فلسفة وميتافيزيقا

“إشكاليَّة الله في فكر مارتين هيدغر”

 

 

 

“إشكاليَّة الله في فكر مارتين هيدغر”

 

 

 

المؤلِّف: البروفيسور هانس كوكلر، فيينا، النمسا.

ترجمة: د. حميد لشهب، فيلدكرخ، النمسا.

 

 

 

 

 

 

تقديم المترجم:

 

لم يكن من الصدفة أن خصَّص بريتو دراسة وافية وشرح عميق لقراءة كوكلر لهيدغر[2]، لأنَّه كان يعرف أنَّه من القلائل الذين نفذوا بتبصر عميق إلى “كنه”[3] فلسفته وافتتانه بدراسة الكينونة، بل هذا النوع من الاحترام الكبير لها ولتجلّياتها.

ركب كوكلر غمار الإبحار في فلسفة هيدغر بثبات وعزيمة قويَّين، مكلَّلين بإرادة الرَّغبة في الفهم، قبل الشرح والتأويل. وهذا ما خوَّل له، باعتراف الكثيرين، تقديم فهم فريد وأصيل لفكر هيدغر في الكثير من جوانب فلسفته. وما ميَّزه عن الكثير من مؤوّلي هيدغر من الفلاسفة الناطقين بالألمانيَّة هي تلك النفحة النقديَّة، رغم أنه في كثير من الأحيان كان مدافعًا عنه ومصحِّحًا للآراء المغرضة لبعض شرَّاحه، وهذا ما نلمسه عندما يقول: “قالت هانا أرينت Hannah Arendt عام 1969، بمناسبة عيد ميلاد هيدغر الثمانين، أمرًا حاسمًا يتمثَّل في عدم إمكانيَّة إنكار كون تاريخ تأثير فكره أبعد من الأطر المرجعيَّة الغربيَّة الضيِّقة (أي الأوروبيَّة-الأميركيَّة). وما يُعتبر حقيقة تاريخيَّة هو أنَّ تحليلات هيدغر المتجذِّرة في الاهتمام بالأنطولوجيا الأساسيَّة أصبحت أساس الأيديولوجيَّات التحرُّرية – خصوصًا في سياق النقد الحديث للتكنولوجيا والحركة البيئيَّة، وأنَّ فلسفته اكتسبت أهميَّة عالميَّة متعدِّدة الثقافات، تتجاوز الإطار الأكاديميَّ الضيّق للفلسفة الأكاديميَّة الغربيَّة التقليديَّة. ويتأكَّد هذا أيضًا في تأثير تفكيره على التيَّارات ما بعد الحداثيَّة واتّجاهات النقد الحضاريِّ في جميع أنحاء العالم”[4].

 

لا بدَّ من القول أنَّ أكثر ما اشتغل عليه كوكلر في فكر هيدغر هي الأنطولوجيا التي قادته بدورها إلى دراسة اهتمامه بالله: “بالنسبة إليَّ، كان فريتز هيدغرFritz Heidegger  وسيطًا مهمًّا لتصنيف إشكاليَّة الله في النظام الشامل لتفكير الكينونة، وأيضًا وبشكل خاصٍّ  في ما يخصُّ السيرة الذاتيَّة، أي في ما يتعلَّق بوحدة الفلسفة والحياة”. ويضيف: “كان الشغل الشاغل بالنسبة إليَّ هو إظهار كيف يترك هيدغر وراءه الإطار الفلسفيَّ المتعالي (الأنطولوجيّ المثالي في نهاية المطاف) لفكر هوسرل. وفي “التفكير في الاختلاف الأنطولوجيِّ”، كما يروق لي تسميته، تفتح الفلسفة أفقًا على خلفيَّة يمكن على خلفيَّته طرح أسئلة جديدة حول جوهر الإنسان وتجربة الله خارج الميتافيزيقا الغربيَّة المسيحيَّة. في اهتمامه بإشكاليَّة الله التي رافقته منذ بداية فكره، طوَّر هيدغر بالفعل شيئًا مثل “اللَّاهوت السلبيّ” الضمنيّ على أساس كينونتاريخيّ. وينطبق هذا على كلِّ من نقده شبه الجدليِّ “لعلم اللَّاهوت” وللفلسفة الوسيطيَّة، وكذلك على التحوُّل الصوفيِّ اللَّاحق له في اتجاه استدعاء Invokation الله “الحقيقيّ” – “الإلهيّ” – بعيدًا عن الميتافيزيقا المسيحيَّة. جزء لا يتجزَّأ من نقده “للميتافيزيقا” هو نقده لإرادة القوَّة في “التقنيَّة االحديثة، والذي يفتح أيضًا الإطار الفلسفيّ للتعامل مع ظاهرة العولمة. وعلى هذا الأساس فإنَّ هيدغر أكثر راهنيَّة من أيِّ وقت مضى”[5].

 

لنفهم أكثر، وبطريقة أفضل اهتمام كوكلر بالطريقة التي اشتغل بها هيدغر على موضوع “الله”، ورفضه للتصوُّر المسيحيِّ الكاثوليكيِّ لله، نورد مقتطفًا من حوار لنا معه[6]:

 

“- تطرَّقتم في كتابكم: “هيدغر وريبة الكينونة” أيضًا إلى مسألة الله في فكر هيدغر. أيّ إله كان يعنيه، مع العلم أن الرأي العام في الفلسفة يعتقد بأنَّه كان سَوَّى حساباته مع إرثه الكاثوليكي؟

– كفيلسوف، حاول هيدغر إعادة طرح مسألة “الكينونة” – كمصدر للواقع – بمساعدة المنهج الفينومينولوجيّ. ويعني هذا أنَّه، بصفته فينومينولوجيًّا، أراد التفكير في ما يظهر له على الفور في تجربة العالم. وكان هذا هو الهدف من تحليله لـلوجود هنا”Dasein”. لذلك، لم يستطع اعتبار الإيمان الكاثوليكيِّ، القائم بالفعل على اليقين المطلق، كأساس لفلسفته. ولكن لا يترتَّب على ذلك أنَّه كان ملحدًا، وأنه رفض وجود الله. “تفسيره” للميراث الكاثوليكي لا يعني أكثر من كونه عبر عن وجهة نظر تؤكِّد على أنَّ التفكير الفلسفيَّ بشكل عام يكون مستقلًّا عن كلِّ يقين دينيٍّ مسبق. وفي هذا المعنى يجب أيضًا فهم أطروحته التي كثيرًا ما يتمُّ تداولها والقائلة بأنَّ الفلسفة “المسيحيَّة” هي تناقض ذاتيّ. في المرحلة الثانية من فلسفته – بعد ما يسمَّى بـ “المنعطف” – وصف هيدغر بشكل متردِّد وجود كائنات ذات صفات إلهيَّة؛ يقترب من الصوفيين مثل مايستر إيكهارت، ويرجع إلى العالم السحريِّ الأسطوريِّ للشاعر هولدرلين. بالنسبة إليه، كان من الخطأ في المسيحيَّة تقديم الله على أنَّه أسمى كائن (summum ens ) يتمتَّع بأسمى مستوى من الوعي الذاتيِّ. ووفقًا لهيدغر، فإنَّ هذا من شأنه أن يكون بمثابة حطٍّ من قيمة الله، لأنَّ المرء لا يفكر فيه في بُعد الكينونة، بل يعتبره مجرَّد كائن.

 

من المفيد هنا ذكر ما كتبه لي شقيقه فريتس هيدغر (الذي ربما كان يعرفه شخصيًّا وفلسفيًّا بشكل أفضل، لأنَّه لم يكبر معه فحسب، بل – في السنوات اللَّاحقة – كتب جميع مخطوطاته أيضًا) في رسالة عام 1973 (بعد قراءته مخطوطًا بحثيًّا عن “مشكلة الله في تفكير هيدغر”): “يجب على المرء أن يضع دائمًا في اعتباره أنَّ هيدغر لا يفكِّر في شيء آخر من غير الله، ولا يتحدَّث إلَّا عنه، والذي لا تتجاوزه الكينونة إلَّا ظاهريًّا فقط”. في الرسالة نفسها، أشار فريتس هيدغر أيضًا إلى أنَّ محاضرة مارتن هيدغر في توبنغن حول “الفينومينولوجيا واللَّاهوت” لم تنشر إلَّا “الآن” (1973) – بعد 43 عامًا من كتابتها – وهو ما قد يكون مؤشّرًا على عودته للإشتغال على الدين في عمر متأخِّر.

 

– ما هي أسباب علاقة هيدغر المتشنِّجة مع المسيحيَّة الكاثوليكيَّة؟

– تفسِّر أصول هيدغر ما تسمّونه العلاقة “المتشنِّجة” له بالمسيحيَّة الكاثوليكيَّة. أستطيع أن أفهم موقفه جيدًا في هذا الصدد، لأنَّ أصولي متطابقة تقريبًا مع أصوله. نشأنا معًا تحت جناح الكنيسة الكاثوليكيَّة. كان والدانا ساكريستانين (يساعدان من دون مقابل القساوسة في شؤون الكنيسة -إضافة المترجم-) في الكنيسة في مسقط رأسنا. خدمنا كمساعدين في القدَّاس في سنٍّ مبكرة، وتربَّينا في مدرسة داخليَّة كاثوليكيَّة. على ضوء هذا، يفهم المرء أنَّ هيدغر الشاب الذي، وبرعاية رئيس أساقفة فرايبورغ غروبنر Gröbner ، كان من المفترض أن يدرس اللَّاهوت في الأصل، كان عليه أن يتحرَّر تدريجيًّا من الكاثوليكيَّة بسبب اهتماماته الفلسفيَّة. ولا ينبغي أيضًا تجاهل حقيقة كونه حتى في السنوات اللَّاحقة – كفيلسوف مشهور عالميًّا – كان يتعامل دائمًا باحترام كبير مع تقوى وإيمان والديه وسكان مدينته الأصليَّة.

 

– أيُّ نوع من الدين كان هيدغر يصبو إليه، إن كان بالفعل قد فكَّر في شيء من هذا القبيل؟

– إذا نظرت إلى نصوصه بعد “الإنعطاف” “Kehre” – وخصوصًا النصوص المنشورة في مجلَّد “الحدث Das Ereignis” – فقد أتحدَّث عن “دين الكينونة”. تحدَّث هيدغر غالبًا عن الكينونة بمعنى شبه صوفيٍّ وحذاها بالصفات الإلهيَّة (وهي صفات لا تشير حصريًّا إلى المسيحيَّة، التي رفض قطعًا مفهومها المجسّم عن الله). بإعادة كتابته للكينونة محذّرًا من أيِّ تشييئ لها، يمكن للمرء أيضًا أن يرى نوعًا من “اللَّاهوت السلبي” في مقاربته هذه، ويصف الإلهيُّ بالإشارة إلى ما هو ليس هو (يعني يزيح صفات ما هو غير إلهيٍّ عن الله -إضافة المترجم). وبهذا الصدد، فإن تفكيره قريب بالتأكيد من الروحانيَّة، وقد يقول البعض أيضًا الإيمان بوحدة الوجود والتقاليد الدينيَّة الأخرى غير الغربيَّة – أكثر بكثير من المفهوم الشخصيِّ عن الله في المسيحيَّة.

 

– كانت لهيدغر علاقة خاصة بالبوذيَّة، أو هكذا يؤوّل بعض شرَّاحه هذا. ماذا استهواه في نظركم في هذه الديانة؟

 

– العلاقة بين تفكير هيدغر والبوذيَّة – وعلى وجه التحديد: بوذيَّة الزن – ناتجة من نقده للعقلانيَّة الموضوعيَّة للفكر الغربيِّ وإضفاء الطابع المطلق على إرادة القوَّة، كما يلاحظ هيدغر ذلك في الحضارة التقنيَّة. ما يتشاركه أيضًا مع البوذيَّة هو نقد مفهوم شخصيٍّ مجسّم عن الله. خصوصًا أنَّ  مفهوم “الكينونة” يشير عند هيدغر إلى قربه من “لا شيء Nichts ” (كلا شيء الوجود)، كما وصفه ذلك بوضوح في محاضرته الافتتاحيَّة في فرايبورغ عام 1929، ويقدم هذا تشابهًا بنيويًّا مع منهج بوذيَّة الزن. وكما نعرف الآن، فإن هيدغر في تفكيره حول الكينونة استلهم، من بين من استلهم منهم، من المفكّر الياباني د. ت. سوزوكي D. T. Suzuki ، الذي زاره أيضًا في فرايبورغ. بشكل عام، قادته محاولة “تجاوز الميتافيزيقا” – ويعتبر انعطاف “Kehre” هيدغر خروجًا عن التفكير الإراديِّ للغرب – والوصول إلى مسارات فكريَّة ليست غريبة نجدها أيضًا في التأمُّل البوذيِّ. ويمكن ملاحظة ذلك أيضًا في كتابه الشهير ” Feldweggespräch” عن “السكينة/الصفاء Gelassenheit “، والذي نُشر بعد الحرب. لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن وجدت فلسفة هيدغر صدى قويًّا في اليابان. وقد لاحظت وتأكَّدت بهذا بنفسي في محاضرة لي عن الفينومينولوجيا في جامعة طوكيو (1980).

 

يُقال إن هيدغر تراجع في أواخر حياته عن موقفه الرافض للكاثوليكيَّة، على أيِّ أساس ينبني هذا الادّعاء؟

– لم يتخلَّ هيدغر عن موقفه الفلسفيِّ الأساسيِّ من العقيدة العقائديَّة للكاثوليكيَّة حتى في المرحلة اللَّاحقة من حياته. ما قام به هو اقترابه مرة أخرى من الإيمان الطبيعيِّ لمسقط رأسه. هكذا يجب أيضًا فهم وصيَّته قبل وفاته برغبته في أن يتولَّى الكاهن الكاثوليكيُّ والفيلسوف الدينيُّ برنارد فيلتي Bernhard Welte، الذي ولد في نفس مدينة هيدغر ميسكيرخ، بإلقاء خطبة جنازته، وهذا ما حدث أيضًا. كان فيلتي – وإن كان أستاذًا في “الفلسفة المسيحيَّة للدين” – محاورًا مهمًّا لهيدغر في السنوات الأخيرة من حياته. كما أشرت إلى ذلك سابقًا، كان دائمًا يحترم ديانة الناس وتقواهم، لكن ليس في شكل دوغمائيٍّ بحت. في هذا الصدد، أتذكَّر أيضًا محادثة أجريتها مع البروفيسور برنارد فيلتي حول تصوُّر الله عند هيدغر الذي كان حينها على قيد الحياة. وحكى لي الشيء نفسه تلميذ هيدغر، الأستاذ ماكس مولر Max Müller  من ميونيخ، والذي كان راسخًا بقوة في العالم الكاثوليكي ومؤثّرًا للغاية في السياسة، ولعب دورًا رئيسيًّا في إعادة تأهيل هيدغر بعد الحرب. ومع ذلك، فإنَّ كلَّ هذا لا يغيّر حقيقة – للعودة إلى سؤالكم الدقيق – كون المرء وضع صليبًا على قبر زوجته إلفريدا، وقبر آخر في مقبرة مسكيرخ، وقبره هو نفسه يوجد بين هذين القبرين، ومزيَّن بنجمة عوضًا عن صليب. ويعني هذا أنَّه أراد أن يرى ديانته الفلسفيَّة موثَّقة إلى الأبد بعد وفاته، تمامًا كما وضعها في قوله البسيط وهو حي:

“الذهاب إلى نجم ما، هذا النجم فقط … Auf einen Stern zugehen, nur dieses [7]“.

 

إنَّ الغاية من ترجمة “إشكاليَّة الله في فكر مارتين هيدغر” هي تقريب فضاءات فكريَّة وفلسفيَّة مختلفة، بُغية توفير سبل للتعايش والحوار، ولمَ لا فالتكامل والتعاون من أجل غد أفضل للإنسانيَّة. وهذا بالضبط ما حاوله الفيلسوف النمساويُّ هانس كوكلر نفسه في حياته الفكريَّة، سواء في نصوصه الفلسفيَّة، وخصوصًا فلسفته السياسيَّة، في بعدها القانونيِّ -على مستوى القانون الدوليِّ- أم في مواقفه الرافضة لكلِّ وصاية من أيِّ نوع (سياسيَّة، أيديولوجيَّة، اقتصاديَّة، فكريَّة إلخ) للغرب على دول العالم الثالث، ولاسيما العربيَّة والإسلاميَّة. وليس هناك أنصع دليل على هذا أكثر من التزامه المبدئيِّ الدائم بالقضيَّة الفلسطينيَّة مثلًا ودعمه للشعوب العربيَّة في استرداد حقوقها والذَّود عن ثقافتها وحضارتها. وأعترف شخصيًّا بأن هذا الجانب المنير لشخصيَّة فكريَّة فريدة، هي التي شجَّعتني على امتداد ربع قرن من الزمن على تتبُّع الإنتاجات الفكريَّة لكوكلر، وترجمة بعضها، وعرض أخرى، وتنظيم لقاءات معه في إطار مشاريع فكريَّة بيننا، في المغرب وفي النمسا.

بترجمة هذا النص، أتمنى أن أكون ساهمت ولو بالقليل جدا في إغناء الساحة الثقافية والفلسفية الناطقة باللغة العربية، وككل ترجماتي السابقة، سواء لكوكلر أم لمفكّرين جرمانيين آخرين، فإنَّ المبتغى هو إكمال وتوسيع معرفتنا بالغرب ثقافة وحضارة، لأنَّنا في الواقع لا نعرف عنه إلَّا الشيء القليل، ونتوهَّم بأننا نعرفه بما فيه الكفاية. وهذا الادِّعاء هو الذي حدا بنا أيضًا إلى أخذ مواقف متشنِّجة تجاه الغرب، بل زرع في فضاءاتنا الثقافيَّة والفنيَّة والإعلاميَّة بذور التفرقة: هناك من انبهر كليَّة بإنجازات الغرب منذ الأنوار، ويرى فيه مثالًا يقتدى، وعلى الشعوب العربيَّة التخلُّص من ركام ماضيها والانخراط في تحديث ذاتها بالاعتماد على ما حقَّقه الغرب؛ وهناك فريق آخر لا يرى في الغرب إلَّا جانبه المظلم، المهدّد لهويَّتنا وثقافتنا. والمطلوب حاليًّا هو التموضع في الفضاء الرماديِّ بين الأبيض والأسود، بتعميق فهمنا للغرب ورسائله وأهدافه، ليتسنَّى لنا بدء فهم ذواتنا وموضعتها في موضعها الصحيح زمكانيًّا. وقد مرَّ ربع قرن من القرن الحادي والعشرين. فلا الدعاية للغرب ولا رفضه جملة وتفصيلًا يخدمان قضايانا المصيريَّة، بل توسيع فهمنا للإثنين معًا، ليتسنَّى لنا أخذ مواقف موضوعيَّة، وبناء ما يجب بناؤه في غضون القرون القادمة، لأنَّ “النهضة”، التي يجب أن تعني في حالتنا “النهوض”، أي الوقوف ونفض الغبار الذي راكمته علينا القرون الفائتة، تبدأ بالضبط بهذا “النهوض”. ولا غرو في أنَّ الترجمة هي جزء لا يتجزَّأ في هذا “النهوض”، لما توفّره من إمكانات لمعرفة الآخر وتأطيره بموضوعيَّة في إطاره الحقيقيِّ، وليس في إطار تمثُّلاتنا له، سواء أكانت هذه التمثُّلات إيجابيَّة أم سلبيَّة.

 

                                                      

 

 

 

 

 

 

النصُّ المترجم:

مفهوم الكينونة ومسألة الله الشخصي[8]

المفهوم المسيحي لله من وجهة نظر هيدغر

(تدمير الأنطولوجيا اللَّاهوتيَّة)

 

“أتينا للآلهة بعد فوات الأوان  ومبكرًا بكثير للكينونة”

„Wir kommen für die Götter zu spät und zu früh für das Seyn“[9]

 

إنَّ محاولة التوفيق بين “تفكير الكينونة” عند هيدغر وتصوُّره الشخصيِّ عن الله هي مشكلة منذ البداية، لأنَّ الإطار الأنطولوجيَّ الذي رسمه  بعد “الإنعطاف Kehre” يحدِّد في البداية منطقة خارج الشخصيِّ Personalen، بعيدًا عن الطريقة التي فكرت الميتافيزيقا الغربيَّة للـ actualitas في ذلك.

 

يميِّز الحياد الفينومينولوجيُّ في ما يتعلَّق بمسألة الله الأنطولوجيا الوجوديَّة في بداية تفكير هيدغر، الذي يستنتج أيضًا استحالة وجود أيِّ فلسفة “دينيَّة”[10]. يشير إلى هذا في تفسير طريقة تفكيره في خطاب الإنسانيَّة Humanismusbrief: “مع التحديد الوجوديِّ لجوهر الإنسان … لم يتم حتى الآن اتِّخاذ قرار بشأن” وجود الله” أو عدم وجوده، كما لم يتمّ تقرير سوى القليل عن إمكانيَّة وجود الآلهة”[11].

 

في مرحلة الميتافيزيقا “الملتوية Verwindung”، يتغيَّر الموقف المحايد إلى موقف “هدّام”: إنَّ الأنطولوجيا الثيولوجيَّة المسيحيَّة هي في الأساس جزء من المخزون الميتافيزيقيِّ، وبالتالي يجب رفضها في طابعها الموضوعيِّ والطوعيّ. وقد أصبحت الإشكاليَّة الجديدة التي طُرحت بعد “الانعطاف” بمثابة التصحيح الأنطولوجيِّ لإشكاليَّة الله[12]. ويتضمَّن هذا التصحيح نقدًا للمفهوم الشخصيِّ عن الله كما تطوَّر في المسيحيَّة، خصوصًا في ما يتعلَّق بإضفاء الطابع المطلق على مفهوم الذاتيَّة.

 

يجب تسليط الضوء بإيجاز على أسُس هذا التصوُّر في ما يتعلَّق بمخاوف هيدغر: نُظِّر إلى الوجود Sein – من طرف أفلاطون وأرسطو- على أنَّه أمر واقع actualitas (حيث يُفهم هذا في النهاية على أنَّه تحقيق الذات في الوجود بمعنى مجسم)؛ والتمثيل “الأعلى” للواقعيَّة، إن جاز التعبير، يُرى في كائن- باعتباره صفة محدَّدة له- يمتلك مثل هذا “الوجود” في أنقى صوره، وهو actus purust[13]. “شكرًا لتكون نقيًّا وقريبًا ..  „Deo autem convenit esse actum purum et primum حسنًا ، ليكون فعلًا نقيًّا وأول عمل“[14]. ومع ذلك، من حيث المبدأ، لا تتجاوز هذه الميتافيزيقا أبعاد الوجود Seienden لأنَّها لا تطبِّق “الاختلاف” (أي الاختلاف الأنطولوجيَّ) بحزم كاف. من ناحية، يتحدَّث عن “كائن Sein” وهو في حدِّ ذاته سمة من سمات الوجود Seiendem ولا يمكن فهمه إلَّا بأنَّه هذه الخاصّيَّة [الواقع actualitas كتحديد وضع كلِّ كائن Seienden]، ومن ناحية أخرى، يفترض وجود كائن كأساس للكائنات نفسها، والتي لها خاصّيَّة معيَّنة “حاسمة” للكائنات Seienden، واقعها، إلى درجة بارزة[15]. بمعنى ما، الله هو تمثيل نموذجيٌّ للوجود Sein على أنَّه واقع actualitas (أي أن يتحقَّق بالكامل) [16]. بهذه الطريقة يحدِّد توماس[17] الَّلحظة الموحّدة einende بين الله والفرد في “الوجود Sein” المفهوم بهذه الطريقة، والذي يعني دائمًا أن وجودًا حقيقيًّا Wirklichsein. تكمن العلاقة بين الله والفرد على هذا المستوى من المساواة الشكليَّة لكائنين zweier Seiender: “”هناك تشابه مع الخير الإلهيّ. أين نريد أن نكون ضمنيين في الصورة والله” „Ipsum esse est similitudo divinae bonitatis; unde inquantum aliqua desiderant esse, desiderant Die similitudinem et Deum implicite“ [18] “.

 

هكذا طوَّر توماس المفهوم الميتافيزيقيَّ للخلق في توافق دقيق مع النهج الأرسطيِّ للسببيَّة الحقيقيَّة[19]، والتعالي الذي يظهر هنا هو التعالي بين الكائنات، وعلى هذا النحو لا يصل إلى مضمون مشكلة الاختلاف الأنطولوجيّ. ويفهمه كـ: ” انبثاق “كلِّ الوجود من السبب الكونيِّ الذي هو الله emanatio „totiu entis a causa universali, quae est Deus” ويضيف: ” ونسمّي هذا الانبعاث باسم الخلقet hanc quidem emanationem designamus nomine creationis”[20]. الذي يحاول هيدغر تجاوزه باستعمال مفهوم الكينونة[21].

يميّز طوماس بالتأكيد بين الأشكال المختلفة لهذه السببيَّة Ursächlichkeit، لكنه لم يعد يشكِّك فيها بنفسه، فهو يعتقد بأنَّ الله نفسه هو سبب عالميٌّ causa universalis ضمن هذا النموذج. (أو causa sui) [22]، كما يشرح في نقده للمفهوم المدرسيِّ الطوماويِّ عن الله: “إن الطابع السببيَّ للوجود كواقع يظهر نفسه بكلِّ نقاء في ذلك الكائن الذي يملأ جوهر الوجود بأعلى معناه، لأنَّه لا يمكن أبدًا ألا يوجد هذا الكائن Seiende”[23]. طبقًا لهيدغر، فإنَّ المشكلة التي تظهر هنا تنتمي إلى مجال “الأنطوثيولوجيا”[24]، لأنها تتعلَّق بمسألة “وجود الله بمعنى كونها أعلى واقعيَّة summum ens qua ens realismum”[25].

 

وهكذا، فإنَّ ما يفهمه هيدغر نفسه على أنَّه كائن Sein غير مُتضمَّن في مفهوم الفعل actus (= الوجود esse) ولا الفعل الخالص actus purus  (= الإله) ، كما اعتقد طوماس. وهذا هو السبب في أن ما يعتقده هيدغر “إلهيًّا” في الوجود Sein وفي ظهور الكينونة Sein، لا يمكن التعبير عنه بشكل كافٍ بمصطلحات الميتافيزيقا المدرسيَّة المسيحيَّة. أكثر من هذا، يفهم هيدغر الوجود Sein والله في ميتافيزيقا الطوماويَّة على أنهما تعديلات معيَّنة للإشكاليَّة الوجوديَّة Seinsproblematik الواحدة الشاملة. والتي لا يمكن التفكير فيها في الميتافيزيقا على هذا النحو. إنَّه يحاول العودة إلى ما وراء الميتافيزيقا.

 

من وجهة النظر النقديَّة هذه، يتعيَّن على هيدغر أن يشكِّك في مفهوم الله باعتباره سببًا كونيًّا لا غنى عنه causa universalis qua causa sui  من حيث الشروط التاريخيَّة seinsgeschichtlich التي لم يفكر فيها، والتي تُظهر له كيف تعيد الميتافيزيقا المسيحيَّة تفسير “وجود الوجود للخلق das Sein des Seienden “[26]. و”ينسى”.”الوجود Sein” هكذا باعتباره “السبب” غير المتوفّر والمسيطر على الوجود الفرديِّ، الذي لا يكون هو ذاته summum ens مرَّة أخرى. وبالتالي، فهو أيضًا يفلت من الأرضيَّة التي يظهر عليها جوهر “الإلهي”، إذا كان لا يزال من الممكن اليوم الحديث عنها على الإطلاق في “ليل العالم”[27]، وكان من الممكن تحديد هذا الوقت بشكل مناسب. ولا تتمُّ معرفة الإله نفسه إلَّا بالمعنى الموضوعيِّ والتجريديِّ: ” لا يقدر الإنسان أن يصلّي إلى هذا الإله [الأنطوثولوجيّ] ولا تقديم ذبائح. ولا يمكن للإنسان أن يركع بخجل أمام سبب ذاته Causa sui، ولا يمكنه أن يعزف الموسيقى ويرقص أمام هذا الإله”[28].

 

بهذا المعنى، يدمّر هيدغر المفهوم المدرسيَّ المسيحيَّ عن الله، ويقترح في الوقت نفسه على المرء أن يبحث عن إله “مختلف”، وليس عن مجرَّد إله، يختبره أخيرًا على أنَّه “شكل” (مظهر) الوجود في الأسطورة.

 

فكر الكينونة ومسألة تفسيره الشخصيّ:

 

إنَّ محاولة هيدغر الوصول إلى تجربة جديدة للوجود Seinserfahrung، غير متخفّية من قبل التقليد الميتافيزيقيِّ، تقود في البداية إلى آخر غير شخصيّ، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفكر البوذيِّ أكثر من ارتباطه بالمفهوم المسيحيِّ لله[29]. ويبدو أنَّ الكونيَّة Pankosmismus وتقوى الطبيعة Naturfrömmlichkeit في كتاباته اللَّاحقة تؤكِّد ذلك. ويجب تجاوز الشخصيَّة كفئة لوصف المطلق (للوجود)، لأنَّها تعبير عن التطوُّعيَّة Voluntarismus غير المُتحكّم فيها – وبالتالي فإنَّها تجسيم. ويتمُّ التفكير في الوجود Sein نفسه في فئة “الإلهي” (المقدَّس).

وهكذا يبدو أنَّ ازدواجيَّة الميتافيزيقا التقليديَّة بين الوجود والله (كـ summum ens) قد ألغيت لصالح مفهوم بوذيٍّ مجرَّد عن الوجود Sein كلا شيء Nichts، والذي له مكان واحد، بالنسبة إلى الإله المسيحيِّ الشخصيِّ، في مجال نسيان الكينونة Siensvergessenheit فقط. لطالما أشار هيدغر (في محادثة حول فلسفة سوزوكي Suzuki) إلى البوذيَّة باعتبارها التعبير عن نيَّته الفلسفيَّة المركزيَّة. في ما يتعلَّق بمناقشة أطروحاته في “حديث طريق الحقل Feldweggespräch عن التفكير”[30]، وهو مفهومه للتاريخ الكينوني “العدميَّة”، الذي قدَّمه بشكل خاصٍّ في مجلَّد نيتشه الثاني[31]، تمَّ استخدام هذا التفكير، كما يُلاحظ في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة واليابان على مدى العقود القليلة الماضية،  كذلك في تفسير الدين الغربيِّ وشخصانيَّته Personalismus. ويمكن للمرء أن يعتمد على تفسير هيدغر نفسه، صاغه بالفعل في أطروحته عن قول نيتشه بموت الله:” لأنه يمكن أن تكون المسيحيَّة نفسها نتيجة وتطوُّرًا للعدميَّة”[32].

أشار رولف فون إيكارتسبيرج Rolf von Eckartsberg  ورولاند س فالي Roland S. Valle  إلى شيء ما في دراستهم لهيدغر والتفكير الشرقيّ حول البعد “عبر الشخصيَّة transpersonale” لتفكير هيدغر في الوجود Sein.

في سعيه لترك مجال التشخيص، الموضوعانيَّة في اتجاه تجربة ما قبل التشخيص (الأصليَّة) للكينونة[33]. يرون فيه قاسمًا مشتركًا أساسيًّا مع البوذيين ويتحدَّثان عن: “البعد الثيولوجي العابر للبشر في المنطقة ما وراء العمق وما وراء الارتفاع، ما وراء الإرادة البشريَّة، التي هي مصدر الإنارة والوفاء والحقيقة للإنسان – ما وراء الشخصيَّة[34]. ويشير اهتمام هيدغر بتصوُّف مايستر إيكهارت Meister Eckhart إلى الإتجاه نفسه[35]. وبالإضافة إلى الكثيرين، يتحدَّث بيتر كريفت Peter Krefft أيضًا عن شيء مذهل في كيفيَّة “رسم” هيدغر[36].

 

يمكن أن تشير هذه التفسيرات على الأقل إلى جهود هيدغر لإجراء محادثة مع ممثلي زن البوذيَّة Zen-Buddhismus ، حتى لو كان تديُّنه الأسطوريُّ اليونانيُّ، المستوحى من هولدرلين، يتناقض في النهاية مع عنفه/قوته التصويري/التصوُّري. يبدو أن هناك مستويات مختلفة من التفسير في عمل هيدج، التي لم يتوسَّط بينها هو نفسه، أو توسُّط بطريقة مضلّلة فقط، وهو ما يقترحه حديثه عن “المنعطف Kehre” بالفعل (وإن كان في سياق مختلف).

 

إنَّ المحاولات لمواصلة المنهج الأنطولوجيِّ لهيدغر في اتجاه التجربة الشخصيَّة (كما فعلته الفلسفة المسيحيَّة مرات عدَّة)، تعود وفقًا له إلى “الميتافيزيقا” التي يحاول الخروج منها. وربما ينطبق هذا أيضًا على محاولة فريدولين فيبلنغر Fridolin Wiplinger، الذي سعى لإيجاد “نظير” شخصيٍّ في البنية الديالكتيكيَّة لعلاقة الذات-الشيء كعلاقة بين الإنسان والوجود. حيث يقترب من تكهُّنات الشعارات المسيحيَّة الرواقيَّة، التي تناولها هيغل احتمالاته المنطقيَّة Logos-Spekulation  مرَّة أخرى، الذي يسعى إلى توسيعه ليشمل تجربة شخصيَّة في ما يتعلَّق بإشكاليَّة وجود الكينونة والتفكير في بعضهما البعض Ineinander، والتي عبَّر عنها هيدغر حديثًا: “ما يوجد في الواقع، هو العلاقة بين المُقابل Gegenüber وتنفيذ/اكتمال المُقابل، التمديد Legein كتراجع Dia-legein، واللغوص Logos كحوار Dia-logos، وهو ليست ثالثًا بجانبهما، خارجًا عنهما أو فوقهما، ولكن جوهريهما … في حدث Ereignis واحد لا ينفصل عن المُقابل Gegenüber، اللوغوس الحواري، الذي يفتح ويكشف أحدهما للآخر”[37]. ويتحدَّث فيبلنغر Wiplinger عن الإخلاص المتبادل ويقول – وهذه هي النقطة المركزيَّة في الحجَّة-: “يبدو هذا التفاني ممكنًا للأنت Du فقط”[38]. وبالتالي، فإنَّ تجربة الكينونة Seinserfahrung هي “لقاء مع الحقيقيّ، الأنت الوحيد”[39]، والذي يحتوي على شرط إمكانيَّة كلِّ تجربة ملموسة لإنسان أنت Du. بهذه الطريقة، يسعى فيبلنغر إلى تجاوز الاختلاف الأنطولوجيِّ، الذي صاغه هيدغر بصرامة ، نحو “اختلاف لاهوتي”[40]، من خلال فهم الكينونة كلوغوس بالمعنى “المسيحي”[41]، ويعني هذا بحسبه  الانتكاس إلى التفكير الأنطوثيولوجي، الذي تخضع الكينونة نفسها فيه لكائن أعلى ولا يكون بالإمكان التفكير فيها ككينونة. وبهذه الطريقة، فإنَّ “الموجود Seiende” ذاته كوجود أسمى Seiendste [= الله] يؤسِّس الكينونة Sein”[42]. ولكن مثل هذا التأويل الميتافيزيقيِّ للكينونةSein، لا يقول كيف يمكن معرفة الكينونة كأساس/سبب هذا “الوجود الأسمى Seiendste”. وتأخذ البرهنة هنا دائمًا قفزة مفاجئة في اتجاه التفسير التوحيديِّ الشخصيِّ – سواء كان المرء يشير إلى مخطَّطات التفكير الأرسطيَّة أم المدرسيَّة الطوماسيَّة. وفي هذا المعنى يجب أيضًا فهم ملاحظة هيدغر المشكّكة: “من اختبر اللَّاهوت، سواء كان في الإيمان المسيحيِّ أم الفلسفيِّ، من خلفيَّة ناضجة ، يفضِّل اليوم أن يظلَّ صامتًا عن الله في ميدان الفكر”[43].

 

بالنسبة إلى هيدغر، فإنَّ التشيّؤ Vergegenständlichung، الذي تقوم به “الميتافيزيقا” أيضًا في تصوُّر مفهوم الله [الأنطو-ثيو-لوجي Onto-theo-logie] ، يعني في الواقع العدميَّة الأساسيَّة بمعنى نفي الكينونة[44]. إنَّ التديُّن، كما تطوَّر في الغرب في التصوُّر الشخصيِّ عن الله في المسيحيَّة، ينتمي أيضًا إلى مجال الميتافيزيقا: “إنَّ الميتافيزيقا هي الفضاء التاريخيّ، ما يصبح مهارة Geschick، بحيث أنَّ العالم الفوق الحسّيِّ والأفكار والله والقانون الأخلاقي يفقدون قوَّتهم البنَّاءة ويصبحون لاغين وباطلين”[45]. وتجدر الإشارة مرَّة أخرى إلى أنَّ الخطأ الأساسيَّ لعقيدة الله المسيحيَّة-المدرسيَّة، يتمثَّل، طبقًا لهيدغر، في كون الموجود Seiende في الأنطو-ثيو-لوجيا (في الميتافيزيقا) كأسمى موجود Seiendeste (الله) هو الذي يؤسِّس الكينونة[46]. إنَّه يريد “تحريف Verwinden” الميتافيزيقا بمعنى المطلق الشامل للكائنات Seienden في جميع المجالات، فإنَّ هيدغر يعترف بـ “التفكير الخالي من الله gott-losen Denken”، وهو تعبير يرجع إلى المقارنة بـ”الأنطوثيولوجيا” المسيحيَّة[47]. ويتحدَّث في الوقت نفسه عن “الله الإلهي göttlichen Gott”، مُوحيًا بذلك إلى بُعد آخر عميق للإلهيِّ Göttlichen، يبقى مغلقًا أمام التفكير الموضوعيّ. ويشير هذا إلى حديثه عن “المربّع Geviert”، الذي يبدو لنا أنَّه مستوحى كثيرًا من تعدُّد الآلهة اليونانيين.

 

                                              هانس كوكلر (سيرة ذاتيَّة)

 

الفيلسوف والمفكِّر النمساوي هانس كوكلر Hans Köchler، هو الرئيس السابق لقسم الفلسفة بجامعة إنزبروك النمساويَّة، ورئيس المنظَّمة العالميَّة للتقدُّم بفيينا، وهي منظَّمة مستقلَّة تستشيرها منظَّمة الأمم المتَّحدة في الكثير من القضايا، هو أحد المفكِّرين الغربيين القلائل حاليًّا الذين تبنّوا في مشاريعهم الفكريَّة والعمليَّة-السياسيَّة الوقوف بجانب الشعوب الضعيفة. تبنَّى القضيَّة الفلسطينيَّة منذ عقود من الزمن، وهو صديق مخلص للعالم المسلم برمَّته، حيث يحاضر باستمرار، وحصل على تشريفات متميِّزة من الكثير من هذه الدول.

 

كوكلر متخصِّص في فلسفة القانون والسياسة، حيث قيَّد طواعية “متسلِّحًا” ومتشبّعًا بالفلسفة الهيدغيريَّة، التي ألَّف فيها الكثير، ودَرَّسَهَا لسنوات عديدة في جامعة إنسبروك. وفلسفة هيدغر هذه هي التي فتحت له آفاق شاسعة لتجاوز “المركزيَّة الأوروبيَّة”، المؤسَّسة على ذاتيَّة ميتافيزيقيَّة قوامها إرادة القوَّة ومحاولة السيطرة على الطبيعة، بما فيها الإنسان، ومعانقة فلسفة “إنسيَّة” منفتحة على ثقافات وحضارات مختلفة ومؤمنة بمبدأ حقِّ جميع الشعوب في العيش الكريم، والمساواة أمام القانون الدوليِّ في الحقوق والواجبات.

في جعبة كوكلر أكثر من 700 دراسة منشورة، بلغته الأمِّ وبالُّلغة الإنكليزيَّة، تتوزَّع على ميادين تخصُّصه العديدة. وتتميَّز طريقة تفلسفه بصرامة لغويَّة قلَّ نظيرها، سواء في تركيباته الُّلغويَّة أم في سرعة إيقاعها – حتى ليخيَّل للمرء أنَّه في ماراتون أفكار فلسفيَة- بل حتى في ضغط compression، لتؤدّي طريقته هذه وظيفتها كوسيط بين الفكر والواقع. وهذا المرور السريع في أسلوب كتابته بين جمل قصيرة لا تتعدَّى بضع كلمات، وجمل تحتلُّ مساحات أطول، نصف صفحة في بعض الأحيان، بفواصلها، ومزدوجاتها، وجملها الإعتراضيَّة، تتوخَّى تعميق الأفكار، وسبر أغوارها، ليتسنَّى للقارئ فهمها واستيعابها.

 

 

 

الهوامش:

 

[1] – العنوان الأصلي بالُّلغة الألمانيَّة: «Heideggers Denken des Seins und die Frage nach dem Personalen Gott»، وهو جزء من كتاب هانس كوكلر: “السياسة والثيولوجيا عند مارتين هيدغر Politik und Theologie bei Martin Heidegger”، فيينا، 1991.

[2]– Emilio Brito, Heidegger et l´Hymne du Sacré. Leuven University Press, 1999. „Le Croyant“, PP 615-621.

[3] – بالمعنى العربي القح، أي إدراك العمق الحقيقي لفكر ما. ولربما كان من الأفضل ترجمة مفهوم “الكينونة” بـ “الكنه”، لأنَّ الكلمة جد قويَّة في العربيَّة، وتعبر بالكاد وبقوَّة أيضًا على الكلمة الألمانيَّة “الزاين Sein” في الإستعمال الذي دأب هيدجر عليه لها. فـ “الكنه” بالعربيَّة هو جوهر الشيء وحقيقته، وكذا غايته وهدفه. كما تحمل معنى ما كان يقصده هيدغر من “الزاين Sein”، كإشكاليَّة لا يدرك المرء كُنهها، لأنها بعيدة الغور وتستعصي على الفهم.

[4] – هانس كوكلر. هيدغر وريبة الكينونة. منشورات دار التوحيدي، الرباط-المغرب، 2021.

[5] – المرجع السابق نفسه.

[6] – هكذا تكلَّم كوكلر. في الفلسفة والفكر وحوار الثقافات والسياسة العالميَّة. أدار الحوار وترجمة. د. حميد لشهب، منشورات النورس، الرباط-المغرب، 2022.

[7]Aus der Erfahrung des Denkens. Pfullingen: Neske, 1954, S. 7

[8] – العنوان الأصلي بالُّلغة الألمانيَّة: «Heideggers Denken des Seins und die Frage nach dem Personalen Gott»، وهو جزء من كتاب هانس كوكلر: “السياسة والثيولوجيا عند مارتين هيدغر Politik und Theologie bei Martin Heidegger”، فيينا، 1991.

[9]– Heidegger, aus der Erfahrung des Denkens. Pfullingen, 1965, S. 7.

[10] -„Eine christliche Philosophie ist ein hölzernes Eisen und ein Missverständnis“. (Einführung in die Metaphysik, Tübingen, 1966, S. 6.)

[11]– Brief über „Humanismus“, in: Wegmarken, Frankfurt a. M. 1967, S. 181.

[12]– Der Verf. Hat dies in der Abhandlung Das Gottesproblem im Denken Martin Heideggers, in: Zeitschrift für katholische Theologie, Bd. 95 (1973), H. 1, bes. S. 61-90, näher ausgeführt.

[13]– Im Sinne einer solchen actualitas deutet Thomas auch das biblische „Sum quod Sum“: Summa contra gentile I, c.22 (op. Tom. XIII, 69: STheol I, qu. 13, art. 11 (op. Tom. IV, 162): „Utrum hoc nomen qui est sit maxime nomen Die proprium“:

[14]– Thomas, Quaestiones disputatae: De Potentia, qu. 1, art. 1 (op. Tom. XIII, 3).

[15]– Zur auf derselben liegenden Ansetzung Gottes als summum bonum – was der Konzeption des summum ens entspricht: -vgl. Heideggers prinzipielle Kritik: „Wenn man vollends „Gott“ als, den höchsten Wert verkündet, so ist das eine Herabsetzung des Wesens Gottes. (Brief über den „Humanismus“, in: Wegmarken, S. 179).

[16]– Dies bedeutet: die klassische Metphysik „onto-theo-logisch“, insofern sie das Seiende im Ganzen auf einen „gründenden“ Grund hin denkt. „Die Ganzheit dieses Ganzen ist die Einheit des Seienden, die als der hervorbringende Grund [Gott] einigt. „(Identität und Differenz. Pfullingen 1957 [4. Aufl. o. J.] S. 45. Darin liegt die „noch ungedachte Einheit des Wesens der Metaphysik“. (ebd.), sofern sich aus der einen Frage nach dem „Grunde“ des Seienden die Frage nach dem Seienden als solchen und nach dem höchsten Seienden ineins ergibt.

[17] – المقصود طوماس الأكويني: إضافة المترجم.

[18]– Quaest. Disp. De veritate, qu. 22, art. 2, ad 2 (op. Tom. XV, 146.

[19]– Zu Heideggers diesbezüglicher Kritik vgl. Der Satz vom Grund. Pfullingen, 1965, S. 136; Nietzsche, Bd. II. Pfullingen, 1961. S. 131f.

[20]– Summa Theologica I, qu. 45., art. 1 (op. TomIV, 464).

[21]– Vgl. dazu seine Ausführungen in Der Satz vom Grund. Pfullingen, 1965, S. 191ff.

[22]– Heidegger fügt dem, um die innere Begrenztheit metaphysischer Reflexion aufzuweisen, unmissverständlich hinzu: „So lautet der sachgerechte Name für den Gott in der Philosophie“ (Identität und Differenz. S. 64).

[23]– Nietzsche, Bd. II, S. 415.

[24]– Vlg. a. a. o., S. 470.

[25]– ebd.

[26]– Einführung in die Metaphysik. Frankfurt a. M. 1966. S. 147.

[27]– Vgl. Erläuterung zu Hölderlins Dichtung. Frankfurt a. M. 1963. S. 44. – Holzwege. Frankfurt a. M. 1963. S. 248.

[28]– Identität und Differenz. S. 64.

[29]– So meint auch C. Fabro, dass in Heideggers Seinsphilosophie kein Platz sei für einen personalen Gott im Sinne des Christentums (Ontologia esistenzialistica e metafisica tradizionale, in: Rivisita di Filosofia neo-scolastica 45 [1953], S. 613).

[30]– Zur Erörterung der Gelassenheit. Aus einem Feldweggespräch über das Denken, in: Gelassenheit. Pfullingen 1959 [3. Aufl. o. J.], S. 27ff.

[31]– Vgl Unsere Darlegung in: Skepsis und Gesellschaftskritik im Denken Martin Heidegers. Meisenheim a. G. 1978.

[32]– Holzwege, Frankfurt a. M. 1963, S, 204.

[33]– Ich habe Ähnliches in meiner Deutung von Heideggers Seinsdenkens als einer geläuterten Skepsis versucht (vgl. Skepsis und Gesellschaftskritik im Denken Martin Heidegers. Meisenheim a. G. 1978.

[34]– Rolf von Eckartsberg und Roland S. Valle, Heidegger Thingking and the Eastern Mind, in: The Metaphysics of Conschiouness (ed. Rolf von Eckartsberg). New York 1981, S. 309. „transhuman theo-dimension in the region beyond depth and beyond height, beyond human willulness, wich ist the source of illumination, fulfillment, and truth for man -the transpersonal“.

[35]– „ … zur echten und grossen Mystik gehör[t] die äusserste Schärfe und Tiefe des Denkens. Dies ist auch die Wahrheit. Meister Eckhart bezeugt sie“. (Der Satz vom Grund, S. 71, S. 71) – Vgl. auch: John D. Caputo, Meister Eckhart and the Later Heidegger: The Mystical l in Heidegger´s Thought, Part two, in: Journalof the History of Philosophy, vol. XII (1975), pp.62-80.

[36]– Zen in Heidegger´s Gellassenheit in: International Philosophical Quarterly, vol. XI, no. 1. March 1971, p. 453 („The simple releasement oft he ego: ist this not alm perfect a description of what goes on in Zen as such categories can afford?

[37]– Dialogische Logos. Gedanken zur Struktur des Gegenübers, in: Philosophisches Jahrbuch der Görres-Gesellschaft, Bd. 70 (1962/63), S. 185.

[38]– A.a. o., S. 374.

[39]– Fridolin Wiplinger, Wahrheit und Geschichtlichkeit. Eine Untersuchung über die Frage nach dem Wesen der Wahrheit im Denken Martin Heideggers. Freiburg/München 1961. S. 375

[40]– a.a.O. S. 374.

[41]– Vgl. ebd.

[42]– Identität und Differenz. S. 62.

[43]– Identität und Differenz. S. 45.

[44]– Vgl. Nietzsche, Bd. II. S. 335ff.

[45]– Holzwege, S. 204.

[46]– Identität und Differenz. S. 62.

[47]– a. a. O., S. 65.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى