الميتافيزيقا-لوجيا
في إمكان “مفهمة” الفلسفة والحكمة والعرفان علميًّا
حسن عجمي *أستاذ الفلسفة في جامعة ولاية أريزونا – أميركا
ملخَّص إجمالي:
تحاول هذه الدراسة مجاوزة الشائع من المفاهيم في ميادين الفلسفة والحكمة الإلهيَّة والعرفان، وتشييد نطاقات مفاهيميَّة ضمن حقولها العلميَّة. ولكي تُنجز هذه المحاولة على نحو يلبّي غايتها، فقد أسَّست منهجها على الفرضيَّة التالية: إنَّ بالإمكان صياغة مناهج جديدة تهدف إلى تحليل ودراسة المفاهيم الميتافيزيقيَّة علميًّا، من خلال التأسيس لمفاهيم ومصطلحات جديدة من قبيل الفلسفالوجيا والحكمالوجيا والمعرفالوجيا والعرفانلوجيا. وإذا كانت الميتافيزيقا الفضاء الذي يتَّسع لهذه الحقول جميعاً، فإن الفلسفالوجيا التي نفترض أنها تؤسِّس لبناء هذا المشروع الفلسفيِّ والعلميِّ، هي المبتدأ الذي منه سيجري تعريف الحكمة والمعرفة والعرفان من خلال معادلات فلسفيَّة وعلميَّة. لذا فإن تعريف الفلسفالوجيا يدخل كنموذج كليٍّ في ما نذهب إليه. ومن هذا النحو يمكن القول أنَّ معنى الفلسفالوجيا وهويَّتها هو عبارة عن كلمة مركَّبة من “الفلسفة” و”لوجيا” بمعنى عِلم. فهي، إذن، عِلم الفلسفة.
من هذا المنطلق، تهدف هذه الدراسة إلى تقديم الفلسفة علميًّا، وطرح نظريَّات فلسفيَّة وعلميَّة قابلة للاختبار. لذا فهي تعبِّر عن نظريَّات الفلاسفة، وتصوغ نظريَّاتها الفلسفيَّة من خلال معادلات رياضيَّة ما يمكِّننا من اختبارها وضمان علميَّتها.
مفردات مفتاحيَّة: الميتافيزيقا الفلسفالوجيا – علم الفلسفة – المعرفة- الإعتقاد- الواقع – الحكمة – العرفان.
تمهيد:
يعرِّف أفلاطون المعرفة بأنَّها اعتقاد صادق مُبرهَن عليه[1]. وفي إطار الفلسفالوجيا فهو تقديم هذه النظريَّة الفلسفيَّة على أنَّها معادلة رياضيَّة وهي التالية: المعرفة = الاعتقاد × صدق الاعتقاد (أي مطابقته للواقع) × البرهنة على صدق الاعتقاد. هذا يعني أنَّ من الممكن تقديم هذه النظريَّة في المعرفة بوصف كونها معادلة تقول بأنَّها تساوي الاعتقاد مضروبًا رياضيًّا بالصدق (أي مطابقة الواقع)، والمضروب رياضيًّا بالبرهنة على صدق الاعتقاد. وفي ضوء هذه المعادلة تجري دراسة فضائل هذا الطرح العلميِّ المعادلاتيِّ لنظريَّة أفلاطون. وبهذا فهو طرح علميٌّ مُعبَّر عنه من خلال معادلة رياضيَّة من الممكن اختبارها، كما أنَّه طرح فلسفيٌّ في آن.
1 – غاية الفلسفالوجيا:
تتغيَّا الفلسفالوجيا دراسة فضائل المعادلات الفلسفيَّة والعلميَّة التي تبنيها. مثل ذلك التالي: بما أنَّ المعرفة = الاعتقاد × صدق الاعتقاد × البرهنة على صدق الاعتقاد، إذن متى ازداد الاعتقاد بمعتقد معيَّن، وازداد احتمال صدق هذا الاعتقاد وازدادت البراهين المقبولة على صدقه، فحينها تزداد درجة المعرفة وإلَّا تناقصت. وبذلك، فإنَّ تقديم الفلسفالوجيا لنظريَّة أفلاطون على أنَّها معادلة رياضيَّة يفيد بأنَّ المعرفة مسألة درجات؛ أي أنَّها من الممكن أن تزداد أو تتناقص. وعليه، فإنها تنجح في التعبير عن كون المعرفة مسألة درجات تزيد أو تنقص. وهذا النجاح هو دليل على مشروعيَّة الفلسفالوجيا ومنفعتها. وبما أنَّ المعرفة = الاعتقاد × صدق الاعتقاد × البرهنة على صدق الاعتقاد، إذن نستنتج رياضيًّا أنَّ الاعتقاد = المعرفة ÷ صدق الاعتقاد والبرهنة على صدقه، وصدق الاعتقاد = المعرفة ÷ الاعتقاد والبرهنة عليه، والبرهنة على صدق الاعتقاد = المعرفة ÷ الاعتقاد وصدقه. وبذلك ثمة أنواع متعدِّدة ومختلفة من المعرفة منها على سبيل المثال: – أوَّلًا: معرفة مبنيَّة على الاعتقاد وازدياد درجته (أي معرفة على أساس الاعتقاد الراسخ)، وإن تناقَصَ صدق الاعتقاد أو تناقصت البراهين على صدقه.
– ثانيًا: معرفة مكوَّنة من تزايد احتمال صدق الاعتقاد، وإن تناقص الاعتقاد والبرهنة عليه.
– ثالثًا: معرفة متشكِّلة من تزايد البرهنة على صدق الاعتقاد، وإن تناقص الاعتقاد واحتمال صدقه.
وهكذا تستطيع الفلسفالوجيا التعبير عن تنوُّع المعارف كما سبق أن أشرنا إلى نظريَّة أفلاطون بوصفها معادلة رياضيَّة فلسفيَّة قابلة للاختبار. وعلى أيِّ حال، إن لم تكن المعرفة متنوّعة على النحو السابق، فحينذاك تصبح المعادلة الرياضيَّة الفلسفيَّة المُعبِّرة عن نظريَّة أفلاطون معادلة كاذبة لأنَّها تتضمَّن التنوُّع المعرفيَّ السابق. وهذا الأمر يجعلها قابلة للاختبار على ضوء الواقع (أي على ضوء وجود التنوُّع المعرفيِّ السابق أو عدم وجوده)، وهذا سيمكِّنُها بالتالي من أن تكون معادلة علميَّة. وفق هذا المنهج، تحوِّل الفلسفالوجيا النظريَّات الفلسفيَّة إلى نظريَّات علميَّة قابلة للاختبار من خلال تقديم تلك النظريَّات الفلسفيَّة على أنَّها معادلات رياضيَّة. ومن جهة أخرى، فإن تنوُّع المعارف على النحو السابق قد يعزِّز احتمال صدق نظريَّة أفلاطون.
مثلٌ على تنوُّع المعارف هو نظريَّة الأوتار العلميَّة التي تشكِّل معرفة بالفعل رغم عدم إمكانيَّة اختبارها اليوم. ويعتقد العديد من العلماء بصدق هذه النظريَّة التي تؤكِّد أنَّ الكون يتكوَّن من أوتار وأنغامها، مع أن العلماء لم يتمكَّنوا بعد من اختبارها علميًّا، وبذلك تتناقص البراهين العلميَّة على صدقها، ولكن هذا لم يمنع العديد من الفيزيائيين من الاعتقاد بصدقها[2]. من هنا، فإنَّ المعرفة المتكوِّنة من مضامين نظريَّة الأوتار إنما هي معرفة قائمة على الاعتقاد الراسخ (وغير القابل للشكِّ بها حاليًّا)، وإن تناقصت آليَّات البرهنة على صدقها. وبذلك تشكِّل هذه المعرفة نوعًا معيّنًا من المعارف يختلف عن المعرفة المتكوِّنة على أساس امتلاك براهين علميَّة قويَّة دالَّة على صدق الاعتقاد؛ كالمعرفة المتكوِّنة من نظرية آينشتاين النسبيَّة التي يمتلك العلماء أدلَّة علميَّة على صدقها لتمكّنهم من اختبارها علميًّا. إذ من البيِّن أنَّ نظريَّة النسبيَّة قد تمّ اختبارها والبرهنة على صدقها. على سبيل المثال لا الحصر: اختبار أنَّ الزمن يتسارع أو يتباطأ على أساس سرعة الأجسام الماديَّة، فإن تسارع الجسم الماديُّ (كأن تتسارع سرعة الطائرة) يؤدّي إلى تباطؤ الزمن بالنسبة إلى الجسم المتسارع[3]. من هنا، تشكِّل هذه النظريَّة معرفة متكوِّنة من البرهنة على صدق الاعتقاد بمضامينها فتشكِّل معرفة مختلفة عن معرفة نظريَّة الأوتار التي لم تُختبَر علميًّا ولم يُبرهَن على صدقها. بالإضافة إلى ذلك، تطرح الفلسفالوجيا نظريَّاتها الفلسفيَّة الخاصَّة وتقدِّمها على أنَّها قابلة للاختبار وعلميَّة بفضل صياغتها على أنَّها معادلات رياضيَّة. فمثلًا، من منطلق الفلسفالوجيا، يمكن تحليل الحضارة على أنَّها المعادلة الرياضيَّة التالية: الحضارة = إنتاج المعارف × إنتاج العدالة. ولكن المعارف كامنة في الفلسفات والعلوم والآداب والفنون والأديان (فإن لم تصدق معتقداتها في عالَمنا الواقعيِّ صدقت في أكوان ممكنة مختلفة ما يجعلها معارف بتلك الأكوان)، بينما العدالة تتضمَّن بالضرورة الأخلاق والحريَّات والمساواة (فبزوال الحريَّة والمساواة والأخلاق يخسر الإنسان إنسانيَّته ما يشكِّل غيابًا جوهريًّا للعدالة). وبذلك تتضمَّن المعادلة السابقة أنَّ الحضارة هي المُنتِجة للفلسفات والعلوم والآداب والفنون والأديان والأخلاق والحريَّات والمساواة. ولذلك، إن وُجِدت حضارة بلا عنصر من تلك العناصر (أي بلا فلسفات وعلوم وآداب وفنون وعدالة إلخ)، فحينها تكون معادلة الحضارة السابقة معادلة كاذبة. من هنا، من الممكن اختبار هذه المعادلة بما يجعلها علميَّة. ولكن لا حضارة بلا علوم وفلسفات وآداب وفنون وأديان وأخلاق وعدالة. لذا، فمعادلة أنَّ الحضارة = إنتاج المعارف × إنتاج العدالة، هي معادلة صادقة. هكذا الفلسفالوجيا منهج في صياغة النظريَّات الفلسفيَّة القابلة للاختبار كصياغة أنَّ الحضارة = إنتاج المعارف × إنتاج العدالة.
الكون بوصفه مادَّة وعالم مجرَّد:
من فضائل الفلسفالوجيا المقترحة قدرتها على التوحيد بين المذاهب الفلسفيَّة المتصارعة وحلِّ الإشكاليَّات والخلافات الفلسفيَّة حيال تحليل المفاهيم وتفسير الظواهر، وذلك بفضل اعتمادها على صياغة النظريَّات من خلال معادلات رياضيَّة. مثل ذلك تحليل الكون وتفسيره على أنَّه ماديٌّ ومثاليٌّ في آن من خلال المعادلة الرياضيَّة التالية: الكون = المادي × المثالي. فبما أنَّ الكون = المادي × المثالي، إذن من الطبيعيِّ والمتوقَّع أن تنجح النظريَّات العلميَّة التي تحلِّل الكون وتفسِّره على أنَّه ماديٌّ كأن يكون متكوِّنًا من ذرَّات ماديَّة، ومن الطبيعيِّ والمتوقَّع أيضًا أن تنجح النظريَّات العلميَّة التي تحلِّل الكون وتفسِّره على أنَّه مثاليٌّ كأن يكون متكوِّنًا من معلومات مجرَّدة (كما يقول الفيزيائي جون ويلر)[4] أو معادلات رياضيَّة مجرَّدة (كما يصرُّ الفيزيائي ماكس تغمارك)[5]. هكذا تنجح معادلة الكون = المادي × المثالي في تفسير لماذا تنجح النظريَّات العلميَّة الماديَّة والمثاليَّة معًا رغم اختلافها. وبذلك تكتسب هذه المعادلة الفلسفالوجيَّة فضيلة امتلاك قدرة تفسيريَّة ناجحة ما يدلُّ على صدقها.
وبما أنَّ المعادلة تقول إنَّ الكون = المادي × المثالي، إذن هذه المعادلة تتضمَّن المذهبيْن المادي والمثالي معًا فيصدق بالنسبة إليها المذهب الفلسفيُّ والعلميُّ الماديُّ ويصدق أيضًا المذهب الفلسفيُّ والعلميُّ المثاليّ. وبذلك توحِّد هذه المعادلة بين المذهبيْن المادّيِّ والمثاليِّ فتحلّ الخلاف الفلسفيَّ والعلميَّ بينهما. من هنا، تتفوّق الفلسفالوجيا في مقدرتها على التوحيد بين المذاهب المختلفة والمتنافسة، فحلُّ الخلافات الفلسفيَّة والعلميَّة يتمُّ بفضل طرح نظريَّاتها من خلال معادلات رياضية تمامًا كطرحها لمعادلة أنَّ الكون = المادي × المثالي. وهذه المعادلة الفلسفالوجيَّة هي معادلة علميَّة لإمكان اختبارها. فبما أنَّ الكون = المادي × المثالي، إذن إن لم تنجح النظريَّات العلميَّة الماديَّة ولم تنجح النظريَّات العلميَّة المثاليَّة أيضًا، فحينئذٍ معادلة الكون = المادي × المثالي معادلة كاذبة. وبذلك من الممكن اختبار هذه المعادلة ما يجعلها علميَّة. ولكن في النظريَّات العلميَّة الماديَّة والمثاليَّة معًا تبدو الرؤية ناجحة وبهذا المعنى تكون المعادلة صادقة.
لمَّا كانت الفلسفالوجيا هادفة إلى إنتاج الفلسفة علميًّا، فإنَّ بمستطاعها تحليل المفاهيم وتفسير الظواهر من خلال معادلات رياضيَّة قابلة للاختبار بطبيعتها. من هذا المنطلق، تعرِّف الفلسفالوجيا الحكمة والمعرفة علميًّا فتصوغ مصطلحيْن جديديْن هما الحكمالوجيا والمعرفالوجيا. الحكمالوجيا عِلم الحكمة بينما المعرفالوجيا عِلم المعرفة. والحكمة والمعرفة مرتبطان بالضرورة في ما بينهما. فالحكمة تتضمَّن المعرفة لأنَّها تعبير عن المعارف بينما المعرفة تفضي إلى الحكمة، لأنَّ المعرفة هي فنُّ صياغة المعتقدات الممكنة التي من ضمنها الحكمة الحاكية عن المعارف.
2-الحكمالوجيا فنُّ التعبير عن المعارف:
الحكمالوجيا كلمة مُركَّبة من “الحكمة” و”لوجيا” بمعنى عِلم، وبذلك تعني عِلم الحكمة. تدرس الحكمالوجيا الحكمة بهدف إيضاح معانيها ودلالاتها وأدوارها. وضمن هذا السياق، تعرِّف الحكمة بأنَّها فنُّ التعبير عن المعارف والمعاني، وذلك باختصار ما يتضمَّن أنَّ الحكمة فنُّ اختصار المعاني والمعارف. بكلامٍ آخر، الحكمة هي فنُّ التعبير عن العلوم والفلسفات والثقافات بعبارات مُختصَرة.
مثلٌ على ذلك، ما يرد في معنى الحكمة على لسان صاحب نظريَّة النسبيَّة بقوله إنَّ “الله لا يلعب بالنرد”[6]. إذا نظرنا إلى هذه الشذرة الحكميَّة سوف نجد أنَّها تعبِّر عن معارف ومعان ٍ علميَّة دقيقة من خلال عبارة قصيرة. ما يدلُّ على أنَّ الحكمة هي فنُّ التعبير عن المعارف والمعاني باختصار. وبذلك تكون حاصل إنتاج المعرفة والمعنى، ذلك لأنَّها تنشأ بعد ظهور النظريَّات والنماذج العلميَّة والفلسفيَّة، وتصوغ تلك النماذج والنظريَّات بعبارات مُختصَرة متضمِّنة المعاني والمعارف الجوهريَّة ضمن النماذج والنظريَّات الفلسفيَّة والعلميَّة. فحكمة أينشتاين “الله لا يلعب بالنرد” تعبِّر عن إحكام وإتقان القوانين الطبيعيَّة وبأنَّها حتميَّة وليست احتماليَّة. ولذا، فإنَّ الله مُنظِّم الكون وخالقه لا يلعب بالنرد المحكوم بالاحتمالات. ثمَّ إنَّ التعبير عن أنَّ قوانين الطبيعة حتميَّة وليست احتماليَّة يحيل إلى نظريَّة ميكانيكا الكمِّ القائلة بأنَّ قوانين الكون احتماليَّة. وتلك نظريَّة غير صادقة، ذلك بأنَّ النظريَّات العلميَّة الصادقة هي تلك التي تصوِّر قوانين الكون على أنَّها حتميَّة تمامًا كما تفعل نظريَّة أينشتاين العلميَّة التي تقع على النقيض من ميكانيكا الكمّ. هذا يعني أنَّ حكمة أينشتاين “الله لا يلعب بالنرد” تعبِّر عن رفضه لنظريَّة ميكانيكا الكمِّ التي تصرُّ على أنَّ قوانين الطبيعة احتماليَّة، وبذلك تصير حكمته بمثابة دفاع عن نظريَّته العلميَّة التي تصوَّر قوانين الطبيعة على أنها حتمية بدلًا من كونها احتماليَّة. هكذا تختصر حكمة “الله لا يلعب بالنرد” جدلًا علميًّا أساسيًّا بين الذين يناصرون ميكانيكا الكمِّ وأولئك الذين يرفضونها من خلال تعبيرها عن أنَّ القوانين الطبيعيَّة حتميَّة. في مقابل ذلك، سنجد في قول الفيزيائيِّ الراحل ستيفن هوكنغ(1942-2022) “الله لا يلعب بالنرد فقط بل يرميه أحيانًا حيث لا نراه”[7] قولًا مناقضًا لحكمة أينشتاين ومفادها أنَّ قوانين الطبيعة احتماليَّة بدلًا من كونها حتميَّة تمامًا كما تقول نظريَّة ميكانيكا الكمّ، وبذلك يكون نموذج أينشتاين العلميِّ القائل بحتميَّة قوانين الطبيعة نموذجًا كاذبًا. وهكذا فإن حكمة أنَّ “الله لا يلعب بالنرد فقط بل يرميه أحيانًا حيث لا نراه” تختصر أيضًا جدلًا علميًّا مديدًا بين الذين يقبلون نظرية ميكانيكا الكمّ والذين يرفضونها. كل هذا يرينا صدق الحكمالوجيا التي ترى أنَّ الحكمة هي فن التعبير باختصار عن المعاني والمعارف العلميَّة. فلو لم تكن الحكمة كذلك لأمسى من المُستغرَب السؤال عن السبب الذي يحمل حكمة أينشتاين وحكمة هوكنغ على التعبير عن الجدل العلميِّ السابق فتختصران نموذجيْن علميَّين متنافسين هما النموذج الكلاسيكيُّ للكون المُعبِّر عن حتميَّة قوانين الطبيعة، ونموذج ميكانيكا الكمّ المُعبِّر عن أنَّ قوانين الطبيعة احتماليَّة.
من المنطلق نفسه أيضًا، أمكننا القول أنَّ الحكمة هي فنُّ تكثيف المعاني والمعارف ضمن عبارة قصيرة مُختصَرة. فحكمة أينشتاين كثَّفت معارف ومعاني الجدل العلميِّ بين تصوير الكون على أنَّه محكوم بقوانين حتميَّة وتصويره على أنَّه محكوم بقوانين احتماليَّة وأصرَّت على محكوميَّته بقوانين حتميَّة بدلًا من قوانين الاحتماليَّة. أمَّا حكمة هوكنغ فقد كثَّفت معارف ومعاني الجدل العلميّ نفسه ولكنَّها أكّدت في الآن عينه على محكوميَّة الكون بقوانين احتماليَّة بدلًا من حتميَّة. من هنا، جاء قولنا في تعريف الحكمة بأنَّها فنُّ تكثيف المعاني والمعارف في عبارة قصيرة. فحين تتكاثف المعاني والمعارف تصبح حكمة كتكاثف المعارف العلميَّة حيال الجدل العلميِّ السابق في كلٍّ من حكمة أينشتاين وحكمة هوكنغ.
على ضوء هذه الاعتبارات، تقدِّم “الحكمالوجيا” الحكمة بوصفها معادلة رياضيَّة مفادها التالي: الحكمة = تعبير عن المعارف × تكثيف المعارف في عبارات مُختصَرة. وبذلك التعبير عن المعارف = الحكمة ÷ تكثيف المعارف بعبارات مُختصَرة، وتكثيف المعارف بعبارات مختصرة = الحكمة ÷ التعبير عن المعارف. ولذلك إذا ازداد تكثيف المعارف بعبارات مختصرة قلَّ التعبير عن المعارف (كقِلَّة التعبير عن المعارف بالتفصيل)، وإذا إزداد التعبير عن المعارف (كازدياد التعبير التفصيليِّ عن المعارف) قلَّ تكثيف المعارف بعبارات مختصرة. وهذه النتيجة منطقيَّة لأنَّ ازدياد التعبير عن المعارف نقيض تكثيف المعارف بعبارات مختصرة. وبذلك تنجح هذه المعادلة في التعبير عن هذه النتيجة المنطقيَّة ما يدعم صدقها.
أمَّا حكمة الفيلسوف سقراط “الفضيلة هي المعرفة”[8] فتعبِّر عن فلسفته في الأخلاق والمعرفة والسعادة. تعني “الفضيلة بما هي المعرفة” أنَّ المعرفة هي أصل الفضائل والأخلاق والسعادة لأنَّنا إذا لم نعرف ما هو الخير فلن نتمكَّن من فعله؛ وبذلك لن ننجح في تحقيق هدفنا الإنسانيِّ الأساسيِّ الذي هو تحقيق الخير. وبهذا تخسر كلُّ ذات الانسجام مع ذاتها بما يترتَّب على ذلك من خسران السعادة. الحكمة بهذه المثابة تعبِّر عن فلسفة متكاملة في المعرفة والأخلاق والسعادة، وتختصر مضامينها الجوهريَّة، ما يعني أنَّ الحكمة فنُّ تكثيف المعاني والمعارف كتكثيف المعارف والمعاني الفلسفيَّة.
أمَّا حكمة الفيلسوف ريتشارد رورتي “الكون لا يتكلّم”[9] فتعبِّر عن فلسفته البراغماتيَّة التي من مبادئها الأساسيَّة اعتبار كلِّ ما هو حقيقيٌّ هو صفة للجُمَل وليس صفة للواقع. فالحقيقة ليست سوى ما نستطيع التعبير عنه لغويًّا، وبذلك تصبح الحقيقة غير مستقلَّة عن العقل البشريِّ، لأنَّ عباراتنا اللغويَّة معتمدة على عقولنا. من هنا، الحكمة فنُّ التعبير المُختصَر عن النظريَّات الفلسفيَّة تمامًا كتعبير حكمة رورتي عن فلسفته البراغماتيَّة.
إلى ذلك، تعبِّر الحكمة عن الثقافات المتنوِّعة. ولأنَّها بهذه المكانة، فهي فنُّ الدلالة على المعارف والمعاني كما تؤكِّد الحكمالوجيا، لأنَّ الثقافات هي معارف دالَّة على معان ٍ. مثل ذلك الحكمة القائلة “خير الكلام ما قلَّ ودلَّ” المُعبِّرة عن ثقافة العرب اليقينيَّة ذات السياق العالي التي تعتقد باليقينيَّات غير القابلة للشك، والتي تعتمد في التواصل على المجاز وإيجاز الشرح التفصيليّ، والتسليم بأنَّ الآخر يعرف المعلومات الضروريَّة لفهم الحديث أو الحوار وإن كان حديثًا أو حوارًا مُختصَرًا. من هنا، فإنَّ الحكمة العربيَّة إنما هي تعبير عن ثقافة العرب ومناهج تواصلهم، الأمر الذي يدلُّ على أنَّ الحكمة هي فنُّ الدلالة على المعارف والمعاني المتمثِّلة في هذه الثقافة أو تلك. يرينا هذا المثل أيضًا صدق الفلسفة الحكمالوجيَّة التي تعرِّف الحكمة بأنَّها فنُّ التعبير باختصار عن المعرفة والمعنى. فنجاح التحليل الحكمالوجيِّ في التعبير عن دلالات الحكمة ومعانيها إنَّما هو دليل على صدق هذا التحليل وتفوُّقه المعرفيّ.
كلُّ هذه الأمثلة توضح أدوارًا معيَّنة للحكمة؛ منها دورها في الحكم على ما هو صادق وما هو كاذب كحكم حكمة أينشتاين على صدق نظريَّته العلميَّة القائلة بحتميَّة القوانين الطبيعيَّة وكذب ميكانيكا الكمِّ ودور الحكمة في توجيه المجتمع والتعبير عنه في آن، كدور حكمة العرب السابقة التي تعبِّر عن الثقافة العربيَّة اليقينيَّة ذات السياق العالي. أمَّا الدور الأساسيُّ للحكمة فكامن في التعبير عن المعاني والمعارف العلميَّة والفلسفيَّة والثقافيَّة. فالحفاظ عليها من خلال اختصار النماذج الفكريَّة والفلسفيَّة والعلميَّة والثقافيَّة بعبارات قصيرة ذات وقع مشاعريٍّ يجذب الانتباه والقبول. إلى ذلك، سنمضي إلى القول أنَّ الحكمة هي أيضًا آليَّة بقاء لكونها تحفظ معارف ومعاني الفلسفات والعلوم والثقافات فتمكّن الآخذين بها من الاسترشاد والترقِّي على ضوء منافعها.
3- المعرفالوجيا فنُّ إنتاج المعتقدات الممكنة:
المعرفالوجيا مفردة مُركَّبة من “المعرفة” و”لوجيا” بمعنى عِلم. وبذلك تعني عِلم المعرفة الهادف إلى تحليل المعرفة علميًّا لإيضاح معانيها ودلالاتها. وعليه، هي تؤكِّد على أنَّ المعرفة هي فنُّ إنتاج المعتقدات الممكنة. على هذا الأساس، تسعى المعرفالوجيا إلى درس الأكوان الممكنة المختلفة، ذلك بأنَّ في تكثُّر المعارف الممكنة الصادقة في تلك الأكوان ما يحرِّر العقل من الانحباس في عالَم ممكن مُحدَّد بدلًا من أن يكون حرًّا في درس كلِّ العوالم الممكنة. في تلك العوالم تصدق كلُّ النظريَّات والأنظمة الفكريَّة الممكنة (أي المنسجمة) والمختلفة التي يعتقد بها كلُّ البشر بسبب من إمكان صدقها. وبذلك تتساوى في قيمتها ومقبوليتها (لصدقها في أكوان ممكنة مختلفة). وهو ما يؤسِّس للمساواة بين كلِّ البشر جرَّاء المساواة بين معتقداتهم الممكنة الصادقة في عوالم ممكنة مختلفة. وهكذا، فإنَّ المعرفالوجيا هي فلسفة إنسانويَّة بامتياز، وذلك يعود إلى أنَّها تعرِّف المعرفة علميًّا بأنَّها فنُّ إنتاج كلِّ المعتقدات الممكنة. فبما أنَّ المعرفة فنُّ إنتاج كلِّ المعتقدات الممكنة، يتنبَّأ هذا التحليل باستحالة أن تكون المعرفة مُتكوِّنة من معتقدات مستحيلة كالمعتقدات المتناقضة مع ذاتها. وبذلك فإنَّ صدق هذا التنبُّؤ يعادل صدق هذا التحليل للمعرفة، وإن كذب هذا التنبُّؤ يوازي كذب التحليل نفسه. وبهذا، من الممكن اختبار هذا التحليل فإمَّا تكذيبه وإما تصديقه على ضوء ما يتنبَّأ به. ولذا، فهو تحليل علميٌّ لأنَّ العِلم هو ذاك القابل للاختبار. هكذا تنجح المعرفالوجيا في تقديم تحليل علميٍّ للمعرفة. وبالفعل، من المستحيل أن تكون المعرفة مُتكوِّنة من معتقدات مستحيلة لأنَّ المستحيل لا يتحقَّق فلا يصدق لاستحالته، بينما المعرفة متشكِّلة من معتقدات صادقة، فإن لم تصدق في الواقع صدقت في الأكوان الممكنة. من هنا، تصدق المعرفالوجيا بصدق ما تنبَّأَّت به.
من أجل ذلك، وعلى ضوء الاعتبارات السابقة، من الممكن بناء معادلة المعرفالوجيا على النحو التالي: المعرفة تساوي إنتاج كلِّ المعتقدات الممكنة ناقص إنتاج المعتقدات المستحيلة ما يجنِّب أن تكون المعرفة متكوِّنة من معتقدات مستحيلة. على هذا النحو، تكتسب المعادلة فضيلة التعبير عن استحالة أن تكون المعرفة متناقضة جرَّاء عدم تضمُّنها لمعتقدات مستحيلة أي متناقضة. وبما أنَّ المعرفة تعني إنتاج المعتقدات الممكنة لا إنتاج المعتقدات المستحيلة، فذاك يدل على أن المعرفة عملية مستمرة في البحث عن كل المعتقدات الممكنة المنسجمة والحائزة على قدرات وصفية وتفسيرية وتنبؤية ناجحة بدلاً من أن تكون حالة عقليَّة ثابتة غير متغيِّرة وغير قابلة للتطوُّر. من هنا، تنجح هذه المعادلة أيضًا في التعبير عن تغيُّر المعارف وتطوُّرها ولا تسجن المعرفة في حالة اعتقاديَّة مُحدَّدة (لأنَّها تعتبر أنَّ المعرفة عمليَّة إنتاج مستمرَّة للمعتقدات الممكنة كافَّة) ما يحرِّر العقل ومعارفه. وفي هذا فضيلة أساسيَّة أخرى.
إذا كانت المعرفة فنَّ إنتاج كلِّ المعتقدات الممكنة، والمعتقدات الممكنة هي الصادقة في الأكوان الممكنة التي من ضمنها عالَمنا الواقعيُّ الممكن لكونها معتقدات ممكنة، إذن، هي فنُّ اكتشاف الأكوان الممكنة. وبما أنَّ المعرفة هي كذلك، فالمعتقدات الممكنة صادقة في الأكوان الممكنة التي من ضمنها عالَمنا الواقعي، إذن هي فنّ إنتاج معتقدات صادقة في عالمنا الواقعيِّ (لأنَّه عالم ممكن)، فتكون بذلك معرفة الواقع أو صادقة في أكوان ممكنة شبيهة بعالمنا الواقعيِّ (فتكون من المحتمل أنها صادقة من منظور عالمنا)، وتكون بذلك معرفة بما هو محتمل أو صادقة في أكوان ممكنة مختلفة عن عالمنا الواقعيِّ (فتكون من الممكن أن تكون صادقة من منظور عالمنا)، والنتيجة تصبح معرفة بما هو ممكن فقط. يضمن هذا التحليل للمعرفة معرفة الواقع والمحتمل والممكن، الأمر الذي يدلُّ على نجاح المعرفالوجيا حيال تحليل المعرفة وإيضاح معناها ودلالاتها.
من فضائل المعرفالوجيا أنها تُكثِّر المعتقدات والمعارف الممكنة. فبما أنَّها تعرِّف المعرفة بأنَّها فنُّ إنتاج كلِّ المعتقدات الممكنة، والمعتقدات الممكنة صادقة في الأكوان الممكنة التي من ضمنها عالَمنا الواقعيُّ (لأنه عالَم ممكن وإلَّا لم يوجد). إذن هي تدرس الأكوان الممكنة من خلال إنتاجها للمعتقدات الممكنة التي إن لم تصدق في عالمنا الواقعيِّ صدقت في الأكوان الممكنة المتوازية الشبيهة به أو المختلفة عنه. ولكن حين تدرس الأكوان الممكنة بغرض اكتشاف حقيقة المعتقدات الصادقة في تلك الأكوان فإنها تُكثِّر المعتقدات والمعارف لأنَّ الأكوان الممكنة عديدة ومختلفة ومتنوّعة (إن لم تكن لامتناهية عدديًّا) فتصدق فيها معتقدات متعدِّدة ومختلفة (إن لم تكن لامتناهية عدديًّا). وتكثير المعتقدات والمعارف الممكنة فضيلة فكريَّة ومعرفيَّة لأنَّ العقل هنا لا يسجن داخل معارف ومعتقدات صادقة في عالَم ممكن كعالمنا الواقعيِّ بل يستدعي صياغة كلِّ المعتقدات والمعارف الممكنة الصادقة في كلِّ الأكوان الممكنة المختلفة بقوانينها الطبيعيَّة وحقائقها. هكذا تُحرِّر المعرفالوجيا العقل والمعارف بعدم سجن عقولنا في عالَم ممكن واحد ومُحدَّد لكونها تُعنَى بدراسة كلِّ الأكوان الممكنة.
إذا كانت المعرفة هي فنُّ إنتاج المعتقدات الممكنة فحينئذٍ تتساوى كلُّ المعتقدات الممكنة وإن اختلفت وتنوَّعت. وما ذلك إلَّا لأنَّ إنتاجها على الجملة يُشكِّل قوام المعرفة. من أجل ذلك يتضمَّن هذا التحليل المعرفالوجيُّ المساواة بين كلِّ البشر وإن اختلفوا جرَّاء تضمُّنه للمساواة بين كلِّ المعتقدات الممكنة المختلفة التي يعتقد بصدقها البشر. هكذا تبدو الفلسفة المعرفالوجيَّة فلسفة إنسانويَّة بامتياز لكونها تتضمَّن المساواة بين جميع أفراد البشريَّة وتضمنها. ولكن لا حكمة ولا معرفة بلا تعبير عن الحقائق، فإن لم تعبِّر الحكمة والمعارف عن الحقائق تغدو حينئذٍ كاذبة فتزول حكمتها وتزول عنها صفة المعرفة. لذا تسعى الفلسفالوجيا أيضًا إلى تحليل مفهوم الحقيقة فتقدِّم معادلة رياضيَّة ناجحة في تعريف مضامين الحقائق ممَّا يؤسِّس لمصطلح فلسفيٍّ جديد، هو الحقيقالوجيَّا. فماذا عن هذا المصطلح؟.
4- الحقيقالوجيا فنُّ الاحتمالات الممكنة:
الحقيقالوجيا كسابقاتها مما يُستولد من فضاء الميتافيزيقا، هي كلمة مركَّبة من “الحقيقة” و”لوجيا” بمعنى عِلم. وبذلك تغدو عِلم الحقيقة الذي يهدف إلى دراسة الحقيقة فلسفيًّا وعلميًّا في آن، فيصوغ تحليلًا لمفهوم الحقيقة من خلال معادلة رياضيَّة فلسفيَّة ناجحة في التعبير عن العلوم. من هذا المنطلق، تعرِّف الحقيقالوجيا الحقيقة وفق المعادلة التالية: الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة.
لهذه المعادلة فضائل عديدة منها أنَّها تعبِّر عن مضمون أساسيٍّ ضمن نظريَّة ميكانيكا الكمّ العلميَّة ما يشير إلى نجاحها فمقبوليَّتها. فمتى اعتبرنا أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، حينئذٍ نستنتج بحق بأنَّ الحقيقة تتكوّن من تزايد الاحتمالات الممكنة وتناقص الاحتمالات المستحيلة. وبذلك الحقيقة تتضمَّن الاحتمالات المستحيلة (رغم تناقصها) كالاحتمال المستحيل بأنَّ القطَّة حيَّة وميتة في الوقت نفسه. لكن من المضامين الأساسيَّة ضمن نظريَّة ميكانيكا الكمّ مضمون أن تكون القطَّة كقطة شرودنغر حيَّة وميتة في آن[10]. هكذا تنجح معادلة الحقيقالوجيا القائلة بأنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة في التعبير عن هذا المضمون العلميِّ وهو الأمر الذي يسهم في تعزيز صدقها.
من فضائل هذه المعادلة أيضًا نجاحها في التعبير عن وجود الأكوان المتوازية الممكنة. فإن كانت الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، علمًا بأنَّ الاحتمالات الممكنة مختلفة ومتنوّعة ومناقضة لبعضها البعض؛ فإنَّها لا تتحقَّق مجتمعة في كون واحد لتناقضها، (و إلَّا أصبح الكون حاويًا لكلِّ المتناقضات فأمسى بذلك كونًا مستحيلًا). إذن، لا بدّ من وجود أكوان ممكنة مختلفة تتحقَّق فيها تلك الاحتمالات الممكنة المختلفة والمتناقضة (بدلًا من أن تتحقَّق معًا في كون واحد أو في الكون نفسه) تمامًا كما تؤكِّد على ذلك نظريَّة ميكانيكا الكمّ ونظريَّة الأوتار العلميَّة[11]. من هنا، تنجح معادلة أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة في التعبير عن فكرة علميَّة أساسيَّة، مؤدَّاها وجود أكوان ممكنة مختلفة في حقائقها وقوانينها الطبيعيَّة. وبذلك تكتسب المعادلة المذكورة هذه الفضيلة الإضافيَّة ما يدلّ على مقبوليَّتها وتفوُّقها المعرفيّ.
ثمَّة كذلك مقاربة أخرى بخصوص هذه المعادلة: بما أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، في الآن الذي يكون فيه من المحتمل أن تكون الحقائق ماديَّة. [كأن تتكوَّن من ذرَّات وجُسيمات ماديَّة (لأنَّ قوانين الطبيعة تتضمَّن مفاهيم مرتبطة بالضرورة بالمادَّة كمفاهيم القوَّة والكتلة والتسارع كما في قانون نيوتن القوة = الكتلة × التسارع]، فإنَّ من المتوقَّع أن تكون الحقائق ماديَّة كأن تتشكَّل من ذرَّات وجُسيمات ماديَّة تمامًا كما يقول النموذج العلميُّ الكلاسيكيّ. وبما أنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، من المحتمل أن تكون الحقائق معلومات (لأنَّ القوانين الطبيعيَّة عبارة عن معلومات كمعلومة أنَّ القوة تساوي الكتلة مضروبة رياضيًّا بالتسارع)، فمن المتوقَّع أيضًا أن تكون الحقائق معلومات تمامًا كما يقول الفيزيائي جون ويلر[12]. بالإضافة إلى ذلك، إن كانت الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، بينما من المحتمل أن تكون الحقائق معادلات رياضيَّة (لأنَّ القوانين الطبيعيَّة التي على ضوئها تُبنَى الحقائق مكتوبة بمعادلات رياضيَّة كمعادلة أنَّ القوَّة = الكتلة × التسارع)، فحينئذٍ من الطبيعيِّ أن تكون الحقائق معادلات رياضيَّة كما يقول الفيزيائيُّ ماكس تغمارك[13]. وإن كانت الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة، وعلمًا بأنه من المحتمل أن تكون الحقائق أوهامًا أي صُوَرًا هولوغراميَّة (لأنَّ قوانين الطبيعة تؤدّي إلى نتيجة أنَّ معلومات الكون موجودة على سطح الكون بدلًا من أن تكون موزَّعة داخله كما يقول الفيزيائيُّ ليونارد سسكيند، وبذلك فإن قوانين الطبيعة ستفيد بأنَّ الحقائق هي مجرَّد أوهام)[14]. إذن، من الطبيعيِّ أن تكون الحقائق أوهامًا كما يؤكِّد سسكيند. كلُّ هذا يرينا كيف أنَّ معادلة الحقيقالوجيا القائلة بأنَّ الحقيقة = كل الاحتمالات الممكنة ÷ الاحتمالات المستحيلة تتضمَّن كلَّ النظريَّات العلميَّة السابقة (القائلة بأنَّ الكون يتكوّن من ذرات وجُسيمات ماديَّة ومعلومات ومعادلات رياضيَّة وأوهام) وبذلك توحِّد في ما بينها فتحلُّ الخلاف القائم ما يجعلها تكتسب هذه الفضيلة الكبرى فيدلّ على صدقها. وبما أنَّ معادلة الحقيقالوجيا تتضمَّن النظريَّات العلميَّة السابقة، فمن المنطقيِّ أن تعبِّر هذ المعادلة بنجاح عن تلك النظريَّات العلميَّة ما يجعل الحقيقالوجيا عِلم الحقيقة الذي يدرس الحقائق علميًّا. هكذا تنجح بأن تكون عِلم دراسة الحقائق علميًّا بفضل تضمُّنها للنظريَّات العلميَّة ونجاحها في التعبير عن النماذج العلميَّة المختلفة ضمن علوم الفيزياء. وهي بذلك تتفوَّق أيضًا على أتباع نموذج علميٍّ من دون آخر لأنَّها توحِّد بين كلِّ تلك النماذج العلميَّة المتنافسة ما يحتِّم قبولها جميعًا. موجز القول أن معادلة الحقيقالوجيا تحرِّرنا من أن نُسجَن في نموذج علميٍّ معيَّن لكونها تتضمَّن كلَّ النماذج العلميَّة الأساسيَّة المتصارعة. من هنا، ستكون معادلة التحرّر العلمي بامتياز.
مع ذلك يصحُّ الكلام ههُنا أن لا حقيقة بلا ماهيَّة تعبِّر عن فرديَّة هذه الحقيقة أو تلك. فالحقائق تتشكّل في ضوء ماهيَّاتها. بما أنَّ الحقائق تُعرَّف وتُعرَف من خلال ماهيَّاتها، ولا وجود بلا إمكانيَّة تعريفه، إذن فإنَّ كل فاقدٍ للماهيَّة هو فاقد للوجود؛ وبذلك لا يشكِّل حقيقة فعليَّة. هذا مع العلم بأن لا حقيقة بلا ماهيَّة، ولذا لا بدّ من تعريف الماهيَّات لكي نفهم الحقائق والكون الذي يتكوَّن منها. على هذا الأساس، تصوغ الفلسفالوجيا مصطلح الماهيَّالوجيا كحقل دراسة الماهيَّة علميًّا.
5- الماهيَّالوجيا فنُّ إنتاج المعلومات وتبادلها:
الماهيالوجيا أيضًا كلمة مُركَّبة من “ماهية” و”لوجيا”. وبذلك فهي عِلم الماهيَّة الذي يدرس علميًّا كيفيَّة تحليلها بهدف إيضاح معانيها ودلالاتها. من هذا المنطلق، هي تقدِّم تحليلًا علميًّا للماهيَّة قابلًا للاختبار، وتؤكِّد أنَّها معادلة رياضيَّة فلسفيَّة وعلميَّة مفادها التالي: الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات. تنجح هذه المعادلة في التمييز بين الظواهر المختلفة على ضوء اختلاف المعلومات التي تنتجها الظواهر وتتبادلها.
تختلف الظواهر الطبيعيَّة كاختلاف الأشجار والبشر والشمس والزهور لأنَّها تنتج وتتبادل معلومات مختلفة كأن تنتج وتتبادل الأشجار معلومات بأنَّها مصادر للأوكسيجين وينتج ويتبادل البشر معلومات بأنَّهم مستهلكو الأوكسيجين وتنتج الشمس معلومات بأنَّها مصدر الضوء والطاقة وتنتج وتتبادل الزهور معلومات بأنَّها مصادر غذاء للنحل والطيور، وتنجح الماهيالوجيا في التعبير عن ذلك. فبما أنَّ الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات، إذن من المتوقَّع أن تنتج الظواهر الطبيعيَّة المعلومات وتتبادلها كما تفعل الأشجار والشمس والزهور وكما يفعل البشر. من هنا، تنجح في تفسير لماذا تنتج وتتبادل الظواهر المعلومات ما يدلُّ على صدقها.
إلى ذلك، تنجح الماهيالوجيا في التمييز بين الظواهر المختلفة على النحو التالي: بما أنَّ الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات، وعلمًا بأنَّ الظواهر الطبيعيَّة تختلف باختلاف ماهيَّاتها فالماهيَّة هي التي بفضلها تكون الظواهر ما هي، إذن تختلف الظواهر الطبيعيَّة باختلاف ما تنتج وتتبادل من معلومات كأن تختلف الأشجار عن البشر بفضل كونها منتجة معلومات معيّنة منها أنها مصادر الأوكسيجين، بينما البشر ينتجون معلومات أخرى مختلفة كمعلومة أنهم مستهلكون للأوكسيجين. هكذا تنجح في التمييز بين الظواهر المختلفة ما يبرهن على تفوُّقها المعرفيِّ فمقبوليَّتها.
على هذا السياق تتمكّن الماهيالوجيا من التعبير بنجاح عن هذا التعريف للماهيَّة ما يؤكِّد مجدّدًا على صدق مضمونها. إذًا، كانت الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات، والظواهر الطبيعية تنتج وتتبادل المعلومات فتتشكّل بذلك على ضوء ما تنتج وتتبادل من معلومات وتُعرَف من خلالها (كأن تتشكّل ظاهرة الشمس من خلال ما تنتجه من معلومات بأنَّها مصدر النور والطاقة وتُعرَف بأنها الشمس من خلال ما تنتج من معلومات مفادها بأنها مصدر النور والطاقة)، إذن الظواهر الطبيعيَّة تتكوَّن على ضوء ماهيَّاتها الكامنة في إنتاج المعلومات وتبادلها، وبذلك تُعرَف من خلال ماهيَّاتها.
من هنا، تنجح الماهيالوجيا في التعبير عن أنَّ الماهيَّات هي التي من خلالها تتكوَّن الظواهر وتُعرَف. إلى ذلك تقرِّر أنَّ ما لا ينتج المعلومات ولا يتبادلها لا ماهيَّة له وبالتالي فلا وجود له. فإن كانت الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات، فإن ما لا ينتج ولا يتبادل المعلومات لا ماهيَّة له. ولكن الماهيَّة أصل الوجود، فعلى أساسها تتكوّن الظواهر. وبذلك ما لا ينتج ولا يتبادل المعلومات لا ماهيَّة له فلا وجود له. ويصدق هذا التنبُّؤ ما يشير إلى نجاح الماهيالوجيا ومقبوليَّتها. فالذي لا ينتج المعلومات ولا يتبادلها من المستحيل أن يُعرَف لعدم تبادله للمعلومات، واستحالة معرفة الشيء دلالة على عدم وجوده. من هنا، ما لا ينتج المعلومات ولا يتبادلها لا ماهيَّة ولا وجود له تمامًا كما تتنبَّأ الماهيالوجيا.
من جانب آخر، تنسجم الماهيالوجيا مع نموذج علميٍّ أساسيٍّ يعزِّز صدقها ومفاده التالي: بالنسبة إلى نموذج علميٍّ سائد ضمن العلوم الفيزيائيَّة، يتشكَّل الكون من معلومات وتبادلها كما عَبَّرَ عن ذلك الفيزيائي جون ويلر[15]. أمَّا الماهيالوجيا فتعرِّف الماهيَّات بأنَّها إنتاج المعلومات وتبادلها، وتقرِّر أنَّ الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات. فهكذا تتضمَّن فكرة أنَّ الكون يتشكَّل من معلومات متبادلة لكونه يتشكَّل من ماهيَّات هي عمليَّات إنتاج المعلومات وتبادلها. لهذا السبب، تنجح في التعبير عن النموذج العلميِّ السابق وتنسجم مع مضمونه العلميّ. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الماهيالوجيا نظريَّة علميَّة لأنه من الممكن اختبارها تمامًا كما أنَّها نظريَّة فلسفيَّة. فبما أنَّ الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات، إذن أيُّ موجود لا بدَّ من أنَّه ينتج ويتبادل المعلومات لامتلاكه ماهيَّة بالضرورة، وبذلك إذا وُجِدت ظاهرة لا تنتج معلومات ولا تتبادلها فحينئذٍ تكذب الماهيالوجيا. هكذا يمكن اختبارها بما يجعلها علميَّة. وإذا كانت الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات، علماً بأن من الممكن دومًا إنتاج معلومات أكثر عدديًّا وفعّاليّة وتطوُّرًا، يصير من الممكن باستمرار أن نكون فعّالين في صياغة ماهيَّات متطوِّرة لأنَّ الماهيَّات ليست سوى إنتاج المعلومات القابلة للتطوُّر وتبادل تلك المعلومات المتطوّرة. هكذا تضمن الماهيالوجيا التطوُّر. من المنطلق نفسه، بما أنَّ الماهية = إنتاج المعلومات + تبادل المعلومات، والمعلومات إما مُكتسَبة وإما من صناعتنا، إذن ماهيَّاتنا معتمدة في تكوُّنها على ما نصوغ من معلومات تمامًا كما تعتمد على ما نكتسب من معلومات. وبذلك تكون ماهيَّاتنا من صنعنا أيضًا ما يضمن أننا خالقو ماهيَّاتنا فيضمن أنَّنا أحرار بالفعل بدلًا من أن نكون سجناء ماهيَّات مُحدَّدة مُسبَقًا. هكذا تنجح الماهيالوجيا في التعبير عن حريَّتنا وإمكانية تطوُّرنا وتضمن الحريَّة والتطوُّر ما يمكِّنها من اكتساب هذه الفضيلة الكبرى. ولئن كانت الماهية تعني إنتاج المعلومات وتبادلها، فإنَّ المتوقَّع أن تكون الحقيقة هي مجموع كلِّ الاحتمالات الممكنة المترتِّبة على تلك المعلومات التي تنتجها الماهية. وبذلك ينسجم تحليل الماهيَّة على أنَّها إنتاج المعلومات مع تحليل الحقيقة على أنَّها كل الاحتمالات الممكنة. فالمعلومات برامج تشير إلى ما قد يحدث بدلًا من أن تفرض أو تُحدِّد ما يحدث أو سوف يحدث. وبذلك الماهيات كمعلومات تتضمن الحقائق كمجاميع احتمالات ممكنة ما يتضمَّن بدوره لا مُحدَّدية الكون. وإن كانت الماهيَّة إنتاج المعلومات وتبادلها، إذن من المتوقَّع أيضًا أن تكون المعرفة المبنيَّة على ضوء ماهيَّات الحقائق مُنتِجة لكلِّ المعتقدات الممكنة المُتشكِّلة على أساس المعلومات التي تتضمَّنها الماهيَّات. وتحليل الماهيَّة على أنها إنتاج المعلومات ينسجم مع تحليل المعرفة على أنَّها إنتاج كلِّ المعتقدات الممكنة.
تمكّننا التعاريف السابقة من تطبيق هذه المنظوريَّة على العرفان في ضوء ما تقدِّمه من إيضاح لمعاني المعرفة والحقيقة. فبما أنَّ المعرفة إنتاج كلِّ المعتقدات الممكنة بينما الحقيقة هي كلُّ الاحتمالات الممكنة، وأنَّ المعتقدات الممكنة تمامًا كالاحتمالات الممكنة متعدِّدة ومتنوِّعة ومتعارضة، فحاصل القول هو أنَّ المعرفة غير مُحدَّدة. ولو كانت المعرفة غير مُحدَّدة فحينئذٍ لا بدّ من تعريف العرفان كمصدر أعلى للمعرفة من خلال لا مُحدَّدية المعرفة. سوى أنَّ لا مُحدَّدية المعرفة تعبير عن لا مُحدَّدية الكون، فبما أنَّ الكون غير مُحدَّد لذا المعرفة غير مُحدَّدة. وبذلك يصبح العرفان تعبيرًا صادقًا عن الكون من جرَّاء تضمنه لِلا مُحدَّدية المعرفة المُعبِّرة عن لا مُحدَّدية الكون. وبما أنَّ المعرفة غير مُحدَّدة، إذن تتوحَّد المعارف وتتَّحد بلا مُحدّديَّتها ما يستلزم حضور وحدة المعارف. على ضوء هذه الاعتبارات، يتضمَّن العرفان لا مُحدَّدية المعرفة ووحدة المعارف معًا. كما تشير المعرفة كمجموع كل المعتقدات الممكنة إلى وحدة المعارف بينما تدلُّ الحقيقة كمجموع كل الاحتمالات الممكنة على لا مُحدَّدية المعرفة مما يؤسِّس للعرفان على أنه لا مُحدَّديَّة المعرفة ووحدة المعارف في آن. من هذا المنطلق، تصوغ الفلسفالوجيا مصطلح العرفانلوجيا كحقل علميٍّ لدراسة العرفان على ضوء لا مُحدَّديَّة المعرفة ووحدة المعارف.
6-العرفانُلوجيا.. بوصفها دراسة العرفان علميًّا:
العرفانُلوجيا هي عِلم العرفان الذي يهدف إلى دراسة العرفان علميًّا من خلال تحليله على أنه معادلة علميَّة قابلة للاختبار. وهي تعتبر أنَّه معادلة مفادها التالي: العرفان = لا مُحدَّديَّة المعرفة× وحدة المعارف. إن كانت المعرفة مُحدَّدة، أو كانت المعارف المتنوّعة لا تشكِّل نظامًا معرفيًّا واحدًا ومنسجمًا، فحينئذٍ تكون المعادلة السابقة كاذبة، وبذلك من الممكن اختبارها ما يجعلها معادلة علميَّة.
من غير المُحدَّد إن كانت المعرفة اعتقادًا (مُبرهَنًا عليه) بأنَّ الكون ماديٌّ، أم اعتقادًا (مُبرهَنًا عليه) بأنَّ الكون مثاليٌّ مجرَّد، ولذلك ننجح في وصف الكون وتفسيره على أنه ماديٌّ (كأن يكون متكوِّنًا من ذرَّات ماديَّة)، كما ننجح في وصف الكون وتفسيره على أنَّه مثاليٌّ مجرّد (كأن يكون متكوِّنًا من معلومات مجرَّدة كما يقول الفيزيائيُّ جون ويلر، أو متكوِّنًا من معادلات رياضيَّة مجرَّدة كما يقول الفيزيائيُّ ماكس تغمارك). وعليه، فإنَّ لا مُحدَّديَّة المعرفة تُفسِّر نجاح النظريَّات العلميَّة المتنوّعة في وصف الكون وتفسيره رغم اختلاف النظريَّات العلميَّة وتعارضها، وهذه القدرة التفسيريَّة الناجحة تدلّ على صدقها. فإذا كانت المعرفة مُحدَّدة فحينئذٍ لا بدّ من أن تكون إما معرفة بأنَّ الكون ماديٌّ، أو معرفة بأنَّ الكون مثاليٌّ مجرَّد. ولكن، بما أنَّنا نعرف أنه ماديٌّ وأنه مثاليٌّ مجرَّد أيضًا من جرَّاء نجاح وصف الكون وتفسيره على أنه ماديٌّ ومثاليٌّ مجرَّد في آن، إذن المعرفة غير مُحدَّدة. الآن، بما أنَّ المعرفة غير مُحدَّدة بينما من المفترض أن يكون مصدر العرفان إلهيًّا فمُعبِّرًا عن الحقائق كحقيقة أنَّ المعرفة غير مُحدَّدة، إذن لا بدّ من تحليل العرفان من خلال لا مُحدَّدية المعرفة تمامًا كما تؤكِّد على ذلك معادلة العرفان. وبما أنه من المفترض أن يكون مصدر العرفان إلهيًّا، لا بدّ من أن يكون العرفان خاليًا من الخطأ كأن يكون غير متناقض. إذن، من الضروريِّ أن يتضمَّن وحدة المعارف لأنَّه بغيابها تتعارض المعارف وتتناقض ما يعارض أن يكون مصدر العرفان إلهيًّا. من هذا المنطلق، لا بدَّ أيضًا من تحليل العرفان من خلال وحدة المعارف تمامًا كما تفعل معادلة العرفان بقولها إنَّه يساوي لا مُحدَّدية المعرفة مضروبة رياضيًّا بوحدة المعارف. وإن كانت المعرفة غير مُحدَّدة فحينئذٍ كلُّ المعارف المتنوّعة تشكِّل حقلًا معرفيًّا واحدًا ومنسجمًا بفضل لا مُحدَّديتها. هكذا لا مُحدَّدية المعرفة مرتبطة بالضرورة بوحدة المعارف ما يدلّ على مصداقية تحليل العرفان من خلال لا مُحدَّدية المعرفة ووحدة المعارف معًا.
على صعيد موازٍ، تميِّز المعرفة الحسيَّة والعقليَّة الناقصة بين المعارف، كالتمييز بين المعرفة بأنَّ الكون ماديٌّ والمعرفة بأنَّ الكون مثاليٌّ مجرَّد. وبذلك فإنَّ العرفان المُعرَّف بوحدة المعارف ولا مُحدَّديتها يتعالى على المعرفة الحسّيَّة والعقليَّة السائدة. هكذا تنجح معادلة العرفان في التعبير عن تعالي العرفان. فالمعرفة بأنَّ الكون ماديٌّ، هي مطابقة للمعرفة بأنَّ الكون نفسه مثاليٌّ ومجرّد لأنَّه من الممكن وصف الكون وتفسيره على أنَّه ماديٌّ ومثاليٌّ مجرّد في آن (كأن يُوصَف ويُفسَّر على أنَّه متكوِّن من ذرَّات ماديَّة ومعلومات مجرَّدة أو معادلات رياضيَّة مجرَّدة معًا). ومعادلة العرفان تنجح في التعبير عن وحدة هاتين المعرفتيْن جرَّاء تضمُّنها لوحدة المعارف ما يدلُّ على تفوّقها.
العرفان وحدة كلِّ المعارف التي من ضمنها المعرفة الحسّيَّة والعقليَّة. ولكن تتعالى الوحدة وتختلف عن أيّ جزء منها. وبذلك يختلف ويتعالى على المعرفة الحسّيَّة والعقليَّة. من هنا ستفلح معادلة العرفان أيضًا في تفسير لماذا قبول الآخر هو جوهر أساسيٌّ من جواهر العرفان ما يشير إلى صدقها. فبما أنَّ العرفان = لا مُحدَّدية المعرفة× وحدة المعارف، إذن تتساوى كل الأنظمة المعرفية والاعتقادية فلا أفضليَّة لاعتقاد منسجم على اعتقاد منسجم آخر مختلف من جرَّاء وحدة المعارف ولا مُحدَّديتها مما يحتِّم قبول الآخر وإن اختلف عنا. وبذلك يؤسِّس العرفان للفلسفة الإنسانويَّة القائمة على قبول الآخر المختلف. إن كانت المعارف المتنوّعة تشكِّل حقلًا معرفيًّا واحدًا ومنسجمًا، إذن لا تفضيل لمعرفة على أخرى. وإن كانت المعرفة غير مُحدَّدة، إذن لا تفضيل لاعتقاد (منسجم ذاتيًّا) على اعتقاد آخر. وبهذا تتساوى المعتقدات والمعارف فتتساوى السلوكيَّات القائمة على تلك المعارف والمعتقدات ما يتضمَّن المساواة بين كلِّ الأفراد والثقافات والأديان والأنظمة الفلسفيَّة والعلميَّة. هكذا تكون معادلة العرفان معادلة الإنسانويَّة بامتياز.
مثلٌ عن العرفان قول إبن عربي شعرًا :
“لقد صارَ قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ / فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ / وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ / وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ / أدينُ بدينِ الحُبِّ أنّى توجّهت / ركائبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني”[16].
يتضمَّن هذا النصّ الشِّعريُّ قبول القلب لكلّ الظواهر الطبيعيَّة والأديان المتعدِّدة فيُعبِّر بذلك عن وحدة الوجود ووحدة الأديان والمعارف.
مثلٌ آخر على العرفان قول رابعة العدوية شعرًا:
“أحبُّكَ حُبيْن حُبَّ الهوى / وحُبَّاً لأنّكَ أهلٌ لذاكَ / فأما الذي هو حُبُّ الهوى / فشغلي بذكركَ عمَن سواكَ / وأما الذي أنتَ أهلٌ له / فلا أرى الكون حتى أراكَ / فلا الحمدُ في ذا ولا ذاكَ لي / ولكن لكَ الحمدُ في ذا وذاكَ”[17].
في هذا النصّ الشِّعري، لا تتمكّن رابعة من رؤية الكون سوى من خلال رؤية الله، وبذلك تعلو عن رؤية ثنائيَّات الكون الكاذبة فتصل إلى وحدة المعارف برؤية وحدانيَّة الله ومعرفته.
ولئن كان العرفان يعني لا مُحدَّديَّة المعرفة ووحدة المعارف معًا، فحينئذٍ يعبِّر العرفان عن لا مُحدَّديَّة الكون من خلال لا مُحدَّديَّة المعرفة كما يعبِّر عن انسجام الكون بفضل وحدة المعارف. هكذا يتضمن العرفان أنَّ الكون منسجم رغم لا مُحدَّديته. وإن كان الكون منسجمًا فهو مُنتظِم ما يمكّننا من معرفته على ضوء انتظامه. من هنا، يتضمَّن العرفان إمكانيَّة معرفة الكون رغم لا مُحدَّديَّة المعرفة. فإن كانت المعرفة غير مُحدَّدة فحينئذٍ تصدق كلُّ المعتقدات الممكنة، وإن تعارضت فتولد المعارف المتعدِّدة والمتنوِّعة ويصدق كلُّ نظام فكريٍّ منسجم.
المراجع:
(1) Plato: Complete Works. 1997. Hackett Publishing.
(2) Brian Greene: The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and the Quest for the Ultimate Theory. 2000. Vintage Books.
(3) Albert Einstein: Relativity: The Special and General Theory. 2010. Dover Publications.
(4) James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books
(5) Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf
(6) David A. Shiang: God Does Not Play Dice: The Fulfillment of Einstein’s Quest for Law and Order in Nature. 2008. Open Sesame Productions.
(7) Stephen Hawking: Does God Play Dice? www.hawking.org.uk
(8) Plato: Complete Works. 1997. Hackett Publishing
(9) Richard Rorty: Contingency, Irony, and Solidarity. 1989. Cambridge University Press.
(10) David J. Griffiths: Introduction to Quantum Mechanics. 2018. Cambridge University Press.
(11) Michio Kaku: Parallel Worlds: The Science of Alternative Universes and Our Future in the Cosmos. 2006. Penguin books.
(12) James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books
(13) Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf
(14) Leonard Susskind and James Lindesay: Introduction to Black Holes, Information And the String Theory Revolution: The Holographic Universe. 2004. World Scientific Publishing Company.
(15) James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books
(16) ديوان إبن عربي. 2012. دار صادر للطباعة والنشر.
[1]– Plato: Complete Works. 1997. Hackett –
[2] – Brian Greene: The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and the Quest for the Ultimate Theory. 2000. Vintage Books.
[3] – Albert Einstein: Relativity: The Special and General Theory. 2010. Dover Publications.
[4] – James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books
[5] – Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf
[6] – David A. Shiang: God Does Not Play Dice: The Fulfillment of Einstein’s Quest for Law and Order in Nature. 2008. Open Sesame Productions.
[7] – Stephen Hawking: Does God Play Dice? www.hawking.org.uk.
[8] – Plato: Complete Works. 1997. Hackett Publishing
[9] – Richard Rorty: Contingency, Irony, and Solidarity. 1989. Cambridge University Press.
[10] – David J. Griffiths: Introduction to Quantum Mechanics. 2018. Cambridge University Press.
[11] – Michio Kaku: Parallel Worlds: The Science of Alternative Universes and Our Future in the Cosmos. 2006. Penguin books.
[12] – James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books
[13] – Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf
[14] – Leonard Susskind and James Lindesay: Introduction to Black Holes, Information And the String Theory Revolution: The Holographic Universe. 2004. World Scientific Publishing Company.
[15] – James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books.
[16] – ديوان إبن عربي. 2012. دار صادر للطباعة والنشر.
[17] – ديوان رابعة العدويَّة وأخبارها: موفق فوزي الجبر. 1999. دار النمير للطباعة والنشر والتوزيع.