سرُّ العَلمانية وسحرها
سرُّ العَلمانية وسحرها
إلامَ كل تلك الضوضاء التي لم تنته إلى مستقر في التعرُّف إلى العَلمانية؟
لكأن الخائضين في المفهوم استشعروا المستحيل بإزاء خطبٍ يصعب العثور على محل له في الإعراب. فلاسفة ومفكرون وعلماء اجتماع صرفوا العمر حتى يجيئونا منه بخبر يقين، ولكن شقّت عليهم الخاتمة. كلما طُرِقَ بابٌ لإدراك مغزاه تفتَّحت أبوابٌ وغُلِّقت آُخرَ. كما لو غدونا في لُجّة لا تكاد تكمل دورتها المعرفية، حتى تعود القهقرى إلى البدايات.
تلقاء العلمانية ومشتقاتها، نرانا وسط عالم مكتظٍّ بالإلتباس. ولو زدنا لقلنا: إن العلمانية شأن كثرة من نظائرها، مفهوم تَشابَهَ على النظّار لفظُه ومعناهُ ومجالُ استعماله. حتى لقد أوشك ـ بحكم الاشتباه والتشابه ـ أن يصير غير قابل للفهم. ولو مضينا في المجاز والتشبيه لَظَهَر لنا المفهوم أدنى إلى جسم مسحورٍ يتبدّل ويتحوَّل، ينثني وينبسط، يستغلق على الإدراك أو ينفسح عن بيِّنة.. وكل هذا بحسب ما لدى كل ناظر إليه من رأي أو حكم. ولأن هذا حال العلمانية، فهي تدعوك إلى متاخمتها قصد التعرّف إليها. والذين نقدوها وجادلوها، أو أولئك الذين اتخذوها شريعة سياسية، مَضَوْا، كلٌّ بقَدَرهِ، إلى فتنة القول. والعلمانية مثل أي مفهوم غامض حمّالة وجوه. من أجل ذلك نجدها تنطوي على إغواء. وبفضل هذا الإغواء انت محمول على فك اللغز. وإن لم تأتِكَ الإجابة حُمِلتَ على الحَيرة. ولو استعصى عليك البيان أو استحال، لآلَ بك الحال إلى قلق مقيم، ثم لأخذك الفضول إلى البحث عن سرّ ذلك المجهول. ولقد جاء في “الأثر المستحدث” ان المفهوم غالباً ما يسري بشاغليه في غير اتجاه: إما إلى التحيُّز إليه، وإما إلى ذمِّه وإبطال شرعيته، أو إلى الرضى بما يختزنه من تآويل لا انتهاء لها.. ولمّا كان كل ما يستدعي الالْتباس والإبهام يستحث على التعرّف، فقد وَجَب على الناظر أن يبتدئ بمساءلة كل ما هو ملتبس من دائرة البداهة.
قد يُقال: ما عاد للكلام من فائدة على مفهوم أمسى الكلام عليه ضَجِرَاً لكثرة ما حظي به من مداولة. وقد يقال أيضاً ـ وفي القول صواب ـ إن مثل هذا المدَّعى ينطوي على الشيء وضده، من ناحية، لأن المفهوم مثقلٌ بتعاريف ونعوت نالت العلمانية منها حظها الأوفى سحابة قرون.. ومن ناحية موازية، لأن العلمانية أمست ولمَّا تزل، الأطروحة الأكثر جاذبية من بين منجزات الحداثة وفلسفتها السياسية. فهي لا تزال حاضرة حضور العين في مستقر الحضارات المعاصرة وترحالها.
أما حاصل الناحيتين فعلى أوجه: من المشتغلين بالمفهوم من ظنَّ للوهلة الأولى أنه أحاط بسرِّه بما توافر له من معارف الحداثة وتجاربها. ومنهم من اعتصم بالسؤال وظل على ريب من صدق الإجابة، ومنهم من استحبَّ التساؤل ورضَي به تسديداً للعقل، وتقاية للفكر، وترحيباً بكل تأويل.. وأما من أخذته العجلة، فقد أقرَّ المفهوم، ثم راح يفصِّله على قياس نظامه الإيديولوجي.
* * *
إنها فتنة المفاهيم.. تلك التي غالباً ما تمسك بناصية التفكير لتستفسره عن أصلها وفصلها وحكايتها. ولو كان علينا اتقاء الفتنة، أو التخفُّف من حروبها اللفظية المتمادية، لوقفنا قليلاً على التمييز بين ثلاثة: المفهوم، والمصطلح، والتعريف. فإذا قيل: إن المفهوم صورة عقلية تتكون من الخبرات المتراكمة للإنسان، سيقال استتباعاً إن: المصطلح مفتاح العلم بالشيء، وفهمه يعد نصف العلم، ويدل على اتفاق القوم على وضعية الشيء، كما يقرر العلامة الخوارزمي. أما التعريف فهو عبارة عن ذكر شيء تستلزم معرفته معرفة شيء آخر.
نضيف: إنّ خاصيّتي التجريد والتعميم تقع في أصل المفهوم. المصطلح يركز على الدلالة اللفظية للمفهوم. والمفهوم ـ كما يلاحظ المناطقة ـ أسبق ولادة من المصطلح بل وأكثر منه كمالاً. إذ كل مفهوم مصطلح وليس كل مصطلح مفهوماً. ولنا في هذا دليل: كل مفهوم ينحت حدثاً ويعيد نحته بطريقته الخاصة كما يبيّن الفرنسي جيل دولوز. إذ إن عظمة كل تفكير أن يعقد ميثاق تواصل مع الوقائع التي تستحثنا مفاهيمها على معرفتها. بحيث تجعلنا تلك المفاهيم قادرين على التعامل مع حادثات التاريخ من خلال وقائعها الحية. من أجل ذلك يصلح القول بأن العلمانية لا تُدرَكُ أو تُعرَّفُ إلا في حقل التأوين. أي في الزمان والمكان المحددين اللذين اختبرت فيهما أحوالها وأفعالها والمقولات عنها.
ذاك يعني أن المفاهيم ـ حسب أهل الحكمة ـ تُنتزع من حقول المعاينة. فلا مناص لفهم العلمانية من معاينتها لدى كل موضع حلَّت فيه. ومن هذا الموضع المحدَّد بالذات تُعرف ماهيتها وهويتها وظروف نشأتها. وما ذاك إلا لأن العقل يدرك موضوعاته إما بطريقة مجردة أو عبر محايثته للتجربة. وعليه يكون تعقُّل الأحداث مثابة امتحان لواقعة حدثت، ثم تحولت إلى ظاهرة سارية في التاريخ. لم تصِر العلمانية مفهوماً إلا من بعد أن استحالت جسماً طبيعيّاً ينمو ويفعل داخل الجغرافيات الثقافية للحداثة الغربية. ولو قيل: إن الارتباط بين المفهوم وواقعه، هو أشبه بالترابط بين المادة والصورة، فالحقيقة هي أن أحداً لن يتسنى له التعرف على سر المفهوم ما لم يعاين صورته الفعلية. فالمادة والصورة وإن كانتا حيثيتين تتميز كل منهما عن نظيرتها، إلا أنه لا يوجد أي انفصال بينهما في عالم الخارج؛ ذلك لأن حيثية المادة ـ كما تقرر الفلسفة الأولى ـ ليست سوى مجرد قبول الأثر، بينما تمثل حيثية الصورة عين الفعلية. وإذن، فإن الاختبار الحيّ هو الذي يمنح الظواهر ماهيتها وهويتها الفعلية. ولو جاز لنا التمثيل لوجدنا أن فكرة العلمانية لم يكن لها أن تتحول إلى مفهوم إلا عبر “خطبٍ جلل” أو إملاء من ضرورة تاريخية. لهذا السبب راح فيلسوف اللغة فتغنشتاين يدعو إلى التحرر من مشقّة البحث عن معنى المصطلح، ويحث على استقراء النتائج المترتبة على استعمال الشيء الذي نبحث له عن معنى. وهو ما سمَّاه آخرون من بعده بـ “البحث عن معنى ظهور الشيء في الواقع”، لا عن اللفظ والمصطلح اللذين يلتحقان بوظيفة هذا الشيء في الحياة الواقعية.
* * *
كيف لنا أن نعثر إذاً عن معنى العلمانية في حقل الاستعمال، أي في محل الاختبار، حيث لا ينفصل ما هو متصوّر بالذهن عما هو محصَّلٌ في الواقع؟
في وقت متأخر من مساجلات ما بعد الحداثة قدَّم عالم الاجتماع الأميركي لاري شاينر ستة تعريفات للعلمانية وأقامها على الترتيب التالي: أفول الدين ـ التناغم مع الدنيا ـ تحرر المجتمع من قيود الدين ـ تحول المعتقدات والمؤسسات الدينية ـ سلخ القدسية عن العالم ـ والسير من المجتمع القدسي إلى المجتمع العلماني. لكن في ضوء الجذر اللغوي والمسيرة التاريخية للعلمنة، فإن تعريفها بـ “التناغم مع الدنيا” و”أصالة الشؤون الدنيوية” يبدو في الحقيقة تعريفاً عامّاً ودقيقاً للعلمانية. ذلك بأن “التحول إلى الدنيوي” في الأدبيات الفلسفية الغربية يعني التحول إلى الـ “هنا”، وإلى الحال، وإلى الأرضي، أي أن الوجود في علم الوجود (الانطولوجيا) ينحصر في العالم المادي المحسوس، بينما تترك عوالم ما وراء الطبيعة، والآخرة، للنسيان..
صحيح أن المجتمعات العلمانية لم تستأصل البعد الروحاني للإنسان، لكنها استنزلته إلى أدنى مراتب الاهتمام الأخلاقي. وما ذاك إلا لشغفها بليبرالية الاقتصاد والسياسة، واستغراقها في تعظيم الذات الفردية، وسعيها إلى الاستقلال المفرط عن أي معيارية أخلاقية تنظم الاجتماع البشري على مبدإ الرحمانية والعدل. أما النتيجة التي أدّت إليها أفعال العلمنة، فكانت فقدان العقل دوره في تحكيم الجدالات الأخلاقية، وعدم قبول أي شيء معياري خارج التحكيم الشخصي. وهذا ما يسميه تشارلز تايلور “إيديولوجية إنشراح الذات” épannouissement de soi الشديدة القوة في الثقافة الغربية المعاصرة. تلك التي استمدت قوتها من عصر الأنوار ونالت دعماً لا سابق له من الليبرالية الجديدة، وكل ذلك بذريعة الاعتقاد أن الكائن هو محور الكون. إلا أن هذا الكائن لم يفتأ برهة حتى استحال رقماً سليبّاً في منظومة رأس المال وجوعها الضاري إلى التكاثر.
لم تلبث العلمانية أن تحولت إلى ميتافيزيقا تلهم الدولة والمجتمع والمؤسسات. لكن لم تأمن مجتمعات الحداثة إلى العلمانية لمَّا استحالت لاهوتاً سلطويّاً يصدر أحكامه بلا هوادة. حتى إذا آنت ثورة النقد تهافت اليقين، وآل كل شيء إلى حضرة الشك. حتى قال الذين اكتووا برمضاء الخيبة: “علمانية التنوير ماتت، الماركسية ماتت، وكذلك حركة الطبقة العاملة. وأما المثقف فقد بات لا يشعر بأنه على ما يرام أو أنه أوشك على الموت”.
* * *
تبدو الصورة على أتمِّها حين تُنقد العلمانية من أهلها. فلاسفة التنوير هم أول من افتتح مغامرة النقد ونزع الغطاء عن معايب الحداثة…
أدموند هوسرل سيمهِّد إلى مثل هذه المغامرة ويقول: “إن من دواعي التفلسف ان تكون مع التراث وضده في الآن عينه”. وكان يتساءل: كيف يمكنني أن اهتدي إلى منهج يمنحني الخيط الذي أسير عليه لكي أبلغ العلم اليقين . ومع أنه كان من وَرثَة ديكارت إلا أنه أُخذ عليه قصور منهجه الرياضي في الكوجيتو. ودليله أن التفلسف فضاء لا متناهٍ ولا تحده حدود المعادلات الصمَّاء.
مارتن هايدغر سيمضي إلى حيث لم يقدر عليه الأولون من قبله. عنده الحداثة لم تفلح في إنتاج ما يتجاوز ميتافيزيقا الإغريق، وأن اليونان مذ حدَّدوا الخطوط الأساسية لفهم الوجود، لم تتحقق خطوة جديدة من خارج الفضاء الذي ولجوه للمرة الأولى. لم يكن هايدغر لينحو هذا النحو، لولا أن بلغ نقده للحداثة حدّاً بات معه على دراية بما انتهى إليه مشروعها من صدوع لا ينفع معها نقدٌ ذاتي، أو تبريرٌ إيديولوجي.
في أحقاب متأخرة، تطورت الموجة النقدية لتطاول الحداثة ومعارفها على الجملة. من العلامات الفارقة التي ميّزت حركة النقد، أنّ الثقافة العلمانية السائدة في الغرب قد تعرضت لهزّة حاسمة في “بنية المشاعر”. لقد حدث ضربٌ من تحوّل درامي ليس فقط في المزاج العام لدى إنسان الزمن العلماني، وإنما أيضاً وأساساً في طرق إيمانه ومناهج تفكيره، ناهيك عن أنماط نشاطه العام في السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلوك الفردي.
في مقام التفكير الفلسفي جرت وقائع النقد على نحو شديد الوقع: إدانة عارمة للعقل المجرد، وكرهٍ عميق لأي مشروع يستهدف تحرير الإنسان. حتى الماركسية والعلمانية الليبرالية اللتين حملتا مشاريع بديلة للرأسمالية التقليدية لم تنجوا من سوط النقد. فقد ذهب كثيرون من صنّاع الثقافة الغربية المعاصرة إلى النظر إليهما بوصفهما فلسفتين رجعيتين فقدتا رونقهما وعفا عليهما الزمن. ومبعث حكم كهذا من الأزمة الأخلاقية التي وَسَمت علمنة عصر التنوير ولمّا تنته إلى يومنا هذا. فإذا كان صحيحاً أن العصر المشار إليه قد أتاح للإنسان تحرير ذاته من تقاليد العصور الوسطى، إلا أن إصرار علمانيِّيه على إحلال تلك “الذات الفردية محل المتعالي” سيقود إلى تناقض ذاتي، حيث تُرك العقل مجرداً من الحقيقة الإلهية، ثم ليتحول إلى مجرد أداة للتصنيع وإدارة السوق ومن دون هدف روحي أو أخلاقي.
من هذه الزاوية لم يرَ جمع من فلاسفة ونقاد ما بعد الحداثة إلا أن علمانيةً بهذه الصفات، لا ترقى لتكون قيمة أخلاقية متسامية. وما بيَّنه الفيلسوف الأميركي جون راولز كان حاسماً، لمّا رأى أن العلمانية ليست قيمة أخلاقية أو مفهوماً للخير، على الرغم من أنها شكلت في وجه من وجوهها إحدى قيم العدالة لجهة دعوتها إلى حرية الاعتقاد لدى الأفراد.
* * *
من يؤمن بعد بأسطورة العلمنة؟
هذا السؤال المفارق والمثير في آن، هو ما يفتتح به المفكر الأميركي من أصل إسباني خوسيه كازانوفا كتابه المعروف “الأديان العامة في العالم الحديث” . لكنه لا يبرح حتى يستدرك، ليمنح السؤال مفعوله الإيجابي. يشير كازانوفا إلى أن السجالات التي يشهدها علم اجتماع الدين في الآونة الأخيرة تدل على أن السؤال ـ سالف الذكر ـ هو الملائم لمباشرة أي نقاش يجري حاليّاً حول نظرية العلمنة. ولكن، رغم إصرار بعض من يسميهم بـ”المؤمنين القدامى” على أن نظرية العلمنة تتمتع حتى الساعة بقيمة تأويلية لدراسة السيرورات التاريخية الحديثة، فإن السواد الأعظم من علماء اجتماع الدين لن يعيروا هذا الرأي آذاناً صاغية، لأنهم تخلوا عن هذا النموذج، مثلما تبّنوه من قبل، وكانوا من أمرهم هذا في عجالة.
* * *
مع أن الدخول إلى فكرة العلمانيّة والسفر في عوالمها، لا يزال ينطوي على حذر لافت بين مفكري وفلاسفة الغرب، فلا ينفك التعامل مع هذه الفكرة في البلاد العربية والإسلامية بمنهج نظر يشوبه التبسيط والاختزال، كما يحكمه الاندهاش والاستغراب…
في هذه المنزلة، يغدو أمراً ملحّاً مراجعة المعايير التي تحوّلت مع تقادم الزمن إلى يقينيات، لا سيما لدى النخب التي لم تدرك العلمانية إلا بوصفها أفكاراً ونظريات ووعوداً افتراضية. في هذه المنزلة أيضاً يصير ضروريّاً فهم حدود التمايز بين العلمانية كمفهوم ورؤية للعالم، والعلمنة كما تتبدى في حقل الاختبار والتجربة التاريخية. فإذا كان المفهوم هو على الدوام معيار البناء المعرفي لدى النخب التاريخية في العالمين العربي والاسلامي، فإن مفهوم العلمنة نفسه لم يتحدد بوضوح إلا وفقاً للاختبارات الميدانية وخصوصيات التجارب. فالعلمنة في الغرب ليست واحدة، ولا هي جرت على النشأة نفسها في البلدان المختلفة التي شهدت ثورات الحداثة ابتداءً من القرن الرايع عشر. ففي كل بلد أوروبي أخذ بالحداثة سبيلاً له كان للعلمنة فيه نسقُ يناسب هويته وثقافته وجغرافيته المعرفية.
الثورة الفرنسية على سبيل المثال أطلقت سياقاً خاصاً في سيرورة العلمنة. قد يكون هو السياق نفسه الذي حمل نخب البلدان المستعمرة في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى الأخذ بالنسخة الفرنسية للعلمنة كوسيلة لبناء مدائنهم الفاضلة.
أما في أميركا وبعض أنحاء أوروبا، فإن نزع القداسة عن المجتمع والدولة تمّ على نحو يكاد يخلو من الصدام مع سلطة الكهنوت، ما حدا بالفيلسوف الفرنسي الكسيس دو توكفيل إلى أن يرى في التناغم الحاصل بين الدين والسياسة إحدى العلامات الكبرى في خصوصية الديمقراطية الأميركية ومرتكزاتها.
في السياق نفسه سنلاحظ كيف أن بريطانيا العظمى ليست اليوم بأقل حداثة أو أقل “دَنْيَوَة” مما سبق. مردُّ ذلك، أن الديمقراطية هنا تتكيَّف تكيُّفاً أفضل مع سلطة روحية معترف بها، حيث الملكة ما فتئت تضطلع بوظيفة مزدوجة: تترأس الدولة وتترأس الكنيسة في الآن عينه.
* * *
أهم ما ينكشف في مختبر العلمانية، أنّها أكثر المفاهيم التي أنتجها الغرب قابلية للتأويل. فهي لا تنضبط عند تعريف واحد. كل آباء الحداثة والتنوير اتفقوا على تبنّيها ونقدها في الآن عينه: من ماركس ومن قبله، إلى أوغست كونت وهربرت سبنسر إلى دوركهايم وماكس فيبر، ناهيك عن كانط ومن عاصره، إلى نيتشه وفرويد وسواهم. وفي الواقع فقد بلغ هذا الإجماع مبلغاً لم تعد العلمانية فيه تتعرض للتشكيك، بل لم تبرز الحاجة، على ما بدا، إلى اختبارها، لأن الجميع سلّموا بها، ما يعني أن مقولة العلمنة، بالرغم من كونها المقدمة المنطقية غير المعلنة للكثير من نظريات الآباء المؤسسين، فإنها لم تخضع لدراسة رصينة، بل ولم يحدث أن صيغت صياغة صريحة ومنهجية.
وبعد…
السؤال في الغرب اليوم يعود ليتجدد حول مآلات العلمنة، بما لها وما عليها. سؤال يبدأ من النقطة التي انتهى إليها وكان مسبوقاً بها. أي من المنطقة المعرفية التي وضعت فيها العلمانية على الطرف النقيض من القيم الدينية و”التروْحُن” .
ولنا ختاماً أن نتساءل.. عما لو كان في مستهل القرن الحادي والعشرين من أفق لإجراء حساب شامل مع العلمنة، بما يعيد وضع المفهوم على نشأة أخرى حيال الإيمان الديني، أو لرؤية العالم بوصفه قيمة أخلاقية؟
تساؤل دونه الكثير من مشقة الإجابة.. لكنه سؤال جائز بأي حال…
* * *
في هذا العدد من “الاستغراب” معطيات تُقارب وتحاذي سرّ المفهوم وسحره. لا يزعم “العدد” أنه لمَّ الشمل في ما قدَّم من معطيات. ولا ادعى الإحاطة بما لم تُحَط به العلمانية من قبل. والذي اصطفيناه من أبحاث ومناظرات ومقالات إنما هو لإخلاء السبيل نحو مضاعفة التعرف على مفهوم لم يفارق الحضارة الإنسانية قطّ، وقد لا يفارقها البتة. ذلك على ما به من التباس، وما يشوبه من عيوب، ناهيك عما يحكى عن نهاية تاريخه..