فلسفة وميتافيزيقا

انهيار اليقين

 

 

انهيار اليقين:

التحولات الجذرية في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة

 

 

                                                                             د.حمدي سيد محمد محمود

 

 

 

 

“شهد تاريخ الفلسفة الأوروبية، منذ انبثاقها في عصر الحداثة وحتى اللحظة الراهنة، تحولات درامية في مسارات الفكر الإنساني، لعل أبرزها تمثّل في ما يُعرف بـ انهيار اليقين. تلك الفكرة التي تَجذّرَت يومًا في أعماق الوعي البشري بوصفها نقطة ارتكاز للمعرفة، والأخلاق، والوجود، انهارت تدريجيًا تحت وطأة النقد الفلسفي، والاكتشافات العلمية، والاضـ. طـ. رابات الاجتماعية. فاليقين، الذي اعتبرته العقلانية الحديثة دعامة للمعرفة ومبررًا للحقيقة المطلقة، لم يصمد طويلًا أمام أسئلة العصر الحديث ومعاول التفكيك التي وجهتها الفلسفة المعاصرة.

إن انهيار اليقين لا يعبّر فقط عن تراجعٍ في الإيمان بإمكانات العقل المطلق، بل يعكس أزمة وجودية ومعرفية غيّرت صورة الإنسان عن ذاته وعن العالم. لقد كان الشك المنهجي، الذي دشنه رينيه ديكارت في سعيه لبناء يقين لا يتزعزع، نقطة البداية لمسيرة عميقة انتهت إلى انهيار فكرة الحقيقة المطلقة. من هذا المنعطف، جاءت تساؤلات ديفيد هيوم التي قوضت مبدأ السببية، وتصورات كانط التي حصرت المعرفة البشرية في حدود الظواهر دون الوصول إلى الجوهر. ثم جاءت فلسفة نيتشه لتعلن موت الحقيقة المطلقة بوصفها وهماً أيديولوجياً فرضته أنظمة القوة. وهكذا، تحوّلت الفلسفة الأوروبية إلى رحلة مضنية تُواجه فيها اليقينيات زخمًا من الشكوك والتناقضات.

لكن انهيار اليقين لم يكن مجرد جدل فلسفي محدود، بل شكل ظاهرة ثقافية واسعة ارتبطت بتحولات عميقة في بنية الفكر الغربي. فقد ترافق مع صعود العلم الحديث وتراجع السرديات الدينية الكبرى، كان للتطورات العلمية – من النسبية إلى ميكانيكا الكم – دورها في زعزعة الاعتقاد بعالم حتمي يمكن التنبؤ به. كذلك، ساهمت الحـ. ر . وب العالمية في تفكيك الثقة بالمبادئ الإنسانية والأيديولوجيات الكبرى التي طالما اعتبرها الإنسان مرجعية أخلاقية ومعرفية.

وفي سياق ما بعد الحداثة، شهدت الفلسفة الأوروبية تفكيكًا ممنهجًا لكل الأطر التي ادعت القدرة على تقديم إجابات شاملة أو حقائق مطلقة. تمحورت أعمال جاك دريدا، وفوكو، وليوتار حول الكشف عن هشاشة السرديات الكبرى، والإقرار بأن الحقيقة متعددة، وأن المعنى ذاته مشروط بالسياق واللغة. وهكذا، تحول انهيار اليقين إلى سمة مركزية في الفكر الغربي المعاصر، حيث بات الشك هو القاعدة، والنسبية هي الإطار المهيمن على الفهم الإنساني.

تكتسب دراسة انهيار اليقين في الفلسفة الأوروبية أهمية بالغة، ليس فقط لأنها تعكس تحولات فكرية عميقة، بل لأنها تمسّ جوهر التجربة الإنسانية في ظل عالم يتسم بالتغير السريع، وانعدام الثبات، والتعددية الثقافية. إنها دعوة للتأمل في طبيعة الحقيقة، وحدود المعرفة، والمعنى الذي يمكن أن نستخلصه من تجربة بشرية لا تعرف اليقين.

انهيار اليقين في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة

 

مدخل: مفهوم اليقين الفلسفي وتطوره

– اليقين يُشير في الفلسفة إلى الحالة التي يتم فيها قبول فكرة أو حقيقة على أنها مطلقة ولا تقبل الشك.

– في الفكر الأوروبي الكلاسيكي، كان اليقين محورًا للفلسفة العقلانية (ديكارت، ليبنيتز) والتجريبية (لوك، هيوم).

مع ذلك، تعرض هذا المفهوم لانتقادات جذرية مع تطور الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث والمعاصر، مما أدى إلى انهيار فكرة اليقين المطلق.

 

الجذور التاريخية لانهيار اليقين

 

ديكارت وإرساء مبدأ الشك المنهجي:

– ديكارت هو نقطة انطلاق النقاش الحديث عن اليقين، حيث اعتمد الشك كوسيلة للوصول إلى الحقائق المطلقة (الكوجيتو: أنا أفكر، إذن أنا موجود).

 

هيوم ونقد مبدأ السببية:

– ديفيد هيوم أحدث زلزالًا في بنية الفلسفة الغربية بنقده لمفهوم السببية.

– أثبت أن الاستقراء (أساس العلم) لا يمكن تبريره يقينيًا، مما أدى إلى إضعاف الأسس العقلانية للمعرفة.

 

كانط والثـورة الكوبرنيكية في الفلسفة:

– كانط حاول إنقاذ اليقين بإعادة تعريف العلاقة بين الذات والموضوع.

– رغم نجاحه في إقامة نظام معرفي “نقدي”، أكد أن المعرفة الإنسانية محدودة بمظاهر الأشياء (الظواهر) دون الوصول إلى الشيء في ذاته (النومين).

التحولات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة

 

نيتشه: انهيار الحقيقة المطلقة:

– نيتشه اعتبر فكرة الحقيقة المطلقة نوعًا من “الأوهام” التي صنعها الإنسان لفرض نظام على العالم.

 

هايدغر: تفكيك الميتافيزيقا:

– ركز هايدغر على الوجود في العالم كحالة مفتوحة وغير يقينية.

– اعتبر أن البحث عن يقين مطلق هو انـ. حـ. راف عن التجربة الإنسانية الأصيلة للوجود.

 

الفلسفة الوضعية المنطقية:

– ظهرت في القرن العشرين مع محاولة جديدة للبحث عن يقين علمي، لكنها اصطدمت بمبدأ التحقق الذي قيدها بشدة.

– أعمال كارل بوبر و”قابليّة التفنيد” أزالت حتى هذا الشكل من اليقين العلمي.

ما بعد الحداثة:

– في الفلسفة ما بعد الحداثية (دريدا، فوكو، ليوتار)، تم التشكيك بكل السرديات الكبرى، بما فيها السرديات الفلسفية عن اليقين.

– دريدا أظهر كيف أن النصوص تحمل تناقضاتها الذاتية، مما يجعل أي يقين مستحيلًا.

الأبعاد الفلسفية لانهيار اليقين

 

المعرفة والإبستمولوجيا:

– انهيار اليقين قاد إلى نقلة نوعية في علم المعرفة، حيث لم تعد الحقيقة مطلقة، بل نسبية ومتشابكة بالسياقات الثقافية والتاريخية.

الأخلاق:

– الانتقال من الأخلاق المطلقة (كانط) إلى الأخلاق النسبية (نيتشه وما بعد الحداثة).

– القيم لم تعد نابعة من حقائق موضوعية بل من سياقات اجتماعية وثقافية.

الميتافيزيقا:

– النقد الحديث للميتافيزيقا (هيوم، هايدغر، نيتشه) أدى إلى التوقف عن البحث في الكينونات المطلقة لصالح فهم التجربة البشرية بحد ذاتها.

السياسة والمجتمع:

– انهيار اليقين كان له انعكاساته على السرديات السياسية الكبرى، مثل الأيديولوجيات التقدمية والاشتراكية، التي تعرضت للتفكيك والنقد.

 

الأسباب الثقافية والتاريخية لانهيار اليقين

العلوم الحديثة:

– تطورات الفيزياء (النسبية، ميكانيكا الكم) د. مرت فكرة العالم الحتمي الذي تبنته نيوتن.

– الشك العلمي أصبح جزءًا أساسيًا من المنهجية.

الأزمات العالمية:

– الحـربان العالميتان، والتغيرات الاجتماعية، ساهمتا في زعزعة الثقة بالأفكار المطلقة واليقينية.

الثورة التكنولوجية:

– وفرة المعلومات وسرعة تداولها ساهمتا في زيادة الشعور بعدم اليقين، حيث أصبحت الحقيقة متعددة الأوجه.

 

نحو فلسفة لما بعد اليقين

– انهيار اليقين لا يعني الاستسلام للعدمية، بل فتح المجال لفلسفة تستوعب التعددية وعدم الحتمية.

– أصبح من الضروري البحث عن أشكال جديدة للمعرفة والأخلاق تتناسب مع واقع إنساني متغير.

لقد مثل انهيار اليقين في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة نقطة تحول حاسمة في مسيرة الفكر الإنساني، حيث واجه الإنسان معضلة وجودية عميقة تمثلت في فقدان المرجعيات المطلقة التي طالما منحته شعورًا بالاستقرار المعرفي والروحي.

لكن انهيار اليقين لا يجب أن يُقرأ بوصفه إعلانًا للعدمية، بل فرصة لفهم أعمق وأكثر تواضعًا للوجود الإنساني. إن التخلي عن وهم الحتميات المطلقة لا يعني التخلي عن المعنى، بل يدعونا إلى بناء أشكال جديدة من المعنى تعتمد على التعددية، والمرونة، والانفتاح.”

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى