تصوّف وعرفان نظري

أقرب الطرق إلى الله… منازل العرفان

                  أقرب الطرق إلى الله… منازل العرفان

 

أبو القاسم الديباجي

اعلـمـوا عباد الله أن الله تعالـى جـلـت عظمته خـلـق الخلائق وهـو غـنـي عـن خلقهم لا لغاية إلا ما أشار إليها في مكنون كتابه حيث قال جل جلاله: « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» فالعبادة غاية الخلقة والتكوين وفي حد ذاتها وسيلة للقرب إلى الكمال المطلق والذات الأحدية المتعالية، ومن هنا كان قوله عزمن قائل في حديث قدسي: « كنتُ كَـنزاً مَخفِياً فأحبَبت أن أٌعرَفَ فَخَلقتُ الخَلق ِكَي أٌعـَرف» ومع الجمع بين الآية والحديث نخرج بهذه الحصيلة النورانية الملكوتية وهي أن العبادة الحقيقية ليست حركات الأبدان وسكناتها فحسب إنما هي معرفة الله حق معرفته وعبادته حق عبادته كما قال الإمام عـلـي بن أبي طالب (عليه السلام): « أول الدين معرفته» فمعرفة الله تبارك وتعالى هي الوسيلة المؤدية إلى التوحيد الخالص له دون غيره ولا يخفى أن معرفة الله تبارك وتعالى محدودة في نعوته وصفاته الجلالية منها والجمالية وأما التفكر في ذاته وإدراك كنهه فلا سبيل لأحد إليه كما قال سيد البشر (صلى الله عليه وسلم): « ما عرفناك حق معرفتك «، وكذلك قول الإمام الحسين بن علي (عليه السلام): “إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار “بل منهي عنه كما قال الإمام علي (عليه السلام): “تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته” وأما دون ذلك فإن الله سبحانه وتعالى لم يحجب الخلائق عن وجوب معرفته بل كلفهم ذلك كل حسب قابليته وطاقاته واستعداداته، فإن إفهام الناس وعقولهم متفاوتة في قبول مراتب العرفان وتحصيل الاطمئنان كماً وكيفاً شدةً وضعفاً سُرعةً وبطئاً حالاً وعلماً وكشفاً وعياناً، وإن كان أصل المعرفة فطرياً إما ضروري أو يهتد إليه بأدنى تنبيه فلكل طريقة هداه الله عز وجل إليها إن كان من أهل الهداية، والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق وهم درجات عند الله.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن هناك فرقا بين العلم والعرفان، فالعلم هو الاطلاع على ذات الشيء وأما العرفان فهو العلم بآثار الشيء ومصاديقه أو هو إدراك الشيء بفكر تدبر وهو أخص من العلم وضد الإنكار. وما أحسن ما قاله الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (رضي الله عنه) في معنى العرفان أنه: « تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل أنه إدراك بعد علم سابق».

يقول العرفاء أن الإنسان يشعر على الدوام بالنقص والاحتياج وبفطرته الأصيلة يميل إلى من يسد نقصه واحتياجه، ولجبران هاتين النقيصتين يتحرك نحو الكمال، هذه الحركة المعنوية الباطنية والذاتية الخفية التي تنشأ في روح الإنسان وقلبه وترتقي بهما تجاه الذات القدسية وكل الكمال تُعرف بالسير والسلوك إلى الله.

عباراتنا شتى وحسنك واحد… وكل إلى ذاك الجمال يُشيرُ

فالسلوك هو طي الطريق للوصول إلى لقاء جمال ذي الجمال المطلق والسير هو مشاهدة آثار المنازل التي يطويها السالك منزلا بعد منزل والمترتبة بعضها على بعض وكلما يطوي منزلا يرقى إلى الكمال أكثر فأكثر حتى يصل إلى أوج الكمال وهو مقام الإنسان الكامل.

و على هذا فمبدأ السير والسلوك إلى الله هو النقص والاحتياج الفطري كما قال سبحانه وتعالى:

” وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً» ومنتهاه جناب الحق المنزه عن كل نقص:

” وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى”.

ولا شك أن الجذبة الإلهية والنفحات الرحمانية هي التي تدفع الإنسان إلى التعرف على عوالم الغيب وكشف حقائق عالم الوجود، فحينما خلق الله العباد وهو ذو المن القديم هيأ لهم الأسباب والعلل ليفيض عليهم من شمائل ألطافه الغيبية ونسائم نفحاته القدسية التي تهب عليهم بين حين وآخر، كما قال سيد المرسلين (صلى الله عليه وسلم): « إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها»، فعلى العبد أن يقف في مهب تلك النسائم والأطياب الإلهية ويشد رحله للسير فيها والسفر إلى الله حتى تسلك به إلى لقاء مبدأ الفيض الأزلي والوجود السرمدي.

ولما كانت المعرفة والعرفان وسيلة السالك إلى الله في السير والسلوك إلى حظيرة القدس ورياض الأنس، فلابد من تجرد القلب والروح من مظاهر الطبيعة المادية وكدوراتها وتطهير النفس من علائق الدنيا الدنية وشوائبها والتخلص من الإنية والأنانية والآثار الوجودية شيئا فشيئا، والدوام في جهاد النفس ومراقبتها ومحاسبتها ثم التزين بزينة الأخلاق والتحلي بحسنات الصفات والعروج نحو التكامل المعنوي والسمو الروحي بالاستمداد من العون الإلهي والمدد الرحماني، حتى ترفع الحجب الظلمانية الناشئة في النفس وتفُتح من هذا العالم المادي منافذ تطل على ما وراء الطبيعة والعوالم العلوية والعقول المجردة عن المادة، وتتصل الروح بأنوار الملأ الأعلى وتنال بذلك المدارج العليا في الكمالات إلى أن يصل إلى مقام الفناء في الله فيخرق بصر قلبه حجب النور ويكون مظهرا من مظاهر وتجليات الحق تبارك وتعالى إلى الخلود في جنة لقائه.

والسالك في سفره إلى الله تعالى يحتاج إلى مرشد ودليل لكي يأخذ بيده ويرشده إلى الطريق المستقيم حينما تفترق أمامه الطرق، فينقذه من المتاهات والظلمات والوقوع في خطر الآفات والمهلكات ويكون سبيل الله في هدايته والوصول إلى مقصده: « وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا»، وخير الأدلاء على الله نور الله الأعظم النبي الخاتم الهادي البشير والسراج المنير محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال فيه الله عز وجل: ” قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ”.

ولقد كان المسلك العرفاني لكل مرشد مطابقا للمسلك العرفاني لأستاذه والمبني أساسا على الحديث النبوي الشريف المتواتر: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» فمعرفة النفس مقدمة لمعرفة الرب، وكلما عرف الإنسان نفسه تخلى عنها حتى تتلاشى تماما وتمحى ولا يبقى منها رسم أو أثر، وعند الفناء عن النفس بمراتبها يحصل البقاء بالرب» وقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كيف الطريق إلى معرفة الحق فقال (صلى الله عليه وسلم) معرفة النفس، فقيل فكيف الطريق إلى موافقة الحق فقال (صلى الله عليه وسلم) مخالفة النفس !! ولا يمكن الحصول على هذا المقام إلا بالالتزام بالمراقبة الدائمة والمناسبة لكل مرحلة من مراحل السير والسلوك إلى الله.

و جدير بالذكر أن المنهج العرفاني الذي اتبعه سلسلة مراشدنا الأعلام قائم على آيات القرآن الحكيم وجوامع الروايات الصحيحة ولا يشذ عنه ولو بمقدار حبة من خردل، فالخروج عن مسار الشريعة المحمدية الغراء كمثل الوقوف على مفترق الطريق ثم الوقوع في المهالك وقد يؤول إلى الكفر والعياذ بالله.

وأما المسافة التي يقطعها السالك في سفره إلى الله فتنقسم إلى مراحل ومقامات علمية وعملية متتالية، ويسمى كل مقام من هذه المقامات منزلا ” وما لم يطو السالك أي منزل من المنازل لا يمكنه الانتقال إلى المنزل التالي”.

وقد اختلفت أقوال العارفين في عدد المنازل وترتيبها مستندين في أقوالهم على الآيات القرآنية والروايات، فقال البعض انه منزل واحد لا غير وهو «الفصل والوصل» أو «القطع والوصل» أو «معرفة النفس» وقال بعضهم انه منزلان هما الظاهر والباطن أو الشريعة والطريقة، أو الشهود والغيب أو الحجب الظلمانية والحجب النورانية، وقال البعض الآخر انه ثلاثة منازل بعدد العوالم وهي عالم الطبيعة وعالم المثال وعالم العقل، أو عالم المُلك وعالم الملكوت وعالم الجبروت، وقال البعض ان الحجب والمنازل أربعة وهي ترك الدنيا وترك العقبى وترك المولى وترك الترك والبعض قال انها خمسة منازل وهي الحضرات الخمس أو العوالم الخمس الطبيعة والمثال والروح والسر والذات، وعدد آخرون سبعة منازل استنادا إلى ما ذكر من الآيات في « السماوات السبع والاراضين السبع» فالسماوات السبع دالة على الحجب النورانية التي تتناسب مع مراتب النفس الاراضين السبع دالة على الحجب الظلمانية التي تتناسب مع حواس الإنسان الظاهرية أو عوالم الحس والمثال والعقل والسر والسر المستتر والسر المقنع بالسر والذات، وبعضهم قسمها إلى عشرة منازل حسب مراتب الإيمان « الإيمان عشر درجات وسلمان في العاشرة»، والبعض استند إلى عدد الحجب التي كشفت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المعراج فقال انها سبعون منزلا، واستنادا إلى أسماء الله المئة قسم البعض طريق السير والسلوك إلى مئة منزل، وقد قسم الشيخ عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) المنازل إلى عشرة أقسام في كل قسم عشرة أبواب فكان مئة منزل )، واستند البعض الآخر إلى روايات أخرى في عدد أسماء الله فذكر ثلاثمئة وواحد وستين منزلا، وذكر آخرون ألف منزل ( كالمرحوم الشيخ الشاهآبادي) (رضي الله عنه) وذهب آخرون في تقسيم منازل السالكين إلى سبعين ألف منزل.

وأما منهجنا العرفاني فقد بني على أساس ألف منزل من منازل السالكين إلى الله.

اللهم نسألك يا دليل المتحيرين وغاية همم العارفين ويا نور قلب المشتاقين أن تصلي على محمد وآله الطيبين الطاهرين وأن تسلك بنا سبل الوصول إليك وتمهد لنا طرق الوفود عليك وتملأ ضمائرنا من حبك وتثري قلوبنا بشراب أنسك وتقر أعيننا بفرحة لقائك آمين إله الحق رب العالمين.

_______________________

*نقلًا عن موقع صحيفة ” الرأي” الكويتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى