فنون وآداب

صناعة التفاهة ؟!

صناعة التفاهة ؟!
كتب مردوك الشامي( مجلة البعد الخامس)
أمام ديموقراطية فضفاضة وإدعاء محروس “بالحرية الشخصية”تنتصر التفاهة على الأصول
في كتابه “نظام التفاهة” يتحدث الكاتب والمفكر الأكاديمي الكندي “آلان دونو” عن سيادة نظام عالمي جديد أدى تدريجيًا إلى سيطرة التافهين على جميع نماذج الدولة الحديثة.
فكانت النتائج ضمور الكفاءة، وصعود التافهين والجاهلين لتسلم مقاليد الأمور في السلطة والوظائف العالية والمناصب الكبرى في المصانع والمصارف والجامعات…
القيم التي كانت عليا تم محوها بالتدريج مقابل إرساء قيم غاية في الانحطاط والرخص، متطلبات الجودة لم تعد مطلوبة كما في السابق، فلقد غُيّب الأداء الرفيع، وأُبعِد الأكفّاء، وبرزت الأذواق المنحطة، وكل ذلك خدمة لأغراض السوق، وتحت شعار الديموقراطية والحرية الشخصية والخيار الفردي، فانعكس هذا على كل تفاصيل الحياة المعاصرة، وعلى السياسة والمجتمع والإعلام والفنون والثقافة.
أصحاب هذه الصناعة، أقصد صناعة التفاهة، يتحكّمون بالشعوب من خلال إيجاد أنظمة وحكام وحكومات في العالم العربي، وحتى في العالم المتحضر، تافهة وغير جديرة بحمل المسؤوليات، ليسهل قيادها وتمرير المخطط العالمي بتحويل الإنسان من كائن عاقل وموضوعي إلى مخلوق تافه وبسيط، ترضيه أبسط الأمور وتقنعه، ولا يحاكمها عقليًا.
ولن أتطرق في هذه العجالة إلى سيرة هذه الصناعة، ولن أتوسّع في تدوين ملامحها ورقعة انتشارها على صعيد الكوكب ككل…
سأتوقّف عند الأدب والثقافة وأقارب المشهد الثقافي القريب / اللبناني والعربي.
جاءت وسائل التواصل الاجتماعي بكل اتساعها وحريتها، وعدم خضوعها للرقابة، لتصبح كتاب العصر، وانسحب عصر الورق وعصر الكتاب أمام سطوة العدسة.
لسنواتٍ كانت صناعة التفاهة تختص بجوانب الفنون الموسيقية والغنائية، فصنّعت من خلال برامج المسابقات وشركات الإنتاج الفنية أجيالًا من مغنيّ الفقاعة ومغنيات هزّ الأرداف… وتم تسخيف غالبية الشعر الغنائي وتمييع الألحان، وتحويل منصات الغناء إلى منصات استعراض رخيص.
ورويدًا رويدًا أصبح الغناء العربي مختصًّا بذائقة الخصر والعهر ومصممي الأزياء ومتخصّصي المكياج.
وتحت شعار عصر السرعة راجت الطقطوقة على حساب الأغنية الطويلة، وفازت الأغنية السخيفة المعنى ذات الإيقاع الهزّاز على الأغنية التي تحمل القيمة الشعرية واللحن الطربي الأصيل.
واليوم، يهتم صانعو التفاهة بالجانبين الأدبي والثقافي في عالمنا العربي…
المنبر الشعري الذي كان عصيًّا على غير الشعراء صار متاحًا من خلال وسائل التواصل المنتشرة والمجانية وغير الخاضعة للنقد والرقيب والحسيب، ودور النشر التي كانت قبل طباعة أيّ كتاب تهتمُّ أولًا بفحواه وخلوّه من الأخطاء، وحمله ولو جزءًا بسيطًا من القيمة الأدبية، صارت تنشر ما هب ودبّ، طالما صاحب الكتاب سيدفع تكلفة الطباعة والترويج.
وبات بإمكان أيٍّ كانَ ادعاء الأدب، وحمل لقب الشاعر والروائي والفيلسوف حتى، خاصة في ظلّ العماء شبه التام، والابتعاد عن القراءة الحقيقية لغالبية ما يُنشر من صالح وطالح.
ولو افترضنا أنّ هناكَ من يدقّق الكتب المنشورة مقابل أجرٍ زهيدٍ فتأتي خالية من الأخطاء، فمن أين نجيء بمدققٍ يجلس في حنجرة الكاتب حين يعتلي المنبر، ويكسر بخاطر سيبويه والفراهيدي وكل علماء اللغة الراحلين والأحياء؟!
ألا يشعر الذين يستمعون إلى الشاعر أو الكاتب الذي يكون على المنبر المباشر أنه مختلفٌ عن كتابه، ألا تبيّنُ قراءة النص مدى تمكن صاحبه وفهمه والإحساس به؟!
شعراء منصّات التواصل انتقلوا من الواقع الافتراضي إلى منصات المنتديات والمهرجانات، وتم قبولهم وتسويقهم لأن غالبية الجمهور الواقعي هو ذاته جمهور الافتراض!
ألم تقم المسابقات والبرامج الشعرية العربية بتكريس أسماء بعينها، دفعت بها لتمتطي صهوة الانتشار السريع والحاسم؟!
لا أنكر أن هناك شعراء صنعتهم تلك البرامج يستحقون الضوء، ولكن في المقابل هناك عشرات غيرهم يعتاشون اليوم على فضيلة مرورهم في تلك البرامج البراقة.
تعمُّد تغييب النقد والنقاد على الصعيد الأدبي، ألم يسهم في ازدياد الهشاشة والانحراف؟!
انتقال المنبر الشعري إلى التيك توك، واختلاط القصيدة بمنصات الطبخ وصفحات الخلاعة، وتسويق الابتذال واللا أخلاق، ألم يقدم إلى جمهور تلك المنصات وسواها من مواقع مباحة ومستباحة شعراء تافهين وأدباء بلا أدب؟!
وإن ارتفع صوت معارض لهذا السقوط سرعان ما يتعرض للهجوم المعاكس بتبرير أنه يقف في وجه الحرية الشخصية، وأنه يعاند السائد، ويأتي آخرون ليقولوا إن الزمن كفيل بغربلة كل هذا النتاج، وأنه سيأتي يوم لن يبقى فيه سوى الصالح!
المضحك أن الزمن كله في تدهورٍ مستمر، وانتظار المعجزات عقيم.
الأدب “الواطي” قيمةً ولغةً ورسالة يسقط أمام قارىء عالٍ في التلقي واستقراء الصفحات… لكن الواقع يقول إن القارىء الحقيقي المنتظر بات نادرًا ومغيبًا وغائبًا، وإن غالبية الذين يقرؤون هم من صنيعة بؤرِ التفاهة عينها.
في قراءة موضوعية لا تخلو من بعض جرأة واستفزاز لكثيرين، أقول إنني منذ سنوات أراقب هذه الثنائية التي تربط الافتراض بالواقع…
أراقب كيف تنمو طحالب التفاهة على جدران الشعر والرواية والإعلام والفنون…
وأرى كيف ينبت كل يوم عشرات “الشاعرات والشعراء”، تبدأ الحكاية بكتابة نص “نص كم” ترافقه صورة بلا أكمام لصاحبة النص، أو صورة جذابة لصاحبه!
أراقب أسماء بعينها تزور صفحات التواصل ولا تترك منشورًا إلا وتعلق عليه، ولا صورة إلا وتضع عليها اللايكات والقلوب…
خلال شهور تغدو تلك الأسماء معروفة بحكم التداول اليومي واللحظي، ويسطو أصحابها على الجميع لانتقاء كل الأسماء اللافتة ومصادقتها وملاحقتها، والغالبية يهمها التعليق الإيجابي والقلب الأحمر على الرغم من خلوه من النبض، لكن الإيحاء يكفي في عصرنا…
وتنمو العلاقات والصداقات الافتراضية، ثم تتحول إلى واقعية من خلال الاختلاط في المنتديات المفتوحة للجميع، وغالبية المنتديات تفتح منابرها لمن يشاء أن يدلو بغثائه، والجمهور الذي يحضر الأمسيات بات يحضرها ليأخذ الدور في الصعود إلى المنبر وتلاوة نصوصه على علاتها، والكل يصفق للكل لأن هناك تواطؤًا عامًا على القبول بالآخر كي يقبل بي.
ولأن طباعة ونشر أيّ كتاب لم يعد خاضعًا للمقاييس والرقابة والنقد، صار بإمكان أي مدعٍ أن ينشر رواية ومجموعة شعرية وقصصية وفكرية، ويكون مستعدًا لتوقيعها وبحشد لافت، لأنه يكون في الأساس، ومنذ فترات بلا حصر، قد حضّر لذلك من خلال حضور كل حفلات التوقيع، ومن خلال المدائح ومسح الجوخ، كما أن الوصول إلى أي شاشة تلفزيونية محلية بات سهلًا أمام العلاقات والوساطات، فيكون الناتج أننا سنقف مجبرين أمام “مبدع” كبير له كتب وحضور تلفزيوني وأمسيات، على الرغم من أنه في واقع الأمر لا يجيد الكتابة ويخطئ في القراءة، ولا يمتلك من الأدب إلا التواجد الدائم في محافل الأدب.
ألم أقل بداية إن صناعة التفاهة لعبة مقصودة ودائرة منذ أزمنة، وستبقى في استمرارية بلا حدود!
لقد نجحت هذه الصناعة بصناعة أغلبية تافهة على حساب أقلية أصيلة وحقيقية، وفي الديموقراطية تنتصر الأغلبية حتى ولو كانت من الغوغاء، وهذا ما نعيشه اليوم ليس فقط في المشهد الثقافي الأدبي، بل في الحياة برمتها، فنقع تحت سيطرة تفاهة الأغلبية لأنها باتت البضاعة الرائجة، وإن حاولنا الاعتراض نتعرض للإبعاد والحجر والمحاربة.
والحرب على الأصالة والثقافة الأصيلة باتت سهلة ومباحة وشرعية، يتكاتف فيها التافهون ويسقطون بكل بساطة بحكم السيطرة على وسائل التواصل، وبحكم أن تلك الوسائل مفتوحة الفضاءات ومتاحة للجميع، فتراهم يفترضون خصومة أي أصيل، لأن وجود الأصيل يثير قلق الأدعياء كونه لا يشبههم، وليس مطلقًا من فصيلة النقيق.
فإن صودف ووجد ملتقى أدبي يرفع مستوى منبره، ولا يسمح للمتطاولين بالوصول إلى شرف البوح من خلاله، يصبح الملتقى هو الهدف، ويتكاتفون لإسقاطه والإساءة إليه، لأنهم لا يمتلكون أدوات النقد. ولأن هذا الملتقى، في الأساس، صالح وبعيد من الهفوات والسقطات، يبدأون في حياكة الدسائس وتلفيق الاتهامات في الشخصي بعيدًا من شرف المواجهة ومقارعة الأدب بالأدب.
أعرف نصف شاعر زجّال، تم رفضه كشاعر في إحدى المنتديات التي تحترم منبرها، فقرر ومنذ سنين الإطاحة بالمنتدى، وصار لا يألو جهدًا في الإساءة إليه وإلى صاحبه وشعرائه، من خلال ثقافة الشتيمة وتلفيق الشائعات، والكتابة بلغة تنتمي إلى قاموس الأذية واللاأخلاق ضد ذاك المنتدى، فلا قانون يطاله ولا حساب، لأنه بحسب نظام التفاهة يمارس حريته الشخصية.
وأعرف كثيرات من اللواتي اكتسبن لقب شاعرة من خلال صورهن وتصفيق جمهور التفاهة لهنَّ، صرن المدعوات الأوائل إلى مهرجانات العرب، ونيل شهادات التكريم من كل المحافل العربية!
هل علينا الإقرار بالهزيمة أمام التفاهة؟!
هل علينا مواجهتها؟!
أسئلة أتركها لقارىء لم تصبه بعد لوثةُ السطحية والهراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى