دراسات وبحوث معمقة

توما الإكويني من السعادة إلى العدالة

توما الإكويني من السعادة إلى العدالة

 

د. أنور مغيث

 

فى تراثنا الفكرى السائد فى العصور الوسطى كان المهتمون بالقضايا الفلسفية والدينية ينقسمون إلى ثلاث فئات: الفلاسفة الذين يطرحون أسئلة عن الكون وعن الوجود الإنسانى ويجيبون عنها انطلاقاً من العقل، وعلماء الكلام الذين يتجادلون حول المسائل المتعلقة بالله مثل الذات والصفات وعلاقة الإنسان بربه مثل مشكلة الجبر والاختيار ويتناولونها اعتماداً على تأويل النصوص الدينية، وآخيراً الفقهاء الذين يستنبطون أحكاماً من النصوص المقدسة. والعلاقة بين هذه الفرق الثلاث كانت تتسم بجفاء ونزاع مستمر.

فى العصور الوسطى المسيحية اختفت هذه الفرق وقد نراها اجتمعت فى رجل واحد. المثال الأكبر على ذلك القديس توما الإكوينى الذى كان فى آن فيلسوفاً وعالماً فى اللاهوت، وهو المقابل لعلم الكلام فى الثقافة الاسلامية، وفقيهاً أيضاً.

وهب القديس توما حياته لخدمة الكنيسة والمذهب الكاثوليكى وكان واسع الاطلاع وملما بأفكار الفلاسفة المسلمين ويعتمد على حججهم فى دفاعه عن آرائه. لم يكن توما حبيساً لمذهبه الدينى بل كان فيلسوفاً عظيماً. وكلمة فيلسوف هنا تعنى أنه كان يتوجه إلى البشر جميعاً معتمداً على العقل. وتعد المسائل التى تعرض لها وجمعها فى كتابه الخلاصة اللاهوتية نموذجاً فى كيفية الإنشاء الفلسفى المعتمد على المنطق والبرهان.

وعند تناوله قضية السعادة ينطلق من التمييز بين سلوك الحيوان الذى تحركه الغريزة وسلوك الإنسان الذى تحركه الإرادة ويوجهه الوعى.ويستنتج من ذلك أن ما يميز فعل الإنسان هو أنه يتجه دائماً نحو غاية أى نحو تحقيق رغبة، والغاية هى الشعور بالسعادة. الغايات كثيرة ومتوالية ولكن ليس إلى ما لانهاية وإلا فلن يكون للرغبة معنى. ينبغى الوقوف عند غاية قصوى هى السعادة الكاملة التى لا يوجد بعدها رغبة أخرى. وهى فى آن سبب للفعل لأنها تطلقه ونتيجة له لأنها غايته الأخيرة ولا يمكن أن يكون للإنسان غايتان أخيرتان لأن المرء لا يمكن أن يكون خادماً لسيدين.

يعرض لنا القديس توما كل ما يرد على خاطرنا من مقومات السعادة ثم يستبعدها، فإذا قلنا الثروة فهى نوعان طبيعية وهو ما يسد حاجتنا من مأكل وملبس، واصطناعية هى النقود. الأولى تنتهى سريعاً أما الثانية فإنها قد تمثل بالنسبة للإنسان الخير الأعظم لأنها تغريه بأن يراكمها، ولكنه سرعان ما يدرك أن هناك ما لا تشتريه النقود مثل الحكمة. وأن الانسان حين يصل للخير الحقيقى فإنه يحتقر ما عداه، ولكن مع النقود ما إن يصل إلى غايته فإنه يحتقرها هى. وقد نظن أنها السلطة ولكن السلطة مبادرة والسعادة غاية، والسلطة قد يصدر منها خير أو شر أما السعادة الكاملة فلا يشوبها شر. ونظن أنها صحة الجسد ولكن فى الواقع نحن نحتاج لجسد صحيح كى نحقق مآربنا فهو وسيلة وليس غاية. ويظن أكثر الناس أنها اللذة ولكنهم يربطونها بالشهوات المادية التى لا يمكن اعتبارها غاية أخيرة، أما اللذة المقترنة بالسعادة الكاملة فهى مترتبة عليها وليست سببا لها.

الوصول للخير الأقصى أى للغاية الأخيرة يكون نتيجة فعل إنسانى ولكن لا يلزم أن نفكر فى تلك الغاية فى كل لحظات وجودنا فنحن نقطع طريقا يصل بنا إلى مكان معين ولكن لا نفكر فى هذا المكان فى كل خطوة نخطوها. ونحن نرافق القديس توما فى طريق التأمل الفلسفى الممتع لنعرف فى النهاية بأن السعادة الكاملة هى رؤية الله فى النعيم السماوي.

عند تناوله موضوع العدالة ينطلق القديس توما من المبادئ العامة فما نرغب فيه هو الخير أما الشر فهو العوائق التى تقف فى طريقنا. والعدالة هى إعطاء الحق مستحقيه. وبناء على ذلك هناك ثلاث فئات من الحق: الحق الطبيعى وهو يخص العلاقة بين الانسان والكائنات الحية الأخرى والحفاظ على الشروط الضرورية لحياة كل الكائنات، وحق الناس والمقصود به العلاقات بين البشر.

الأول يختص بتوفير الأسباب والثانى فى رصد النتائج. فهناك مبدأ أن كل من يودع شيئا من حقه أن يسترده ولكن لو أراد مجنون غاضب أن يسترد سلاحا أودعه، فلا يجوز تطبيق المبدأ. وتشير الوصايا العشر لا تسرق ولا تشته ما يملك جارك إلى حق الملكية الخاصة ولكن بأخذ النتائج فى الاعتبار يحدد العقل الإنسانى الصيغة الملائمة حسب كل ظرف، وأخيراً الحق الوضعى مقصود به حق البشر فى وضع القوانين وتغييرها حسب الأحوال التى يمرون بها. فينبغى عقاب سارق ولكن البشر أحرار فى اختيار العقوبة المناسبة.

هكذا نرى أن القديس توما مثل كل فيلسوف كبير يتجاوز الفترة التى عاش فيها ويظل دائما مصدرا للإلهام.

_____________________

*المصدر: صحيفة “الأهرام” المصرية.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى