عنه بما تقرر من الوقوف مع التعبد بالأسباب، وبالتالي من غير مراعاة للمسببات التفاتاً إليها في الأسباب.

فالزهد بهذا الاعتبار وقوف عند مقتضى التعبّد أمراً ونهياً، باعتبار الأوامر والنواهي أسباباً شرعية من دون النظر فيما يتسبّب عنها من نيل الثواب أو حصول العقاب. لذا يغدو الزهد –بهذه المثابة من العيش والفهم– عبادة الله وإخلاص الطاعة له لذاته ومع خلقه، لا رغبة في جنّته، ولا رهبة من عقابه، وحبًّا له من أجل أحقيته بالعبادة. وهذه العبادة لا تحكمها الرغبة، وهي خالية من الحظوظ الدنيوية ومخلصة للتوحيد؛ لأن المكلّف هو من لبى الأمر والنهي في السبب، من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي الخارج عن حظوظه، فالزاهد على هذا النحو قائم بحقوق ربه، واقفٌ موقف العبودية، بخلاف ما إذا التفت إلى المسبَّب وراعاه.

لنر الآن، إلى الاختبارات الروحية التي أفضت إلى ولادة التصوف السياسي عند الأمير عبد القادر..

أطوار التصوّف الأربعة في سيرة الأمير

إذا كان مؤرخو تجارب الصوفية ينصرفون في العادة إلى بحث كل تجربة روحية تبعاً للمراحل الزمنية التي تحكم السيرة الذاتية لصاحب التجربة، فلا يعني هذا بالضرورة أن تجري أحواله ومقاماته، ومحوه وثباته، مجرى الترتيبات المنهجية التي يقرّرها الباحث. فالاختبارات الذاتية التي يعيشها السالك لها منطقها الداخلي الخاص. إذ إن كل خطوة يخطوها نحو غايته تنطوي على جوهر الغاية نفسها. بل إن تلك الغاية هي التي قد تجذبه إليها وتشمله بلطفها وعنايتها وتدبيرها. ولذلك قد تتكثف مراحل سفره نحو الحق تعالى في لحظة واحدة لتختزل جميع المراحل التي على السالك أن ينجزها واحدة تلو الأخرى لكي يصل إلى مبتغاه. فلو كان السالك صادقاً فيما يسلك، ومصدّقاً لما يسلك إليه، حلّت عليه الخواطر الرحمانية فتلقاها على حسب استعداده لها بالصبر والمجاهدة والانتباه، فلا يغادره اليقين بأن ما يأتيه من رزق معنوي فهو من الحق. وأنه تعالى قد منّ به عليه لاستحقاقه له. ولما كان لسير السالك منطِقُه الخاص، المناسب لقابليته واستعداده، صحَّ أن لكل سالك طريقه الخاص إلى الحق. وللأمير عبد القادر في هذا الصدد كلام ورد في سياق تعليقه على ما جاء في كتاب «الحِكم العطائية» للمتصوف الكبير ابن عطاء الله الإسكندري قوله: «لولا ميادين النفوس ما تحقّق سير السائرين». يقول الأمير في كتاب «المواقف»: «ولا يتوهّم متوهّم أن السالك سائر إلى الله مسافة محسوسة، وأن الوصول إلى الله وصول محسوس. فإن هذا وهْمٌ باطلٌ وجهل عاطل، لأن من هو أقرب للإنسان من حبل الوريد، كيف يتوهم السير والوصول إليه؟ لا مسافة بينك وبينه تقطعها رحلتك، فلا يصح إطلاق السير إلى الله تعالى إلَّا بنوع من المجاز.

أما ما يعبر عن السير الداخلي ويظهر بين حين وحين فتقول الصوفية: إنه يتم للسالك بالخواطر.و الخواطر أربعة حسب القطب العارف الشيخ أحمد النقشبندي، أولها الرباني. وهو مصيب أبداً، وبه تكون الفراسة للمؤمن الكامل والمكاشفة عند السالك الصادق.

والخاطر الربّاني يرد على القلب بأحوال ثلاثة:

فإذا ورد بالجلال يمحق ويُفني.

وإذا ورد بالجمال يثبُت ويُبقي.

وإذا ورد بالكمال يُصلح ويَهدي.

ثم إن الوارد الرباني الذي يختص بالأولياء، ويبلغ منازل المقربين، ويُكَاشِفُ من اختصه الحق بعلوم الأولين والآخرين.

اختبارات الأمير عبد القادر كما تبين سيرته الذاتية وكتاباته في التصوف النظري، جرت مجرى الوحدة بين الشريعة والعمل، حيث تداخلت عناصر السيرة في وعاء واحد، فكان رفيقاً لكتاب الله منذ الطفولة، فحفظه في القلب حتى بلغ الفؤاد، وكان رفيقاً للجهاد حتى صار له طريقة يستعين بها لقطع الأطوار الصوفية الأربعة وصولاً إلى مرتبة الولي المؤتمن على سر الحق في الخلق.

أما الأطوار الأربعة -كما يذكرها مؤرخو سيرته- فهي على الوجه التالي:

الطور الأول: التلقّن والتعلم والمطالعة (1807 – 1830م) تمتد هذه المرحلة من ولادة الأمير في القيطنة عام 1807 م، إلى تاريخ نزول الفرنسيين أرض الجزائر عام 1830م. ويبدو أن أهم فترة زمنية في هذه المرحلة هي الفترة الممتدة بين عامي 1825 و1828م. وهي فترة الرحلة المشرقية التي سافر فيها مع والده لأداء فريضة الحج، فأتاحت له فرصة الاطلاع عن كثب على الطرق الصوفية وخصوصاً النقشبندية والقادرية.

الطور الثاني: الفتوة والمرابطة (1830 – 1848م) على ما هو مبيّن في الحكاية التاريخية، يرتبط بالصوفية ولا سيما منها المغاربية حركتان: حركة الفتوة وحركة المرابطة.

تعني الفتوة في الإسلام الصفح عن زلات الناس، والتماس المعاذير لهم، واستخدام الفتى قوته وشجاعته في نصرة الضعفاء من المظلومين والفقراء والأيتام والعاجزين، وأن يعتبر أن ليس له في الناس عدو، ولكن جهلاء وضالون؛ يجب تعليمهم وهدايتهم..

أما المرابطة، فتعني الاجتماع في الثغور للدفاع عن تخوم الدولة الإسلامية. وعلى هذا النحو جرت حروب الأمير عبد القادر ومرابطته في الثغور ضد الفرنسيين ضمن المرحلة التاريخية الثانية من مراحل حياته الصوفية.

الطور الثالث: التأمل والتفكير (1848 – 1852م) وهو الطور الذي وقع فيه أسيراً في أمبواز، ودخل في خلوة أتاحت له –لأول مرة في حياته– التأمل والتفكير الروحاني العميق. فكان يقضي أوقاته منشغلاً بالذكر والدعاء، «وكانت ترِدُ عليه الواردات في الوقائع، مشيرة وآمرة بالصبر. لذا اشتغل في أثناء خلوته هذه بالدعاء والتضرّع وكشف الرأس».

الطور الرابع: النضج والتعبير ومقام الولاية (1853 – 1883) بدأ الأمير عبد القادر حياته بالجهاد، وختمَها في هذه المرحلة الصوفية الرابعة والأخيرة بالجهاد الأعظم.

تُعتبَر هذه المرحلة أغنى مراحل تصوفه من ناحية النتاج الأدبي والفكري، ففي هذه المرحلة تم له الفتح العظيم، وكان ذلك في خلوته الصوفية الشهيرة، إذ أقام في مكة والمدينة سنة ونصفاً (1863 – 1864م) مقبلاً على العبادة والخلوة، والتقى فيها بالشيخ العارف بالله محمد الفاسي رئيس الطريقة الشاذلية. فتتلمذ عليه، وأخذ عنه الطريقة، ولازم الرياضة والاجتهاد، وعكَفَ على الأذكار، والأوراد، إلى أن ارتقى في معارج الأسرار الإلهية. «وما تم له الارتقاء إلَّا في غار حراء. حيث انقطع فيه أياماً عديدة، إلى أن جاءته البشرى ووقَعَ له الفتح النوراني، وانفتحَ له باب الواردات. واستظهر من القرآن العظيم آيات، ومن الحديث النبوي، أحاديث صحيحة».

وقد أشار الأمير إلى هذا الفتح الرباني في الموقف الأول من كتاب «المواقف» حين قال: «إن الله تعالى قد عودني، أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني أو يبشرني أو يحذرني أو يعلمني علماً أو يفتيَني في أمر استفتيته فيه إلَّا ويأخذني مني مع بقاء الرسم، ثم يلقي إليَّ ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن، ثم يردني إليَّ، فأرجع بالآية قرير العين (…) وقد تلقيت والمنة لله تعالى، نحو النصف من القرآن بهذه الطريق».

الحادث الصوفي وسر الصعود

الانعطافة الكبرى في سيرة الأمير عبد القادر تمثلت في تعرضه لاختبار روحي عميق في أثناء حجّه إلى بيت الله الحرام عام 1825م. هذه الانعطافة المعنوية نميل إلى الاصطلاح على تسميتها بـ«الحادث الصوفي»، أو ما يسميه العرفاء بـ«الوارد الإلهي» الذي هو قوة شوق أو اشتياق أو محبة يخلقها الله في قلب العبد، وقد تنشأ من قوة أو ضعف أو هيبة أو جلال، فتدفعه تلك القوة إلى النهوض نحو مولاه، فيخرج من عوائده وشهواته وهواه ويرحل إلى معرفة ربه ورضاه. ويسمى الوارد، أو الحادث الصوفي، بالنفحة كما في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن لله في أيامكم نفحات ألا فتعرضوا لنفحاته».

والمتنبّهون من السالكين يدركون من فورهم أن ما تعرضوا له من الحادث، إنما هو عطاء إلهي ينبغي حفظه والثبات عليه وجعله نقطة ولادة جديدة في حياتهم. ومتى وردت النفحات الإلهية على السالك وتلقّاها على حسن الاستقبال، فإنها تهدم ما كان فيه من شوائب وأدران ومعاصي، وتكون النتيجة أن تردّ عزّه ذلًّا، وغناه فقراً، وجاهه خمولاً، ورئاسته تواضعاً وحنوًّا، وكلامه صمتاً، ولذيذ طعامه خشِناً، وشبعه جوعاً، وقراره في وطنه سياحة وسفراً. هكذا شأن الوارد الإلهي كما يصفه المحققون –فهو يخرّب العوائد ويهدمها. وهو كملكٍ جبار ذي جيش طغاة كلما دخل قرية أو مدينة أفسد بناءها وغيّر عوائدها، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}.

«الحادث الصوفي» أمر لا مناص منه لكل مسافر إلى الحق، فمن لم يسعفه حظ ذلك الحادث لن يقوى على السفر، ولن يفلح بالوصول إلى غايته القصوى. ولو ظن أنه بلغ ما بلغه الواصلون فلا يتعدى ما وصل إليه حدود الظن. فإنما الحادث الصوفي هو إشارة إلهية بالسفر في معارج الحقيقة. ولأن لكلٍّ سفره الخاص فإن الاستعدادات المعنوية تختلف بين مسافر وآخر، وسلوك كل سالكٍ في مدراج الترقي أمر يتناسب تناسباً طرديًّا مع ذاته هو. إذ لا يرقى عارف بسلّم غيره، من دون أن يعني ذلك إفادة هذا العارف أو ذاك ممن منَّ الله به عليهم من علوم الحكمة والمعارف الكشفية.بعبارة أخرى، كل إنسان هو في ذاته طريق إلى الله تعالى. من هنا قيل: «إن الوصول إلى الخالق هو بعدد أنفاس الخلائق. ذلك أن الطرق إليه تعالى إنما هي كمثل السالكين إليه، تتعدد وتختلف.. وهذا هو السبب في تعدد التجليات الإلهية وتنوّعها، ولكن رغم تعدد السبل واختلافها تبقى الحقيقة واحدة فريدة. ومع أن طريق الحق واحد –كما يقول ابن عربي- فإن وجوهه تختلف باختلاف أحوال سالكيه من اعتدال المزاج والخرافة.. فقد يكون مطلب الروحانية شريفاً ولا يساعده المزاج».

ليس علينا أن نطلب البرهان من الأمير على ما أوتي من القرآن، بل سيكون لنا أن نمضي معه كما يريد هو أن يفصح عما بلغه من حقائق الكلام الإلهي. فلا برهان على الكشف خارج نفس المكشوف له. فإنما هو لمح داخلي يحل في الصدر يتلقاه السالك ويطمئن إليه. ثم إذا وُفّق بحفظه وصدقه ابتنى عليه هجرته إلى المصدر الأول. ولهذا مراحل وأطوار وأسفار وشرائط شتى. والأمير في إعرابه عن الفتح الربّاني الذي جاءه في غار حراء، يساوق مدعى الشيخ الأكبر ابن عربي لمَّا صرح في مستهل كتابه المرجعي «فصوص الحكم» بأن تأليفه للكتاب تمّ في ليلة من ليالي دمشق حين رأى النبي في الرؤيا وسلّمه كتاباً وقال له: «هذا كتاب «فصوص الحكم» خذه واخرج إلى الناس ينتفعون به».

الأمر نفسه نجده فيما ورد عن عظماء الصوفية من العرفاء الواصلين حين أرادوا تظهير اختباراتهم الروحية. فالإنسان الكامل الذي شهد الحقائق القرآنية بفضل ما أنجزه من أسفار في تدبّر الوحي، تتّسع لديه قابلية التلقي وتصفو نفسه إلى الحد الذي يُفاض عليها بمقدار سعيها وسِعَتها. ذاك أن السالك في سيره التكاملي يبلغ مبلغاً تنزل فيه على قلبه حقيقة القرآن كنزولها على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع تمييز ضروري من ابن عربي يتصل اتصالاً دقيقاً بما بين الشريعة والحقيقة من فارق دقيق ولطيف. وهو تمييز تعكسه جدلية وصل وفصل بين مقام النبي ومقام الولي، حين يرى أن فهم السامع للوحي من النبي هو أدنى منزلة من فهم النبي نفسه له.

يقول الشيخ الأكبر في «الفتوحات»: «انظر في القرآن بما نزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تنظر فيه بما أنزل على العرب، فتخيب عن إدراك معانيه.. فإذا تكلمت في القرآن بما هو به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) متكلّم، نزلت عن ذلك الفهم إلى فهم السامع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الخطاب على قدر السامع لا على قدر المتكلّم، وليس سمع النبي وفهمه فيه فهم السامع من أمته فيه إذا تلاه عليه… وهذه نكتة ما سمعتُها قبل هذا من أحد قبلي».

والسفر المعني به في بحثنا، هو الهجرة الروحية للسالك حيث يفارق ما كان عليه من أحوال صعوداً إلى أحوال ومقامات جديدة. يجري الأمر على صورة الدفع المتواتر، حالاً إثر حال، ومقاماً إثر مقام.. وثم إنه يمضي في مراتب المعنى، مسدّداً بأحكام الوحي، مؤيداً بحقائقه الظاهرة والباطنة، قاطعاً أحقاب النفس بالتزكية عبر ترك المعاصي، وبالتحلية عبر السعي إلى تحصيل مكارم الأخلاق، وبالتجلية من خلال المجاهدة بالعلم والمعرفة والحكمة حتى يستجيب إلى نداء الحق تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.

وعلى بيان العرفاء فإن السفر هو الحركة عن الموطن والتوجّه إلى المقصد بطيِّ المراحل وقطع المنازل، وهو صوري مستغنٍ عن البيان، ومعنوي وهو على ما اعتبره أهل الشهود أربعة وهي:

أولها: السفر من الخلق إلى الحق.

ثانيها: السفر بالحق في الحق.

ثالثها: يقابل الأول لأنه من الحق إلى الخلق بالحق.

رابعها: ويقابل الثاني من وجه لأنه بالحق في الخلق.

وتوضيح ذلك، أن أسفار الإنسان سعياً لبلوغ مراده الأقصى من الكمال، هي أربعة أيضاً على قاعدة السير والسلوك العقلي والقلبي:

أولاً: سفر الإنسان من النفس إلى الله، وهو مبتدأ السالك في تحريك نفسه باتّجاه حقيقتها المقدسة، وهذا السفر ممتلئ بالقلق والتردد والصعود والهبوط، ومكابدته تحتاج إلى جهد مخصوص. فهو كما يقول الأمير عبد القادر: كناية عن تبديل «النفس» صفاتها البهيمية بالصفات الإلهية.

ثانياً: سفر الإنسان مع الله، في الله، وهو يعني معرفة الله.

ثالثاً: سفر الإنسان مع الله، من الله، إلى الخلق. وهو الكمال الذاتي للعارف الذي يتهيَّأ ليبدأ مهمته في عالم الناس.

رابعاً: سفر الإنسان مع الله، من الخلق، إلى الخلق، لنجاة الخلق. وهو السفر الأخير الذي يتولَّاه الأنبياء والرسل والأولياء لإيصال الأمم إلى المدن الفاضلة. وتطبيقاً لهذه الأسفار كما تقررها القوانين الإلهية.

في القرآن الكريم أربعة أركان للسعادة البشرية كما يتبيّن في سورة العصر. وهي الأركان التي تصبح سارية في الزمن بشرط تحقّقها في الإنسان الكامل. فإذا لم يمتلك الإنسان هذه الخصال الأربع فهو من الخاسرين؛ فالقسم الإلهي بالعصر، وهو الزمن المخلوق لأجل الخلق، إنما يراد منه التأكيد على قضاء الله وقدره بحتمية الخسران في الزمان الدنيوي، والتأكيد في مقابل ذلك على حتمية الفلاح والنماء فيما لو أخذ الإنسان بتلك الأركان الهادية إلى الخلاص والحياة الباقية. وهكذا سنرى كيف يأتي التنبيه الإلهي ليشير إلى الاستثناء بـ«إلَّا». وهم أولئك الذين التزموا صراط الأسفار الأربعة فتحرّروا من سجن الزمن الطبيعي «الدنيوي» ليدخلوا رحاب السعادة الأبدية. يقول تعالى في السورة المشار إليها: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. وترتيبها وفق الأطوار الأربعة لسلوك السالكين على الوجه التالي:

أ – الإيمان؛{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا}. وهو إيمان أهل النهاية و«الجهاد الأعظم».

ب- العمل الصالح؛{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. التقوى وسائر منازل السير والسلوك.

ج- التواصي بالحق؛ {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}، أي الذين التزموا الصراط المستقيم.

د – التواصي بالصبر؛ {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وهم الذين هاجروا إلى الحق، وجاهدوا فيه فأدخلهم الحق في الخلود والبقاء الأبدي.

أما الأطوار التطبيقية لهذه الأسفار فهي تجري، مجرى السير والسلوك المؤيد بالآيات «فلا إفراط ولا تفريط بل أمرٌ بين أمرين». وذلك يتطلب من السالك إلى الحق إنجاز أربع مراتب سلوكية:

– التخلية: بترك مذمومات الأفعال.

– التجلية: بالتزام الاعتقادات (أركان الدين).

– التحلية: باتِّباع الصفات المحمودة (الأخلاق).

– الفناء في الله (العرفان والاتِّصاف بصفات الله) وهي السفر الأخير في زمن الخلق من أجل قيادتهم.

ولقد ذهب العرفاء الكبار والحكماء الإلهيون إلى توصيف المراحل التي يعبرها الأولياء في أسفارهم فوجدوا أن مقتضى السفر الأول الذي يبتدئه السالكون من الخلق إلى الحق هو النظر في الآفاق والأنفس. وفيها يرون إلى آياته تعالى ظاهرة فيستدلون بآثار قدرته على وجوب وجوده وذاته، ويستشهدون بأنوار حكمته على تقدّس أسمائه وصفاته.

ثمّ ينظرون إلى الوجود ويتأملون في حقيقته نفسها فيتبيّن لهم أنه الواجب بذاته ولذاته، ويستدلون بوجوبه الذاتي على بساطته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحياته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه وسائر أوصاف كماله ونعوت جماله وجلاله، وعلى أن كلها عين ذاته، فيُظهر أحديتَه، وبأحديته صمديته، وبصمديته كل الأشياء بنحو أتم وأعلى، وهذا هو السفر الثاني من الأسفار الأربعة العقلية وهو من الحق إلى الحق بالحق.

ثم ينظرون في وجوده وعنايته وأحديّته فيكشف لهم وحدانية فعله وكيفية صدور الكثرة عنه تعالى وترتيبها حتى تنتظم سلاسل العقول والنفوس، ويتأملون في عوالم الجبروت والملكوت أعلاها وأسفلها إلى أن ينتهي إلى عالم الملك والناسوت {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وهذا هو السفر الثالث من الأسفار الأربعة، وهو من الحق إلى الخلق بالحق.

ثم ينظرون في خلق السماوات والأرض؛ ويعلمون رجوعها إلى الله ويعرفون مضارها ومنافعها، وما به سعادتها وشقاوتها في الدنيا والآخرة، فينهون عن المفاسد ويأمرون بالمصالح؛ وينظرون في أمر الآخرة، ويعلمون ما فيها من الجنة والنار والثواب والعقاب والصراط والحساب والميزان وتطاير الكتب وتجسّم الأعمال وبالجملة كل ما جاء به الأنبياء وأخبر به الرسل.

وهذا هو السفر الرابع، وهو من الخلق إلى الخلق بالحق.

الأركان الأربعة للتصوّف في مقام التدبير السياسي

أتينا فيما سلف على أربعة أطوار في السيرة التاريخية الذاتية للأمير، وهي الأطوار المعادلة لأسفار التصوف العقلية والكشفية الأربعة التي يقطعها السالك إلى التحقّق والوصول إلى مقام الولاية والقيادة. واستتباعاً لسيريّة التشكل والنمو في اختبارات الأمير عبد القادر سوف نضيء فيما يلي على أربعة أركان شكّلت معاً إطار الهندسة المعرفية لتصوفه السياسي:

وهذه الأركان هي:

– ركن الإيمان.

– ركن التكليف.

– ركن العلم المقرون بالعمل.

– ركن الولاية او الجهاد الأعظم.

أولاً: ركن الإيمان

الإيمان واقع أصيل متحقّق في زمن الإنسان. وهو حاضر وفعّال في الإجتماع البشري والزمان التاريخي. غير أنه يعود في اختبارات الأمير عبد القادر إلى مصدره المتعالي. حيث الإيمان تلبية واستجابة لكلام الله وأوامره ونواهيه. لقد قرأ الأمير الإلهيات اليونانية ثم امتدت قراءته إلى الميتافيزيقا الغربية الحديثة، لكنه لم يؤخذ بهما أخذ المسلّمات، مثلما أُخِذَ كثيرون من روّاد التجديد والإصلاح الديني من المسلمين الذين عاصرهم في منتصف القرن التاسع عشر. فمعرفة الإنسان بالنسبة إليه تبدأ من معرفة الحق الأول وتنتهي إليه. وبين الابتداء والانتهاء سفر تتعدد منازله ومراتبه وابتلاءاته، وعلى المسافر أن يعد العدة له بالنظر والعمل. ذاك أن ما ينتظره من مجاهدات لبلوغ الكمال، والدخول في الحياة الأصيلة الطاهرة، يستلزم اليقين بأن مدّخلاً كهذا لا يمكن أن يتأتّى إلَّا عبر الإيمان بالوحي الساري بلا انقطاع في حياة الإنسان.

والإيمان بالوحي وحده القادر على استدعاء المعرفة بأصالة الوجود. ولعل أصدق تمثيل على تلك الأصالة يقين المؤمن بحاكمية الله في الزمان والمكان، حيث يقبل الإنسان هذه الحاكمية بملء إرادته ويشعر أنه بذلك إنما بلغ الحد الأعلى من الحرية. فالتصوّف في مقام التدبير السياسي هو تلك المرتبة من الحرية التي لا يشوبها نقصٌ أو ريب. وذلك ما تترجمه اختبارات الأمير عبد القادر لمّا انتهى في رحلته العرفانية إلى المحل الذي أدرك فيه أن الإنسان لا يستطيع أن يتحقق بصفاء التوحيد، إلَّا عبر ممارسة دوره على نشأة الحد الأقصى من الإيمان. أي أن يؤدي رسالة الحق في الخلق على تمامها.

في فضاء العرفان النظري، وكما ظهر في أعماله وكتاباته وكشوفاته، سوف نتبيّن على وجه المعاينة، أن للإيمان عنده منازل ومراتب تتدرج من الأدنى إلى الأعلى بحسب مقادير المؤمنين وإدراكاتهم وأعمالهم. وهي على الجملة ثلاثة بحسب العرفاء:

إيمان أهل البداية: وهو عبارة عن تصديق مشوب بالشك والشبهة والمعارضة. وهذا الإيمان يمكن أن يصاحبه شركٌ ما، خفيًّا كان أو جليًّا، لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.

و(الإيمان) في منزلة الابتداء قابل للزيادة والنقصان، وقد يؤدي إلى دخول في النار والخروج منها بعد مدة أحقاباً أو أقل منها أو بقدر المعصية.

إيمان أهل الوسط: وهو عبارة عن تصديق ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تصديق لا يشوبه شك ولا شبهة،، وهذا الإيمان قابل للزيادة وغير قابل للنقصان، بخلاف الأول.

إيمان أهل النهاية: وهم الأنبياء والأولياء والعارفون، وهذا الإيمان عبارة عن تصديق مجموع ذلك من حيث الكشف والشهود والذوق والعيان، بحيث لا يخالجهم شك ولا شبهة مع محبة كاملة لموجدهم، وشوق تام لحضرته العالية المعبّر عنه باللقاء والوصول وغيرهما.

وإيمان أهل النهاية ليس بقابل للزيادة. إلَّا أنه يتضاعف على نحو التسديد والتأييد والتثبيت من خلال الأعمال الحسنة. أو ما يُعرف بالإحسان وهو المُسمّى بالحق اليقين لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإحسان أن تعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وأما تحصيل الإيمان الكامل فعلى أربع دعائم كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهي: «على الصبر واليقين والعدل والجهاد..».

ولئن كان الصبر واليقين والعدل أسفاراً ومراحل يقطعها السالك كضرورة لتحقيق الإيمان فإن بلوغ الحد الأقصى من الإيمان يلزم القيام بالسفر الرابع وهو «الجهاد الأعظم». والجهاد في مقام هذا السفر لا يتيسّر إلَّا لمن قطع تمهيدات الوصول إلى مرتبة الولي واستقام بما أُمِرَ به. وهذا سفر سياسي بامتياز وهو مقام عالٍ ليس يقدر على القائم بأمره إلَّا أولو العزم. وهؤلاء ممن آلوا على أنفسهم بالاختيار والإرادة أن ينالوا الشهادة، وهم على يقين فيما يفعلون.

وقد ورد في صفة هذا المؤمن الذي هو من أهل النهايات في القرآن والأحاديث والأخبار ما ورد في غيره. أي أنه موصوف بالقرب والمنزلة العليا عند الله والتعظيم والتبجيل له يوم القيامة.. وهو في سلك الأوصياء والأئمة الذين قالوا: «ان أمرنا صعبٌ مستصعب، لا يحتمله إلَّا مَلَكٌ مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان».

إن هذه الصفة التي مُنحت للمتقين، تعود إلى كون المؤمن في مرتبة اليقين، هو العارف الواصل. فقد بلغ بهذه المرتبة أعلى مراتب نهاية الإيمان وأقصى مدارج الإسلام. حيث إن نسبة اليقين إلى الإيمان هي بعينها نسبة الإيمان إلى الإسلام. وكما أن الإيمان هو أعلى مراتب نهاية الإسلام فكذلك اليقين هو أعلى مراتب نهاية الإيمان. وليس وراء اليقين مرمى، لا للأنبياء ولا للأولياء ولا لكلٍّ من تابعيهم، لأنه هو النهاية والمقصود بالذات من السلوك كله. وفي هذا ما يشهد عليه قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.

الإيمان إذاً، هو أعلى درجات اليقين، وعند المؤمن العارف المقام الذي تصبح فيه معرفة النفس ومعرفة الرب على تمامها. بمعنى كونها معرفة واحدة. حيث يلتقي العارف بالمعروف عند النقطة التي يستحيل بلوغها من قبل أن يقطع المتعرّف أطواراً متقدمة في أسفاره الإيمانية غير المتناهية.

فالإيمان عند هذه الرتبة -كما رأت إليه بعض تيارات فلسفة الدين- هو الانشغال بهم الحق في عالم الإنسان إلى أقصى حد. أما تحصيل هذا فشرطه ما يسمّيه أهل الحكمة بـ«تلازم القابل والفاعل». فالقابل هو الفؤاد، وهو أعلى درجات التعقل التي يصلها العارف بالله. والفاعل هو الحق تعالى حين يفيض بلطفه على فؤاد القابل الذي هو العارف الواصل. وإذ يتم اللقاء على صفائه بين القابل والفاعل، تفيض الحكمة على القابل بمقدار ما تهيّأ لها. وهو ما وعد الحق تعالى به خاصة أوليائه. حيث يضرب الله لهم الأمثال ليبيّن لهم ما غاب عنهم من الحقائق الإلهية والمعاني الربانية. والأمثال -كما يبيّن الأمير عبد القادر في «بغية الطالب»- مضروبة لمن كَمُلت إنسانيته فغلبت حيوانيته لا مطلق المسمى إنساناً، ويضيف: «أن الله تعالى وعد من آمن به أن يضرب له الأمثال تقليداً لمن علمه الله ذلك من نبي وولي بأن يمنّ عليه بعملها ثم يرفعه من درجة الإيمان إلى درجة العلم التي هي أعلى درجة من الإيمان». وقد جاء في الكتاب العزيز: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.

وجاء أيضاً: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

ثانياً: ركن التكليف

يحتل التكليف منزلة تأسيسية في مقام التدبير السياسي الذي يتولاه العرفاء الواصلون. فقد ثبت الأمر الإلهي للعبد بمهمته التكليفية. وفي الموقف التاسع بعد الثلاثمائة من كتاب «المواقف» يشير الأمير عبد القادر إلى الآيات التي يستفاد منها الحث على الأعمال في مجالي العبادة والاجتماع السياسي.{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. {وَآَتُوا الزَّكَاةَ}. {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}. {وَجَاهِدُوا} إلخ…

وإذا كان التكليف كما يقرره ظاهر الشرع، أمرٌ داخل في باب الشعائر والرسوم وهو تكليف يخصُّ مرتبة إيمان أهل البداية، فإن له عند إيمان أهل النهاية، وهم العارفون الواصلون، مرتبة التحقّق الذي لا يشوبه شك أو ريب. فالتكليف عندهم متوجّه من اسم إلهي إلى اسم إلهي على ما ورد في كتاب المواقف. وقد مضى الأمير عبد القادر إلى تصعيد تأويلي في هذا الصدد مؤداه، أن من أراد أن يفرّق بين الرب والعبد من حيث النشأة الإنسانية، ويجعل الرب باباً للعبد منفصلاً عنه، وينسب الفعل المكلّف به إلى الرب أو العبد فلا يسلم له دليل من طعن أبداً. (…) فالحق هو المسمّى ربًّا وعبداً. فهو من حيث الصورة من جملة من يعبد الله، ومن حيث باطنه ربًّا. فإياه عبد وعبد. فهو سبحانه يطيع نفسه إذا شاء بخلقه وينصف نفسه كما تعيّن عليه من واجب حقّه.

إذاً، الغرض الأصلي من التكليف، بوصفه قانوناً إلهيًّا، هو عند الأولياء قيادة الناس نحو الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله وتنزيهه تقرباً لمعرفة ذاته المقدسة.

أما الغرض من وضع الشرائع، ووجوب إطاعة الأوامر الإلهية فهو إعادة الجمع بعد الفرقة، وإعادة الكثرة إلى الوحدة. وفي منزلة الجهاد الأعظم فإن حَمَلَة لواء الحد الأقصى من الجهاد هم أولئك الذي مَنَّ الله عليهم بتكليف لا يقدر عليه سواهم، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. ولما كانت أوعية المكلّفين بإنجاز الجهاد الأعظم مسدّدة بالعلم والعزم والمكاشفة واليقين، فقد ثبتت لهم الولاية، فتعاملوا مع الدنيا كمنزل من منازل السير إلى الآخرة. ليكون طلب الآخرة في هذه المنزلة، أصل كل سعادة.

لقد ذهب العرفاء وعلماء الأصول إلى بيان الضرورة التاريخية للعارف الكامل الذي يتولى استئناف تبيين الوحي وأحكام الشريعة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجدوا أن من المستحيل أن يترك هذا الدين بلا بيان، ولا بد من وجود أولياء من الصحابة والتابعين ممّن تلقوا الحقائق من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للقيام بهذه المهمّة.

الحكيم الإلهي نصير الدين الطوسي أسس لهذه الضرورة على قاعدة اللطف، فرأى أن «الإمام لطفٌ يجب نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض». ولئن كانت الولاية متّصلة بالأمر الإلهي نفسه الذي به بُعِثت النبوّة، فإن بين النبوة والولاية علاقة تواصلية لا نهاية لها في تاريخ الإنسان. فإذا كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث مهام: بيان الأحكام الإلهية – والقضاء والحكم بين الناس – والرئاسة العامة.. فإن للولي بعد النبي مراتب عملية ثلاث: الرئاسة العامة – المرجعية الدينية – وبيان الأحكام الإلهية والولاية. ولسوف يترتب على هذه القاعدة أن الولي هو ذلك الإنسان الكامل الذي لا بد من وجوده في كل عصر ليسهم في إنقاذ المخطط الإلهي الموكول له في عالم الإنسان.

لنا أن نلاحظ هذا المنحنى فيما رمى إليه الأمير وقبله الشيخ الأكبر ابن عربي من أن تلقّي الولي عن الأنبياء المحمديين يكون عن النبي ذاته لا عن نص الرسالة المأثورة عنه. فروح الولي تجتمع بروح النبي أحياناً على هيئة التجسد في الواقع. وهو ما يسميه ابن عربي بـ«المبشرة». فالذي يتلقاه الولي المحمدي من مبشّرات يكون شرطاً لولايته من ناحية، وهو لا يخرج عن نطاق دائرة العلم الإلهي من ناحية أخرى، كما أنه مشروط بتأييد النبوّة المحمدية كونه يتنزل منزله النقطة في دائرتها. ولهذا التأويل في نظر ابن عربي صلة متينة بما يعتبره «دورة الملك» التي تنظم مسار التاريخ من بداياته إلى نهاياته، حيث يتولى المكلّفون تنفيذ ما كلّفوا به لجهة إقامة القسط والعدل في الأرض بعدما امتلأت بالظلم والجور.

بعض المحققين وجد في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} ما يمنح التكليف أهمية عليا في أداء الرسالات الإلهية في عالم الخلق. فهذه الآية تظهر ثقل المهمة التكليفية في حمل الرسالة والدعوة إلى الحق. فالكلام من حيث كونه كلاماً لا يكون بالطبع ثقيلاً أو خفيفاً، وإنما ثقل القول أو خفته يظهر في محتواه، بمعنى أن الدعوة إلى الصراط المستقيم وإقامة دولة العدل الإلهي إنما هي دعوة لا يحتملها إلَّا الأنبياء والرسل ومن تبعهم من الأولياء. وعلى هذه السّيْرية من فهم المقصد الإلهي من التكليف تتعيّن العناصر الأساسية في اختبارات التصوف السياسي عند الأمير عبد القادر.

ثالثاً: ركن العلم المقرون بالعمل

العلم المقرون بالعمل هو أصل العرفان العملي. وعلى مقتضياته وشروطه ومآلاته ترتفع عمارة التصوّف لحظة وصوله إلى مقام التدبير السياسي. وذلك تبعاً لتلقي القول الثقيل كأمر إلهي بالجهاد الأعظم. فالعلم عندما يتحول إلى عمل يُحكم عليه ما إذا كان صادقاً أو باطلاً. فالعلم في منزلة العمل يغدو في وعاء التجربة، ثم ليُختبر ما إذا كان قابلاً ليؤسس الوقائع في حركة الاجتماع البشري.

العلوم الشرعية التي تلقّاها الأمير في خلال أسفاره العقلية والقلبية، سوف تشكل المنبسط الذي ينبغي ان تستنبت منه المعارف الإلهية في حقول التجربة.. وذلك على قاعدة أن التجارب هي علمٌ مُستحدثٌ كما في القول المأثور عن الإمام علي بن أبي طالب في نهج البلاغة.. والعلم المستحدث هو تلك المرتبة من العلم المُسدّدة بالعمل الذي يختبره السالك في حقل التجربة. فإن أي فصل بين العلم والعمل سوف يؤدي إلى إبطال القيمة المفترضة للعلم. الأمر الذي يُفضي بدوره إلى إبطال الأساس الطبيعي لنشوء المعارف وتشكّلها. على أن التلازم والتناسب بين العلم والعمل هو عماد التوحيد الذي تقوم عليه منهجية الأمير عبد القادر.

فعلم آدم (عليه السلام) –كما يبيّن العرفاء- كان سبباً في سجود الملائكة له والرفعة عليهم، وعلم الخضر كان سبباً في وجود موسى تلميذاً له، وعلم يوسف كان سبباً لوجود الأهل والمملكة والاجتباء، وعلم داوود كان سبباً للرئاسة والدرجة، وعلم سليمان كان سبباً في وجدان بلقيس والغلبة، وعلم عيسى كان سبباً لزوال التهمة عن أمّه، وعلم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان سبباً في الشفاعة. وفي هذا يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): طريق الجنة في أيدي أربعة: العالم، والزاهد، والعابد، والمجاهد، فإذا صدق العالم في دعواه رزق الحكمة، والزاهد يرزق الأمن، والعابد الخوف، والمجاهد الثناء.

ويُنقل عن بعض المحقّقين أن العلماء ثلاثة: عالمٌ بالله غير عالم بأمر الله، فهو عبد استولت المعرفة الإلهية على قلبه فصار مستغرقاً بمشاهدة نور الجلال والكبرياء، فلا يتفرّغ لتعلّم علم الأحكام إلَّا ما لا بدّ منه، وعالم بأمر الله غير عالم بالله، وهو الذي عرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام، لكنّه لا يعرف أسرار جلال الله، وعالم بالله وبأمر الله، فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات، فهو تارة مع الله بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربّه إلى الخلق صار معهم كواحدٍ منهم، كأنه لا يعرف الله، وإذا خلا بربه مشتغلاً بذكره وخدمته، فكأنه لا يعرف الخلق، فهذا سبيل المرسلين والصدَّيقين، وهو المراد بقول عليه الصلاة والسلام: سائل العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكبراء. وإذا تقرّر ذلك، فكلّما كان الإدراك أغوص وأشدّ، والمدرك أشرف وأكمل، والمدرك أبقى وأنقى، فاللّذة أشرف، وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف لأنه هو الله رب العالمين.

وبحسب العرفاء فإنّ تحصيل هذا المقام يكون عند اللحظة التي يتوحّد فيها العالم بعلمه، والعارف بما عرف، حيث يرى بالمعاينة كيف تفنى الكثرة في عين الوحدة، وكيف تتجلى الوحدة في عين الكثرة. فإذا بلغ السالك إلى الله والمجاهد في سبيله إلى ذاك المقام، وتجلى له الحق في مظاهر الخلق، من دون أن يحتجب عن الحق والخلق، تنفتح له أبواب من المعرفة والعلوم والأسرار الإلهية من وراء الرسوم. ذاك أن فهم هذه الحقيقة ودرك سرَّها لا يتيسّر إلَّا لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد. فإنه يرى بعين البصيرة والتحقق أن كل موجود من الموجودات بذواتها وقواها الظاهرية والباطنية هي من شؤون الحق وأطواره وظهوراته وتجلياته.

وفي هذا المجال يقرر صاحب «الحكمة المتعالية» الفيلسوف صدر الدين الشيرازي المعروف بـ«ملا صدرا» أن تحصيل المعرفة ومواصلة أسفار التعرّف إنما يُحصّلان من طريقين:

أ – طريق البحث والتعلّم والتعليم الذي يستند إلى الأقيسة والمقدمات المنطقية.

ب- وطريق العلم اللدني الذي يحصل من طريق الإلهام والكشف والحدس.

ولمّا كان الطريق الأول مألوفاً بين الفلاسفة على اختلاف تيّاراتهم، وتحصيلهُ يجري على نحو الاكتساب التدريجي، فالطريق الثاني هو الذي يُحصّل بعد تجريد النفس عن شهواتها ولذائذها، والتخلّص من أدران الدنيا وأوساخها، فتتجلى إذّاك مرآتها الصقيلة، وتنطبع عليها صور حقائق الأشياء كما هي، إذ تتحد النفس بالعقل الفعّال فتحدث لها بذلك الاتّحاد فطرة ثانية.

ثم يرى أن الفرق بين العلمين هو كالفرق بين علم من يعلم الحلاوة بالوصف، وبين علم من يعلمها بالذوق. وأن الثاني أقوى وأحكم، ولا يمتنع وقوعه، بل هو واقع فعلاً للأنبياء والأوصياء والأولياء.

مثل هذه الهندسة لدى ملاّ صدرا ستسفر عن نهاجية ركَّبت بإتقان، وتقوم على تجاوز تعقيدات الجدل الفلسفي والكلامي حول العلاقة بين الله والعالم، ثم لتبلغ مآلاتها القصوى باستواء الحكمة المتعالية على منفسح جديد، يُفضي إلى النظر إليها بوصفها تظهيراً فلسفيًّا للقرآن وحكمته البالغة.

لقد ظهرت حركة القرآن سيالة في نصوص الأمير عبد القادر الجزائري. وسنجد ذلك خصوصاً في كتاب «المواقف» بجزأيه. ولأن هذه النصوص شكَّلت ما يمكن اعتباره تظهيراً فلسفيًّا عرفانيًّا للكلام الإلهي، فقد كانت أدنى إلى وعاء فلسفي يُفاض عليه من وحي الآيات البيّنات، ثم ليتولى هذا الوعاء بدوره الإفاضة على ما دونه من أوعية القلوب والعقول السالكة في دروب العرفان الوعرة. وهكذا كلما كان الاستعداد أقوى، اتسع الوعاء، ليبدأ طور آخر من الفهم، يشق سيره عبر تلقي العارف المزيد مما تلقيه عليه الحكمة القرآنية البالغة.

ذلك يعني أن الخريطة المعرفية لمنظومة الأمير بلغت تمامها بفعل تلك الفيوضات، وبسبب من قيومية القرآن عليها. إذ بناء على هذه القيومية ستصبح المرجعية القرآنية عاملاً مكوناً وتأسيسيًّا لمجمل المسارات الهادية لمشروعه الذي سيبلغ نهاياته في الجهاد الأعظم والنهوض بالولاية المحمدية. ولما كانت آليات عمل الفلسفة تنطلق من الأدنى إلى الأعلى لفهم العالم، كموجود بما هو موجود، انبرت اشتغالات الأمير والمدرسة الشهودية إلى البناء على نهاجية معاكسة مؤداها إنجاز فهم الوجود بما هو وجود، من الأعلى إلى الأدنى. وذلك ما يستجلي المائز العميق في سيْريّات ومناهج كل من العلم الحصولي والعلم الحضوري لجهة الاختلاف الجوهري في المقدمات والنتائج. ولنا في هذا الصدد تمثيل:

– المتفق عليه بين الحكماء أن مقدمات العلم الحصولي، تقوم على الاستدلال العقلي بواسطة المنطق والمفاهيم الكلية، أي بوساطة الماهيات. لذا فإن من المنطقي عندما يكون ابتداء العلم الحصولي بالماهيات أن يكون منتهاه إلى الماهيات. ومدار هذا العلم ينحصر ضمن حدود الإمكان، والمعارف الناتجة عنه ليست سوى نظر في المظهر الخارجي للوجودات. ولذا يقال في العلم الإلهي: إن الوجود الحق هو الذي ظهرت به الممكنات ظهور الصور في المرآة، كما يورد الأمير عبد القادر في «بغية الطالب».

– أما مقدمات العلم الحضوري فهي تقوم على السعي إلى إدراك حقيقة العالم عبر الاتصال بالملكوت، أي من الأعلى إلى الأدنى. وذلك ما تبيّنه المدرسة التي ينتمي إليها الأمير عبد القادر، حين اتخذت سبيلها لبلوغ غايتها القصوى في المنهجية القرآنية، بتنقية الباطن، وتصفية القلب، وتنوير الروح.

مع ذلك يبقى التنبُّه ضروريًّا إلى أن إثبات الوجود في العلم الحضوري هو إثبات شخصي (فردي) من جانب المثبِت. ولئن كان هذا العلم حقيقيًّا وإدراكيًّا وحسيًّا وشعوريًّا بالنسبة لصاحبه، إلَّا أنه لا يقدر أن يثبتَه لغيره. لأن ما تمّ له عن طريق الكشف لا يستطيع أن ينقله إلى الغير عن طريق البيان باللسان، وبالتالي لا يستطيع الغير أن يتلقّاه بالإدراك الحقيقي والحسي والشعوري إلَّا إذا شَهِدَهُ بالمعاينة.

مع ركن العلم المقرون بالعمل القائم على اتحاد العالم بالمعلوم عبر سيريّة نشاط ونمو تسدّدها العلاقة بين الحق وأوليائه، نصل إلى الكلام على الركن الرابع وهو مقام الولاية والجهاد الأعظم.

رابعاً: ركن الولاية والجهاد الأعظم

تفضي اختبارات الأمير عبد القادر العلمية والعملية إلى سلوكه سبيل الولاية كمحطة أخيرة في مراتب الوصول إلى الحد الأقصى من التكليف، وهو الظهور في ساحات الجهاد الأعظم. فعلى هذا السبيل سيتحقق له الجمع بين الحقائق الباطنية وأحكام الشريعة في الجهاد لتحقيق دولة العدل الإلهي. والمسألة الجوهرية في هذا أن السالك العارف لا يفلح في إدراك مقام الولاية ما لم يعمل بأركان الشرع ويتقيّد بأحكامه. ذلك أنه مُلزَم بتمثّل الظاهر في نفسه لبلوغ الباطن. فالظاهر يحفظه من مخاطر الانزياح عن الصراط، والباطن يسدّده بمجاهدة النفس وتصفيتها من شوائب البطلان. ومتى جمع السالك الشريعة إلى الحقيقة، أفلح في الصعود العرفاني ومضى إلى الكمال الذي لا تتم له الولاية إلَّا به. أي أنه يصير إنساناً كاملاً، وخليفة لله في الأرض ثم ليتولى مهمته في تدبير شؤون الخلق عبر قيادتهم إلى الدولة الفاضلة. وسنرى كيف يؤصل الأمير عبد القادر مقام الاستخلاف الذي يبلغه العارف مبيّناً أن الإنسان الكامل هو مظهر جامع لجميع الحقائق الأسمائية التي تطلب العالم: أعلاه وأسفله، جواهره وأعراضه. وهو مظهر أيضاً لجميع الحقائق الكونية. فالمقولات العشر التي تجمع العالم كله، متفرقة في العالم، مجتمعة في الإنسان. فللإنسان –كما يقول- نسبتان: نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهية، ونسبة يدخل بها إلى العالم، فهو القابل لجميع الموجودات قديمها وحديثها. وما سوى الإنسان لا يقبل ذلك. فالحق -تعالى– له القِدَم وما له دخل في الحدوث. والعالم له الحدوث وما له دخل في القِدَم. والإنسان –كما يضيف الأمير– له القِدَم وله الحدوث، فهو منعوت بهما. فلهذا هو ربٌّ وعبدٌ، عبد من حيث إنه خليفة، وربٌّ من حيث إنه خلق على الصورة الإلهية، فهو يلحق بالإله التحاقاً معنويًّا، وعلى هذا يكون العالم كله تفصيل ما اجتمع في الإنسان الكامل».

حين يعرض الأمير عبد القادر إلى الهندسة المعرفية لعمارة الإنسان الكامل على هذا النحو التأويلي، لم يكن عرضه مجرد إجراء بحثي في فضاء العرفان النظري. ذاك أن علمه الكسبي يندرج ضمن منفسح اختباري يقترن فيه النظر بالعمل من دون تباين أو مفارقة. وتلك مزية نَدُرَ أن اتخذت منفسحاً لها في عالم التصوّف الإسلامي. فالمهمة التنظيرية التي أداها الأمير هي بمثابة الاستظهار القولي لتجربته الدينية التي سَمَتْ إلى مراتبها القصوى في الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة. وهو الجمع الذي سيتجلى بحضور بيّن عبر الانتقال من الجهاد الأصغر حيث مقاومة المحتل، إلى الجهاد الأكبر في تأديب النفس وتجليتها وإنشاء عمارتها العرفانية، وصولاً إلى الجهاد الأعظم وهو العمل في مقام الولاية. ففي هذا المقام سيتبوّأ الولي المهمة العظمى في إحياء الدين وحفر مسار التقدّم الحضاري لأوطان الأمة برمّتها.

والإنسان الكامل الذي هاجر إليه الأمير عبد القادر كما هاجر إليه من قبله الشيخ الأكبر ابن عربي، هو الخليفة الذي تسلسل من آدم إلى النبيين والرسل والصديقين والأئمة والأولياء والعرفاء إلى آخر الزمان. وهذه السلسلة هي ظهورات الحقيقة المحمدية التي بلغت كمالها بالنبي الخاتم وكل ما نزل عنه، كما يقول ابن عربي.

في السياق إياه يبيّن الأمير صفات الكامل الواصل بما هو التجلي الإلهي للحقيقة المحمدية، وأن هذا التجلي هو سريان دائم ومستمر في الزمان البشري حيث يسدّد ويؤيّد بالعناية الربانية حتى يصل إلى مقام الولاية الذي منه وعلى نشأته يجري تدبير شؤون الخلق. فالعالم -كما يرى الأمير- ليس مثلاً كاملاً إلَّا باعتبار دخول الإنسان في جملته. فإن العالم إنما كمُل بالإنسان الكامل وما كَمَل الإنسان بالعالم. والملائكة لم تزل تسجد لمن ظهر بالحقيقة الإنسانية على الكمال، كما سجدت لآدم. فالإنسان الكامل من حيث إنه آخر موجود، فإنه مستعد للظهور بجميع الأسماء الإلهية على تقابلها وتخالفها كما ظهر الحق بها. فإنه لمّا توجه الحق إلى خلقه بيديه، حمل جميع الأسماء الإلهية والحقائق الكونية. والعقل الأول لمّا توجه الحق به إلى خلقه، وخلقه بأمره، وهو «كُن»، حمّله علوم الكون إلى يوم القيامة. فأخذها الإنسان الكامل وكان له المثل الأعلى. قال تعالى: {وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

على نشأة الولاية كما تقررها المدرسة التي ينتسب إليها الأمير، ثمة عروة وثقى تصل الوحي بالنبوة والولاية. ولو مضينا في كتاب «المواقف» بجزأيه الأول والثاني وما أنجزه الأمير في رحلته العرفانية لتبيّن لنا مقدار عنايته بالولاية بما هي امتداد للوحي والنبوة الخاتمة في زمن الإنسان. ذاك أن معرفة الولاية وإدراك حقائقها هو شرط إدراك الوحي وفعله في التاريخ، وبالتالي تحقق علمها بالأئمة والأولياء باعتبارهم ورثة النبي الخاتم ووجوده البرزخي المتمثل بالحقيقة المحمدية أو الكلمة الجامعة.

وعلى هذا النحو تتصل مسألة النبوة في علاقتها بالولاية بدراسة حقيقة الإنسان وتحديد ماهيته من حيث هو «كلمة الله»، إذ إنه خُلق على صورته مصداقاً للحديث القائل: «خلق الله آدم على صورة الرحمن»، فكان مجلى الحقيقة الإلهية «وبرزخاً جامعاً بين الطرفين»، فاستوى الإنسان بمثابة «الكون الأصغر» الذي يتجسّد فيه كل ما في «الكون الأكبر» أو «الكون الجامع». والإنسان الكامل بما هو الحد الجامع لنبوة النبي ولولاية الولي يكون الصورة المثلى والدرجة الأرفع لهذا الإنسان، ويسمى بـ«القطب» أو «الغوث»، وهو عبارة عن «الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، حيث أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه. وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات غير المجعولة. فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، ونبوّة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي بمثابة القطبية الكبرى، وهي مرتبة قطب الأقطاب الذي هو باطن نبوّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يكون ذلك إلا لورثته لا ختصاصهم بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلا على باطن خاتم النبوّة».

مثل هذا التأويل لصفات الإنسان الكامل يتّخذ مساحة وازنة في نصوص الأمير عبدالقادر العرفانية التي ازدهرت ونمت في الطور الرابع من رحلته الصوفية. وهو الطور الذي تطورت فيه رؤيته للإنسان الكامل إلى الدرجة التي تناسب الوصول إلى «دروة المُلك» عبر الدخول في مقام الجهاد الأعظم تحقيقاً للولاية الإلهية العادلة.

وهكذا يذهب الأمير إلى طبقات معرفية أكثر غوراً في تظهير ماهية الإنسان الكامل وصفاته وما يتوقع منه في دائرة التكليف الإلهي، فينعته بالعزيز الحكيم. ويقول: إن من كان نعته العزة والمنعة عزّ أن يعرف أحد مقامه وأوصافه، ثم وصفه بالحكمة لأنه يعطي على ما ينبغي، ويمنع على الوجه الذي ينبغي، فهو المثل الأعلى للحق، ظهر به –تعالى– للمدارك النورانية. وهو كذلك مرآة الحق تعالى ومرآة العالم، فمن رآه رأى الله –تعالى– ورأى العالم. ومن عرفه عرف الله وعرف العالم. وبهذا ورد «من عرف نفسه عرف ربه». وأقول –والكلام للأمير-: من عرف نفسه من حيث الظاهر والباطن عرف ربه وعرف العالم، لأن النفس جامعة لحقائق العالم وحقائق الحق تعالى، على ما ورد في القرآن الكريم {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. فآيات الآفاق هي كل كون خرج عن الإنسان في العالم الأعلى والأسفل، وآيات النفس هي ما دخل في الإنسان من الحقائق الكونية المستندة إلى الحقائق الإلهية».

أما المقصود من قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فهم الصديقون الذين صدّقوا الكلام الإلهي وأخلصوا للنبي وسلكوا صراط الحقيقة المحمدية. أولئك هم الذين يتولون بيان ظاهر الشريعة وحقيقتها عبر طرق ومسالك لا حصر لها، وفي ذلك يقين منهم بأنهم مظاهر اللطف الإلهي في العالم، وأنهم ينطلقون من الحق ويسعون في أرجاء الخلق بالحق ويصلون ما أمر الله به أن يوصل.

وعلى ما يوضح الأمير في «المواقف» فإن الصديقين والأولياء الذين تحققوا بالكمال في مقام الولاية والاستخلاف هم الذين أراهم الله آيات الآفاق والأنفس وأن ما رأوه رأوه لا بحلول أو اتحاد، ولا بشيء ممّا تتخيّله العقول السليمة، وإنما ذلك كظهور المعاني بالألفاظ، أو كظهور الظل عن ذي الظل، وأن التجلي موضوعٌ للرؤية. ولذا قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ} وقد فعل. وليس ذلك إلَّا بتجلّيه في الآفاق والأنفس. وليس تجليه في الآفاق بمغاير لتجليه في الأنفس، وإنما ذلك بمثابة المفصّل من المجمل. وما ظهر بالحقيقة الإنسانية التي هي عبارة عن الصورة الرحمانية على الكمال، سوى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه ظهر بها على الوجه الأكمل، والأفضل والأشرف، إذ هي حقيقته.. وغيره من الأنبياء والكمّل من ورثتهم حصل لكل نبي واحد منهم بحسب ما قُسِم له من القرب الإلهي. وإن اشتركوا كلهم في الكمال النبوي والشرف والاصطفاء الاختصاصي الرسالي.

ضفَّتا الولاية ومعناها

الولاية على ضربين: تشريعية وتكوينية بحسب ما ينظر الفقهاء والعارفون. ولقد ذهب الأمير في تأويله إلى التعامل مع هذين الضربين كشأن واحد. فالولاية عنده تشريعية وتكوينية في نفس الأمر. ولسوف نتبيّن ذلك مع تحديد صلاحيات كل ضفة من ضفّتيها:

أولاً: الولاية التشريعية وحق التشريع: ويتضمّن حق الطاعة للولي فيما يأمر وينهى لجهة التبليغ والدعوة إلى الله، والشؤون العامة المتعلقة بالمسلمين. ولا ريب في ثبوت هذا للنبي والولي من بعده إلى آخر سلسلة القائمين بالحقيقة المحمدية.

وثانياً: حق الطاعة في كل أمر ونهي وإن كان متعلقاً بشأن خاص من شؤون آحاد الناس. ولقد استدل الفقهاء والعرفاء على السواء بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.

وبقطع النظر عما اختلف فيه المفسرون لبيان مقصد الآية فإن لها في عالم التأويل ما يجعل باطن اللفظ مطابقاً لظاهرة ولا سيما لجهة ما يصدر عن الولي من أحكام عند ظهوره لتولي أمر الأمة وتدبّر شؤونها.

ثالثاً: حق التصرّف والنفوذ، ويستدل الفقهاء على هذا بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.

أما الولاية التكوينية فهي أعمق غوراً وأشق على الفهم من الولاية التشريعية. ذاك أنها تتعلق بالقدرة على التصرف بالأشياء تصرّفاً تكوينيًّا على طريقة «كن فيكون». وأكثر العرفاء يقولون بهذا للولي الكامل، ويستدلون عليه بالحديث القدسي: «عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون».

وبقطع النظر عن مدى سعة تصرف الولي في مقام التكوين، فالمهم هنا هو ثبوت القدرة للولي بما لا يقدر عليه سواه وفقاً لجدلية التواصل بين الرب الآمر والعبد المأمور، وهي جدلية تفضي مع الطاعة التامة من جانب العبد إلى أن يؤتيه القادر تعالى من قدرته مقدار ما بلغه من القرب والوصول. حتى أن من العرفاء من ذكر بأن لهم التصرّف بالولاية في الممكنات بأسرها من الذرة إلى الذروة بإذنه تعالى.

مع ذلك فهناك من يصر على التمييز بين الولاية التكوينية كقدرة ثابتة لعبد من عباد الله تعالى.. وبين قرب العبد منه تعالى قرباً يستجاب له بسبب الدعاء. على أساس أن تحقيق شيء ما من خلال الدعاء واستجابة الله تعالى له قد يعد أمراً اجنبيًّا عن الولاية التكوينية.

كيف رأى الأمير ومن قبله ابن عربي إلى «واحدية» التشريعي والتكويني في مفهوم الولاية؟

في الموقف الثامن والأربعين بعد المائتين من كتاب «المواقف» نتوقف على ما ورد فيه من كشوفات بالإشارة والعبارة في هذا الصدد، يقول:

«لما أنشأ الله الصورة الإنسانية كانت بمثابة مدينة أنزل فيها الروح، وجعله بمثابة الخليفة، وعيّن له موضعاً منها هو موضع أمره ومحل خطابه ونفوذ أحكامه، ولقد سمّاه تعالى القلب. فالروح يمدّ المدينة الإنسانية والصورة الآدمية بالحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام، ويمدّ العقل بالعلم وكيفية تدبير المدينة. ومن ثمّ ترى الذين لا عقول لهم يسمعون ويبصرون ويتكلّمون ويقدرون… ومع ذلك فليس لهم تدبير ولا علم بمواقع الأمر والنهي، وذلك لخلو مدينتهم عن العقل، فإنه إنما سمّاه –تعالى- عقلاً؛ لأنه يعقل عن الله أمره ونهيه وخطابه، وكلّ ما يلقيه إليه، فعليه يتوجّب الخطاب، إذ هو وزير المدينة الإنسانية ومدبّرها، فلو كانت المدينة خالية من الخليفة لكانت في حكم الجمادات. ولو كانت خالية من الوزير لكانت من جملة البهائم، وإن كان الروح فيها قائماً عليها، إذ الروح ليس له تدبير المدينة الإنسانية، فلا يفرّق بين الحلال والحرام، ولا بين الطهارة والنجاسة، ولا بين الحسن والقبيح، وإنما هذا للعقل، فلا تقوم المدينة الإنسانية إلَّا بالخليفة. ولا يستقيم أمرها إلَّا بالوزير. لقد أنزل –تعالى– العقل الوزير، من الروح الخليفة، منزلة القمر من الشمس، فليس للقمر نور في نفسه، فأشرقت الشمس بنورها على القمر؛ فاكتسب منها نوراً لضيائه، فكان هو الشمس في نفس الأمر من حيث النور، وافترقا من حيث الرتب، فإن الشمس نورها ذاتي لها، والقمر نوره مكتسب.

لنقرأ أيضاً ما ذهب إليه المير في هذا المضمار حيث يقول:

«ولما أنشأ الله تعالى بنية العقل أودع فيه التدبير، وجميع الأمور اللازمة للمدينة الإنسانية، فصار محلاً للعلوم الإلهية ورأساً في تدبير الأمور الكونية، وإذا أراد العقل معرفة شيء في تدبير المدينة الإنسانية وإصلاحها، توجّه إلى مشاهدة الروح الخليفة. فعند مشاهدته يلوح له المراد، فيقوم له التجلي من الروح منزلة الخطاب، من غير حرف ولا صوت؛ إذ المراد حصول علم تدبير المدينة الإنسانية، فهو كشف روحاني ومعنى ذوقي».

وفي إشارته إلى كون الولي لا يتصرف إلَّا بإذنه وبإرادته ومشيئته تعالى يعود الأمير إلى الكلام الإلهي حفظاً للزومه من أي زلل. وذلك في قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}.

لكن الولي الآتي من الحقيقة المحمديية سوف يستمد القدرة بمقدار سعته فيتصرف بعونه ويتسدّد بعمله وفيوضاته فلو فعل فإن الله هو الفاعل بنسبة ما أُدني من الفعل. كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.

على أن الولاية التي قامت في عرفان الأمير عبد القادر على واحدية الاتصال بين التشريع والتكوين، سيكون من البديهي أن تتأسَّس على العدل. إذ إن من لوازم تطبيقات الولاية في طور الجهاد الأعظم، أن يتّصف الولي بصفة الحق الأول تعالى في العدل. يقول تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}.

يذكر الأمير في معرض كلامه على جدلية الظلم والعدل أن الظلم ورد بمعنى النقص، وورد أيضاً بمعنى وضع الأشياء في غير مواضعها التي تستحقها بالحكمة والعلم ومجاوزة الحد. وقال: إن كلا المعنيَيْن منفيّ عنه تعالى مستحيل عليه. فإنه تعالى إنما يتصرف عطاءً ومنعاً، ضرًّا ونفعاً، بالعلم والحكمة والعدل، لأنه العليم الحكيم المقسط، بيده الميزان يخفض ويرفع، فلا يمنع من يستحق الكل بعض ما يستحق، ولا يعطي من يستحق البعض أكثر مما يستحق. فعطاؤه ومنعه وضره، ونفعه تبع الاستحقاق والاستعداد.

المنظور الصوفي للعدل هو عين منظوريته للتوحيد في سائر منازل الأسماء والصفات. ولذا فكل ما يتّصل بالحق وما يفيض به الحق على الخلق إنما هو داخل في عالم الإنسان الكامل على مبدأ الاستخلاف والتكليف.

والبحث حول العدل الإلهي تارةً يكون من جهة أنّ العدالة هي صفة كمال في الخالق، حيث إنّ الله عزّ وجل هو الجامع لجميع الصفات الكمالية والجمالية، وأخرى من جهة أنّ العدل عبارة عن رعاية حقّ الغير. وهذا المعنى يمكن أن يتحقّق في العلاقة بين المخلوقات، ولا يتحقق في العلاقة بين الخالق والمخلوق، لأنّ كلّ ما لدى المخلوق فمن الخالق، وملكية المخلوق في طول ملكية الخالق، فإنّ ملكيّة الإنسان هي كملكيّة الطفل بالنسبة لملكيّة أبيه، حيث يعتبر نفسه مالكاً لألعابه، ولا ينافي ذلك ملكيّة الأب لها.

فالله هو مالك الملك على الإطلاق، وأيّ تصرّف منه في الكون إنّما هو تصرّف في ملكه، لذا لا يمكن أن نعثر على مصداقٍ للظلم في حقّه تعالى، ومن هنا يقال إنّ الله ليس بعادلٍ ولا ظالمٍ، لأنّه لا يمكن افتراض غيره مالكاً لحقٍّ ما، حتى تكون رعايته عدلاً وعدمها ظلماً.

وإذا كان العدل بمفهومه الاجتماعي هو هدفٌ للنبوّة، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط..}. فالعدل بمفهومه الفلسفي أساسٌ للمعاد: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.

والواضح أن الأمير عبد القادر كان يطل بعمق على الجدل الكلامي حول العدل واتجاهاته المتعدّدة وخصوصاً في المراحل التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي.

ولما كان الأقرب إلى نظر الحكماء الإلهيين في فهم العدل فقد رأى الأمير إلى العدل بما هو بمعنى رعاية الاستحقاق في إفاضة الوجود والكمال. إذ إنّ كلّ موجود يملك استحقاقاً خاصًّا من جهة قابليته لاكتساب الفيض الإلهي. فالعدل هو أن يأخذ كلّ موجود ما هو ممكنٌ له من وجودٍ وكمالٍ، والظلم هو منعُ وإمساكُ هذا الفيض. وهذا المعنى هو الذي يتبنّاه الحكماء الإلهيون. ولا يراد بالاستحقاق للفيض أنّ هذا الموجود يملك حقًّا على الله، بل بمعنى أنّ عدلَ الله هو عين الفضل والجود.

والدليل على ثبوت صفة العدل بهذا المعنى لله هو أنّ الذات الإلهية خيرٌ وكمالٌ مطلق تعطي ولا تمسك، لكنّها تعطي كلّ موجودٍ بحسب قابليته. فالعدل الإلهي –حسب هذه النظرية–أن أي موجود يأخذ من الوجود ومن كمال الوجود المقدار الذي يستحقه وبإمكانه أن يستوفيه.

كان فيلسوف الأخلاق أبو علي مسكويه الرازي يُعرّف العدالة بأنها: «إعطاء ما يجب، لمن يجب، كما يجب، وهي «أي العدالة» فصيلة يُنصف بها الإنسان من نفسه ومن غيره. فالعدالة هي ما أمرت به الشريعة، وما أمر به الأنبياء كافة بإقامتها في المجتمعات الإنسانية، ذلك أنها توجب وحدة المجتمع، وتبدّد شبح الفرقة والمنازعة.

ولئن كانت العدالة مفهوماً أخلاقيًّا متعالياً عند مسكويه فهي إلى جانب هذه المنزلة تشكّل عند الأمير عبد القادر جوهر الشريعة. ومن هذا الجوهر تفيض سائر مبتنيات العلوم والمعارف التي تقوم عليها الحقيقة الدينية في مجال العبادات والمعاملات والتدبير السياسي لشؤون المجتمع والدولة والأمة.

ولعلنا نجد لدى الأمير ما نتلقاه من مسكويه لجهة عنايته بالترابط بين العدالة والاجتماع السياسي، وتعييناً في مجال النظام المتعالي الذي تنبسط فيه دولة الخلاص عبر الولي الخاتم الذي يجري العدالة في حق نفسه وفي حق الغير على السوية طبقاً لشرع الحق الأول تعالى. فالحاكم الذي يصفه مسكويه بأنه «عدلٌ ناطق» لأنه خليفة صاحب الشريعة، يتجلى عند الأمير بكونه الحجة البالغة، ومخلص آخر الزمان، وبالتالي فهو العدل الفعال الذي يملأ الأرض تراحماً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

لقد مرّ معنا تظهيرات إجمالية لأركان التصوف في مقام السياسة كما تبيّنها اختبارات السيرة الذاتية للأمير السيد عبد القادر الجزائري. ولئن كانت هذه الاختبارات قامت على الفعل الحي في النظر والعمل.فإن نموها ما كان ليكتمل لولا الرؤية التوحيدية التي اتّخذت لنفسها منهج الجمع والموافقة والمطابقة بين أحياز الحقيقة الدينية. وهي الوحي والعقل والعرفان. ولو كان لنا من بيان لمقتضيات هذا المنهج لوجدناه في اللقاء الحميم بين روحانية الشريعة وروح العقل. فإذا كان العمل بحقيقة الشرع مقتضاه ترك ما تنهى عنه وأداء ما تأمر به، فإن مقتضى العلم بها (بالشريعة) يعني إدراك ما جاءت به على نفس ما جاء في الكتاب والسنة. ولما كانت الحقيقة العقلية أو الممارسة العقلانية تقوم على معرفة الأشياء على ما هي عليه بالأصالة، فإن معرفة الشريعة يكون بإدراك مقاصدها كما جعلها الشارع الأول. ثم أن مدرك المقاصد، العامل بها، يستطيع إذا غلب الحال على علمه صار الحكم للحال. فهو بذلك من المتحققين لأنه جمع الشريعة إلى الحقيقة لتكون الضامن له فيها من كل غلواء أو انزياح عن ثقافة الأمة الوسط.

مقتضيات السفر العقلي الغيبي

المدرك بالعقل والآخذ بالنظر من الشرع هو المكلف الذي استطاع تمييز الأحكام واقتدر على إنزالها على أفعالها. لكن هذا الأصل النظري عند دخول المكلّف التجربة فتعود إلى مقتضيين:

الأول: مقتضى الخطاب ومؤداه، أن المكلف يعلم أن الحق يخاطبه في كل شيء، وأن هذه المخاطبة مستمرة باستمرار حياته، وأن نص هذا الخطاب، إن حفظ رسوماً في الصحف المطهّرة فمعانيه مودعة في نفس المكلف وفي الأكوان من حوله، وأن هذه الأكوان ما قامت ولا استقامت إلَّا بهذه المعاني الإلهية التي على المكلف واجب طلبها، والتعرف عليها، والتقرب بها إلى حضرة الله.

والثاني: مقتضى الرؤية ومفاده، أن المكلف يعلم أن الله يراه رؤية لا تنقطع، وأن هذه الرؤية، إن جاءته بالرضا عن أفعاله سعد سعادة لا يشقى بعدها، وإن جاءته بالسخط، شقي شقاوة لا يسعد بعدهها؛ وبذلك فهو مطالب بأن يراقب نفسه ويراقب الله في كل أفعاله.

وتبعاً لهذين المقتضيين تتفرع ثلاثة مقتضيات متصلة بالاختبار الحي الذي يمارسه المكلف في سياق مجاهداته وهي: الاشتغال بالله والتعامل مع الغير، والتفاعل مع الأشياء. وتفصيل ذلك على الوجه التالي:

أن المكلف يدرك أنه مخلوق للاشتغال بالله وأن الاشتغال بغيره ينبغي أن يذكره بالله دائماً وأبداً، فما يعقل المكلف شيئاً إلَّا ويجعله هذا الشيء يعقل أمر ربه فيه.

مقتضى التعامل مع الغير هو أن المكلف يأتي أعمالاً لصالحه يبنيها على اعتقاداته مقراً لغيره ذات الوقت بحق الإتيان بمثل هذه الأعمال لصالحه وبحق توجيهها بما عنده من اعتقادات، كما يرتّب المكلف هذه الأعمال جميعها بحسب ما يقتضيه الصالح العام.

أما مقتضى التفاعل مع الأشياء فهو أن المكلف يتّجه إلى الموجودات من حوله قصد إرضاء حاجاته المشروعة وحفظ حياته المادية، فيفعل فيها ويتصرف بها بحسب هذه الأهداف، كما تفعل فيه هذه الموجودات هي الأخرى، وتؤثر فيه بما يوافق هذه الأهداف أو يعارضها، فتقوم بينهما علاقات الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير.

إذا كانت كمالات العقل لا تظهر إلا بالممارسة، فمعنى ذلك القيام بمهمة التدبير على الوجه الأحسن في الاجتماع البشري. والسياسة بهذه المثابة هي عين السلوك التي سيتجلى الكمال من خلالها للعقل المؤيّد بالحق والمسدد بعنايته ولصفه. فهذا العقل بوصفه الطور المتقدم ضمن فضاء الجمع بين الممارسة والفكر يشكل خطوة بعيدة في تكميل الحقيقة العقلية عند الإنسان، حيث إنه يقطع به مرحلة يحصَّل فيها القدر اللازم على اتقاء الآفات الخلقية: على اختلاف أشكالها ومستوياتها. وهذا هو العقل الذي يقول فيه الصوفي الكبير سهل التستري: «إن العبد إنما ينظر إلى الحق بسبب لطيفة من الحق يوصلها إلى قلبه، هي من أوصاف ذات ربه، ليست بمكونة ولا مخلوقة ولا موصولة ولا مقطوعة، وهي سر من سر إلى سر، وغيب من غيب إلى غيب.

والعقل لدى العرفاء «غريزة لا يُعرف إلَّا بفعاله في القلب والجوارح. فلا يقدر أحدٌ على أن يصفه في نفسه ولا في غيره بغير أفعاله. ولا يقدر على أن يصفه بجسمية ولا بطول، ولا بعرض، ولا بطعم، ولا شم، ولا مجسة، ولا لون، ولا يُعرف إلا بأفعاله».

عندما سأل الجنيد، الحارث المحاسبي: «متى يسمى الرجل عاقلاً عن الله تعالى؟» أجاب المحاسبي: «يسمى الرجل عاقلاً عن الله إذا كان مؤمناً خائفاً من الله عز وجل»، ودليل هذا الإيمان المقترن بالخوف «أن يكون قائماً بأمر الله الذي أوجب عليه القيام به، وأن يكون مجانباً لما كره ونهى عنه».

ما يراد من هذه المقتبسات كان بقصد الوقوف على مقتضيات السفر العقلي الغيبي في فكر وتجربة الأمير عبد القادر الجزائري. ولعل أهم ما نلاحظه في هذه المقتضيات هو جلاء التواؤم الدخلي الوطيد بين العقل والكشف، وبيان أن العقل عن الله هو التصوف بعينه، وهو الذي يفتح الباب للسالك حتى يغادر عتمة الاحتجاب. بل هو الحالة الأكثر اقتراباً من النقطة العليا التي تجعل الإنسان كاملاً بعد أن تؤيده بالتقوى. ودخول العمل الديني بأوجهه المختلفة والمنوعة في فضاء الامتحان الصوفي، أو فيما يسميه طه عبدالرحمن «توسل العقل بالتجربة الحية، سوف يمكن العاملين أو السالكين من إحراز مرتبة التخلُّق على مستويين اثنين: العينية والعبدية، فبفعل العينية، يلابس المتقرّب الأشياء من جهة، ويتحول ويتشكل العمل والنظر عنده من جهة ثانية. وبفضل العبدية يتحرر من رق الأوصاف ومن رق الأفعال. فإذا تحرر من رقّ الأوصاف، لم تلحقه آفة التجريد، وإذا تحرّر من رق الأفعال لم تلحقه آفة التسييس. ومتى سلمنا بأن الصوفي في نشدانه الكمال والتكامل في السلوك يلزمه طلب الحصانة من آفات العمل الخُلُقية والعلمية، وسلّمنا بأن التجربة الحية هي التي تحفظ من هذه الآفات بفضل ما تخلعه على المتقرّب من أوصاف العينية والعبدية، أدركنا علّة أن يجعل الصوفي من التجربة الحيّة ركن الأركان التي يتحقق ويتقوّم بها السلوك عنده».

ولا ريب في أن مثل هذا المنهج الجمعي الذي اتخذ من فضاء الوحي مرجعيته العليا، سوف يفضي بصاحبه إلى تشكيل منظومة معرفية سيكون لها الأثر الوازن في تظهير ميتافيزيقا سياسية حضارية تتأسس على الحقيقة المحمدية السارية بلا انقطاع في حركة التاريخ.

لقد أنجز الأمير عبد القادر طور الجهاد الأصغر في سياق حرب التحرير التي قادها ضد الاحتلال الفرنسي. وقد نجح في تقديم نموذجه في الحكم بعد اتفاقية الهدنة في العام 1834، وهو النموذج الذي قال فيه مؤرخ فرنسي: «يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفرداً، وعلى رأسه تاج من ذهب، من دون أن يصيبه أذى».

وما كان للأمير أن يفلح في بناء نموذجه الأخلاقي السياسي لولا جهاد النفس الذي هو الجهاد الأكبر.

أما الجهاد الأعظم –وهو الجامع للجهادين الأصغر والأكبر- فهو الذي يدخل في سَيْريَّة نمو شاملة ومتعالية نحو إقامة الدولة العالمية الفاضلة.

وما من شك في أن الأطوار الجهادية التي قطعها الأمير عبد القادر سوف تؤلف وحدة تطبيقية في المسار التاريخي للحقيقة المحمدية. ذلك أن الجهاد الأعظم هو الطور الأخير من سفر العارف، وهو المعادل للسفر الرابع الموصل إلى مقام الولاية.

فالجهاد الأعظم بهذه المنزلة هو جهاد المتواصلة بالوحي، الداخلين في سلسلة الحقيقة المحمدية السارية في التاريخ البشري. وقد مرّ معنا بيان صفاتهم وأعمالهم والأسفار التي يقطعونها للوصول إلى مقام الولاية. وهم الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمة والأولياء. وأهل الجهاد الأعظم هم أهل الجمع بعد الفرقة وأهل الوحدة بعد الكثرة. إلَّا أنه لا مناص لهم من الرجوع إلى الكثرة بالرحمانية والاعتناء والإيثار والحب.. ولذا تراهم وقد ربط الحق تعالى على قلوبهم باللطف والتسديد والتأييد، يؤدون ما وجب عليهم من تكليفات في الواجب والنافل في سيرية الصعود والترقي في السلوك والوصول. فإنهم ينجزون الجهاد الأصغر وهم يعيشون جهاد النفس المسمى بالجهاد الأكبر، ثم يواصلون المجاهدة بالنظر والعمل والتخلّق قرباً إلى الله تعالى ليفيض عليهم بالولاية جزاء لهم بما عملوا وأحسنوا.

«الجهاد الأعظم» الذي ارتسمت علاماته مع الجهادين الأصغر والأكبر اللذين بدأهما الأمير عبد القادر في وقت مبكر من حياته، سوف ينمو ويتطور في سياق حركة جوهرية بلغت منتهاها إلى الولاية. ولسوف يظهر لنا لو عاينا اختباراته الروحية، كيف أن السياسة عنده تنتسب إلى منهج الأنبياء والأولياء المكلفين بإنجاز رسالة الوحي.

تؤلف الأطوار الجهادية الثلاثة عند الأمير عبد القادر خلاصة الأركان التأسيسية لتصوّفه السياسي. ولعل من يفلح بالجهاد الأعظم هو العائد بنَسَبِه المعنوي إلى الأنبياء والأولياء كما ذكرنا، هو الذي تنظر إليه الميتافيزيقا باعتباره شخصاً متلقياً للإلهام الإلهي عن طريق العقل الفعّال. وهو ما يشير إليه الأمير عبد القادر في غير مناسبة حين يتحدث عن صفات القطب الصوفي ومزاياه.

وتبعاً لهذه الرؤية، فإن الإنسان الذي يحل فيه العقل الفعّال إما أن يكون فيلسوفاً حكيماً وإما أن تجتمع لديه الحكمة المسددة بالفيض الإلهي. وهذا الإنسان الأخير هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة في أرجاء المدينة الإلهية الفاضلة.

____________________

*المصدر: موقع ” الكلمة”.

**بحث مقدّم إلى الملتقى الدولي حول حياة وآثار الأمير عبد القادر الجزائري، بمناسبة تظاهرة تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية، الجزائر، فبراير 2012.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى