مدوّنات د. محمود حيدر

لماذا «الاستغراب»..؟

 

 

 

 

لماذا «الاستغراب»..؟

 

 

 

قد يكون علينا ان نبتدئ من تساؤل، نتوقع أن يبادر إليه القارئُ وهو يستفهم عن الغاية من مسعانا هذا. من التساؤل إيّاه، نرانا بإزاء واجب المسؤولية عن مشروعية الإجابة. وفي أي حال، ما كنَّا لنبسط هذه المبادرة على أرض المساءلة، لولا قناعتنا بأن المهتَمَّ بعالم الأفكار لم يعد يكتفي بالتلقي، بل يجد نفسه شريكاً فعليّاً في هذا العالم.

ولسوف يبدو التساؤل مضاعفاً حين تتحول مفردة «الاستغراب» من ملفوظ له ما له في عالم اللغة، إلى مصطلح له حقله الدلالي، ثم إلى اسم لمجلة فكرية. فالاسم الذي وقع عليه الاختيار هو بحد نفسه مثار جدل، وما ذلك إلا لتكثُّر معانيه، وغرابته، وتعدد حقول استخدامه. وعلى ما بيَّنت التجربة، ففي كل محضر يستعمل فيه مصطلح «الاستغراب» تصير الأمور الى دائرة الإشكال. عندما نستغرب أمراً ما، نروح نُعرب عن استشعار تلقائي بغموضه، او بعسر فهمنا له؛ حتى إذا اقتربنا منه متسائلين عن سر نشوئه، مستكشفين خرائطه ومبانيه ومآلاته، انفتح لنا احتمال إدراكه وفهمه.

في عالم المفاهيم يمسي الكلام على «مصطلح الاستغراب» أكثر تعقيداً. مرجع الأمر الى فرادته وخصوصيته، وإلى حداثة دخوله مجال المداولة في الفكر المعاصر. ربما لهذه الدواعي لم يتحول هذا المصطلح بعدُ الى مفهوم، وبالتالي الى منظومة علمية. ذلك على الرغم من المجهودات الوازنة التي بذلها مفكرون عرب ومسلمون من أجل تظهير علم معاصر يُعنى بمعرفة الغرب، ويكون نظيراً مقتدراً تلقاء علم الاستشراق وثقافته. فلكي يتخذ المصطلح مكانته كواحد من مفاتيح المعرفة في الفكر العربي الاسلامي، وَجَبَ ان تتوفر له بيئات راعية، ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق إحيائية، وكل ذلك في اطار مشروع حضاري متكامل.

واقع الحال اليوم، هو في الغالب الأعمّ سليل الماضي المستمر. فما هو بائنٌ في المشهد، يفيد بأنّ ثمة بيئات مترامية الأطراف من نخب العالمين العربي والاسلامي، لم تفارق مباغتات الحداثة في صعيديها المعرفي والتقني. وتلك حالة سارية لا تزال تُعرِبُ عن نفسها بوجوهٍ شتى:

ـ وجهٍ يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً ختاميًاً  لا محل فيه لمساءلة أو نقد. وهو ما تبرز ظواهره على أتمِّ صُوَرِها في تأسيسات الاستشراق، وسيرورة حضوره التاريخي داخل المجتمعات العربية والإسلامية .

ـ ووجهٍ يتبدَّى على صورة معارضات انفعالية لا تكاد تؤتي أُكْلَها حتى تذوي إلى محابسها الايديولوجية.

ـ وثالثٍ يأتينا على صورة محاولات ووعود واحتمالات جادة، ثم لا يلبث ان يظهر لنا بعد زمن، قصور هذه المحاولات، وعدم قدرتها على بلورة مناهج تفكير تستهدي بها أجيال الأمة لحل مشكلاتها الحضارية.

تلقاء ذلك كله، لم يكن مطلباً هيِّناً بالنسبة إلينا ان نعثر على تسويغ منطقي لاعتماد مفردة «الاستغراب» اسماً وعنواناً لمشروعنا. فهذه المفردة بالذات حمالة أوجه، وحضورها في حقل التداول يفتح على سيلٍ وفير من التأويل والتفسير وتنوع الأفهام. وبعد.. كان لابد إذاً، من الإقبال على ما عقدنا النية عليه. لم يساورنا الشك لحظة، من أن تحويل الاستغراب الى حدث فكري، هو عملٌ لا يخلو من مشقة. ذلك بأننا ندرك ان مهمة بهذه المنزلة، يستلزم جهداً يطابق الغاية التي طرحت من أجلها.

* * * * *

رجعٌ على بدء، حول الغاية من هذه الفصلية…

على التوازي مع ما ذهب إليه بعض الذين تصدوا للمصطلح، من ان «الاستغراب» يعني «علم معرفة الغرب»، ترمي هذه الفصلية إلى تظهير فهم الغرب من خلال التعرُّف على مناهجه وأبنيته الفكرية والثقافية والأيديولوجية، وإعادة قراءتها بروح نقدية عارفة. وعلى نحوٍ موازٍ، ترمي الى الإضاءة على التحولات المعرفية الجارية على نطاقٍ عالمي، وفي العالمين العربي والإسلامي بنوع خاص. وعليه أمكن تلخيص غايتها الاجمالية في أربعة مرتكزات ضرورية رئيسية:

المرتكز الاول: ضرورة تاريخية، أوجبتها التحولات الحضارية التي حدثت في مستهل القرن الحادي والعشرين. حيث بدا بوضوح لا يقبل الريب، أن حضور الإسلام عقيدة وثقافة وقيماً أخلاقية لم يعد في نهايات القرن المنصرم مجرد حالة افتراضية، وانما هو حضور له فاعلية استثنائية في رسم الاتجاهات الاساسية لراهن الحضارة الانسانية ومستقبلها.

المرتكز الثاني: ضرورة توحيدية، ويفترضها التشظِّي الذي يعصف بالبلاد العربية والاسلامية ويجعل نُخبها ومثقفيها ومكوّناتها الإجتماعية، أشبه بمستوطنات مغلقة. وَتَبَعاً لهذا التشظّي وكحاصل له، تنحدر هموم الأمة الى المراتب الدنيا من اهتماماتها.

المرتكز الثالث: ضرورة تنظيرية، وتتأتى من الحاجة الى استيلاد مفاهيم ونظريات ومعارف من شأنها تحفيز منتديات التفكير، وتنمية حركة النقاش والسجال والنقد.. والى ذلك كذلك، الحاجة الى تسييل حركة الفكر العالمي من خلال التعريب والترجمة والنقد، وعلى نحو يسهم في تفعيل مشتغلات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وإقامتها على نصاب الحيوية والجِدَّة.

المرتكز الرابع: ضرورة معرفيّة، وتنطلق من أهمية وجود رابط معرفي يؤسس لمنطقة جاذبية تتداول فيها نخب المجتمعات الغربية والاسلامية الأفكار والمعارف، وتمتد عبرها خطوط التواصل والتعرف في ما بينها.

وليس من شك، فإن توفير الشروط اللازمة لقيام مثل هذا الرابط الفكري، يوجب التعريف بهوية هذه «الفصلية»، والدور المناط بها، وخصوصاً لجهة التواصل مع التجارب الفكرية في العالمين العربي والإسلامي، بحيث تفضي معاينة هذه التجارب والتفاعل البنَّاء معها، الى تحقيق منجز حضاري يتجاوز النمطية والتقليد، ويتمتع، في الوقت عينه،  بالخصوصية والفرادة والفاعلية.

* * * * *

تأسيساً على ما مرَّ، يمكن ان نتبيَّن غاية المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية من إصدار هذه الفصلية: وهي العمل على إنشاء منفسح تفكيري انتقادي خلاَّق يفضي الى التواصل المتكافئ بين الاسلام والغرب.

في مقدم القضايا التي وجدنا أن نشتغل عليها ضمن المنفسح المشار إليه، السعي الى مقاربة الغرب على نحو يتعدى ما ألِفَتْه النخب العربية والإسلامية من مقاربات.. لا سيما لناحية الكيفيَّات التي جرى التعامل فيها مع قيم الغرب ومعارفه، سواء لجهة تقليدها وتمثّلها، او لجهة رفضها والقطيعة المطلقة معها.

* * * * *

إن ما يستحثنا على تفعيل مثل هذه المقاربة هو وجوب تفكيك اللَّبس الذي تراكم في الوعي العربي الإسلامي على امتداد أجيال من المتاخمة والاحتدام مع مواريث الحداثة الغربية بوجهيها المعرفي والكولونيالي. في سياق هذه المهمة يحدونا الأمل إلى بلورة نظرية معرفة ترسي قواعد فهم جديدة للأسس والتصورات التي يقوم عليها العقل الغربي، وهو الأمر الذي يفتح باب الإجابة على التساؤل عما لو تيسَّر لنا ان نكوِّن فهماً صائباً عن غربٍ انتج شتى انواع الفنون والقيم والأفكار، وجاءنا في الوقت عينه بما لا حصر له من صنوف العنف والغزو والحروب المستدامة.

الى ذلك، فإن من أهم العناصر الدافعة الى مثل هذا المشروع الفكري، هو جلاء حقيقة ان لمعارف الغرب حواضن في المجتمعات العربية والإسلامية تتلقى تلك المعارف وترعاها، ثم لتعيد إنتاجها على النحو الذي يريده لها العقل الغربي نفسه. بيان ذلك أن هذا الأخير، يجد لدى نخب تاريخية واسعة في مجتمعاتنا من يتماهى معه في خطبته ومنطقه، أو أن يمتثل إلى معارفه المستحدثة. هذا حال من جاز أن يُنظر إليهم وهم على نصاب «الاستغراب السلبي». فما نعنيه بهذا النوع من الاستغراب، هو ناتج تفاعل مركّب بين دهشة العربي المسلم بحداثة الغرب ومنجزاتها من جهة، وطريقة تعامله معها من جهة أخرى. فبنتيجة هذا التركيب على الإجمال، بدا هذا «المستغرِب» في حالة استلاب وتبعية لمنظومة الغرب وخصوصياتها، وتالياً كامتداد محلي لها. اما حاصل الأمر، فكان أدنى الى استيطان معرفي لا يفتأ يستعيد أسئلة الغرب وأجوبته على نحو الاذعان والتسليم. ولسنا نغالي لو قلنا أن الاستغراب السلبي الذي نقصده لوصف احوال شطر وازن من مثقفي العالم الاسلامي، هو فكر انتجته الدهشة، ووسَّعته الترجمة، ورسَّخته الهيمنة، ثم لترتضيه نخب وازنة من مجتمعاتنا فتتخذه سبيلاً لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلاً عن فهم العالم من حولها في الآن عينه.

ان ما دعانا الى اتخاذ مفردة «الاستغراب» عنواناً لتقديم مشروعنا الفكري هذا، هو السعي الى إنشاء سياق آخر من التواصل الحضاري مع  الغرب تنتفي فيه مفاهيم الغلبة والتبعية والإكراه. ومثل هذا السياق يستلزم، بتقديرنا، إجراء تحويل جوهري يفضي الى تفكيك أواصر التبعية المعرفية للغرب، ومناظرته ـ من ثَمّ ـ وفق مبدأ التعرف الحر، فلا وهم ولا استيهام ولا إيهام. على هذا المبدأ سوف تأخذ فكرة «الاستغراب» سبيلها إلى التشكُّل. وانطلاقاً من المبدأ إياه ينفسح السبيل لبلورة وتظهير منهج عمل يكتسب «الاستغراب» من خلاله مغزاه الإيجابي وغائيته الفضلى. أي ان يتجاوز مسار الاستغراب الذي نتوخاه ـ ومن خلال التعرف والنقد الخلاّق ـ مسارات الاستتباع الفكري التي لا نزال نعيش تداعياتها السالبة على امتداد خمسة قرون خلت من ولادة الحداثة. المقصود من التجاوز هو اجتياز الموانع التاريخية التي تركها مسار الحداثة الغربية لمَّا أن أنشأ القابل العربي الإسلامي على هَدْي كلماته ورؤاه من دون ان يُحِلَّ فيه ما هو بنَّاء في نهضته وحداثته. فكانت الحصيلة ان بلغ الحال بهذا القابل حدّاً صار فيه مستغرِباً كل ما له صلة بعالم المفاهيم والأفكار والابتكار.. ولأن الاستغراب المذموم بهذا المعنى والمسار، صار الوجه الآخر للاستشراق السالب، فقد أضاعت الانتلجنسيا العربية الإسلامية ماهيتها وهويتها وسمْتَها الخاص، فإذا هي مستلبة أو قاصرة، بل وغير قادرة على إنتاج فهم مطابق لروح الزمن الذي تعبره، لا في مواجهة نفسها ولا في مواجهة الآخر.

* * * * *

لأجل تظهير غايتها، تأخذ هذه الفصلية بمنهجية تكاملية تقوم على تفعيل ثلاثة خطوط متوازية ومتلازمة في الوقت عينه:

الخط الأول: التعرف على المجتمعات الغربية كما هي في الواقع، وذلك من خلال مواكبة تطوراتها العلمية والفكرية والثقافية والسياسية، وذلك عبر ما تقدمه نخب هذه المجتمعات من معارف في سياق إعرابها عن القضايا والمشكلات التي تعيشها في مطلع القرن الحادي والعشرين.

الخط الثاني: التعرّف على المناهج والسياسات التي اعتمدها الغرب حيال الشرق والمجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص، وذلك بقصد جلاء الكثير من الحقائق وتبديد مِثلهِا من الأوهام التي استحلت التفكير العربي والإسلامي ردحاً طويلاً من الزمن.

الخط الثالث: وهو خط النقد، ويجري على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: نقد قيم الفكر الغربي وآثارها المترتبة فكريّاً على الانتلجنسيا العربية والإسلامية، وبيان آليات الاستغراب السلبي الناجمة منها…

الوجه الثاني: نقد الغرب لذاته من خلال اختيار وتعريب ما يكتبه الفلاسفة والمفكرون والباحثون الغربيون حول القضايا التي تعكس أحوال مجتمعاتهم، والتحولات التي تحتدم فيها تلك المجتمعات في الميادين المختلفة.

الوجه الثالث: نقد النخب العربية الإسلامية للغرب، انطلاقاً من معرفتها به واستيعابها لتاريخه وسعيها الى مناظرته على أرض التكافؤ والتعادل والكلمة السواء.

* * * * *

ختاماً…

لسنا نزعم أننا سنجيءُ للقارئِ بخطبٍ لا قِبَلَ له به، لكننا  على يقين من أننا نشتغل في منطقة فراغ لا تفتأ تتوسَّع كلما الْتبَسَت علاقات القوة بالضعف، وتداخلت المصالح بعالم القيم، وهبط الفكر الحضاري الى ما دون السياسات اليومية. من أجل ذلك نعتقد ان لا شيء كالتعرُّف المتكافئ مع الغرب ينهي منطق الغلبة، ويعيد للحضارة الإنسانية المعاصرة سويتها وسموها وآفاقها الروحية والأخلاقية.

هل سنفلح بالمهمة؟…

سؤال سُئِلناه من قبل أن نمضي في تحضير هذا العدد. لكن الإجابة تبقى افتراضية ما دمنا بعد في مستهل الطريق. كل ما في الأمر، أننا أخذنا المهمة على محمل الضرورة و العزم والمشروعية.

والله تعالى من وراء القصد

محمود حيدر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى