مدوّنات د. محمود حيدر

فلسفة التعرُّف

نحو تأصيل المفهوم في عالم الثقافات والحضارات والأديان

 

 

 

 

 

 

فلسفة التعرُّف

نحو تأصيل المفهوم في عالم الثقافات والحضارات والأديان

 

 

 

 

 

د. محمود حيدر

مفكر وباحث في الفلسفة وعلم اجتماع الأديان

رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة

بيروت

Email:mahmoudhaidar327@gmail.com

Mobil: 009613540762

 

 

 

يقصد هذا البحث، التوصل الى منفسح معرفي يقارب مفهوم التعرُّف بوصف كونه ركناً مؤسساً في فلسفة القيم. ومثل هذا المقصد ينبني على فهم التعرُّف الساري في عالم الأفكار والثقافات والحضارات والأديان، بما هو تعرُّفٌ مسبوق بالإيمان بحقانية التغاير المتأتية من سنَّة الاختلاف في عالم الموجودات. وحيث يتخذ التعرُّف هذا المسرى، يصير لدى المتعرَّف شأناً متأصلاً في ذاته سواءً‌ كان فرداً او جماعةً أو حيِّزاً حضارياً. والمتعرِّف الذي تعقّل فضيلة التعرف وتخلَّق بها، مدركٌ بأن ما يفعله إنما يدخل ضمن سَيْرِيَّة تحويل الجهل الى معرفة، والبعيد الى قريب، والآخر المختلف الى نظير مساوٍ في الآدمية. اما هذه السَيْرِيَّة فلا تنهض وتنمو الا باقتران جوهري بين الإيمان بمكانة الإنسان السامية في الوجود، والعمل على تصديق هذا الإيمان قولاً وعملاً في الآن عينه.

والتعرُّف مفهوم أصيل يختزن في داخله افهاماً وقيماً تؤلف على الجملة البناء المعرفي لفلسفته:

أولاً – إرادة المعرفة بالموجود: والمقصود هنا الكائن الإنساني على وجه الخصوص. هذا النوع من إرادة المعرفة، قائم على مبدأ التآخي وعن طريق متاخمة هذا الكائن قصد التعرف إليه كما هو بماهيته وهويته. من دون فريضة أو إكراه.

ثانياً – التعرُّف بما هو الكشف عن مجهول لا تستوي معرفة المتعرف بنفسه إلا بالتعرف على تلك المنطقة المحتجبة من الغير.

ثالثاً – التعرُّف بما هو علم معاملة مع الغير. وهو ما يتصل بالبعد الأخلاقي الذي ينظم الصلة بالآخر، ويقيمها على مبدأ التسامح والقبول والمعايشة الرحمانية.

رابعاً – التعرف بما هو إقبال المتعرِّف على ذاته لكي يعرفها، ثم ليعرِّفها على الغير  ابتغاء التواصل معه على نشأة الود والإقبال والانفتاح.

خامساً – التعرف كمقصد ميتافيزيقي وفوق ميتافيزيقي في آن:

  • ميتافيزيقي لأن المتعرِّف يروم الوصول بسؤاله الى فهم حقيقة الموجودات.
  • وفوق ميتافيزيقي لأنه يبحث عن سر الوجود في كل موجود. أي الوقوف على الاصل الذي ظهر بسببه كل كائن. وعند هذه الدرجة من الانهمام بالفهم يبلغ المتعرف مقام التجلي والشهود في الوجود.

 

سادساً: التعرف بوصفه معطى إلهياً أوجبته الأديان على مؤمنيها ليكون لهم سبيلاً للاهتداء الى الخالق عبر التعرَّق على مخلوقاته.

والمتعرِّف بهذه المزايا، هو الذي يشاهد الغير في نفسه ويشاهد نفسه في الغير بعين اللحظة؛ كما لو كان هو والغير نفساً واحدة. فلو تحقق له مقام الغيرية يكون قد قطع المسافة المكتظَّة بالريب حيال هذا الغير الذي هو نظير له في الآدمية. ولكي تنعقد موازين العلاقة بين الأنا والغير المختلف على نصاب التعرُّف، فلا مناص من قيامها على ‌صفاء النية، وسمو القصد ولطف الاختلاف. وحين يأخذ التعرُّف سبيله الى حقول التنوع يثبُت الوصل بين الذات ونظيرها. حيث ان أفضل درجات هذا الوصل ما نشأ ونما وسرى في متسعات الاختلاف والغيرية.

التعرُّف إذاً، وليد شرعي للتغاير. بل هو استجابة المتعرِّف لنداء العلم بكل من يغايره الفهم في الثقافة والايديولوجيا والمعتقد. وبقدر ما يتسامى التعرُّف على العصبيات والتحيُّزات والهويات المغلقة، بقدر ما يتصل بها جميعاً بوصف كونها ظاهرات اجتماعية، توجِبُ النظر إليها، والتعامل معها كوقائع يفترضها الاحتدام الطبيعي في عالم الناس. إلا أن فهم التعرّف على حقَّانيته يفترض تناظراً متكافئاً لا رجحان فيه للذات على الغير ولا الغير على الذات. تناظراً لا يلغي فيه أحدٌ أحداً، بل الكل موصول بالكل على نحو التكامل والامتداد في المنفسح الانساني.

والمتبصِّر بواجبية التعرُّف لا ريب لديه في قانون الاختلاف. فهو على دراية من أن تعرُّفاً بهذه الخصائص لا يضادّ الولاء لقضية وهوية ودين. ذلك بأن الولاء بلا عصبية، مُقِرُّ بحقانية التنوع وحرية الاعتقاد. فالتعرُّف بما هو تعرُّف، من بديهيات الاجتماع البشري. ولأن الذي نسعى إلى تأصيل مبانيه وشرائطه، قائم على الجمع المتأنِّي بين التسامي على التعصُّب، والانتماء المُحِقِّ للهويات، أمكن ان ينفتح الأفق نحو تواصل خيِّرٍ بين الأديان والثقافات على تعددها واختلافها. بهذا يغدو التعرُّف جوهراً أصيلاً في ذات المنتمي، يفيض من خلاله على الغير بما يختزنه من جميل، ثم ليستحثَّ هذا الغير الى إفاضة معاكسة هي ادنى الى رد الجميل بالجميل.

ولتظهيرما يمكن اعتباره هندسة تفكيرية لـ “فلسفة التعرُّف”، وجدنا أن نؤسس مسعانا على مبنَيَيْن رئيسين:

الأول: متصلٌ بالتلازم الوطيد بين الإيمان الديني وإرادة التعرُّف.

والثاني: متعلقٌ بـ “سعة النظر” بما هي ضرورة للتعرُّف العقلاني. وغاية هذا المبنى تحرِّي خطوط الإتصال مع الغير من أجل فهمه وتفهُّم  خصائصه ومعتقداته. إذ بهذين العنصرين – الفهم والتفهُّم – يتوفر المكوِّن الجوهري لـ “سعة النظر”.

أما المرتكزات النظرية والعملية لكلا المبنَيَيْن فسنأتي عليها في ما يلي:

أولاً- مبنى التلازم بين الإيمان والمعرفة

في مقام التحاور بين الأديان العالمية على العموم، وأديان الوحي على الخصوص، تتضاعف مكانة الوعي بفضائل الغيرية في بعديها الإيماني والمعرفي. فلو مضينا في تأصيل هذين البُعدَين لوجدنا أن من لوازم التعرَّف اقتران الإيمان بالمعرفة. فلا يبلغ التعرّف حقّانيته، ما لم تتلازم هاتان القيمتان لتغدوا معاً أساس كل التقاء خلاّق بين الأديان. فإن أياً منهما تُسدِّد الأخرى وتؤيدها، أما النتائج المترتبة على مثل هذا الالتقاء، فهي في مدى ما يبديه المتلاقون من أخلاقيات عملية، ويقينيات دينية، تعزز معارفهم بنظائرهم على النحو الأكمل.

مستهل تفعيل الأسس النظرية والسلوكية للمتعرِّف، إقراره بأن البناء الروحي والفكري الذي يحكم الشخص المتديِّن، لجهة ما يبذله من جهود من أجل تمتين ارتباطه بدينه، هو نفسه الذي يحكم الشخص إياه لكي يبذل الجهد اللازم باتجاه التعرُّف على دين غيره. وفي هذه الحال، يدرك المتعرِّف بأن هذا مثل هذه الأسس تستلزم سَيْريّة نشاط صادقة بالنية والعمل، ومدفوعة بالتبصُّر الخلقي والإيمان الديني في آن. وهو ما تنكشف آثاره من خلال النظر الى الغير بما هو نظير في النوع الانساني، وفهمه بوصفه شريكاً تاماً في بناء الحضارة الإنسانية.

الايمان والمعرفة، وفقاً لهذه السيرية[1] لا يتجزّءان ولا ينفصلان.  والمؤمن المنتمي الى دين معيّن، يحتاج إيمانه الى معرفة بما يؤمن به، لكي يثبِّت في قلبه وعقله، ذلك الدين الذي ينتمي إليه. حتى المؤمن المستجد. -اي الذي اعتنق ديناً جديداً (New Born) يرفض – كما يقول المفكر الفرنسي اوليفييه روا- ان يصنّف إيمانُه – كما يفعل الانثروبولوجيون – ضمن خانة نظام رمزي ثقافي كسائر الانظمة الرمزية الثقافية.  فالإيمان بالنسبة إليه موصول بحقيقة مطلقة؛  وإدراك هذه الحقيقة معرفياً يرجع الى عملية تدريجية تراكمية تنمو وتكتمل في إطار الشروط الحاكمة على الجغرافيا الدينية التي يعيش يمارس تديُّنه فيها. أما الحقيقة المطلقة التي آمن بها ذلك “المؤمن المستجد “فإنها تبقى الاساس الذي يقوم عليه حضوره في الوجود. وهذه الوضعية التي يطلق عليها اللاهوتي البروتسانتي الالماني كارل بارث عبارة “قفزة الايمان” (Le Saut de la Foi) هي التي تؤلف الديني عند ذاك الصُّنف من المؤمنين.  وبهذا لا يمكن ان يكون هناك “ثيولوجيا،” أي انتماء ديني من دون وجود إيمان. حيث ان الجدل بين المعرفة والايمان هو جدل مرتبط بالضرورة بكل الديانات السماوية. وقد اثبت بعض التيارات الدينية الفلسفية المسيحية مثل (التوماوية) (Thomisme) (نسبة الى القديس توما الاكويني…( غياب التضاد بين المعرفة والإيمان، وانهما معاً يقويان بعضهما بعضاً. لكن من شأن ظواهر ثقافة التجريد ان تكسر هذه العلاقة، وتزعم ان النصوص المقدسة يمكن لها ان تتحدث خارج اي سياق ثقافي(2).

حين يكون مقتضى التعرُّف، تلازم وطيد بين الايمان والمعرفة، تكون حرية المتعرِّف اول حاصل لهذا التلازم . بها يفارق تريُبه من ثقافة الآخر ومعتقداته، وعن طريقها تتبدّد خشيته من أن تؤدي متاخمة الغير وعقد صلات الجيرة الحسنة معه، الى إلحاق الأذى بثقافته الدينية وإيمانه. فالحرية التي يجري تحصيلها بفضل هذه المتاخمة، سوف تضاعف منسوب الثقة لدى المتعرِّف كل من فريقي التعرُّف، من أن استكشافه لبواعث الإيمان لدى نظيره هو اجراء ضروري لتحصين معرفته بعقيدته من شوائب الجهل. وبذلك يتحول العمل في فضاء التعرُّف الى واجب يفتح على سفر إدراكي يعود بحصاده الوفير على الذات المتعرّفة نفسها. هذا يعني ان التعرُّف المؤيَّد بالحرية المدركة والواعية، هو عملية مركبة: من جهة تُلبىّ  الحاجةُ الى التواصل الذي تفترضه لوازم الحياة ضمن جغرافيا حضارية ودينيّة مشتركة، ومن جهة ثانية، ينفسح السبيل لنمو حركة معرفية تفضي الى فهم ما كان غير مفهوم مما لدى الغير  من معارف إيمانية ودينية وحضارية. وعليه، حين تصير الحرية شرطاً مقوِّماً للايمان والمعرفة، نصل الى مثلث قِيَميٍّ لا يستوي التعرُّف فيه على نصاب العدل الا باجتماع اركانه معاً: الايمان والمعرفة والحرية. ومتى اجتمعت هذه الأركان ينفسح الحقل الذي ينأى بالكل من عُقَدِ الشك والحذر والخشية والإكراه.

2- سعة النظر كضرورة للتعرُّف

لا ينحصر مرادنا من مقولة “سعة النظر” باعتبارها منهجاً نظرياً للاهتداء الى فهم أصيل للغير وحسب، وإنما هي حقل اختبار ميداني لبلوغ فضيلة التعرُّف. وهذه المقولة ذات قيمة استثنائية في كل تحاور بنَّاء. ذلك بأنها تقوم على امتلاك كل من طرفي العلاقة وعياً مسبقاً بوجوبها على الصعد المجتمعية والأخلاقية والفكرية. وفي تصوّرنا ان مثل هذا الوعي مشروط بتوفُّر جدولين متآخيين:

أ- جدول الفضيلة: ومنشؤه الفطرة الخيَّرة الكامنة في ذات الإنسان. منها يستمد فضائله الاجتماعية، وبها يحسُنُ سيره ويتجمَّلُ سلوكه. فكلما نمّاها ووسَّعها فاضت عليه بالتخلُّق والغيرية .

ب- جدول المعرفة: وهو مؤلَّف من ثلاثة خطوط متلازمة تلازما” ذاتيّا”: معرفة الله، ومعرفة الذات، ومعرفة الغير. ولهذه الخطوط الثلاثة مصادرها الموفورة عند المتعرِّف: المصدر الأول من الإيمان بأن الخالق هو مصدر كل خير وجمال ومعرفة، والمصدر الثاني من النظر في العلوم والمعارف على سبيل التعلُّم والإكتساب، وأما المصدر الثالث فيعود الى الخبرة والمعاينة والتفاعل الخيِّر مع الآخر …

كلا الجدولين يتحركان في سياق واحد. ولئن ظهر لنا انّ جدول الفضيلة أمرٌ ثابت من حيثُ كونه شأناً عائداً الى فطرة الكائن الإنساني، فهو يجري بالتوازي بلا انقطاع ضمن حركة جوهريّة تظهر آثارها على الدوام في منفسحات الخيريّة وعرفان الجميل. ومتى حاز المُتعرَّف على الجمع بين جدولي الفضيلة والمعرفة وما ينطويان عليه من تفرعات وخطوط، تحقق له الطور الأول من سعة النظر.. فيكون بذلك قد أنجز حقل إدراك زاخر بقابليّات النموّ، والإستعداد والتوسّع والشّمول.

ان هذه الجدلية الجمعية التي عليها يتوقف تحصيل المتعرِّف لـ”سعة النظر” يضعها فيلسوف التأويل الالماني هانز – جورج غادامر في إطار ما أطلق عليه «تلاحم الآفاق» (Fusion of Horizons). ولسوف نجد تفصيلاً لمرامي هذا المفهوم في القسم  الثاني من كتابه المرجعي «الحقيقة والمنهج»، (Trutn and Method)، وخصوصاً في معرض تنظيره للوعي التاريخي. ما يعني ان مفهومه هذا ينتمي الى فلسفة التاريخ اكثر مما يُنسب الى علم الجمال؛ ذلك لأنه يقدم الأساس النظري للتواصل بين الماضي والحاضر. حين يشرح غادامر مفهوم الافق (Horizons) يعرِّفه بالقول: “إنه مدى الرؤية الذي يحيط بكل شيء، ويمكن في الآن نفسه ان يُرى من موقع خاص متميز(2). ولسوف نشهد الصورة على وضوحها حين نتحدث عن ضيق الأفق، وعن إمكانية توسيعه، والانفتاح على آفاق جديدة… الخ. فالكلمة (اي الأفق) كانت استعملت في الفلسفة الغربية منذ نيتشه (Nietzsche) وهوسرل (Husserl) لتميز الاسلوب الذي يرتبط فيه الفكر بتحديده المتناهي، وطبيعة قانون توسيع مجال الرؤية. فالشخص الذي ليس لديه أفق هو شخص لا يرى من بُعد بشكل كافٍ. وعلى ما يظهر في تأويلية غادامر فإنّ مفهوم الأفق يفرض نفسه، لأنه يعبّر عن رؤية شاملة وفائقة ينبغي ان يتحلى بها الشخص الذي يسعى الى الفهم، والى كشف المجهول والوقوف على سّره المُستتر .  ولكي يكتسب المرء أفقاً، عليه ان يتعلم لينظر فيما وراء ما يكون في متناول يده، ليس من اجل النظر بعيداً عنه، لكن ايضاً لكي يراه على نحو افضل داخل مجال اوسع وتناسب حقيقي.(3)

إن لهذه التأويلية المُسمّاة “تلاحم الآفاق” شأناً معرفياً بيّناً في تأصيل مفهوم التعرُّف بما هو توسيع للرؤية والفهم. مع تحقُّق هذا التلاحم لن يكون للمتعرَّف حظُّ إنجاز غايته بينما هو مستغرق في حدود أنانيته. اي، في ما تقتضيه الأهواء المنحصرة في كهف المصلحة الذاتية. مثل هذا التناهي المحكوم بالغَرَضيّة سوف يؤدي الى إقصاء كل فكرة لا تقع تحت سطوة الأهواء والأنانيات. فحتى يتحول التعرُّف الى مجال خصيب للنمو، فإنه يطلب لنموِهِ  السعة والرحابة. بحيث لا يتوقف المتعرِّف في هذه الحال عن استدراج المزيد من المعارف، قصد استكشاف ما لدى الغير من حقائق، ثم ليحيلها الى منفسحات علم ودراية ووصل.

قد يكون الفيلسوف الفرنسي بول ريكور من ابرز الذين توصلوا في حقبة ما بعد الحداثة المعاصرة الى منطقة معرفية مثيرة للاهتمام. منطقة تدور مفاعيلها حول الوصل الحميم بين الذات والآخر. سيظهر ذلك بجلاء في كتابه المعروف «الذات عينها كآخر» (Soi – Même Comme un Autre). حيث تنهض إجراءاتُه التنظيرية على وحدة الذاتية والغيرية، ليصيرا معا” حقلاً واحداً زاخراً باحتمالات الخيرَّية التامة. الذاتية عند ريكور هي “آخَرية” مكّونة للذاتية نفسها. فــ«الذات عينها كآخر» كما يريدها ريكور تحرص منذ البداية على التأكيد بأن “ذاتية الذات”، تحتوي الغيرية، اي انها تتضمن  ذاتيّة الغير. حتى انه لا يعود من الممكن التفكير في الواحدة دون الأُخرى. او لنقل في لغة هيغل، ان الواحدة تدخل في الأخرى. ولقد عمد ريكور لما استعمل”الكاف”، في كـ”آخر”، التوكيد على الدلالة الاقوى لمقصده. ولذا يصرِّح: “اننا لم نشأ فقط ان نقيم مقارنة – الذات عينها شبيهة بآخر – بل اردنا التضمين: الذات عينها، بما هي… آخر”(4).

في “التضمين” الذي قصده ريكور ليحل مشكلة الصلة بين الذات والآخر، تمكث الإشكالية الفلسفية للحداثة برمتها. انه يؤكد على أولية ما يسميه بـ«التوسُّط التفكري» (Mediation Reflexiné). فهاتان الكلمتان تكتسبان أهمية قصوى في كل فلسفة ريكور، بل تكادان تختصرانها. فكلمة تفكُّرية اشتُقَّت من كلمة (Reflexion) التي تعني أمرين في آن: الانعكاس اولاً والتفكير ثانياً. والتفكير مفهوم مركزي عند ريكور. وهو لا يعني التأمل النظري المحض، بل المجهود المستمر الذي تقوم به الذات لفهم ذاتها عبر اكتشاف معنى تجربتها عن طريق التساؤل في الأسس التي تقوم عليها؛ ذلك لأنها غير قادرة على الاستناد الى يقينية مطلقة. والتفكُّرية تدعو الذات والانا و”الكوجيتو” الى المرور عبر الطريق الطويل الذي يمرّ عبر توسُّط الغير. والغير هنا، يعني كل عالم الرموز والإشارات التي تتلقاها الذات الفاعلة من العلوم الاخرى، وخصوصاً العلوم الانسانية مثل، الألسنية والتحليل النفسي. الأولوية اذاً –  حسب ريكور – هي لهذا التوسُّط وليس لغرور الأنا التي كانت تظن انها قادرة على تأسيس ذاتها بذاتها (…) لقد دخل ريكور على اللعبة الفلسفية التي عصفت بها السجالات بين النخب الغربية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وفي تلك اللعبة سنشهد على اختبارات فلسفية كبرى في جدليات الذات والآخر. كانت هناك فينومينولوجيا هوسرل المفرطة في التشديد على الأنا، وكان هناك سارتر مع وجوديته، حيث الذات هي المنتصرة. ثم كانت البنيوية مع كل ما يدور معها او حولها من الفلاسفة وهم كثر، من فوكو الى التوسير الى دريدا، وقد اعلنوا جميعاً موت الذات لصالح البنية. اما ريكور فقد وقف موقفاً وسطاً. وحجته في الأمر، أن الذات لم تمت ولم تستطع كل المعطيات ان تمحوها، ولكنها في الوقت عينه لم تعد كما كانت، لأنها قبلت ان تتطعَّم بكل معطيات العلوم الحديثة. الذات التي عظّمها “كوجيتو” ديكارت، وسحقتها تفكيكية نيتشه، خرجت جريحة فقط، وقد تخلت عن حقيقتها المطلقة لتقبل بتواضع حقيقتها الذاتية التي مرت عبر “معمودية الغير”. التوسط اذاً- بحسب ريكور – هو قبول الفلسفة للآخر وسماع كلمته(5).

كتاب تليش/ جون هيغ

ماهية المتعرِّف ومهمته

الى ما مرَّ معنا من تأصيل إجمالي لمعنى التعرُّف ومراميه، نأتي الآن لنعرض الى سيرة المتعرِّف (ماهية وهوية) وبالتالي الى الأوجه الفلسفية والدينية والأخلاقية لهذه السيرة. فمن هو المتعرِّف إذن، ما غايته،  وما الآليات والوسائط التي ينهجها لبلوغ تلك الغاية؟…

المتعرِّف بما هو متعرّف، كالفيلسوف لمّا كتب على نفسه ان يتعرَّف الى الأشياء كما هي في ذاتها. إنه يقتفي أثر الأحداث والظواهر ليسبر اغوارها، ويتحرّى عِللِها وأسبابها والنتائج المترتبة عليها. فالمتعرِّف بهذه المنزلة يمكن له مثلاً، ان يتعايش مع حكم القيمة، سواء لجهة قسوة الأحكام التي تصدر في محيطه على الأحداث والأفكار والقيم، أو لجهة اضطراره في ظرف ما، أن يكون شريكاً في صدور تلك الأحكام. إلا أنه في الحالين يبقى قادراً على ان يجد لنفسه موضعاً استقلالياً. كأن ينأى من كل ضغط يحجبه عن التفكر واستخدام العقل. وبسبب من تموضعه الاستقلالي هذا، يستطيع المتعرّف ان يتكيَّف التعقيد بالصبر ورحابة الصدر. فلا يتصرَّف حيال احتدام القضايا والأفكار كإيديولوجي. إذ ليس من طبعه في مقام كونه متعرِّفاً، الانصياع لجاذبية الإيديولوجيا وفتنتها. كأن يتحيَّز لهوية ما، والتعصُّب لها، الاستيطان داخل حدودها. قد يكون من حقه الولاء لهوية أو قضية، إلا أنه مع ولائه الموصول بحسن الجوار مع الغير، يحيل تحيزَّه الى حقل تواصل وتعارف وتكامل. فلو فعل ذلك فإنه بهذه الخصيصة يكون قد نال نعمة “المودَّة الشاملة”، وتلك خصيصة فاضلة عابرة للهويات، وواصلة بينها جميعاً في الآن عينه.

تذكير من سيرة الحداثة: كان رائد الفينومينولوجيا ادموند هوسرل يدعو كل من أراد ان يصير فيلسوفاً وعارفاً، الى الانعطاف ولو مرة واحدة في حياته على ذاته. وفي داخل ذاته يحاول ان يقلب كل المعارف المقبولة، وان يسعى الى معاودة بنائها. فالفلسفة عنده، بهذا النحو، تغدو مسألة شخصية لا غير. أي معرفته الخاصة التي تسير به نحو ما هو كوني(6).

تفضي إلينا كلمات هوسرل بالسر المكمون الذي ينتظم منطق عمل الفيلسوف كصائغ للأفكار. كما تفضي الى التعريف به، كمتجاوز لما حصَّله من أفكار؛ وتالياً كناقدٍ لها لئلا تتحول هذه الأفكار مع الوقت الى حجاب ايديولوجي يصده عن الابتكار والمثابرة، ويقطع كل صلة له بما ينتجه الغير من معلومات معارف.

لقد مرّ معنا أن المتعرِّف كائن شغوف باستكشاف ما هو مجهول بالنسبة إليه، إلا انه في اللحظة نفسها كائن قلق. وغالباً ما يحمله قلقه على التساؤل نظير كل مسألة يجهلها. يقترب منها اقتراب الباحث عن جوهرة نادرة وسط ركام. سوى انه حين يعثر على طرف حقيقة لا ينعم بالدهشة الا لبرهة، ثم لا يفتأ حتى يجتاحه التساؤل مرة أخرى قصد التعرُّف على المستجد وغير المألوف. لا يقف المتعرِّف عند فكرة أبدعها، ولاعند كشفٍ تراءى له في سماء رمادي. هو في سير دائم لا قرار له. وعزاؤه في هذا، يقينه بأنه سيملأ بالتساؤل كل خواء من حوله. جنّتُه في تساؤله. كما لو كان يريد ان يبتني سكناً آمناً من طين التساؤل. واذا كان هايدغر وصف التساؤل بأنه تقوى الفكر”، فإن لنا أن نضيف: إن التساؤل المولود من التجربة الروحية هو تقوى الفكر والوجدان في آن. الشيء الذي يفتح الافق أمام ترقِّي المتعرِّف الى منزلة العارف. فمتى صار المتعرف عارفاً، وعاش تعرُّفَه على الحقيقة، فقد عمل بما كَسَب من علم، ليفتتح طوراً آخر من التهيؤ لنشاط  جديد تكون فيه المعرفة علماً محصَّلاً من التجربة. تلقاء هذا المنعطف تصير له التجربة علماً مستحدثاً ينقله الى طور متجدد من الاستبصار والتخلُّق. ان من الآثار المترتبة على هذه النشأة ان يتّقَد الفكرُ، ويشعُّ القلبُ، وينفسحَ للعارف إمكان التعرُّف بالبذل والعلم والتخلُّق. بهذا سوف يتمكن من المضي نحو آفاق لم يكن يحسبها من قبل. فهو الآن صاحب مهمة ورسالة؛ لم يعد مجرد ناظر الى الأحداث، وانما هو صانع لها، وشريك فاعل فيها. لقد صار بهذه المثابة مثالاً للإقتداء والتمثُّل. يحفر للغير سبيل التعرف الى قولهم وفعلهم، والى ما لم يقدروا عليه من دون مَثَلٍ حيٍّ يقتدون به… المتعرِّف متبصِّر في الحاضر، راءٍ للمقبل بعين الواقع، ناظرٌ الى ما وراء الاحداث. يضع الامور في مواضعها، فلا يفصل الما قبل عن الما بعد، ولا المابعد عن اللحظة التي هو فيها، وما ذاك إلا لخشيته منه ان يقع في العجلة، فتكون النتيجة ان يحكم بما لا برهان عليه، فيمسي إذَّاك كمن يمشي في السديم بلا دليل.

والتبصُّر في تجربة المتعرّف، إجراء عقلاني حيال كل شأن، سواء كان هذا الشأن مادياً أو معنوياً أو روحانياً. يسري ذلك على الفرد مثلما يسري على الجماعات، وصولاً الى الأمة كوحدة اجتماعية وسياسية وحضارية. وإذ يكون التبصُّر موصولاً بالتخلّق، فسيعود ذلك الوصل بفضائله على الكل. على نفس الفاعل كما على المحيط الاجتماعي الذي يمارس فعله فيه. هذه السيْريَّة من التفاعل الجوهري بين العارف والمعروف سوف تؤتي أُكْلها بمعارف إضافية تملأ المساحة التي يضطرب فيها الفهم؛ مثلما تخفِّضُ منسوب ما تراكم من جهل؛ وبعدئذٍ فما من تساؤل الا اتخذ سبيله الى الإجابة.

المتعرِّف في مقام الإيمان الديني

أتينا في ما سبق على ما يمكن اعتباره اطاراً نظرياً لمفهوم التعرُّف، والخصائص التي تشتمل عليها شخصية المتعرِّف. أما ما يتعلق بالمتعرّف بصفة كونه متديناً أو عاملاً في الحقل الديني فهذا ما سنطرق نوافذه في الشطر التالي من بحثنا.

مع المتعرِّف الجامع بين الإيمان والعلم والتخلّق، سنكون في حضرة متديِّن عارف لا يرى الى عالم الكثرة الا نظائر لوحدته الشخصية. ففي عالمه المعرفي، تتصالح الأضداد لتتمِّم بعضها بعضاً. وما من شيء في هذا العالم الا ويطابق سنّة التعدُّد والاختلاف.

لقد دلّت الاختبارات الدينية، على منزلة مخصوصة يبلغ فيه العرفاء حداً أعلى من الإيمان يجمعون فيه ولا يفرِّقون، ويوصلون ما ينبغي ان يوصَل. وهذه المنزلة هي على وجه التعيُّن، تلك التي يبلغها العارف بالتعقُّل وبحسن القول والمعاملة، توخياً لإدراك حقائق الموجودات ومعرفة مصدرها الأول.

مثل هؤلاء ما كانوا ليصلوا الى ما وصلوا اليه لو انهم استكفوا ما تقرَّر لهم من  الدرس الفقهي – أو اللاهوتي. لكن مسعاهم المعرفي لم يتوقف على درس المنقول واستيعابه. فقد حملهم شغف التعرّف الى محل غير مألوف من مراتب الخبرة الدينية. محلٌ يجتاز فيه العارف حرفية النص من دون ان يفارق قوانينه وأوامره ونواهيه. فالإيمان الأقصى الذي به تواصل الرحلة العرفانية مسارها الصاعد، هو حاصل تعرُّف عميق على الوحي ومقاصده، حيث تتوفر للمؤمن القدرة على التأويل والتجاوز والاستيعاب والإحاطة.

متى بلغ العارف تلك الدرجة من الإيمان، يستطيع أن يعيش مقاصد الغيب وحقائق الواقع بنفس المقدار. فهو يختبر في نفسه الغياب والحضور، كما لو كان في عالم واحد. يصير في حال انسجام ووئام مع روح النص الديني ولو ظن الآخرون خلاف ذلك. وعليه فإن إيمان المؤمن بما يؤمن لا يمكن وصفه، بل لا يمكن تحديده. فهو ليس مجرد ظاهرة تجاور الظاهرات الأخرى. ذلك ان الإيمان في حدّه الأقصى – كما يقول اللاهوتي والفيلسوف الوجودي الألماني بول تيلتش،- “دينيٌ ويتعالى عن الدين بما هو ظاهرة  اجتماعية وتاريخية. وهو كلي وجزئي في الآن عينه، متنوع بلا نهاية، وهو نفسه دائماً. فالإيمان الأعلى هو إمكانية جوهرية للإنسان، ولذلك فوجوده ضروري وكلي، وبالتالي فإنه ممكن وضروري أيضاً في زماننا هذا. وإذا فُهِمَ الإيمان في جوهره على انه همُّ أقصى يتغيَّا التعرُّف والفهم، فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث، أو أي نوع من الفلسفة. الإيمان يسوغ ذاته ضد من يهاجمونه، لأنهم لا يستطيعون أن يهاجموه إلا باسم إيمان آخر. ولعل أبرز ما في واقعية الإيمان أن الذين يرفضونه إنما يعبِّرون، وهم يفعلون ذلك عن إيمان ما”(7). مع ذلك فإن جانباً مهماً في الإشكال يبقى مفتوحاً على فضاء لا متناهٍ من الغموض. عنينا به الإشكال الناجم من احتدام الدين مع الشأن الاجتماعي. وهنا، يكمن امتحان اضافي للمتعرِّف المؤمن حيث يجد نفسه على الدوام، مسوقاً لتوجيه إيمانه المتعالي من أجل تخطي عثرات التقابل السلبي بين الإيمان والعقل. فعلى هذا الصعيد نراه يحاول في العادة الى الإجابة على سؤال غالباً ما يهيمن على النقاش القديم – المتجدد حول هذه الثنائية يقول السؤال: بأي معنى تُستعمل كلمة “عقل” حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها، أن تُفهم بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني.. أم أنها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير  من حقب الثقافة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟…(8)؟

بإزاء هذا السؤال المركب نجدنا امام حالتين من استعمالات العقل في ميدان المواجهة مع الايمان:

– في الحالة الأولى، يوفر العقل الأدوات اللازمة لمعرفة الواقع والسيطرة عليه، بينما يوفر الإيمان الاتجاه الذي تتم فيه ممارسة هذه السيطرة. وقد يطلق المرء على هذا النوع من العقل تسمية “العقل التقني”، الذي يوفر الوسائل، دون الغايات، ويهتم بالحياة اليومية لكل إنسان، وهو بهذا المعنى، القوة التي تحدد الحضارة التقنية لعصرنا.

– أما في الحالة الثانية، فإن العقل يتماهى بإنسانية الإنسان في مقابل جميع الكائنات الأخرى. فهو أساس اللغة، والحرية، والإبداع. وهو داخلٌ في عملية البحث عن المعرفة، وكذلك في تجربة الفن وتحقيق الأوامر الأخلاقية، حيث يجعل من الحياة الشخصية المشاركة في الجماعة أمراً ممكناً. ولو كان الإيمان نقيضاً للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على ان يكون لديه هماً أقصى(9). أي أن يكون هذا الكائن شغوفاً بالله والإنسان في آن، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي التضاد المفترض بين الغيب والواقع. ومثلما يبيِّن المتعرِّف القرآني – على سبيل المثال- حقيقة التواصل بين الله والعالم من خلال الرحمانية الهادية والمدِّبرة، كذلك المتعرِّف الانجيلي يبيِّن متاخمة الرب الإله لأحوال البشر، وتعليمهم أسرار هذه المتاخمة وبيان حقائقها في الواقع. فـ “الايمان والعقل” – كما ورد في انجيل يوحنا – هما بمثابة الجناحين اللذين يمكنان العقل البشري من الارتقاء الى تأمل الحقيقة. فالله هو الذي وضع في قلب الانسان الرغبة في معرفة الحقيقة ومعرفته هو ذاته في النهاية، حتى اذا ما عرفه وأحبّه تمكن من الوصول الى الحقيقة الكاملة في شأن ذاته”(10). وحده من يمتلك ملكة “العقل المتصل” ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ـ هو الذي يفلح بالوصل بين الواقع الفيزيائي وحاضرية الله في هــذا الواقــع. وما نعنيــه بالعقل المتصل هـو ناظم الإدراك الذي يشكل البنية المعنويــة للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة. وبهذا المعنى يصير العقل شرطاً تأسيسياً للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الإنجذابية إلى ما وراء ذاته كما يعبّر بول تيليتش. أي الى المبدأ الذي صدر منه وخلق من أجله. وهي الفطرة كأول زرعٍ ألقاه الخالق في قلب الانسان ليعرفه ويؤمن به. بتوضيح اضافي: إن عقل الإنسان متناهٍ ومحدود. فهو يتحرك داخل علاقات متناهية ومحددة حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه، هذه الخاصية في التناهي والمحدودية. لكن العقل ليس مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوق قيوده. وعندها يختبر الإنسان انتماءه إلى اللامتناهي. وحين يستحوذ هذا اللامتناهي على ذلك الإنسان فإنه يصير بالنسبة إليه هماً لا متناهياً، أي مقدساً ونبيلاً. وحين يكون العقل ـ بهذه الصيرورة ـ مسلّمة للإيمان، لا يعود ثمة تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كل منهما في داخل الآخر(11).

      الإيمان الديني في منطقة الجاذبية

ما الذي يمكن أن يؤدي اليه اقتران الايمان بالعقل لجهة الجمع بين الولاء الديني وواجبية التعرّف، وما الآثار المترتبة على ذلك حيال تعدد الانتماءات والولاءات الدينية؟…

الإجراءات التنظيرية للدخول في الإجابة على السؤال، تتخذ سيرها بتقديرنا من خلال الاهتداء الى ما يمكن وصفه بمنطقة الجاذبية التي يتواجه فيها الإيمان الديني مع قضايا العالم ومشاغله الدنيوية. وإذا كانت مهمة الفلسفة الأولى تركزت على فهم سر العلاقة بين الله والعالم، فإن الفلسفة اللاحقة، ولا سيما تلك التي زخرت بها أحقاب ما بعد الحداثة، تتمحور حول فهم التعقيدات المعرفية التي يكتظُّ بها عالمنا المعاصر. الفلسفة الحديثة لم تفلح في مغادرة الظل الثقيل للميتافيزيقا الأولى، ولهذا بقي التفكير الفلسفي على قلقه وحيرته، ولم يقدر على اجتياز  الثنائيات الصارمة: الله أو العالم، العقل أو الوحي، الإيمان أو العلم، العلمنة أو الدين، الخ… ذلك يدل على غالب الظن، أن الإشكال الناجم عن هذه الثنائيات، والتي نُظِرَ اليها كمتناقضات لا سبيل الى التقائها، هو إشكال فلسفي بالدرجة الاولى من قبل أن يتحول الى إشكال ايديولوجي.

سوف يكون لدينا من اختبارات الجغرافيا الفكرية في الغرب ما يفصح عن مظهر أساسي من مظاهر الإشكال الذي مرّ ذكره. فالسجال المحتدم اليوم بين المدارس الفلسفية واللاهوتية يأتي بشواهد تخبر عن ان الزمن الذي يُختم فيه الاختصام المديد بين الديني والدنيوي لم يحن بعد. فقد ترتّب على هذا الاستعصاء اضطراب ثقيل الوطأة. وسيتضح ذلك حين نتبيَّن ان المشكل يعود الى سيرته الاولى، ولم يطرأ تغيير جوهري في أصل النقاش بصدده منذ بزوغ فجر الحداثة…. وعلى الرغم من الجهود المبذولة التي شهدتها أزمنة الحداثة الأولى، فقد عاد السؤال لينطرح بقوة حول المآل الذي ينبغي أن ينتظم فضاءات الاختلاف والتغاير. أما تجدد النقاش حول النظام المعرفي الذي يفترض أن يقيم إشكالية التناقض بين الذاتية والغيرية على نصاب جديد، فناشئ من أصلٍ تاريخي عميق،  يتصل بالاهتزازات التي ضربت البناء المجتمعي في أوروبا القرون الوسطى لتأتي ردة الفعل الكبرى على الشمولية الدينية من خلال تأليه الفرد كعنوان كلِّي لاختبارات الفلسفة الليبرالية ونظريات المجتمع المفتوح.

الليبرالية كخصيم للإقرار بالغيرية

ليس من صفات الليبرالية – على ما يظهر – الاهتمام بالجماعة الحضارية إلا بوصفها مجموعة من الأفراد المتفرِّقين. ولئن حاول منظِّروها وايديولوجيوها منحها المشروعية اللاهوتية من خلال توظيف الدور الذي لعبته المسيحية في تحويل أوروبا من الشمولية الى مجتمعات يقوم نظامها العام على أصالة الفرد، إلا أن هذه المشروعية سرعان ما تبدّدت حين اصطدمت مقولاتها وأفعالها  بالإيمان المسيحي. ولعل ما ضاعف من عوامل الاحتدام بين القيم الليبرالية والإيمان المسيحي هي بالدرجة الأولى، الالتباسات التي تحيط بمفهوم الليبرالية نفسه؛ حيث أخضع هذا المفهوم للعبة تأويلية لم تنأ من التوظيف الايديولوجي. فالليبرالية لم تظهر يوماً على شكل مبدإ موحّد، ذلك لكونها ليست وليدة جهود شخص واحد. كتّاب ليبراليون مختلفون فسَّروها بطرق مختلفة، لا بل متناقضة. فمن جهة، هي مبدأ اقتصادي يجعل من نموذج السوق الذاتيِّ التنظيم مثالاً للواقع الاجتماعي برمّته، ومن جهة اخرى، هي مبدأ قائم على أنثروبولوجيا فردانية، بمعنى أنها قائمة على مفهوم الإنسان باعتباره كائناً غير اجتماعي بشكل أساسي. وهنا يكمن عيب الليبرالية الجوهري في الانفصال عن الجماعة الحضارية، واستطراداً في معاداة كل آخَر. فحيث تكون الليبرالية مُنبنِية على الفردانية، تميل إلى قطع جميع الروابط الاجتماعية التي تتخطى الفرد. بمعناها الحديث، الفردانية هي الفلسفة التي تنظر إلى الفرد على أنه الحقيقة الوحيدة، وتعتمده كمبدإ لكل تقويم. بها يؤخذ شخص الفرد بالاعتبار، بتجرّد عن أي سياق اجتماعي أو ثقافي. في حين أن الشمولية تعبر عن المجتمع القائم بالاستناد إلى القيم التي ورثها، وأورثها، وتشاطرها، أي بحسب التحليل الأخير، بالاستناد إلى المجتمع بحد ذاته، تطرح الفردانية قيمها بشكل مستقل عن المجتمع بالشكل الذي تجده عليه(12). لهذا السبب لا تعترف بأي وضع وجودي مستقل للمجتمعات، أو الشعوب، أو الثقافات، أو الأمم. هذه الكيانات، بالنسبة إليها، ليست سوى مجموعات ذرّات فردية هي وحدها من تتمتع بقيمة(…) ولذا تؤكد الفردانية الليبرالية على الاكتفاء التام للفرد المفرد. وتبعاً للسياق المنطقي نفسه يمكن للإنسان من المنظور الليبرالي أن ينظر إلى نفسه كفرد بمعزل عن علاقته مع غيره من البشر ضمن مخالطة اجتماعية أولية أو ثانوية(13).

وبحسب الأيديولوجية الليبرالية، يملك الفرد حقوقاً متأصلة في «طبيعته» مستقلة تماماً عن التنظيم السياسي أو الاجتماعي. الحكومات ملزمة بضمان هذه الحقوق، لكنها لا تستطيع ترسيخها. وبما أن هذه الحقوق سابقة لكل حياة اجتماعية، فهي غير مقترنة بشكل مباشر بواجبات، ذلك أن الواجبات تفترض بالضبط وجود حياة اجتماعية، وما من واجبات تجاه الآخر طالما أن هذا الآخر غير موجود. الفرد بالتالي هو نفسه مصدر حقوقه الخاصة، بدءاً بحقه في التصرّف بحرية وفقاً لحسابات مصالحه الخاصة، الأمر الذي يضعه في حالة «حرب» مع جميع الأفراد الآخرين لأنه يفترض بهؤلاء أن يتصرّفوا بالطريقة عينها ضمن مجتمع يصوّر كسوق تنافسية (14).

ومما يشير الى ممانعتهم لكل غيرية يشدد الليبراليون(15) على أنه ليس من الضروري التضحية بالمصالح الفردية في سبيل المصلحة العامة، أو الصالح العام، أو الخلاص العام، لأنها مفاهيم متناقضة في نظرهم. ولقد خلصوا إلى هذه النتيجة انطلاقاً من فكرة أن الأفراد وحدهم يتمتعون بحقوق في حين أن المجتمعات، باعتبارها مجرّد مجموعات أفراد، ليس لها أي حقوق عائدة لها. بحسب أين راند، فإن «عبارة «الحقوق الفردية» هي مجرّد تكرار ذلك لأن الفرد هو المصدر الوحيد للحقوق». يؤكد بنجامين كونستان في هذا الإطار بأن «الاستقلالية الفردية هي أولى الحاجات في العالم المعاصر. لذلك، لا يجب المطالبة بالتضحية بها ترسيخاً للحرية السياسية». وكان جون لوك قد سَبَقَه في التأكيد على أن «الطفل يولد من دون أن يكون خاضعاً لأي بلد» ذلك لأنه عندما يبلغ سن الرشد، «تعود له حرية اختيار الحكومة التي يروق له العيش تحت حكمها، والجهاز السياسي الذي يحلو له الاتحاد معه»(16).

وفي السياق نفسه تفترض الحرية الليبرالية أن يتمكن الأفراد من نبذ أصولهم، وبيئتهم، والمجال الاجتماعي الذي يعيشون فيه والذي يمارسون فيه خياراتهم، أي كل ما يجعلهم ما هم عليه، ولا شيئاً آخر. كذلك تفترض، بمعنى آخر، على حد قول جون راولز، أن يكون الفرد دائماً متقدماً على غاياته. مع ذلك، لا شيء يُثبت بأن الفرد يمكن أن يعرف نفسَه متحرراً من أي ولاء، ومن أي حتمية. كذلك لا شيء يثبت أنه يفضل، في جميع الظروف، الحرية على أي خير آخر. مثل هذا المفهوم يَغفل في تعريفه عن الالتزامات والارتباطات التي لا علاقة لها بالحساب العقلاني. إنه مفهوم شكلي بحت لا يسمح بفهم ما الذي يعنيه الشخص الحقيقي. وهكذا تتمثل الفكرة العامة للفردانية في أن الفرد يحق له القيام بكل ما يريده طالما أن استخدامه لحريته لا يحد من حرية الآخرين. فالحرية بمفهومها هذا هي التعبير البحت عن رغبة ليس لها حدود نظرية سوى الرغبة المماثلة لدى الآخر؛ مع العلم أن هذه الرغبات مجتمعةً تنقلها التبادلات الاقتصادية. هذا ما أكده مسبقاً صاحب نظرية الحق الطبيعي، غروتيوس، في القرن السابع عشر: «أن يعمل الفرد من أجل مصلحته الخاصة أمر غير منافٍ لطبيعة المجتمع البشري، شرط أن يقوم بذلك من دون المساس بحقوق الآخر»(17). لكن من الواضح بأن هذا التعريف ينطوي على المسالمة، إذ إنّ جميع البشر تقريباً يمارسون أفعالهم بشكل أو بآخر على حساب حرية الآخر، فضلاً عن أنه من شبه المستحيل تحديد اللحظة التي قد تعتبر فيها حرية فردٍ ما عائقاً لحرية الآخرين. فالحرية الليبرالية قبل كل شيء، هي حرية التملّك؛ إنها لا تكمن في ما يكون المرء عليه، وإنما في ما يملكه. لذلك يعتبر الإنسان حرّاً بقدر ما يكون صاحب ملكية، ولا سيما ملكية ذاته أوّلاً. وهذه الفكرة المتمثلة في أن ملكية الذات هي المَعْلم الرئيسيّ للحرية سيتبناها ماركس لاحقاً(18).

وبحسب الفرنسي آلان لوران –  كل شيء قد يتحوّل عند الليبرالية الفردية إلى «مصلحة»، فحتى الفعل الأكثر إيثاراً، والأكثر تجرّداً من المصلحة قد ينطوي في معناه على الأنانية والانتهازية بوصف كونه ردّاً على الرغبة الطوعية لدى صاحبه. لكن من الواضح أن المصلحة ـ بحسب تعريف الليبراليين ـ هي قبل كل شيء منفعة مادية يجب أن تكون محسوبة وقابلة للقياس إن كان لها أن تقدّر لما هي عليه، بمعنى أن يكون بالإمكان التعبير عنها في ضوء هذا النظير الكوني، ألا وهو المال(19).

 

“الفردانية” ومأزق التنوير

لا ريب في أن الجموح الصارخ لليبرالية باتجاه تقديس الفرد كانت له نتائج مدوِّية على ثقافة التعرف. ولذا فلا عجب أن يكون نشوء الفردانية الليبرالية بدايةً تزحزح تدريجي لبنى الوجود العضوية التي تتصف بها المجتمعات الشمولية، ولاحقاً إلى تفكك للروابط الاجتماعية، وأخيراً إلى حالة من التفسخ الاجتماعي النسبي، حيث أصبح الأفراد، وحتى الأعداء، متباعدين أكثر فأكثر ومنجرفين جميعهم بالتالي في هذه النسخة الجديدة من «حرب الجميع ضد الجميع» والمتمثلة في المنافسة المعمّمة. ذلك هو سمتُ المجتمع الليبرالي في تصوّر دو توكفيل حيث كل فرد فيه «يقف على الحياد وأشبه بغريب في نظر الآخرين جميعهم». وحاصل الأمر أن الفردانية الليبرالية أينما وجدت إلى تدمير الاندماج المجتمعي المباشر الذي منع طويلاً ظهور الفرد العصري، والهويات الجماعية المرتبطة به. مثلما تجعل من عملية سلب العالم شخصيته شرطاً للتقدم والحرية»(20).

كل فلاسفة عصر الأنوار هم أول مَن فرض استقلالية الفرد المفكِّر من كل ضغوطاتٍ خارجية. حينها، طُرِحَ السؤال حول أفضل طريقةٍ للعيش معًا بدون عنفٍ داخل المجتمع. ولتفادي كل انحرافٍ طائشٍ وعنيف، راهن مفكِّرو الحداثة على العقل ليشكل القدرة الوحيدة للحدِّ من العنف المتفجر بين الجماعات الدينية المختلفة(…) أما في القرن العشرين، وبسبب من فظائع الحربين العالميتين والأنظمة الاستبدادية، فسيتبيَّن أن قدرة العقل على التنظيم للعيش المشترك بسلامٍ كاملٍ وبلا عنف هي وهمٌ كبير. بالإضافة إلى ذلك، نمَت التعددية الثقافية للمجتمعات الديموقراطية الغربية (تنوُّع إثني وديني وإيديولوجي…)، وقد تخطى هذا النمو السريع مستوى الاختلاف بين الأفراد، مما أدخل تحوُّلاً على التساؤل، وصار موجَّهًا نحو كفاية العقل وقدرته على جعلنا نعيش معًا، وعلى ان نبني مجتمعًا ضمنيًا inclusive يشمل كل الاختلافات (الفردية والثقافية) بدون عنف. والمبدأ الليبرالي الذي يؤكد على أهمية كل فردٍ في المجتمع بغض النظر عن خصوصياته الفردية (وبالتالي المجتمعية والجماعية) يقودنا إلى طرح التساؤل: هل الليبرالية تحمل في ثنياتها، بل وتدعم، الفردانية التي رأى الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور أنها انحراف الحداثة الأول(21)؟

لا شكَّ في أنَّ للفردانية دورًا مهمًا في بحث كل فردٍ عن هويته في تطوُّره الطبيعي على جميع المستويات كي يعرف ذاته ويحقِّقها. بيد أنَّ خطرها يكمن في أنها تقود إلى نسبيةٍ أخلاقية للقيَم Relativisme moral: حيث لكلِّ واحدٍ قيَمَه الخاصة وهي في نظره قيم مطلقة، أي يصعب مناقشتها أو انتقادها. وتعتمد هذه النسبية على مبدأ في غاية النبل وهو مبدأ الاحترام المتبادل، إذ من حق كل فردٍ في المجتمع أن ينظِّمَ حياته بحسب ما يراه صحيحًا ومهمًا. بمعنى آخر، على كل شخصٍ أن يكون «صادقًا مع نفسه، ويفتش في نفسه عن انشراحه (تحقيق ذاته)“.(22) وفي آخر الأمر، لا يتعلق تحقيق الذات والانشراح الشخصي بشخص غير الذات. ولا يحق لأيِّ شخصٍ آخر غير الذات أن يسعى إلى إملاء أيِّ شيءٍ حول طريقة سلوك الفرد في المجتمع. وهذا ما يسميه تايلور “إيديولوجية انشراح الذات” épanouissement de soi الشديدة القوَّة في الثقافة الغربية المعاصرة. وهي الايديولوجية التي استمدت قوتها من عصر التنوير ونالت دعمًا من الليبرالية، فتشكَّل لديها تصوُّر للكائن البشري يرسمُه محور الكون. والى هذا كذلك تقوم هذه الإيديولوجية أيضًا على مفهوم خاص للحرية، وتدافع عنه بعنف. وهذا المفهوم هو الذي يعطي الحرية حق تحديد مصيرها بنفسها liberté autodéterminée. وبموجب ذلك، يكون الكائن البشري حرًا حين يقرِّر لنفسه بنفسه بدل أن يترك التأثيرات الخارجية تصوغ قراراته. بالتالي، لا ينبغي على حياة الفرد ألا تُصاغ بحسب متطلَّبات التقلب الخارجية وحدها، بل لا يمكننا أن نجد خارج الذات نماذج حياةٍ ملائمة. إذ بهذه الطريقة يحدث انتقال ثقافي هام يمكننا أن نسميه محورية الإنسان anthropocentrisme أو “الذاتية المفرطة” subjectivisme exagéré. وهكذا، فإن إيديولوجية انشراح الذات، التي طالما عظَّمت الليبرالية من شأنها، ستخضع للانحراف وتقود بالتالي إلى انغلاقٍ على الذات، وإلى نوعٍ من الاستخفاف بالحياة التي تسمو على الذات، سواء كان ذلك على المستوى السياسي أو الديني أو التاريخي. كما أنها تسمح بإقامة ذاتية أخلاقية subjectivisme moral (لا تريد أن تتأسَّس المواقف الأخلاقية إطلاقًا على العقل أو على طبيعة الأشياء، بل أن يتبناها كل واحدٍ منا انطلاقًا من دوافع ذاتيةٍ صرف). وهذا ما يؤدّي إلى «أن يفقد العقل دوره في التحكيم في الجدالات الأخلاقية» وألا يقبل معاصرونا بسهولة أي شيءٍ معياري خارج تحكيمهم الشخصي(24).

الديني لملء الخواء

التطور اللافت في مسيرة الليبرالية بصيغتيها الكلاسيكية والمعاصرة جاء بأسئلة في غاية الأهمية مع نهايات القرن العشرين. وهذه الأسئلة بقدر ما تشير الى التهافت الذي ضرب القيم الفردية في المجتمع الغربي، بقدر ما تُصدِرُ حكماً موضوعياً على تهافت قيم التنوير، وخصوصاً في الجانب المتصل بالإيمان والمعرفة داخل الفضاء الحضاري الغربي بمجمله. وهو ما ذهبت اليه عالمة الاجتماع الاميركية كارين ارمسترونغ – حين لاحظت أن بروز التقاليد الدينية واعادة تأكيدها، إنما يشكل دليلاً على فشل التنوير في الوفاء بوعوده الخاصة(26).

لقد خسرت الحداثة الغربية –حسب ارمسترونغ – بعضاً من غطرستها واعتدادها وراحت تشكك في موقفها المتعجرف من الآخر، لا سيما في وقت ثبت فيه ظاهرياً فشل محاولاتها لتخطي نفسها عبر الاشتراكية. وفي الوقت عينه، كان محركا الحداثة، “السوق الرأسمالية والدولة الادارية”، يواصلان تقدمهما الذاتي المطرد باتجاه نظام عالمي، مدمرين ومتحديَّين اي تقليد سابق للحداثة، بل واي شكل من اشكال الحياة يقف لهما بالمرصاد. وفي حين تتقبل بعض هذه التقاليد الموقع المخصص لها في السوق الثقافية وتتكيف معه، حيث يتسنى لها ان تزدهر في بانتيونPantheon)) الحداثة او ما بعد الحداثة، فإن التقاليد الاخرى، لا سيما غير الغربية منها، قادرة على تأكيد هوياتها الخاصة في مواجهة الغرب. واذا كان ماكس فيبر مصيباً عندما برهن على ان البروتستانتية الزهدية قد اضطلعت بدور وازن في المساعدة على تشكيل الدور التاريخي الخاص في مأسسة التمايز الحديث وخصخصة الدين في الغرب، فعلى نظريات الحداثة والعلمنة ان تكون مفتوحة على امكانية اضطلاع أديان اخرى بدورٍ ما في مأسسة أنماط علمنتها الخاصة. على ان الشيء الأهم في سياق النقد الموجّه الى المشروع التنويري، هو ما حدا بالاستاذة أرمسترونغ الى التصريح بأن الحداثة الغربية تقف اليوم على مفترق طرق. فإذا لم تدخل في حوار إبداعي مع الآخر، مع تلك التقاليد التي تتحدى هويتها، فإنها قد تنتصر على الأرجح، الا ان الامر قد يؤول بها الى الدمار بواسطة المنطق الصلب واللاإنساني لابداعاتها الخاصة. وقد يكون من سخرية القدر، ان يساعد الدين الحداثة عن غير قصد ربما، على ان تحفظ نفسها، برغم كل الضربات التي تلقاها منها(27).

مع مثل هذه الوقفة الانتقادية التي وجهتها آرمسترونغ لقيم ومسالك الحداثة  بطوريها الكلاسيكي والمعاصر، سوف نجد اليوم امتداداتها العميقة إلا أنها لا تزال في مرحلتها الابتدائية.

ولعل الجدل الدائر بين نخب الغرب حول ما اسموه بـ “زمن ما بعد العلمانية” إنما يترجم أحد الأوجه الرئيسية للعملية النقدية المعاصرة. فلو شئنا أن ننتزع عنواناً إجمالياً لتلك المساجلات لألفيناه في الشغف الآيل الى وضع مفهوم التعرّف على نشأة جديدة.

لنرَ الآن الى الكيفية التي تعود فيها المراجعات النقدية حول موقعية الدين في الغرب بمستوياتها الإيمانية والفلسفية والأخلاقية.

لقد سبق ان شهدت نهاية القرن التاسع عشر والعقود التالية من القرن العشرين أسئلة في غاية العمق بصدد حاضرية الدين واصالته في الحضارة العالمية. ففي ذروة صعود الماركسية على سبيل المثال كان فيلسوف الدين الروسي نيقولا برديائيف يرى ان لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينياً. ولقد نال من كلامه هذا الكثير من النعوت المذمومة من جانب علماء التاريخ ولا سيما منهم الماركسيين من مجايلييه. إلا أنه رغم سيل الانتقادات التي انهمرت عليه، وتلك التي  استؤنفت بعد وفاته من جانب المؤسسة الستالينية، فقد ظل على قناعته بأن جهلاً مطبقاً ضرب العقل الأوروبي حيال الدين، وكان يدعو على الدوام إلى التبصر بهذه الظاهرة التي لا يستطيع العقل العلماني أن يقاربها بيسر. بل انه سيمضي في مطارح كثيرة من مساجلاته إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد أعرب عن اعتقاده بأن الفلسفة الحديثة عموماً، والألمانية خصوصاً، هي أشد مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط. حيث نفذت المسيحية – كما يقول- إلى ماهية الفكر نفسه ابتداءً من فجر عصور الحداثة(28).

 

عندما قرأ بعض علماء الاجتماع  دور المسيحية في تحوّل أوروبا من مجتمع شمولي تقليدي إلى مجتمع فرداني حديث فقد كانوا يعملون على تظهير ها الدور في بعده الإيجابي. ولسوف يتبين لنا ذلك انطلاقاً من الاعتقاد المسيحي بضرورة التعرف على الفرد بوصفه صورة الله وخليفته في العالم. فقد نظرت المسيحية، منذ بدايتها، إلى الإنسان على أنه فرد تربطه علاقة داخلية بالله قبل أي علاقة أخرى، وسعيه إلى الخلاص من خلال السمو الذاتي. وتبعاً لهذه  العلاقة مع الله، تترسخ قيمة الإنسان كفرد، مما يحتم في المقابل انحطاط العالم أو انحدار قيمته. فضلاً عن ذلك، يملك الفرد، كما سائر البشر، روحاً فردية تطرح المساواة والكونية على مستوى أسمى. حيث ان البشرية جمعاء تتشاطر القيمة المطلقة التي تُعطى للروح الفردية بفضل علاقة البنوّة مع الله.

في مورد تأويله للبعد اللاهوتي للفردية في الإيمان المسيحي يشير الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، إلى وجود رابط سببي بين ظهور إله شخصي وولادة «إنسان داخلي» يعتمد مصيره في الحياة الآخرة فقط على أعماله الفردية، ويستقي استقلاليته من علاقة خصوصية محتملة مع الله، الله وحده. يقول غوشيه: «كلّما بَعُدَ اللهُ في لامحدوديته، أصبحت العلاقة معه شخصية بحتة إلى حد استثناء أي وساطة مؤسسية. فالإله، الكلّي بتعاليه، ليس له نظير شرعي على الأرض سوى الوجود الخصوصي، وبالتالي، فإن «الداخلية» الأساسية تتحول مباشرةً إلى فردية دينية»(29).

تكشف الجهود التنظيرية التي شهدتها أوساط علم اجتماع الدين في أوروبا عن ضغط ثنائي يجعل المسيحي في علاقته مع الله «فرداً أخرويّاً»: فلكي يصبح المرء مسيحيّاً – حسب هذه التنظيرات – عليه أن يتخلى بطريقة ما عن العالم. مع ذلك، وعلى مرِّ التاريخ، فقد نقل الفرد «الأخروي» العدوى تدريجيّاً إلى الحياة الدنيا. فإنه مع تحلِّيه بالقوة لجعل العالم يتطابق وقيمه، عاد تدريجيّاً إلى الحياة الدنيا، وانغمس فيها ليحوِّلَها من جذورها. ولقد تمت هذه العملية على ثلاث مراحل أساسية كما يبيِّن آلان دي بينوا(30):

  • في المرحلة الأولى، لم تعد الحياة في هذا العالم مرفوضة رفضاً تامّاً، بل جرى جعلها نسبية، وتلك هي أطروحة القديس أوغسطين عن المدينتين(مدينة الله ومدينة العالم).
  • في المرحلة الثانية، تمتعت البابوية بسلطة سياسية، وأصبحت بالتالي قوة زمنية.
  • وأخيراً، مع ظهور حركة الإصلاح، استثمر الإنسان نفسه كليّاً في العالم حيث عمل من أجل تمجيد الرب عبر السعي وراء النجاح المادي الذي اعتبره دليلاً بحد ذاته على اصطفائه(31)

بهذه الطريقة، أعيد تدريجيّاً مبدأ المساواة والفردية، الذي لم يكن له وجود بالأساس سوى على مستوى العلاقة مع الله، والذي كان لا يزال يمكنه التكيُّف مع مبدإ عضوي وتسلسلي يؤسس بنية الكل المجتمعي على الأرض. وهو ما أدى إلى ظهور الفردانية الحديثة التي تمثل انعكاسه الدنيوي (العالَماني). من أجل نشوء الفردانية الحديثة، كان من الضروري إذاً، -وعلى ما يبيِّن بعض علماء الاجتماع أن ينقل العنصر الفرداني والكوني للمسيحية «العدوى»، إذا صح القول، للحياة الحديثة. وذلك إلى الحد الذي توحَّد فيه النظامان تدريجيّاً، وطُمِسَت الثنائية الأولية، وتم بناء تصوّر جديد للحياة الدنيوية يجعلها قادرة على التكيّف كليّاً مع القيمة الأسمى: وفي نهاية هذا المسار “أصبح الفرد الأخروي هو نفسه الفرد الدنيوي الحديث”(32).

عند هذه الدرجة تبدَّد المجتمع العضوي الشمولي بطبيعته. وبالمفهوم الحالي، جرى الانتقال من الطائفة إلى المجتمع، أي إلى الحياة المشتركة التي ينظر إليها كتجمّع تعاقدي بسيط. على هذا النحو لم تعد الأولوية للكل المجتمعي، وإنما للأفراد الذين يتمتعون بحقوق فردية، وتربط في ما بينهم عقود عقلانية نفعية.

لاهوت التعرُّف في الإيمان المسيحي

السؤال الذي طفق يتجدد ظهوره في سياق تأصيل قواعد التعرُّف تبعاً للإيمان المسيحي يكمن في الإجابة على الكيفية التي واجهت فيها الكنيسة اشكالية الفردية والغيرية، وبالتالي القيم التي اتخذتها سبيلاً لها، لتظهير ما يمكن ان نطلق عليه “لاهوت التعرّف”؟

يؤسس لاهوتيو المسيحية مواقفهم على النظر الى غير المسيحي تبعاً لما ورد على لسان السيد المسيح وحوارييه. ولو كان لنا ان نتبين البناء العام لهذا التأسيس فسنرى أن الإيمان المسيحي يجد في الغيرية، ولا سيما لجهة العلاقة  بالآخر حقيقة أساسية للإيمان. نعني بذلك على وجه التخصيص علاقة المؤمن المسيحي بشخص يسوع الذي يمثل بالنسبة إليه محور الكتاب المقدس.

في العهد الجديد حيث المسيح نفسه هو محور هذا العهد، فإن النظرة الى الغير نجدها في أقواله وأعماله ومواقفه كما وردت في الأناجيل الأربعة.

ورد في إنجيل متى، ما يفصح عن ان المسيح طلب أن يخرج كل واحد منا من ذاته، ويضع نفسه مكان الآخر: “فكُلٌّ ما اردتم أن يفعل الناس لكم، افعلوه انتم لهم، هذه هي الشريعة والأنبياء”(33). ولئن وجدت في العهد القديم وصية (محبة القريب) فإن هذه الوصية تأخذ في المسيح أبعاداً جذرية، بحيث يصبح هذا القريب هو كل انسان موجود على طريق الإنسان؛ وأيضاً الإنسان من شعوب اخرى، وكذلك المنبوذون، بل حتى الأعداء. وهو ما يوضحه كلامه لتلاميذه وحوارييه: “سمعتم أنه قيل العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدّك الأيمن، فأعرِض له الآخر. سمعتم أنه قيل: احبب قريبك وابغض عدوك. أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم لتصيروا بني أبيكم الذي في السموات… فإن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أوليس العشّارون يفعلون ذلك؟ إن سلّمتم على إخوانكم وحدهم، فأي زيادة فعلتم؟ أوليس الوثنيون يفعلون ذلك؟ فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم السماوي كامل”(34).

والمتعرّف الإنجيلي في مقام الإيمان الأعظم، خو الذي يأخذ بحقيقة التعاليم اللاهوتية أو ما يُعرف بالمصطلح الكنسي بـ “قوانين الإيمان”. فالمسيحي المدرك لعظمة التعرّف في الكتاب المقدس يظل حريصاً على كل مسعى تعرّفي يستجيب لتعاليم السيد المسيح المفتوحة على الألوهية اللاّمتناهية. في هذا السياق ينبري فيلسوف الدين البريطاني ريتشارد سوينبرن ليعطي التعرف بعداً آخر أعمق غوراً، هو بعد الثقة بالله الحي. فالشخص المؤمن – وفق هذه الرؤية – ليس من يتوقف إيمانه على الإعتقاد بوجود الله، بل هو من يثق بالله ويعاهده على الإلتزام. “فما يتضمّنه قانون الإيمان يُقرأ على أنه إعلان عن الإيمان بإله متوفّر على الصفات المشار إليها في القانون، وهو فاعل تلك النعم المذكورة في ذلك القانون. ومثل هذه الرؤية يطلق عليها سوينبرن تسمية النظرية اللوثرية في الإيمان، وذلك لأن لوثر كان يؤكد أن الإيمان هو ثقة(35).

ولأن غاية المسيحية التعرُّف الى المخلِّص ليتحقق الخلاص للبشرية، فقد مضى الرسل الى جلاء المنازل المتعددة للمعرفة على أساس ان الخلاص الناجز لن يتيسر إلا بإدراك حقائقه من خلال وحدة القلب والعقل. من اجل ذلك يبيّن بولس الرسول في الفصل الأول من رسالته الى الرومانيين الصلة العميقة بين الايمان والعقل بقوله: “من خلال المخلوق تستطيع بصيرة العقل التوصل الى معرفة الله. فالله بواسطة خلائقه، يُظهر للعقل قدرته والوهيته”(36).

ثمّة اذاً إقرار إنجيلي، بأن للعقل البشري قدرة تتخطى حدوده الطبيعية. فالعقل لا ينحصر في المعرفة الحسية، وذلك لكونه قادراً على ان يتفحصها بطريقة نقدية، بل هو يستطيع ايضاً، وبمعالجة المعطيات الحسية، ان يتوصل الى معرفة السبب الذي تصدر منه الاشياء الحسية كلها. والايمان المسيحي بيّن من هذه الناحية لو أحلنا الرابطة بين الايمان والعقل الى ما ذكره بولس الرسول من ان الله قد وضع في جذور الخلق قدرة العقل على ان يتخطى المعطيات الحسية بلا عناء ليدرك مصدر كل شيء وهو الخالق. ولكن على أثر تمرد الانسان على الله ورغبته في ان يجعل نفسه في حالة استقلال كامل ومطلق عمّن خلقه، زالت قدرته على ان يرتقي بلا عناء الى الله الخالق(42).

من أبرز ما استظهرته المسيحية في تأسيسها للإيمان، ترسيخ العروة الوثقى بين الله والعالم ووجوب ادراك هذه الصلة ووعيها. يشير الى ذلك ما جاء في أعمال الرسل (إنجيل لوقا)، “أن بولس وصل يوماً الى اثينا في غضون أسفاره الرسولية، وكانت مدينة الفلاسفة ملأى بتماثيل عدد من مختلف الأصنام. واسترعى انتباهه احد الهياكل فانتهز الفرصة حالاً ليحدد منطلقاً مشتركا لكرازته: “يا أهل اثينا، أراكم مغالين في التديُّن من كل وجه. فإني واناسائر انظر الى انصابكم وجدت هيكلاً كتب عليه: الى الإله المجهول. فما تعبدونه وانتم تجهلونه، فذاك ما أنا مبشركم به”(43). ثم اخذ بولس يحدثهم عن الله الخالق، المتعالي فوق كل شيء، وواهب الحياة لكل خلق. وقال: “لقد صنع جميع الأمم البشرية من اصل واحد ليسكنوا على وجه الأرض كلها، وجعل لسكناهم أزمنة موقوتة وأمكنة محدودة ليبحثوا عن الله لعلهم يتحسّسونه ويهتدون اليه، مع انه غير بعيد عن كل منا”(44).

في معرض رسالته الجامعة حول الايمان والعقل التي توجه فيها الى اساقفة الكنيسة الكاثوليكية يقول البابا يوحنا بولس الثاني ان الله يتوجه بكلامه الى كل انسان في كل زمن وفي كل الارض، فالانسان هو فيلسوف بالطبع ولا يستطيع اللاهوت من جهته، من حيث هو صياغة فكرية وعلمية لفهم كلام الله في ضوء الإيمان ان يقطع علاقته بالفلسفات التي تكونت فعليا على مدى التاريخ(45). واللاَّهوت بصفته علم الإيمان ينتظم في ضوء مبدأ منهجي مزدوج: سماع الإيمان وفهم الإيمان. وتطبيقاً للمبدأ الاول يتناول اللاهوت محتوى الوحي كما تطور شيئاً فشيئاً في التقليد المقدس والكتب المقدسة والتعليم الحي في الكنيسة. ومن منطلق المبدأ الثاني يهدف اللاهوت الى تلبية مقتضيات العقل، باللجوء الى الفكر  النظري. ففي شأن الاعداد لسماع الايمان فان الفلسفة تؤدي للاهوت مساهمتها المميزة، عندما تتفحص جهاز المعرفة والتبادل الشخصي. وبخاصة لغة الكلام في اشكالها ووظائفها المتنوعة(46).

وفي سياق التنظير اللاهوتي حول وحدة الايمان والعقل كضرورة لإسهام المؤمنين في المخطط الإلهي، نقرأ في القوانين الكَنَسية ما يحث على ان يتزود عقل المؤمن بمعرفة طبيعية حقيقية ومتماسكة في شأن الخلائق والعالم والانسان. وهذه كلها موضوع الوحي الإلهي. وبالتالي على العقل ان يعبّر عن هذه المعرفة بطريقة ذهنية وبشكل برهاني، ومن ثم فاللاهوت العقائدي النظري يفترض ويستلزم فلسفة مبنية على الحقيقة الموضوعية، في كل ما يتعلق بالانسان والعالم والكيان(47).

 

العقل كطريق للإيمان

لقد دأب اللاهوت المسيحي على ما يشبه السجال غير المعلن مع ثقافة القطيعة التي تجريها العلمنة بين الإيمان والتاريخ. وقد تبوّأت الفلسفة مقام الصدارة في التفكير اللاهوتي، حيث عدّها البابا يوحنا بولس الثاني واحدة من أشرف المهمات المعرفية للبشرية(48).

كان للقديس توما الاكويني دور بيّن في تظهير الوحدة التكاملية بين العقل والإيمان على أساس انهما معاً من نور الله، وما يصدر من النور الإلهي لا يقبل التناقض. وتأسيسا على ذلك يرى الأكويني ان الطبيعة، وهي موضوع الفلسفة، تستطيع ان تساهم في فهم الوحي الإلهي(49). ولعل من أبرز الومضات الفكرية الكبرى التي تميز بها، هي تأكيده على دور الروح القدس في انضاج المعرفة البشرية والارتقاء بها. وفي نظرة جذريّة له يرى ان بإمكان الطبيعة أن تساهم في فهم الوحي الإلهي. فالإيمان لا يخشى العقل بل يلتمسه ويثق به. وكما أن النعمة تفترض الطبيعة وتكمّلها، كذلك الإيمان يفترض العقل ويكمّله(50).

أراد الأكويني أن ينوّه بأوَّليّة الحكمة التي هي موهبة من مواهب الروح القدس، والتي تُدخِل الإنسان إلى معرفة الحقائق الإلهية. ومن هذا الوجه، فإن لاهوت الأكويني يُمكِّن من فهم خصوصية الحكمة في ارتباطها الوثيق بالإيمان وبالمعرفة الإلهية. وهذه الحكمة تتميّز بمعرفة فطريّة، وتفترض الإيمان وتتوصل إلى استنباط حكم صائب انطلاقاً من الإيمان نفسه: «الحكمة المعدودة موهبة من مواهب الروح القدس هي غير الحكمة المعدودة فضيلة فكرية مكتسبة: فهذه يكتسبها الإنسان بجهده وأما تلك «فتنحدر من العلاء» على حدّ قول الرسول يعقوب. وهي لذلك تختلف عن الإيمان، لأن الإيمان يذعن للحقيقة الإلهية في حدّ ذاتها، وأمّا موهبة الحكمة فمزيتها أن تحكم طبقاً للحقيقة الإلهية»(51).

التطابق الذي أجراه اللاهوت بين الإيمان والعقل وبين النص الإنجيلي والفلسفة سيكون له اثره الجليِّ في القوانين الكنسية التي كرستها المجامع الحديثة وخصوصاً المجمعين المسكونيين الأول والثاني في خلال القرن العشرين المنصرم. في هذا المضمار تؤكد الكنيسة الكاثوليكية على ان غير المسيحيين يمكنهم البلوغ إلى الخلاص استناداً الى النص الانجيلي: “لأنّ الذي لم يبلغ إلى معرفة حقيقة إنجيل المسيح وكنيسته، وذلك بدون ذنب منه، ولكنّه يبحث عن الله بقلب صادق ويحاول بفعل النعمة أن يتمّم عملياً إرادته التي اطّلع عليها في نداء ضميره، فهذا يمكنه أن ينال الخلاص الأبديّ. فإنّ العناية الإلهيّة لا تحرم الأمور الضروريّة للخلاص أولئك الذين لم يبلغوا بعد إلى الاعتراف الصريح بالله، وذلك بدون ذنب منهم، ولكنّهم يجتهدون بفعل النعمة أن يحبوا حياة قويمة”. وهكذا فإنّ سبيل غير المسيحيين إلى الخلاص يتعلّق بالحقيقة التي يبلغون إليها(52)، وذلك بواسطة دينهم، وبالخير الذي يفعلونه. وهذه الحقيقة وهذا الخير هما الرباط الذي يربطهم بنعمة الله ويقيم علاقة ما بينهم وبين عمل المسيح الخلاصيّ الذي مات لأجل جميع الناس والذي ارتضى الله أن يصالح به الجميع مع نفسه كما تقول النصوص الكنسية.

قواعد التعرُّف الإسلامي

يدخل التعرُّف دخولاً بيِّناً في إيمان المسلمين. حتى أن كثيرين من قراء الوحي ذهبوا في فهم الآيات الى أن القرآن الكريم بما هو بيان وذكر للعالمين، هو تعريف للإنسان بنفسه وبحقائق الموجودات من حوله. ويتأتى مبدأ التعرُّف القرآني من التقرير الإلهي باختلاف الخلق. ذلك بأن الإختلاف، والتنوع، والتعدد تفترضه الكثرة الخَلْقية التي هي قانون الله في الخلق.

ولقد بيّن القرآن الكريم أن اختلاف الناس في عقائدهم ومللهم وآرائهم هي مسألة سُنَنية لن تتبدل ولن تتغيَّر. وان هذا الإختلاف لن يُرفع إلا بعد زوال العالم الدنيوي. وهذا ما يبِّينهُ تعالى: «وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(53). . وقوله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(54).

على هذا التأسيس القرآني للإختلاف شرَّع الإسلام حقَّانية الأديان الوحيانية السابقة عليه. ولما حلَّت رسالة الاسلام في قلب الزمان والمكان لم تعمل على نفي الأديان أو التعامل معها بالقوة والإكراه والجبر، وذلك على قاعدة التمييز بين الرشد والغي، وضرورة اختيار المعتقد أو اتباع الملة. وهو ما أكده كتاب الله في الآية الكريمة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(55). وهو ما أرشد النبي(ص) اليه بتوجيه الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(56)، وهذا أمرٌ لا ينفي وجوب الدعوة الى الإيمان الحق بالله، وإتباع دين الإسلام الخاتم.

ومع أن الإسلام قال بالعقيدة الخاتمية لرسالات السماء، حرص التوجيه القرآني على حثِّ المسلمين على أن تكون الدعوة الى الله مقرونة بمحاورة من يخالفهم الإعتقاد {أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن}. ولقد خصَّ القرآن أهل الكتاب بالمحاورة الرحمانية، كما في الآية {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(57) وهذا يعني في الحقيقة والمقصد إفراغ الجدل من محتواه القسري، ليغدو عملية تعرفية وحواراً مسدّداً بوحدانية الله. ولقد قدمت المصادر الدينية الإسلامية صورة إيجابية جداً حيال المسيحية واليهودية بوصفهما دينين سماويين. يشتركان مع الإسلام بالإيمان بالأنبياء والرسل واليوم الآخر وينطلقان من دائرة التوحيد.

لما كان الانسان بطبعه كائن مفكر، فهو متعرف يسعى الى الفهم الإضافي بالتفكر الزائد. وقد لحظ النص الإلهي خاصية التفكَّر لدى الانسان. ولذلك خاطبه الله تعالى بالعقل ودعاه الى تعقل نفسه وسائر الخلق من حوله وصولاً الى معرفته سبحانه. ولما كان الانسان متعرفاً بالفطرة، فمن أجل ذلك ظهر ما تعرَّف اليه على لسانه وعبر أفكاره ومعارفه. فقد ألهمه الله قدرة النطق بتقاطيع الحروف فكان له أن ابدع اللغة، لتعبّر عما في عقله ليتعرَّف بوساطتها الى الغير. وعلى هذا كان لا بد من نظام للنطق (وهو ما يطلق عليه بـعلم النحو)، تماماً كعلم المنطق بما هو نظام العقل. ونظراً لقوة العلاقة بينهما قيل “ان النحو منطق لغوي وان المنطق نحو عقلي”(58).

واذا كان التعرُّف عملية استهداء بالفكر الى أمر مجهول، فالهداية عبارة عن الإرشاد والتعريف الى السبيل القويم بدافع اللطف. ولفظ الهدى والهداية في الأصل هي ذات معنى واحد، لكن كلمة الهدى في القرآن تستعمل لإفادة معنى الهداية الإلهية:{إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}(59). ومن الممكن ان تطلق الهداية على سير الخلق وصيرورتهم باتجاه الكمال المأمول لدى الخالق.

وينظر أئمة المسلمين وعلمائهم الى تجليات الكثرة في الوحي الإلهي على أنها سنُّة خَلْقِية كما أشرنا. وهم ينطلقون من حقيقة أن الهداية الإلهية هي المصدر الأول في تدبير الخلق. وهي على مراتب نستطيع اجمالها بسبع: تكوينية وتشريعية وفكرية وعقلية ووحيانية تشريعية وإفاضية وإشراقية وتسديدية. وهذه الهدايات على الجملة تقع في نطاق هدايتين مركزيتين هما التكوينية والتشريعية.

1- الهداية التكوينية، وتصدر من الحق الى الخلق. وهي تمتد لتستوعب الموجودات والكائنات الحية، وبالتالي جميع البشر. وهذه الهداية ترتبط بالأمور غير الإختبارية. بمعنى أنها لا تندرج في نطاق «ارادة الموجودات» وعلى سبيل المثال: فإن النمو الطبيعي للموجودات يعد من سلالة الهداية التكوينية. والآيتان التاليتان تدلان على هذه المرتبة: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(60).. {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}(61).

أما الهداية التشريعية، فإنما هي هداية يهبها الله الى البشر من طريق الأنبياء والرسل. وهي تتجلى في الواقع بمعنى «تنوير الطريق» الى التوحيد وتشمل البشرية كلها. وفي هذا الضرب من الهداية يكون للإرادة الإنسانية والإختيار البشري دور فاعل ومقرَّر. فإذا ما أراد الإنسان أن ينتقل من الهداية التي معناها «تنوير الطريق»، الى الهداية التي معناها الإيصال الى الغاية والمطلوب؛  فينبغي له العمل بجميع الأوامر الإلهية باختياره وبملء ارادته. وبشرح مقتضب على لسان بعض العلماء المسلمين: ان الله تعالى يهبُ المؤمنين الذين يتوفرون على الهداية التشريعية، ضرباً من الهداية التكوينية التي تعني (الإيصال الى الغاية والمطلوب) ولاسيما في مراحل السير والسلوك الى الحق الأعلى. فالهداية التشريعية إذاً، تعني ان الله سبحانه يضع بين أيدي الناس القانون الذي يوفر لهم السعادة، ويبني وعيهم من خلال الأمر بالفضيلة والنهي عن سيئات الأعمال، وذلك لكي ينتخبوا الطريق بإختيارهم من أجل أن يبلغوا الغاية التي يشاؤون بكل حريتهم.

وتأسيساً على هدايتي التكوين والتشريع يستطيع السالك الى الحق ان يحصِّل سلسلة من الاستهداءات الإلهية الاضافية عن طريق المجاهدة والتعرُّف.

والأديان الوحيانية تشتمل على مجمل مراتب الهداية الإلهية، وإن كان ثمة إختلاف في الرؤية تفسيراً وتأويلاً، لدى علماء المسلمين واللاهوتيين المسيحيين واليهود. غير ان الإشتراك والإختلاف يظل المبدأ الحاكم في الفهم القرآني. إذ المشترك التكويني ثابت على قاعدة التوحيد بينما الإختلاف أمر حاصل في مجالات التشريع. ولهذا شدَّد القرآن الكريم على ضبط قضية الحوار والمناظرة والجدل في إطار التراحم. فالجدل بمعنى الكلام التبادلي بين الإسلام وأهل الكتاب ينبغي أن يرتكز الى المعرفة ويقوم على أساس العلم. فلا يُصار الى الجدال او التوجه نحو المناظره الا بعد تحقُّق البيِّنة، وقيام العلم، وكشف الحق. ولنا هنا أن نقف على بعض الآيات القرآنية التي تتصل بآداب الجدل.

– {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(62).

– {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}(63).

–  «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(64).

تأسيساً على هذه الرؤية وهي رؤية رحمانية، قدَّم القرآن الكريم المسيحية النصرانية بوصفها ديناً سماوياً خالصاً. راوياً سيرة المسيح(ع) ورسالته. مكرِّماً اياه وامه مريم(ص) اشرف تكريم. فمريم في النص القرآني، بتول طاهرة اصطفاها الله تعالى على نساء العالمين. وكانت مهبط البشارة بالمسيح الذي كانت ولادته معجزة إلهية. وعيسى المسيح في القرآن هو نبي رسول وكلمة الله وروح منه. وهو صاحب المعجزات الكبرى التي وهبها الله اليه: يكلم الله في المهد ويحيي الموتى بإذنه.. في حين وصفه بـ «الهدى والنور والمصدِّق للتوراة، والموعظة الحسنة للمؤمنين وسمّاه الكتاب. ومدح حوارييه بالإيمان والرأفة والرحمة والسماحة والطاعة لنبي الله.. كذلك امتدح القرآن مؤمني أهل الكتاب في أكثر من موضوع مشيراً الى مكانتهم عدالتهم وإيمانهم وخشيتهم لله تعالى وتواضعهم له.

وهكذا لم تكن صورة المسيحية التي عرضها الوحي الإلهي في القرآن موضوعاً للجدل السلبي. وذلك يعود الى أن الإيمان بها جزء من إيمان المسلم لأنه مصِّدق لها، ومن ثم فهو يحتويها، حيث أُمِر بضرورة الإيمان بها كجزء من الإعتقاد برسل الله. كذلك كان الأمر على تمامه بالنسبة لأنبياء بني اسرائيل.

أما في الجدل والحوار فقد ميَّز القرآن الكريم بين الصورة الأولى الأصلية وصورة المسيحية التاريخية. حيث دار الجدل حول جملة من القضايا الإعتقادية كقضية التأليه، والصلب، والروح القدس وقضية إتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله. . الخ.

لكن في مقابل الجدل أسس النص القرآني قواعد للحوار الرحماني ضمن الدائرة التاريخية يمكن جمعها في قاعدتين:

الأولى: الإيمان بالله الواحد الأحد.

والثانية: الدعوة الى الحوار من أجل بناء مجتمع إيماني أخلاقي يخلو من الظلم والفساد، وهو ما أشارت اليه الآية الكريمة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(65).

ولرسول الله(ص) توجيهات ومواقف تدخل في أصل الوحي الإلهي وتطبيقاته التاريخية، نذكر منها لقاؤه مع وفد نجران الذين جادلوه في غير مسألة ولم يؤمنوا. . ومع ذلك فقد نزلت الآيات في هذا الجدال. عندها حانت خاتمة اللقاء كتب لهم رسول الله(ص) عهداً وأماناً على أنفسهم وأرضهم وأموالهم ودينهم وأشهد على ذلك العهد شهوداً. وكذلك رسائله الى أكثر من ملك من ملوك النصارى، حيث إنتهى الأمر معهم الى كتابة عهد بينه وبينهم، وكان مما جاء فيه: «ولنجران وحاشيتهم جوار الله، وذمة محمد النبي رسول‌الله، على أنفسهم وملَّتهم، وأرضهم وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم وبيعتهم، وصلواتهم، لا نغيِّر أسقفاً عن أسقفيته ولا راهباً عن رهبانيته». . ولنا أن نضيف ايضاً من أحاديث الرسول(ص) في الوصية بأهل الذمة قوله «أوصيكم بذمة الله، فإنها ذمة نبيكم» وقوله «من قتل نفساً معاهداً لم يشم رائحة الجنة»، وقوله «وإذا إفتتحتم مصر فاستوصوا القبط خيراً فإن لهم ذمة ورَحَماَ»…

يبقى أن نقول ان الرؤية القرآنية الى الله والعالم انما هي تظهير لعلم الله بالخلق عبر الكلام الإلهي. ولذلك فإن فهم النص المقدس سواء في القراءة التفسيرية او في القراءة التأويلية إنما يتأسس على قواعد العقل والمنطق والبرهان والإيمان. ولأن هذه التأسيسات هي من أجل الإنسان الذي كرَّمه الله تعالى وجعله خليفة له يكتسب الحوار الخلاق بين الناس صفة الواجبية في مقاصد النص المقدس وغاياته(66).

 الفضائل الست للتعرُّف

لا شك في ان الكلام على التعرف والمحاورة الرحمانية يكتسبُ اهميته الاستثنائية اليوم في سياق النقاش حول الخطاب الديني بمنابره المختلفة، ولا سيما ما تتولاه القنوات الفضائية على هذا الصعيد. ولعل ما يمنح أطروحة التعرُّف أولويتها الخاصة، انها تكشف عن واحد من أهم وأبرز عوامل القطيعة بين الأديان الكبرى، وهو ما تعكسه الحالة النمطية من الحوار المعمول به على سيرة المجاملات العابرة. وهذا بالذات ما قصدناه بواجبيَّة الأخذ بقاعدة التعرُّف لتجاوز الجهل عبر معرفة الذات والآخر قبل الشروع بأي حوار.

لكن الفضيلة العليا للتعرف لا تتوقف على تنوير مساحات العتمة التي تحجب بصيرة المتحاورين وحسب. بل هي تمتد بفضائلها لتغمر بأنوار المعرفة كل من يمضي إليها او يأخذ بناصيتها. وكلما مضى المتعرِّف الى لقاء نظيره على خط الرحمانية، كلما انقشعت عن نفسه غمامة الجهل، فعرف نفسه وعرف النظير في عين الوقت.

اما العائدات التي يحصّلها السالك الى فهم دين سواه والتعرُّف اليه فهي كثيرة‌ وجليلة على الجملة:

اولاً: سوف يساعده التعرف في معرفة دينة على نحو اكثر عمقاً. وذلك على اعتبار ان الحقائق تدرك بنظائرها، أو كما يقال «إن الاشياء تعرف بأضدادها». ففي مسار التعرف الذي يحفر مجراه عبر التداول والاستقراء والمساءلة، يتكشَّف المزيد مما هو مجهول علينا من حيوات الغير. وهو مسار لن يكون له حدود ما دام مفتوحاً على الامتلاء المستمر بالعلم. لاسيما اذا تشكلت معلومات ومعارف هي حصيلة فهم الآخر لدين المتعرِّف ومعتقداته.

ثانياً: سوف يعينه على معرفة مواطن الخلل التي ينطوي عليها سلوكه الديني حيال المنتمي الى دين آخر. ونعني بمواطن الخلل: شعور المؤمن الساعي الى المعرفة بالرضى والأمان داخل معزلِهِ الديني (الطائفي او المذهبي)- والشعور بالاكتفاء الذاتي وهو يعيش حبيس قلعته المغلقة- والنظر الى معتقده كطريق خلاص الى المدينة الفاضلة والى معتقدات الغير كموصل الى الجحيم.

ثالثا: من نتائج التعرف ان يغادر المتعرف عقدة الاضطهاد الناتجة من جهله بنظيره حيث لا يتوقع منه الا سوء النية والشر المستطير.

رابعاً: سوف يتوصل المتعرّف الى إدراك معنى ‌آخر للحرية. حيث تكف الحرية في حالة الادراك المتبصِّر لأبعادها الإلهية والأخلاقية، عن كونها مجرد لعبة تستباح فيها افهام ومعارف ومعتقدات الغير. خصوصاً حين تتحول الحرية‌ لديه الى سلوك بعد ان اختبرت في حقل التواصل الحميم.

خامسا: من فضائل التعرُّف انه يمنحك منفسحاً لتوسيع معارفك مما في معتقد غيرك من محاسن وكمالات لا تتوفر في مجال ثقافتك الدينية والاخلاقية.

سادساً: إمكان التوصل عبر التعرُّف الى ملتقى مفتوح يمكّن المتعرفين، وكل من موقعيته من بلورة استراتيجية تفضي الى الخير العام في ميدان الفكر والثقافة الاجتماع والسياسة والتنمية ومقاومة الهيمنة الخارجية والاستبداد الداخلي.

في مناخ التحولات الكبرى التي تعصف بعالم القيم ومسارات المعرفة، يجد

المسيحيون والمسلمون أنفسهم امام اختبار ايمانهم الديني من جديد في سبيل تنمية حياتهم المشتركة وحضارتهم الإنسانية الواحدة. وفي غالب الاعتقاد ليس من أمر أكثر واجبية من التعرُّف والفهم بين الأديان.

 

 

[1] – تعني “السيرية” الفعل الجوهري في حركة التاريخ. حيث يتلازم نشاط الإنسان في الواقع المادي والاجتماعي مع إيمانه بعناية الله التفصيلية في هذا الموقع.

(2) اوليفييه روا – حداثة وعلمانية وعودة الدين، مجلة قضايا اسلامية معاصرة – العدد (41-42) شتاء وربيع 2010.

(2) ماهر عبد المحسن حسن- (غادامر… مفهوم الوعي الجمالي – دار التنوير – بيروت 2009 – ص 244.

(3) المصدر نفسه – ويمكن العودة الى كتاب غادامر:

Gadamer – Trutn and Method, p. 270.

(4) بول ريكور – الذات عينها كآخر – ترجمة وتقديم جورج زيناتي – اصدار المنظمة العربية للترجمة – بيروت 2005 – ص 72.

(5) انظر أيضاً المقدمة التحليلية لمترجم كتاب ريكور البروفسور جورج زيناتي. مصدر سبقت الإشارة إليه. ص 75.

(6) هوسرل- تأملات ديكارتيه – مدخل الى الظاهراتية- تعريب اسماعيل حسن – دار المعارف – القاهرة 1970 – ص 28.

(7) بول تيليتش ـ بواعث الإيمان ـ ترجمة سعيد الغانمي ـ منشورات الجمل ـ 2007ـ ص 145.

(8) تيليتش – المصدر نفسه – ص 146.

(9) تيلتش – المصدر نفسه – الصفحة نفسها.

(10) الكتاب المقدس – يوحنا – (14-8) يوحنا (3-2)

(11) تيليتش – المصدر نفسه – ص 90.

(12)آلان دي بينوا- نقد الإيديولوجيا الليبرالية- ترجمة رضا طاهر – فصلية “الاستغراب” العدد الأول بيروت خريف 2015.

 (13) ـ لويس دومون، «نشأة وتطور الفكر الاقتصادي»، Homo aequalis: genèse et épanouissement de l’idéologie économique ، دار غاليمار، 1977، ص. 17.

(14)– المصدر نفسه.

(15)ـ سعى بعض الكتاب الليبراليين مع ذلك إلى التمييز بين الاستقلالية والسلطة الذاتية، في حين حاول آخرون (أو أنفسهم) التفريق بين الموضوع والفرد، أو حتى بين الفردانية والنرجسية. بخلاف الاستقلالية، تبقى السلطة الذاتية في الواقع منسجمة مع الخضوع لقواعد تتخطى الفردانية، حتى عندما تأتي من معيارية تأسست ذاتيّاً. تلك، على سبيل المثال، وجهة النظر التي يتبناها آلان رونو(Alain Renaut) (مرجع مذكور، ص. 81ـ86)، إلاّ أنها ليست مقنعة جداً. تختلف السلطة الذاتية بشكل تام عن الاستقلالية، (وفي بعض الأحيان تشكّل النقيض تماماً)، ولكن يبقى السؤال الأساسي في معرفة ما الذي يمكن أن يجبر الفرد، من وجهة نظر ليبرالية، على الالتزام بما يقيّد من حريته حيث يتعارض هذا القيد مع مصلحته الذاتية.

(16)ـ الاتفاقية الثانية للحكومة المدنية، 0961، الفصل الثامن. Deuxième Taité de gouvernenement Civil.

(17)ـ غروتيوس «من قانون الحرب والسلم»، Du droit de la guerre et de la paix ، 1625.

(18)ـ لا يؤيد ماركس الآلية الإيديولوجية الليبرالية التي منحها قيمة معرفية أساسية فحسب، لكنه يتقيّد بماورائيات الفرد التي جعلت ميشال هنري يرى فيه «أحد المفكرين المسيحيين البارزين في الغرب» (ماركس، دار غاليمار، المجلّد الثاني، ص. 445). نشأ واقع الفردية الماركسية، متخطياً واجهته الجماعية، على يد العديد من الكتاب بدءاً من لويس دومون. يقول بيار روزانفالون: «يمكن فهم فلسفة ماركس بأكملها على أنها محاولة لتعزيز الفردانية الحديثة (…) ما من معنى لمفهوم الصراع الطبقي نفسه خارج إطار التمثيل الفردي في المجتمع. في المقابل، ليس له أي دلالة في مجتمع تقليدي، «. (الليبرالية الاقتصادية: تاريخ فكرة السوق Le libéralisme économique: Histoire de l’idée du marché، سوي بوان للنشر، 1989، ص. 188ـ189). رفض ماركس وهم «الرجل ذو الوعي الاقتصادي» Homo economicus الذي ظهر اعتباراً من القرن الثامن عشر لمجرد أن استخدمته لإبعاد الفرد الحقيقي ودمجه بوجود يقتصر على دائرة المصلحة الذاتية فحسب؛ فالمصلحة الذاتية، بالنسبة إلى ماركس، هي مجرد تعبير عن الفصل بين الفرد وحياته. (ذلك هو أساس الجزء الأفضل من عمله، لا سيما نقده «تجسيد» العلاقات الاجتماعية). لكنه لا ينوي البتّة إبدال المصلحة الخاصة بالصالح العام. فهو لا يعترف حتى بالمصالح الطبقية.

(19)ـ آلان لوران – «الفردانية: دراسة حول عودة الفرد» De l’individualisme. Enquête sur le retour de l’individu ، المنشورات الجامعيّة الفرنسيّة، 1985، ص. 16.

(20)ـ آلان دي بينوا – نقد الايديولوجيا الليبرالية – مصدر سبق ذكره.

(21)– الأب نورس السمور اليسوعي – التسامح – المبدأ ومراجعة المبدأ – مجلة المشرق – السنة الخامسة والثمانون – الجزء الاول – بيروت – حزيران 2011.

(22) Charles Taylor, Grandeur et misère de la modernité, Québec, Bellarmin, 2004, p. 26.  نقلا عن: المصدر السابق

(24) Charles Taylor, op, cit, p. 42-44

(26) كارين ارمسترونغ – النزعات الاصولية في اليهودية والمسيحية والاسلام – ترجمة محمد الجورا – دار الكلمة – دمشق – 2005- ص 343.

(27) أرمسترونع – المصدر نفسه – ص 344.

(28) N. Berdyev: The Russian Revolution, The Uni., of Michigan press, 1961 pp. 11-12.

(29) ـ مارسيل غوشيه «خيبة أمل العالم»Le désenchantement du monde، دار غاليمار، 1985، ص. 77.

(30) آلان دي بينوا – مصدر سبقت الإشارة إليه.

(31) – المصدر نفسه.

(32)ـ «عصر الفرد: مساهمة في تاريخٍ للذاتيّة»L’ère de l’individu. Contribution à une histoire de la subjectivité، دار غاليمار، 1989، ص. 76ـ77.

(33) متى – 7-12.

(34) متى – 8 – 12.

(35) انظر للوثر

“The Freedom of a Christian” p 11 < in Reformation Writing of Martin Luther < trans B.L Woolf , Vol , 1(Lutterworth Press,1952)

(36) را. روم 1، 20.

 

(42)– البابا يوحنا بولس الثاني – رسالة في الايمان والعقل الى اساقفة الكنيسة الكاثوليكية – منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام – بيروت 1998 – ص 37.

(43)– رسل 17، 22-23.

(44)– رسل 17، 26-27.

(45) – يوحنا بولس الثاني – المصدر نفسه.

(46) المجمع الفاتيكاني الثاني – الدستور العقائدي في الوحي الإلهي “كلام الله” فقرة 1.

(47) وثائق المجمع – المصدر نفسه – ص 105.

(48) رسالة جامعة- المصدر نفسه – ص 5.

(49)

الاكويني – الخلاصة اللاهوتية ن 1، 1أ، 208.

(50) – الخلاصة اللاهوتية 1، 1، أ، 8، 2.

(51) – الخلاصة اللاهوتية – المسألة 45.

(52) راجع أعمال الرسل , 35:10 الرسالة الى الرومانيين 10:2 رسالة يوحنا 29:2

(53) سورة هود – الآية 118.

(54) سورة الحج – الآية 17.

(55) سورة  البقرة – الآية 256.

(56) سورة  الغاشية – الآيتان 21 و22.

(57)سورة  العنكبوت – الآية 46.

(58) التوحيدي – المقابسات – ص 169.

(59) سورة البقرة – الآية 120.

(60) سورة طه – الآية 50.

(61) سورة النحل – الآية 68.

(62) سورة الانعام – الآية 108.

(63) سورة الحج – الآية 3.

(64) سورة آل عمران – الآية 66.

(65) سورة آل عمران – الآية 64.

(66)  محمود حيدر – من  محاضرة القيت في جامعة بغداد- في إطار المؤتمر الدولي تحت عنوان: “حوار الثقافات والأديان” –رؤى استشرافية للتعايش السلمي في العراق-  – في  (15-16)-2- 2014.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى