فنون وآداب

الزخارف الإسلاميَّة.. جماليَّة الوجود ورمزيَّة التكوين

الزخارف الإسلاميَّة.. جماليَّة الوجود ورمزيَّة التكوين*

 

                                                                                سامر قحطان القيسي

 

هناك عوامل كثيرة ساعدت على نشوء فن الزخرفة الإسلامية ، كان من أهمها العلاقة الوثيقة التي ربطت الفكر العقائدي بالتأمل الدائم للإنسان المسلم في مظاهر الكون والطبيعة ،والذي من شأنه أن يعزز في الإنسان قوة الملاحظة والتفكر ورهافة الحس وتنمية الذوق، فضلاً عن فعالية عاملي المكان والزمان، فانتشار الإسلام عبر الفتوحات الإسلامية كان له الأثر البالغ في الامتزاج الحضاري، ومن ثم الاستفادة من معطيات الحضارات الأخرى وتوظيفها ضمن طابع إسلامي خاص يستلهم منه المتلقي أحاسيسه والرؤية الماورائية للأشكال الزخرفية، وهذا ما نلمسه  حين تتبُع التطور الحاصل لفن الزخرفة عبر مسيرته وصولاً للأشكال والتكوينات الزخرفية الحالية القابلة للتطور والتحسين ايضاً.

‏   اتجه ألفن الإسلامي نحو فن الزخرفة فأنتج زخارف قائمة بذاتها وزخارف تحتويها الإشكال الهندسية والنباتية  والحروف العربية والكلمات، فالزخرفة الإسلامية كما هو معروف هي وحدات شكلية رياضية تسعى الى الوصول لحقيقة لا تتعلق بمكان أو زمان معينين، فالمثلث أو المربع أو الدائرة  بمثابة حقيقة عقلية مصدقة عند المزخرف المسلم يستلهم منها وحداته الهندسية.. ويستلهم من الطبيعة شجيراتها وأوراقها وأزهارها وحيواناتها ويعمد على تحويرها لتجسيد الحركة الداخلية في الأشكال الهندسية عبر تداخلاتها التي تدركها العين من خلال خطوطها واشكالها المتداخلة، فضلاً عن تلك الموسيقى الصادرة عن ألأشياء التي تعبر عنها الحركة الزمانية الممثلة للديمومة والاستمرارية في حركتها اللانهائية، فحين صاغ الفنان أشكال الطبيعة بأسلوب جديد فهو بذلك قد لخص الاشياء بعدد من الرموز أو الأشكال الهندسية بعيداً عن النسخ والمحاكاة، وهذه الاشكال تتظافر وتتشابك في إبداعاته الفنية لتولد أشكالاً اخرى متنوعة ومتباينة، فهو يقدم الطبيعة لا كما يراها البصر، بل مثلما يفهمها الشخص العارف بمبادئ الدين الإسلامي وعقيدته السمحاء، فالمسلم يسعى للكشف عن الحياة المثالية التي تكمن خلف الظواهر ، ليصوغها بأشكال رمزية دلالية مرئية فيها إفصاح جمالي مرهف رغم مغايرة للواقع والطبيعة التي استلهمت منها.

إن المشاهد التي وجدها الفنان المسلم في الوحدات الزخرفية كثيرة ومتعددة فهي لا تبوح عن مغزاها بسهوله ولا تفصح عنه بيسر، فلها أعماق محملة بمسببات لانهائية، فالمتأمل لتكرارها يجدها غنية بالمعاني والرموز ، حيث أن العوالم المتصلة التي تصوغها المنظومة الزخرفية تمتلك رمزاً واحداً وحقيقة مجردة  لا تتغير، وتتابع دورة الحياة التي تظل تتوالد في حالة تشبه حالة التسبيح المتكرر لله تعالى الذي يرمز الى شوق الفنان الدائم للمطلق،  وفي حال قيام الرمز بدور التجسيد المادي فإن مغزاه في هذا الموطن يكون هو المضمون ، والمضمون في الزخرفة الإسلامية لابد من الوقوف عليه  فلا وجود لفن حق بلا مضمون ، والمضمون في الفن يجنح على الدوام إلى رموز تحتويه وتعبر عنه بشكل واضح للمتلقي.

ومن هذا المنطلق حمل الفنان المسلم الزخرفة الإسلامية رموزاً فنية تمتلك القدرة الذاتية على التأثير في النفس البشرية لما فيها من قيم جمالية تدخل في المادة التي تكون الرمز الفني سواء على قطعه جلد أم على جدار، لهذا حاول المزخرف المسلم ان ينشئ من خلال اعماله الابداعية صورة للعالم المطلق باستمرار وهي بهذا انعكاس للفكر الإسلامي،  كما أن البحث في الرمزية الدينية للزخرفة الإسلامية يعد بمثابة دعوة صريحة إلى التحرر من الماديات والتطلع إلى ما وراء المادة.. بحثا في سمو الروح والوجدان بعيداً عن العالم الارضي الزائل والنفاذ إلى آفاق رحبة السماء.. فالفنان المسلم يرتقي بالزخرفة الاسلامية صعوداً إلى أرفع ذرى التجريد، فالتكرار هنا يحدد رياضياً في أوضاع وحجوم وهيئات متعاقبة في البعد الثالث في مستوى النظر وهو محدد بخط أفقي ، فتستقر الحروف على الأغصان أو تتحد معها أو تشكل مضلعات متداخلة او قد تمثل خلفية تلتصق فوقها الكتابة، لتنتهي الحروف بتشكيلات نباتية مشكلة نسقاً زخرفياً واحداً، تتناغم معه أشكال وخطوط مبسطة مختلفة الهيآت .

لقد   شكل الفنان المسلم بأشكاله الإبداعية وحدة جمالية مميزة معبرة عن عظمة ووحدانية الخالق جل جلاله، فعمد الى استخدام زموز نباتية وحيوانية في وحداته الزخرفية، ومن دون أي مساس بالقداسة الإلهية بكل معانيها التعبيرية، فجاءت الرموز الإسلامية معبرة عما يوحي بالإيمان وكان أهمها واكثرها استخداماً :

1- المصباح

ويرمز عادة الى النور الساطع في قلوب المؤمنين وهو من أهم الرموز الإسلامية الأساسية استخدم في القرن السادس الهجري ، وكان مرسوماً ومحفوراً على محاريب بعض المساجد ودور العبادة، وله دلالة رمزية لنور الله، في قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ )  ومازال مستخدماً حتى اليوم وخاصة في الفوانيس التي ترفع في ليالي شهر رمضان.

2- النجمة

أو ما يسمى بالكوكب الدري، هو نجمة مشعة وسطية تحيط بها مجموعة من النجوم المتلألئة  الصغيرة المتساوية الأحجام، واستخدم هذا الرمز في كل الدول الإسلامية إلا في بلاد إيران والعراق اللذين اختارا رمزاً آخر للكوكب الدري مؤلفا من 12 شعبة  بدلاً من 8شعب التي استخدمت اول الامرتيمناً بعدد أئمة الشيعة من الاثني عشر إماماً، وهذا الشكل اختير بشكله الاول ب8 شعب، كونه ناتج عن تقاطع صليبين متساويين والصليب يدل على رمز الشمس الذي يبعث بنور أشعته إلى أجزاء العالم الأربعة، إما الدائرة الوهمية التي تحوي الشعب فهي ترمز لله الواحد الأحد لأن منه البداية وإليه النهاية.

3-الهلال

اما الهلال فهو رمز إسلامي خالص، ومنه يستدل على شخصية المسلم أينما وجد وأينما ذهب، فهو لا يتغير لا بالمكان، ولا بالزمان، فهو من اوليات المسلم التي يستدل من خلالها على بداية الاشهر القمرية في قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، واستخدم في الرايات والأعلام البطولية واستمر رمزاً اسلامياً ليتمركز على رأس القباب ومآذنها معلناً عن اتجاه القبلة في المكان او الرقعة الجغرافية التي يرتفع فيها.

4- زهرة اللالة

اما النباتات فكان لها النصيب الاكبر في اعمال الفنان المسلم الزخرفية ومنها زهرة اللالة والتي يدل تشكل وريقاتها عادة على كلمة (الله) واستخدمت غالباً من قبل الفنان المسلم الايراني والتركي، فزينت بها الجوامع والقصور مشكلة وحدة زخرفية تمجد اسم الخالق جل جلاله وقد مثلتْ الناحية الزخرفية فيها  أهمية بالغة كما نرى في المنمنمات الفارسية والتركية.

5- شجرة السرو

اما شجرة السرو فهي رمز إسلامي مهم جدا حيث استوحي منها بناء المآذن الاسلامية المرتفعة بسبب تكوينها البنائي الصلب، واتخذت فيما بعد رمزاً للمآذن في التصوير الفني، فجاءت على جدران القصور والى جانبها وريقات زهرة اللالة ، لذا استوحى البناء من تلك الأشجار الباسقة العالية شكل المآذن العثمانية التي مازالت رمزاً وسمة يتخذونها في بناء مآذن الجوامع الإسلامية.

وعليه يكون الفن الإسلامي شاهداً على الرموز الإسلامية في تطورها عبر العصور والاحتفاظ بقدسيتها حتى يومنا هذا، فقد امتاز هذا الفن الرائع بوحدته الهندسية وزخرفته الورقية المظهرة للرموز التي اعتنقت التصوير للمعنى الإلهي دون الاقتراب من صورته المقدسة، ولذا عُدّ فناً جمالياً مسبحاً بقدرة الإله ،خاشعاً ساجداً له وحده ،مظهراً له ولكتبه المنزلة بوحدة التكوين دون التجزئة لمحتوى الكل الأبدي الدائم الوجود.

_______________________________

*نقلاً عن موقع “العتبة الحسينية المقدسة”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى