فلسفة وميتافيزيقا

مفهوم الحرية في فلسفة اسبينوزا

مفهوم الحرية في فلسفة اسبينوزا

 

 

                                                                                          محمد المخلوفي

 

 

 

“اختلفت القراءات والتأويلات بصدد تصور باروخ اسبينوزا لإشكالية الحرية، منها من ذهب في اتجاه نعت الفيلسوف الهولندي بـ”فيلسوف الضرورة”، وحجتها في ذلك المقولة التي فُهمت خطأ عن اسبينوزا، والتي يتمحور مضمونها في فكرة انعدام حرية إنسانية بإمكانها أن تفوق الطبيعة.

نسعى في هذا المقام إلى توضيح وتدقيق الرؤية السبينوزية بصدد إشكالية الحرية، وذلك من خلال استنطاق الأجهزة المفاهيمية التي شيد على أساسها الفيلسوف تصوره النظري والمرجعي، وذلك لما للمفاهيم من أهمية في الاقتراب من نسق الفيلسوف ومن ثم تأويله إن جاز التأويل.

فالمفاهيم بهذا التحديد بمثابة أدوات يستخدمها الفيلسوف لمعالجة قضاياه، ومنها يتفرد بموقفه، وعبرها يقنع القارئ والمتلقي. الأمر الذي يجعلنا نقر بأن أداة الفلسفة والفيلسوف حصرًا هو المفاهيم:

> ”لا ينبغي أن يكتفي الفلاسفة بقبول المفاهيم التي تُمنح لهم مقتصرين على صقلها وإعادة بريقها، وإنما عليهم الشروع بالصنع وإبداعها وطرحها، إقناع الناس باللجوء إليها. فحتى الآن، كل منا يولي الثقة لمفاهيمه كما لو تعلق الأمر بمهر خارق جاء من عالم خارق بدوره“ [1].

إن هذا القول أعلاه نجد صداه في كتابات اسبينوزا ذات الملمح الهندسي الاستدلالي، إذ أن القارئ لكتابات هذا الفيلسوف يجدها تنضح بالمفاهيم، ويلمس أن فيلسوفها يتبع خطة عقلانية في البرهنة، إذ يتخذ من التعريفات والبديهيات منطلقًا وبداية، ومن البراهين والحواشي مآلًا ونهاية لها.

لقد صيغ موقف اسبينوزا بصدد موضوعة الحرية الإنسانية بهذه الرؤية. ولا بأس أن نذكر أن التناول الفعلي لهذه الموضوعة قد ورد حصرًا في كتاب “الإتيقا”، وقد امتاز هذا التصور بطابعه النقدي، إذ عمل من خلاله اسبينوزا على قراءة الفلاسفة السابقين، ومن ثم نقد طريقة مقاربتهم لإشكالية حرية الإنسان، والعمل على تجاوزها باقتراح تفسير نسقي يتماشى مع نسق فلسفته المغلقة، التي تتخذ من الطبيعة الطابعة والمطبوعة ركيزة لها.

يقول اسبينوزا:

> “إن معظم الذين كتبوا عن الانفعالات وعن سلوك الإنسان في الحياة، يبدو وكأنهم يعالجون أمورًا خارجة عن الطبيعة، لا أمورًا تسير وفقًا لقوانين الطبيعة العامة. بل يبدو أنهم يتصورون الإنسان في الطبيعة كما لو كان دولة داخل دولة. وفعلاً، إنهم يعتقدون أن الإنسان يخلّ بنظام الطبيعة أكثر مما ينساق له، وأن له سلطانًا على أفعاله ولا يخضع إلا لنفسه. وعلى هذا، تراهم يبحثون عن سبب عجز الإنسان أو تقلبه لا في قوة الطبيعة الكلية لله، وإنما في عيب من عيوب الطبيعة البشرية” [2].

خلافًا لهذا المنظور الذي، على ما يبدو، يُجاوز ويتجاوز الطبيعة في حديثه عن حرية الإنسان وقدرته على الفعل – وهو من باب التذكير التصور الديكارتي الذي ساد خلال فترة القرن 17، والذي كان يقول بسيادة الإنسان بما أنه جوهر مفكر وممتد في الآن نفسه على الطبيعة – نجد المنظور السبينوزي وعلى العكس من ذلك تمامًا مخالفًا له.

فالرؤية السبينوزية، كما نعلم، قد أحدثت ثـ. ور . ة من داخل الديكارتية في تحليلها وتفكيكها لحرية الإنسان. وذلك ما يتجلى بوضوح في أبنيتها المفاهيمية الجديدة، وعلى رأسها مفهوم الطبيعة الطابعة، التي من خلالها أعطى اسبينوزا منظورًا جديدًا لحرية الإنسان، بما أنها حرية محددة ومشروطة ونسقية أيضًا في نظام الطبيعة، التي ينحت اسبينوزا عليها توصيف “الجوهر”*، لأنه لا علة – في اعتقاده – يمكن أن تحد هذا الأخير.

ويردف له اسبينوزا أيضًا مصطلح “اللامتناهي”:

> “الله كائن لا متناهٍ، أي جوهر يتألف من عدد لا محدود من الصفات، تُعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية” [3].

هذا على خلاف الإنسان، الذي يحتكم للعلية، وحريته التي يتوهم من كونها شأنًا فرديًا ليست في حقيقة الأمر إلا جزءًا لا يتجزأ من سلسلة لا متناهية من العلل التي تحدد هذا الأخير. وهذا راجع للوضعية التي يتموقع من خلالها في نظام الطبيعة المنغلق والمسيج بما يسميه اسبينوزا بـ”الإرادة الإلهية”، والذي لا يعدو أن يكون فيه الإنسان إلا حالًا:

> “ما يطرأ على الجوهر، وبعبارة أخرى، ما يكون قائمًا في شيء غير ذاته ولا يُتصور بشيء غير ذاته” [4].

ولهذا بالضبط، شَرَطَ اسبينوزا تحرره بالامتثال لقوانين الطبيعة، لأن بالتوافق معها تكمن الحرية.

والحرية هنا – كما نلمس في المتن السبينوزي – حرية محفوفة بالامتثال للنظام الطبيعي، وليست حريةً منفلتة كما قد يعتقد البعض. أقصد هنا تلك الحرية التي ترفع شعار:

> “أنت حر لأنك تفعل ما تشاء”.

وبهذا، يكون اسبينوزا قد أعاد التفكير في الحرية من داخل الضرورة، التي نعني بها الطبيعة أو الله، ليتجاوز بذلك تلك الرؤى التي أقصت الطبيعة وهمشتها، في مقابل انتصارها المغالي للـ”أنا”، التي أصبحت في منظور اسبينوزا حالًا من أحوال الطبيعة، يسري عليها ما يسري على بقية الكائنات.

ويُعتبر مبدأ العلية*، الذي تحتكم إليه فلسفة اسبينوزا، أحد أبرز القوانين الجبرية التي هندست الطبيعة على جميع الكائنات. والإنسان بدوره يخضع – في نظر اسبينوزا – لذلك:

> “أقول إننا فاعلون عندما يحدث في داخلنا أو خارجنا شيء نكون علته المطابقة، أي عندما يترتب عن طبيعتنا في داخلنا أو خارجنا شيء نستطيع فهمه بوضوح وتمييز من خلاله وحده. لكنني أقول إننا منفعلون عندما يحدث فينا شيء أو يترتب على طبيعتنا شيء لا نكون إلا علته الجزئية” [5].

لقد قوّضت السبينوزية بهذه الأفكار البنية الديكارتية، حيث هدمت مقولة أسبقية النفس عن الجسد، ونفت بذلك قدرتها على الفعل، وسيّجت هذا الفعل بالضرورة، التي يُعدّ فهمها – من منطلق اسبينوزا – السبيل للتحرر، والجهل بها مواصلة لسلسلة الخنوع. إنه خنوع للانفعالات.

خلاصة:

ما يمكن استخلاصه من خلال هذه الرؤية التي عالج بها اسبينوزا إشكالية الحرية، هو كونها رؤية نسقية تحليلية، لا تنحو في اتجاه تصور الإنسان حرا حرية مطلقة، كما أنها لا تنفي قدرته على الفعل. بل تمنحه هامشًا من الفعل بشرط الوعي بالأسباب.

وبهذا، يكون اسبينوزا ذاك الفيلسوف الذي هدم مبدأ “الاختيار الحر” وأحل محله مبدأ “العلية”:

> “إذا وُجدت علة معينة، نتج عنها بالضرورة معلول ما، وعلى العكس، إذا لم توجد أي علة، كان من المحال أن ينتج أي معلول” [6].

لقد رسم المنظور السبينوزي بهذا التحديد آفاقًا رحبة لحرية الإنسان، واعتبر أن تحقيقها هو الخضوع للضرورة، وهنا لا نعني بالضرورة الحتميات البيولوجية أو الاقتصادية التي تحيط بالفعل الإنساني كما يتداول في الحس المشترك، ولكن الضرورة التي يعنيها هنا هي الإله الذي دعا للتوحد به، لأن فيه فقط تكمن الحرية الفعلية والحقيقية، شرط الوعي بالانفعالات.

وهذا، إن دل على شيء، فإنما يدل على كون المشروع السبينوزي مشروعًا تحرريًا للكائن البشري.

وهذا ما يجعل تلك الفكرة التي تسند توصيف “الحتمية” لاسبينوزا فكرة خاطئة ومغلوطة ولا وجود لها بتاتًا في متنه.

فـاسبينوزا – إن جاز القول – هو فيلسوف الحرية من داخل الضرورة ذاتها، أي من داخل الطبيعة أو الله، الذي حدد خضوع الكائن الإنساني له غايةً في الحرية.

> “ومن هذا المنطلق، يتجلى بوضوح أن يكون خلاصنا، أعني غبطتنا أو حريتنا، ألا وهو حب الدائم والأزلي لله، أو في حب الله للبشر. هذا الحب أو الغبطة الذي يُطلق عليه في الكتب المقدسة عن جدارة اسم المجد، إذ سواء كان مصدر هذا الحب هو الله أو النفس” [7].

ولتحقيق هذا المبغى، اشترطت السبينوزية على الإنسان التوحد مع الطبيعة، والانسلاخ من قبضة الانفعالات، التي يشكل الوعي بها حرية جزئية فقط، للانتقال إلى الحرية الأعظم عبر التماهي والتوحد بالله، الذي يعتبر الكائن الحر الوحيد في متن فلسفة اسبينوزا.

> “الحرية الكلية والمطلقة، فلا يمكن أن تكون إلا كونية وشاملة، لا يتحكم فيها شيء، ولا يوجد شيء خارج الكون يرغمها على أن تكون حرة. إن القوانين والطبيعة والمادة هي المطلق الوحيد الحر الذي لا حدود له، ولا قيود عليه” [8].”

 

هوامش:

_____________

[1] – ما هي الفلسفة جيل دولوز وفيليكس غاتاري ترجمة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي بيروت لبنان الطبعة الأولى ص30.

[2] – علم الأخلاق لباروخ اسبينوزا ترجمة جلال الدين سعد، المنظمة العربية للترجمة مراجعة جورج كتورة ص 147

[3] – نفس المرجع ص 31.

[4] – نفس المرجع ص 31.

[5]– الاتيقا لباروخ اسبينوزا ترجمة وتقديم وتعليق أحمد العلمي منشورات إفريقيا الشرق ص 151.

[6] – مرجع سبق ذكره ص 32 .

[7] – مرجع سبق ذكره ص 344 من علم الأخلاق.

[8] – وحدة الوجود لدى اسبينوزا ميتافزيقيا اللاميتافزيقيا …الإله والطبيعة والإنسان لقاسم شعيب ص 8.

______________________________

*المصدر : “صفحة سالم يفوت”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى