الرغبة والإرادة
الرغبة والإرادة
سيمون دو بوفوار
يعود لفظVolonté الفرنسي في أصله الاشتقاقي اللغوي إلى كلمة voluntas اللاتينية، ويدل الفعل:volo على ما يلي:( « je veux »)،أنا أريد. ويمكن تعريف الإرادة بكونها تمثل القدرة على تحديد الأفعال بشكل حر، طبقا لأسباب عقلية، وهي تختص باتخاذ القرارات بكل صرامة. وقد تصورها ديكارت في مجال الميتافيزيقا باعتبارها ملكة لامتناهية تجعل الإنسان “يشبه” الله. وفضلا عن ذلك فإن الإرادة المتــــ نورة بالعقل هي ما يتيح لنا التعبير عن حريتنا.
إن قراءة ديكارت تفتح مجالا خصبا لمناقشة علاقة الإرادة باللامتناهي، فديكارت يدعم القول بكوننا نملك فكرة عن وجود جوهر لامتناه substance infinie، فهو يقول في التأمل الثالث:
أرى بكل وضوح بأن هناك من الحقيقة في الجوهر اللامتناهي أكثر مما في المتناهي، وأنطلق من أن مفهوم اللامتناهي يوجد بشكل ما في داخلي قبل مفهوم المتناهي، أي فكرة وجود الله قبل فكرة وجودي أنا نفسي، إذ كيف يمكنني أن أعرف بأنني أشك وبأنني أرغب، أي ثمة شيء ما ينقصني، وبأنني غير كامل إذا لم تكن لدي في داخلي أية فكرة عن كائن أكثر كمالا مني، والذي عندما أقارن نفسي معه أعرف عيوب طبيعتي؟
إن الإرادة الحرة واللامتناهية بالنسبة لديكارت تجعلنا نعرف بأننا نحمل في نفوسنا “صورة وشبها من الله”.وعلى العكس من ذلك، لم يلحق اسبينوزا الإرادة بالقوة الإلهية وبفعل الطبيعة الطابعة nature naturante، بل جعلها نمطا للطبيعة المطبوعة. وهكذا أحل سبينوزا مذهب الضرورة nécessitarisme في مكان المذهب الإرادي volontarisme. وعلى هذا النحو تفقد الإرادة حريتها وحالتها كملكة وواقعها المتفرد، مادامت الحرية مجرد وهم من أو هام الوعي.
وعلى النقيض من ديكارت، اعتبر سبينوزا بأن الإرادة لا تملك قدرة أكبر على الامتداد بالمقارنة مع الفهم، لأنها ليست شيئا يقع خارج الإثبات أو النـــــــ في الذي يميز الفكرة. وفي هذه الشروط لا يمكن للإرادة أن تلعب دورا كبيرا ما دامت تحد نفسها في تكرار عمل الفهم ثانية، بحيث تشكل معه “شيئا واحدا أو نفس الشيء”. ومن هنا تعتبر فلسفة سبينوزا عادة كفلسفة للرغبة أو كفلسفة للفهم أساسها إفراغ الإرادة من جوهرها بحيث لا تجد هذه الإرادة قط مكانتها[i].
إن نقد ملكة الإرادة الحرة وإرجاع الإرادة إلى الفهم لم يدفعا سبينوزا فقط إلى مجرد اقتصاد بسيط وخالص لهذا المفهوم، وإنما إلى اقتراح إعادة سبكه. فهو يدعونا سكوليوم القضية التاسعة ضمن الإيتيقا (الكتاب الثالث) بالفعل إلى الخروج من سباتنا الدغمائي، وتأسيس الإرادة على قانون جديد عن طريق تعريفها بوصفها عبارة عن الجهد المبذول لحرص الكائن على ذاته، كجهد يعود إلى العقل وحده. من وجهة نظر معينة يبدو كتاب الإتيقا بأكمله كمؤلف عن الإرادة بامتياز، طالما أنه يتتبع جهد العقل المبذول للحرص على معرفة ذاته وبلوغ السعادة، ومع ذلك فهو يوضح بصورة متناقضة بأن الإرادة الحاضرة في كل مكان منعدمة في أي مكان، لأن سبينوزا بعد أن أعاد تعريف هذا المفهوم، لم يعد يستعمله قط. ذلك لأن الإرادة إذا كانت لا تتميز عن ملكة الفهم، يمكن التساؤل حينئذ حول ضرورة المحافظة على هذا المفهوم.
وبالنسبة لكوندياك كل الأفكار تنشأ بكل بساطة عن طريق تحويل الشعور، وعندما نعتبر بأن مشاعرنا تمثيلية، تنشأ عنها كل أفكارنا وكل عمليات الفهم: فإذا اعتبرناها لذيذة أو مـــ قـــــــرفة فعن ذلك تنشأ كل العمليات التي نربطها بالإرادة، وهكذا تقوم أطروحة كوندياك على اعتبار الإرادة مشتقة من الحساسية أي الشعور اللذيذ أو المر، شأنها في ذلك شأن الحاجة، التضايق، القلق، الرغبة، العواطف والأمل[ii]. وعلى هذا النحو ميز كوندياك بين الأ لم، الحاجة والرغبة: بحيث يبقى الألم منحصرا في الإحساس المباشر بالنقص، وهو لا يفترض المعرفة بموضوع هذا النقص، أما الحاجة فهي التي نشعر من خلالها بالحر مان، وهي تفترض معرفة بالأشياء التي تنقصنا وتترقب المتعة بواسطة الخيال، ويرتبط الانز عاج والقلق بالحاجة. ومن هذا القلق تتأتى الرغبة: بحيث يمكن القول تحت تأثير القلق كل قدراتنا تصبح موجهة نحو الأشياء التي نشعر بأننا نحتاج إليها، وهذا التوجيه هو ما يدعوه كوندياك بالرغبة، إذ لا ينبغي القول بأن القلق ينشأ عن الرغبة، بل على عكس ذلك الرغبة هي التي تنشأ عن القلق.
دعونا نصل الآن إلى علاقة الرغبة بالإرادة. ميز كوندياك في هذا الإطار بين معنيين للإرادة: الإرادة في معناها الحقيقي بوصفها تنشأ مثل الأمل، من الحكم بإمكان بلوغ الشيء الذي نرغب فيه، فإذا استنتجنا من هذا الحكم أنه بإمكاننا بلوغ هذا الشيء يتولد الأمل في تحقيق ذلك. لذا فإن الإرادة ليست سوى نوع من الرغبة المعززة بالثقة، وبهذا المعنى يتحدث كوندياك عنها على أنها “رغبة مطلقة”، ذلك أن القول”أنا أريد معناه: أنا أرغب ولا شيء يمكن أن يعارض رغبتي”.هذا هو المعنى الصحيح أو الضيق لمفهوم الإرادة. ومع ذلك، فإن المنطق يقر بمعنى أوسع، من المفترض أنه يتوافق مع استعمال هذه الكلمة، والذي بموجبه يقصد “بالإرادة ملكة تشتمل على جميع العادات التي تنشأ عن الحاجة، والرغبات، والعواطف، والأمل، واليأس، والخـــــــ وف، والثقة، والافتراض، وغير ذلك”.
ويرى كانط بأن الإرادة خيرة لكونها تتحدد باحترام خالص للقانون الأخلاقي، ومن هنا فهي أساس العقل العملي الأخلاقي. وبالمقابل يحدد شوبنهاور الإرادة كقوة عمياء تمارس على كل الكائنات كإرادة للعيش، وهي التي يدعوها نيتشه بإرادة القوة، وهي قدرة خلاقة ومـــد مـــــ رة في آن واحد يثبت الفرد بواسطتها قيمه الخاصة. إذ اعتبر نيتشه بأن الإرادة مدفوعة بالسيطرة التي تجعل كل كائن يسعى إلى الاغتناء عن طريق مصنوعات تـــــ د مــــ ر كائنات أخرى وقيم أخرى. وينجم عن ذلك أن الإرادة شهوة غير قابلة للإشباع لإظهار القوة. وعلى خلاف ذلك ينطلق بول ريكور من اعتبار الإرادة فعلا خاصا بالإنسان، يصدر من الأعلى إلى الأسفل، وهو يسمح بالسيطرة على الأشكال المتعددة لما هو لاإرادي من قبيل الانـــــــ دفـــــــ اع أو ردود الأفعال الأوتوماتيكية.
محمد الخشين