فلسفة وميتافيزيقا

هيراقليطس (فيلسوف النار) .. الصراع جوهر الحياة

 

هيراقليطس (فيلسوف النار) .. الصراع جوهر الحياة

د.طه جزاع

 

 

 

 

 

يُعدُّ هيراقليطس ” 540 – 475 ق. م ” فيلسوف النار من كبار فلاسفة اليونان  في المدرسة الطبيعية الأولى ” الطبيعيون الأوائل” التي ضمته إلى جانب الثلاثة الكبار طاليس وأنكسيمندريس وأنكسيمانس إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق.

 

ووفق عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ويوسف كرم، فإنه اشتهر بنظريته في التغير والصيرورة التي امتد تأثيرها إلى العصور اللاحقة الوسطى والحديثة، وإن المتأمل لنظرية كارل ماركس في الصراع، يجد أن جذورها تعود إلى فلسفة هيراقليطس الذي كان يحب الانفراد بنفسه واعتزال الناس كما يؤكد علي سامي النشار في كتابه عن الفيلسوف الصادر في الإسكندرية عام 1969 وهو أمرُ طبيعي لفيلسوف مفكر، يتناول شؤون الكون والإنسان، ويقال أيضاً أنه ورث وظيفة دينية، لكنه تنازل عنها لأخيه الأكبر، لكي يتفرغ لشؤون الفلسفة . ويذهب عدد من مؤرخي الفلسفة إلى القول بأنه كان حزيناً متغطرساً، لا يحب العامّة، ويستشهدون على ذلك بمقولته ” إن رجلاً واحداً من الطبقة الأولى يساوي عندي عشرة آلاف رجل من العامّة ” وتفسيرها لا يعني بالضرورة أنه يريد الحط من شأنهم إذا ما نظرنا لها نظرة إيجابية موضوعية، فهو  سليل عائلة أرستقراطية، وقد يكون تأثر بهذا الأصل، لكن يمكن أن نفسر مقولته هذه على أن رجلاً عالماً، أو أديباً كبيراً، أو فناناً مبدعاً، أو فيلسوفاً عميقاً، لاشك أنه يساوي عشرة آلاف رجل أو أكثر، فالقضية تتعلق بالإمكانية العقلية التي تميز الرجل الحكيم عن العامّة، وليست قضية طبقية، أو أنه أراد الحط من قدر الناس العاديين. فهو يؤمن بأن لكل فرد عقله الخاص به، ولكنه مع ذلك يقول أن كلمة ” اللوغوس ” عامة للجميع، وهذه الكلمة كما يفسرها جعفر آل ياسين في كتابه ” فلاسفة يونانيون ” قد تعني العالم، أو الوجود الكلي، أو المبدأ الكوني، ولكنه مع ذلك يؤكد أن لكل إنسان عالمه الخاص الذي يتحرك وفق معطياته. كما يشير هيراقليطس إلى وجود تناسق خفي بين ما هو فردي وما هو كلي، فكل إنسان هو عالم متغير، إلى جانب الطبيعة الجوهرية للحقيقة الكبيرة، فكل شيء إذن متجانس مع كل شيء، ولا شيء يبقى ثابتاً، لأن كل شيء في حركة وتغير دائمين، وكل شيء في لحظة معينة يُرى في مواقف متعددة، فالعالَم متغير وغير ساكن، والطبيعة متقلبة على الدوام وفق تفسير علي سامي النشار. ولعل عبارة ” إنك لا تستطيع النزول مرتين إلى النهر، لأن مياهاً جديدة تنساب فيه باستمرار ” هي أشهر مقولة تعبر عن رأي هيراقليطس في التغير خير تعبير، وهو يريد أن يشير بها إلى أن الذرة أو القطرة التي مسَّت جسدك حين نزلتَ إلى النهر، لن تمسها ثانية أبداً، لأن القطرة قد سارت في طريقها مبتعدة عنك، وإن مياهاً جديدة تجري من حولك أبداً. وفي كتابه ” تاريخ الفكر الفلسفي ” يوضح محمد علي أبو ريان أن الفيلسوف أتخذ من الحركة الدائمة، والتغير المستمر، والصيرورة المتطورة، والسيلان العام، مدخلاً للصراع، فالصراع قانون يحكم الجميع، ولا راحة، ولا هوادة لأي شيء، بل أن كل شيء في حالة صراع، والصراع ما هو إلَّا حالة جبريّة بين البشر كما يرى هيراقليطس، بل أن كل فرد هو في حالة صراع مع نفسه في كل لحظة من لحظات حياته، وهو في الوقت نفسه في صراع مستمر مع الآخرين، ولولا هذا الصراع لما كانت الحياة، لأن السكون عدم وموت. والمهم في نظريته عن الحركة والتغير والصراع، أنها جاءت معاكسة لرأي بارمنيدس في الثَّبات، فالأخير يرى أن كل شيء ثابت ولا وجود للحركة، كما أن أفلاطون سيستعمل لاحقاً النظريتين في فلسفته، حين يتوصل إلى أن كل ما هو حسي فهو متغير، وأن الثَّبات لعالم المُثُل وحده “عالَم الصور العقلية المُجرَدة”. ويمكن القول بهذا الشأن أن نظرية هيراقليطس تمثل نصف الحقيقة، فإذا كنا نرى الأمواج في ظاهر البحر وهي في حركة دائمة، فالبحر في هيكله الكبير ثابت الأركان، وإذا كان الناس يموتون فرادى فإن الجنس البشري باقٍ مع توالي العصور، وإذا كانت أوراق الشجرة تتساقط في شهور الخريف، فإن الشجرة نفسها شاخصة ثابتة، فنظريته إذن نسبية ولا تمثل الحقيقة كلها، وهو حين يقول أن كل شيء ينساب ثم يذوي، فإنه لا يقصد أن ذلك يتم بالسرعة نفسها والدرجة ذاتها، فالبشر مثلاً يشعرون في حياتهم أن شيئاً ينمو ويتلاشى سريعاً في دقائق معدودة، ولكن هناك أشياء لا يحدث التغير فيها إلَّا بعد آلاف وربما ملايين السنين، وهو حين يقول أن كل شيء يخضع لدرجة من التغير في كل لحظة، فإن ذلك يمكن أن يكون صادقاً وفق مفهومه الفلسفي، أما نحن فلو تأملنا المنضدة التي نكتب فوقها، فإننا نراها صلبة ثابتة، والفيزيائي وحده هو الذي يستطيع أن يقرر بحساب ذهني رياضي، كم تتألف المنضدة من جزيئات، وكيفية حركتها وسرعتها. ولا شك أن هيراقليطس يشير إلى الظواهر الخاضعة للتجربة أكثر من معرفته الدقيقة بالمبدأ العلمي لحركة الجزيء الدقيقة، لأنه كان يعتمد الحس بالدرجة الأولى وملاحظة الأشياء المتحركة، ومن ثم الحدس بالتأمل العقلي والتواصل لبناء نظريته هذه، أكثر مما كان يعتمد النظرة العلمية لتفسير حركة الطبيعة .
عدا عن نظريته في التغير والصيرورة، فإن هيراقليطس وانسجاماً مع نظريته هذه، يعتقد بأن النار هي أصل الكون والعالم، وبذلك فهو يختلف مع طاليس الذي قال بأن الأصل هو الماء، ومع انكسيمندريس الذي قال بالهواء أصلاً للكون والعالم، وكانت حجة طاليس أن الماء يكون الجزء الأكبر من الكون، كما أن الماء يمثل الجزء الأكبر من الإنسان ذاته وأي كائن حي، والإنسان وكل الكائنات الحيّة من حيوان ونبات لا تستطيع أن تستمر على قيد الحياة من دون ماء، فالماء هو سبب الحياة، وقد خالف انكسيمندريس طاليس، وذهب إلى أن الهواء هو أصل الوجود، فالكائن الحي لا يستطيع الاستغناء لدقائق معدودة عن الهواء، فضلاً عن أن الهواء أخف وزناً من الماء. غير أن هيراقليطس يرى أن النار هي المحرك الحقيقي للكون، وإن كل كائن حي لا يستطيع الحياة من دون حرارة، والنار أخف من الهواء، وانطلاقاً من ذلك توصل إلى نظريته في الجدل الصاعد والجدل النازل، ومفادها أن التراب أثقل العناصر الأربعة، فإذا تفككت ذرات التراب خفَّت وتحولت إلى ماء، وإذا خفَّت ذرات الماء تحولت إلى بخار – هواء -، وإن الهواء إذا رقَّ تحول إلى نار، وهذا ما يُعرف بالجدل الصاعد، أما الجدل النازل، فإن النار إذا تكثَّفت تحولت إلى هواء، والهواء إذا تكثَّف تحول إلى ماء، والماء إذا تكثَّف تحول إلى تراب. وقد استفاد أفلاطون أيضاً من هذه النظرية، واستعملها في محاورة ” الجمهورية ” فقد أراد للإنسان أن يرتقي صاعداً، وضرب مثلاً باسطورة الكهف التي تُظهر الناس مكبلين في كهف عميق، وتأتيهم ظلال معتمة من كوة صغيرة من الضوء الحقيقي الخارجي، والمفكر منهم والفيلسوف هو الذي يستطيع أن يصعد إلى خارج الكهف ويتمكن من مشاهدة الضوء الحقيقي ليعود نازلاً ليخبر الآخرين ويبشرهم بما شاهده من نور الحقيقة، وتلك هي نظرية المُثُل التي صاغها أفلاطون للفيلسوف الذي يستطيع أن يترك عالم الحواس، مروراً بعالم العقل، حتى يدرك عالم المُثُل . وبالعودة إلى نار هيراقليطس فإن العالم عنده نارٌ أبدية، تُشعل نفسها بمقاييس مُنتظمة، وتخبو بمقاييس مُنتظمة، وأن هناك تبادلاً بين كل الأشياء والنار، وبين النار وكل الأشياء، أشبه بالتبادل بين السُلَع والذهب، وبين الذهب والسُلَع، فالأهمية الأولى هي للنار جوهر الوجود، ومحرك الكون، وأصل الحياة. والنار تحيا بموت الأرض، لأنها أخف العناصر، والأرض هي أثقل العناصر، والهواء يحيا بموت النار، لأن النار أرّق العناصر، وحين تتكاثف تتحول إلى بخار، كما أن الماء يحيى بموت الهواء، لأن ذلك البخار الرقيق يتكثف على هيئة قطرات ماء، أما الأرض فإنها تحيا بموت الماء، لأن الماء حين يتبخر يثقل فتبقى منه الذرات الجامدة التي هي الأرض، فعالم هيراقليطس هو عالمٌ متغير على الدوام، تغير مستمر لا توقف فيه ولا ثبات ولا سكون، ولما كان هذا الفيلسوف الكبير مولعاً بالرمز والأسلوب الغامض، فإنه يعبر عن نظريته هذه بالنهر الجاري الذي لا ينزل الإنسان إليه مرتين، وهو يشَّبه العالَم بالطفل الذي يلعب النرد، لكن تبقى النار الرمز الأكبر الذي أقام عليه مجمل فلسفته، وهو أكثر الرموز عنده دلالة على فكرة الصيرورة والتغير، كما أن النار تمثل رمزاً مهماً في نظريته عن الكون لأنها تمتلك عناصر فريدة في إحداث التغير، مثل سرعتها الذاتية الفريدة، وتوهجها وضوئها ، وحرارتها المستمرة التي هي سبب مهم في الحركة، والنار في الوقت نفسه هي الضوء الداخلي للعقل والمعرفة الروحية .

 

____________________________

*نقلًا عن موقع “مراصد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى