ميتافيزيقا وحدة الوجود بين الرّواقيَّة وأفلوطين
ميتافيزيقا وحدة الوجود بين الرّواقيَّة وأفلوطين
د. مصطفى النشار
أستاذ الفلسفة القديمة في كليَّة الآداب – جامعة القاهرة – مصر.
الملخَّص:
قدَّمت المدرسة الرواقيَّة نوعًا من وحدة الوجود المادّيَّة التي ترتدُّ في النهاية إلى عنصر النار كجوهر للوجود والعالم، بينما قدَّم أفلوطين في القرن الثالث الميلاديِّ نوعًا من وحدة الوجود الفيضيَّة التي تقوم على أساس أنَّ جوهر الوجود هو المطلق الذي من فرط كماله فاض على الموجودات جميعًا والتي يستوي فيها المعقول والمحسوس؛ فكلُّ ما فيه فاض من منبع واحد ويرتدُّ إليه. وقد اتخذت وحدة الوجود تصوُّرًا معيَّنًا للألوهيَّة أساسه العناية الإلهيَّة عند الرواقيين، والاتحاد الصوفيِّ بالمطلق عند أفلوطين.
الكلمات المفتاحيَّة:
الوجود – وحدة الوجود – الاسبرما – الفيض – المطلق – العقل الكلّيّ – النفس الكلّيَّة – مبدأ الطبيعة.
تمهيد:
ظلَّت قضيَّة تفسير حقيقة الوجود من القضايا المحوريَّة في الفلسفة القديمة حتى بعد أن تغيَّرت الأوضاع السياسيَّة وتطوَّر الفكر الفلسفيُّ تبعًا لذلك، من العصر الهللينيِّ إلى العصر الهللينستيِّ بضفَّتيه: الغربيَّة التي كان مركزها آثينا وروما، والشرقيَّة التي كان مركزها الإسكندريَّة. والطريف أنَّ التطوُّر في فهم قضايا الوجود والألوهيَّة قد مالت كفَّته في هذا العصر نحو التأثُّر بالفلسفات التراثيَّة الشرقيَّة بما فيها من روح صوفيَّة بدت بوضوح من تأثُّر جلِّ فلاسفة هذا العصر بالهرمسيَّة والروح الدينيَّة التي هبَّت رياحها مع بروز الديانة والكتابات الهرمسيَّة من جهة، وظهور الترجمة السبعينيَّة للتوراة من جهة أخرى، فضلًا عن ظهور وبدء انتشار الديانة المسيحيَّة.
أوَّلًا: ميتافيزيقا وحدة الوجود المادّيَّة الرواقيَّة:
لقد أقرَّ فلاسفة الرواقيَّة- منذ زينون مؤسِّسها- وحدة الوجود المادّيَّة كأساس لبيان رؤيتهم لحقيقة الوجود، تلك الوحدة التي يرون فيها أنَّ الوجود واحد في حقيقته، وإن ارتدَّ العالم إلى العناصر وأصلها النار من وجهة نظرهم، إلَّا أنَّهم في النهاية يؤمنون بنوع من وحدة الوجود المادّيَّة، حيث إنَّ كلَّ ما في الوجود عندهم مادّيٌّ ولو بدا غير ذلك؛ إذ إنَّ كلَّ ما يؤثِّر ويتأثَّر عندهم مادّيٌّ، والوجود يتكوَّن من مبدأين: مبدأ فاعل The Active Principle ومبدأ منفعل The Passive. أمَّا المبدأ المنفعل فهو المادَّة إذا أخذت على أنَّها ماهيَّة خالية من أيِّ صفة، في حين أنَّ المبدأ الفاعل هو المبدأ الإلهيُّ أو الإله، إنَّه المبدأ الذي يتخلَّل كلَّ الأشياء ويجعل الوجود واحدًا متماسكًا.
ولعلَّ سرَّ هذا التماسك الذي يلمِّح إليه الرواقيون، رغم أخذهم بمبدأين للوجود، أحدهما فاعل والآخر منفعل، يكمن في أنَّ كلا المبدأين يجسِّدهما شيء واحد هو ” الجسم “. فقد قالوا من البداية إنَّه لا قدرة على الفعل ولا قابليَّة للانفعال إلَّا للأجسام، وأنَّ الشيء لا يكون حقيقيًّا ما لم يكن جسمانيًّا، وكلُّ حقيقة هي جسمانيَّة، ولا وجود إلَّا للجسم، وما لا جسم له فلا وجود له.
هذا هو الأصل الذي قامت عليه فلسفة الرواقيين الطبيعيَّة، فلقد ذهب بعضهم في تلك النظريَّة المادّيَّة لأصل الوجود إلى أبعد من ذلك حينما صرحوا بأنَّ النفس الإنسانيَّة جسم وأنَّ الإله هو أيضًا جسم؛ فلو كان الإله لا جسميًّا فكيف يؤثِّر في جميع الأجسام التي يتألف منها العالم؟ لقد رأوا صراحة أنَّ المبدأ العاقل لا يخلو من أن يكون جسمانيًّا، فهو جسم لطيف يدخل المادَّة وينساب فيها كما تنساب النطفة في أجسام الكائنات الحيَّة. ومن أجل ذلك أطلقوا عليه اسم “لوغوس سبرماتيقوس Spermaticos Logos([1]).
ونلفت هنا إلى أنَّ ما كان يسمّيه الفلاسفة السابقون ” نفسًا – psuhe”، وقصدوا أنَّها شيء من طبيعة مختلفة عن طبيعة البدن، أطلق عليه الرواقيون ” اسبرما Sperma “. وفي هذا إشارة إلى أنَّ النفس عندهم هي المبدأ الإيجابيُّ نعم، لكنه من طبيعة جسميَّة حيث أنَّ كلَّ ما في الطبيعة كما قلنا في ما سبق يُعدُّ جسمًا حتى خواصّ الأجسام وصفاتها هي أيضًا أجسام؛ فاللون والرائحة والطعم والشكل والصوت كلُّها أشياء جسمانيَّة، بل إنَّهم عدّوا الصفات الأخلاقيَّة كذلك أجسامًا، ومصداقُ ذلك ما قاله سينكا: ” إنَّ الخير جسم لأنَّ له فعلًا ولأنَّ له في النفس آثارًا، وكل ما له فعل وأثر فهو جسم. لكن الحكمة خير، فالحكمة إذن جسم “. وما قاله أيضًا في موضع آخر: “إنَّ الغضب والحبَّ والحزن وغيرها من أهواء النفس أجسام. وإذا كان عندك شكٌّ في ذلك فانظر كيف تتغيَّر وجوهنا بتأثير انفعالاتنا وأهوائنا. أفتظنُّ أنَّ مثل هذه الآثار تُرسم على الوجوه لسبب غير مادّيّ ؟ “([2]).
لكي تتأكد لك هذه الواحديَّة المادّيَّة التي يؤمن بها الرواقيون، رغم ما بها من ثنائيَّة المبادئ والعناصر، أنظر إلى تعريفهم للكون أو للعالم الطبيعيِّ في ذلك النصِّ الذي عبَّر به ديوجين عن المعاني الثلاثة للعالم أو للكون لديهم. المعنى الأوَّل: الإله نفسه فجوهره الفرديُّ يضمُّ مجموع المادَّة، وهو لا يفنى، وهو غير مصنوع إذ إنَّه صانع ومنظِّم كلِّ الموجودات، وهو أيضًا ما يدمِّرها ويعيد خلقها في فترات زمانيَّة تتكرَّر بانتظام.
المعنى الثاني: هم يطلقون تسمية الكون أو العالم على نظم وانتظام الأجرام السماويَّة ذاتها.
المعنى الثالث: يطلقونه على المعنيين السابقين معًا أي على الإله والأجرام السماويَّة معًا. بمعنى آخر، لقد عرَّفوا العالم بأنَّه ذلك الوجود الواحد الذي يعبِّر عن جوهر الكلِّ، أنه على حدِّ تعبير بوسيدونيوس النظام الذي يتَّحد فيه السماويُّ بالأرضيِّ، وما هو إلهيٌّ، وما هو إنسانيٌّ بكلِّ الأشياء التي وجدت لأجلهما([3]).
إن هذا الكون الواحد عند الرواقيين محكوم بالعقل أو بالعناية الإلهيَّة المنبثَّة في ثنايا كلِّ أجزائه، وهي أشبه ما تكون بوجود النفس فينا. وهذه العناية الإلهيَّة قد تظهر في أجزاء معيَّنة من الكون أكثر ممَّا تظهر في أجزاء أخرى، إن هذا الكون في الإجمال أشبه بالكائن الحيِّ ذي النفس. إنَّه في نظر معظم الرواقيين واحدٌ لا نهائيٌّ، وهو كرويُّ الشكل على اعتبار أنَّ هذا الشكل الكرويَّ هو أنسب الأشكال لتفسير الحركة بداخله، وهو ملاء تام إذ لا يوجد خلاء فيه، أما خارج هذا الكون الدائريِّ المتماسك فيوجد ذلك الخلاء الذي لا جسم له([4]).
وما دام هذا الكون واحدًا وأجزاؤه متداخلة بعضها في البعض الآخر، وهو أشبه بالكائن الحيِّ ذي النفس، فإنَّه كما ولد سيفنى، حيث إنَّ أجزاءه تفنى ويتحوَّل كلٌّ منها إلى الآخر، وهو أيضًا ككلٍّ يفنى حيث إنه هو الآخر قابل للتحول والتغيُّر. ولكن السؤال هنا: هل سيكون هذا الفناء نهائيًّا ؟ بمعنى أنَّه سيفنى فناء مطلقًا ويتحوَّل إلى عدم غير قابل للوجود من جديد ؟
(ب) ولادة العالم والدورات الكونيَّة:
يؤمن الرواقيون بوجه عام، بأنَّ هذا العالم الماثل أمامنا ليس إلَّا أحد صور العوالم التي توجد، ثمَّ تفنى بفعل الاحتراق الكلّيِّ، وهذا الاحتراق لا يفنى الكون ككلّ، بل ينهي وجود دورة من دورات حياته لتبدأ بعد ذلك دورة جديدة، فهذا الاحتراق العام للعالم يحصل في هوادة وفي غير عنف، وهو ملائم عندهم لنظام الكون ككلّ، ومن ثم فقد اعتبره زينون وكريسبوس بمثابة تطهير للعالم أي إعادته إلى كمال حاله([5]).
فزيوس (وهو النار الإلهيَّة)، بعد أن يجعل اللهب ينتشر في كلِّ مكان ويلتهم العالم كله، يستطيع أن يعيده من جديد ويتكرَّر ذلك على فترات زمنيَّة معيَّنة. فتاريخ العالم عند الرواقيين إذن بلا نهاية، حيث كما ولد يفنى، وكلَّما فنى يعود من جديد([6]).
يؤمن الرواقيون بأنَّ العالم ظهر إلى الوجود حينما تحوَّل جوهره من النار من خلال الهواء إلى ماء سائل، وبعد ذلك تحوَّل الجزء المتجمِّد من الماء إلى أرض، بينما تحوَّل الجزء الأخفُّ إلى هواء تشتَّت في كلِّ الأنحاء، ومن خلال عمليَّة التكاثف (تكاثف الهواء) تحوَّل مرَّة أخرى إلى نار. ومن خلال المزج بين هذه العناصر تشكَّلت الحيوانات والنباتات وكلُّ الأنواع الطبيعيَّة الأخرى من الكائنات([7]).
لقد ناقش معظم الرواقيين مسألة ولادة العالم وفنائه من خلال الصورة السابقة التي تبدأ وتنتهي بالنار باعتبارها جوهر العالم التي لا تفنى؛ فقد عرض لها زينون في مقالته : ” عن الكلّ On The Whole “، وكذلك كريسبوس في الكتاب الأول من “طبيعيَّاته”، وكذلك بوسيدونيوس في الكتاب الأول من عمله المعنون بــ “عن الكون On The Cosmos “، وأيضًا عرض للمسألة نفسها كلٌّ من كليانتس وانتيباتر Antipater في الكتاب العاشر “عن الكون “، أما بانايتيوس فقد كان الوحيد الذي ذكر أنَّ العالم لا يفنى([8]).
كما أنَّ معظم الرواقيين، وخصوصًا كريسبوس وبوسيدونيوس، اعتبروا أنَّ العالم أشبه بالكائن الحيِّ العاقل الذي يمتلك نفسًا وإدراكًا، أشبه بالكائن الحيِّ الذي يمتلك جوهرًا حيويًّا مزوَّدًا بالجوهر النفسانيِّ والإحساس([9]). وقد قرَّروا أنَّ الحيَّ في مقام أعلى من غير الحيِّ، ولأنَّ العالم كائنٌ حيٌّ فذلك يعني أنَّ له نفسًا اشتُقَّت منها النفس الإنسانيَّة التي تُعتبر من النفس الكليَّة للعالم. وعلى وجه الإجمال فقد رأوا أنَّ الكون ملاء تامٌّ باعتباره الكلَّ المتماسك الذي لا يوجد الخلاء إلَّا خارجه. فهذا هو نظام الكون؛ العالم له نهاية، بينما الخلاء الموجود خارجه لا نهاية له([10]).
(ج) وجود الإله ودوره في العالم الطبيعيّ:
يؤمن الرواقيون، كما أشرنا في ما سبق، بوحدة الوجود، لكنهم في الوقت ذاته يدركون أنَّ الإله هو جوهر هذا الوجود؛ فهو الكائن الحيُّ الخالد، وهو عقل Logos العالم، وهو الكامل في سعادته، الذي لا يقبل الشرَّ وليس من طبيعته، وهو الذي يرعى العالم ويعتني بكلِّ ما فيه، فهو موجود ويتخلَّل كلُّ شيء لكنَّه لا يأخذ صورة بشريَّة. إنه صانع العالم بجميع ما فيه، فهو أب الكلِّ يشمل العالم سواء في مجموعه أم في جزئيَّاته المشمولة برعايته بمسمَّيات عديدة تبعًا لقواها أو وظائفها المختلفة. لقد سُمّي العلَّة Dia لأنَّ كلَّ الأشياء تتمُّ بواسطته فهو علَّتها، وسُمّي زينا Zeena أوزيوس Zeus لأنَّه السبب في الحياة أو الذي يحافظ عليها ويرعاها. أمَّا تسميته بأثينا Athena فمردُّها إلى أنَّ قوَّته المقدَّسة المهيمنة تمتدُّ إلى كلِّ شيء حتى الأثير aether، وتسميته بهيرا Hera تشير إلى أنَّه منتشر في الهواء. كذلك سمّوه بهيفايستوس Hephaestus لأنَّه منتشر في النار الخالقة، وبوسيدون Poseidon لأنَّه تمدَّد في كلِّ أنحاء البحر، وديميتر Demeter طالما انتشر ووصل إلى الأرض. وعلى هذا النحو أعطى البشر للإله أسماء متعدِّدة وألقابًا أخرى تتناسب مع قواه المتعدِّدة([11]).
عمومًا، لقد أعلن زينون أنَّ جوهر الإله يتطابق مع كلِّ العالم بسمائه وأرضه، ومن ثمَّ فهو الهواء وهو النجوم الثابتة، وهو الطبيعة التي تجمع العالم وتعتبر السبب في وجود الأشياء على الأرض، وهو القوَّة المحرِّكة التي تنتج الإسبرما في تطابق مع الأصول أو المبادئ البذريَّة Seminal principles والتي تنتج وتحافظ على كلِّ ما أنتجته وولدته خارجها في فترات محدودة([12]).
من هنا، فلا نعجب حينما نرى أصحاب الرواق يقولون كذلك إنَّ العالم هو جوهر الإله، كما أنَّ الإله هو جوهر العالم. وذلك معناه في نظرهم – كما أشرنا في ما سبق- أنَّ الكون ككلٍّ يدبِّره مبدأ عاقل، وهذا المبدأ العاقل لا يمكن أن يكون شيئًا آخر غير إله. فكأن الإله والطبيعة يدلَّان على حقيقة واحدة شاملة([13]).
بالنسبة إلى الرواقيين، يتجلَّى الإله في العالم الطبيعيِّ باعتباره القوَّة المدبِّرة لكلِّ شيء عبر ذلك القانون الذي ربط كلَّ ما في الوجود وحدَّد لكلِّ شيء دوره بشكل دقيق ولا يمكن مخالفته. ولقد أطلقوا على هذا القانون اسم القضاء والقدر، فكل الأشياء تحدث وفقًا له. هذا الأمر ذكره كريسبوس في ما كتبه ” عن القدر De fato “، كما ذكره بوسيدونيوس في كتاب بالعنوان نفسه ” عن القدر “، وذكره أيضًا كلٌّ من زينون ويؤثيوس Boethus في كتابه “عن القدر “، حيث عرَّفه بأنَّه تلك السلسلة التي لا نهاية لها من العليَّة التي تحدث الأشياء وفقًا لها([14]).
ثانيًا: ميتافيزيقا وحدة الوجود الفيضيَّة عند أفلوطين:
تتميَّز فلسفة أفلوطين عمومًا بأنَّها فلسفة البحث عن الوحدة خلف الكثرة الظاهرة، والبحث عن كيفيَّة صدور الوحدة من الكثرة. ولذلك، كان المؤرّخون لفلسفته حديثًا يميّزون دائمًا بين طريقين؛ طريق صوفيٍّ صاعد تصعد فيه النفس من الكثرة المتمثِّلة في ظواهر العالم المحسوس إلى الوحدة المتمثِّلة في الواحد أو المطلق. وطريق فلسفيٍّ هابط تهبط فيه من الوحدة إلى الكثرة، من وحدة المطلق إلى العقل الكلّيِّ إلى النفس الكلّيَّة ثمَّ إلى كثرة ظواهر العالم المحسوس مرَّة أخرى.
ولقد كثر حديث هؤلاء المؤرّخين عن أصول الفلسفة الأفلوطينيَّة؛ فقالوا إنَّه أخذ فكرة البحث عن الوحدة من الفكرة الفلسفيَّة التي كانت شائعة عن وحدة الوجود، إذ كان لدى بارمنيدس فكرة مماثلة([15]). وهو ربما أخذها عن الرواقيَّة([16]). ولكن الحق الذي يشهدون به هو أنَّ فكرة وحدة الوجود عنده مختلفة عن الفكرة الإيليَّة، فالطابع العام لنظرة بارمنيدس إلى الكون تختلف كلَّ الاختلاف عن طابع مذهب أفلوطين، فصورة العالم عند الأول سكونيَّة، والكون كلٌّ متجانسٌ لا تنوُّع فيه ولا تدرُّج، أما عند أفلوطين فصورة العالم حركيَّة متدرِّجة([17]). كما أنَّ فكرته مختلفة عن مثيلتها عند الرواقيَّة حيث كانت وحدة الكائن تفسَّر على أساس وجود مبدأ فعَّال روحانيٍّ يسري في الكائن ويكسبه التماسك والوحدة، أما عند أفلوطين فأساس الوحدة هو التأمُّل، فتأمُّل الكائن لما هو أعلى منه في الوجود والوحدة يضفي عليه وجودًا ووحدة، والقول بأنَّ الوحدة هي مصدر الوجود يعني أنَّ الفكر والتأمُّل هما مصدر الوجود([18]).
من المفيد القول أنَّ وحدة الوجود عند أفلوطين متميّزة تمامًا عن مثيلاتها عند الفلاسفة، سواء من السابقين له أم اللَّاحقين عليه؛ فهي وحدة وجود حيَّة ديناميكيَّة صدوريَّة فيضيَّة، وقد أفلح زيللر حينما سمَّاها Dynamic pantheism([19]). فالعالم كما يصوِّره أفلوطين ينبثق كنوع من الفيض التدريجيِّ عن الحياة الإلهيَّة التي تنبثق أصلاً عن الوحدة من دون أن تنقص من ذاته شيئًا، والتدرُّج في مراتب الكمال لا يعني أنَّ ثمَّة نقصًا يشوب العقل الكلّيَّ أو النفس الكلّيَّة باعتبارها أقانيم العالم المعقول، بل على العكس، إنَّ كمال الأقنوم السابق يصب في الأقنوم اللَّاحق باعتبار أنَّ كلَّ أقنوم لاحق في نظر أفلوطين هو لوغوس Logos للسابق عليه، أي أنَّه صورة صدرت عنه متمثِّلة في وجود أدنى من وجوده، لكن كمال هذا الوجود الثاني مرتبط بكمال الوجود الذي صدر عنه حيث يربط بينهما تأمُّل اللَّاحق للأسبق باستمرار. مثال ذلك أنَّ العقل Nous يتأمَّل المطلق الذي صدر عنه، والنفس الكلّيَّة تتأمَّل العقل الذي صدرت عنه. وهكذا يظلُّ التأمُّل جوهر الوحدة بين أقانيم العالم المعقول لدى أفلوطين، كما أنَّه أساس وحدة العالم المحسوس أيضًا رغم كثرته الظاهرة.
في هذا السياق، قيل إنَّ أفلوطين استعار التمييز الأفلاطونيَّ الشهير بين عالمين، العالم المعقول والعالم المحسوس، وأنَّ فلسفته من هذه الناحية لم تكن إلَّا صدى لفلسفة أفلاطون. والحقَّ أنَّ وجهة النظر هذه لها ما يبرِّرها نظرًا لأنَّه هو نفسه حاول إسناد رأيه ذلك إلى أفلاطون، كما حاول بيان أصل نظرته التثليثيَّة للعالم المعقول من فلسفته، فقد اعترف بأنَّ نظرته التثليثيَّة تلك للعالم المعقول (الواحد – العقل – النفس) ليست جديدة بل هي أفكار تعود في أصلها إلى أفلاطون، فهو يعتبر الكائنات ثلاثة: الخير الأسمى وهو الحقيقة الأولى، العقل وهو الوسيط الإلهيُّ (الديمورج)، ثمَّ النفس في المرتبة الثالثة([20]).
ولكن، إن شئنا الدقَّة، فهذا تفسير أفلوطينيٌّ لفكرة أفلاطونيَّة. وقد تكون الفكرة في أصلها مستمدَّة من التراث الشرقيِّ حيث كثر الحديث فيه عن ثالوثات؛ فملحمة جلجامش البابليَّة مثلًا والتي عثر عليها في خرائب نينوى تتحدَّث في لوحتها الأولى عن الثالوث المقدس “آنو، وانليل، وايا ” وهناك الثالوث الإلهيُّ المصريُّ الشهير “إيزيس وأوزوريس وحورس”. والواقع أنَّ فكرة الثالوث عرفت بوضوح في عصر أفلوطين، فهناك عقيدة الثالوث المسيحيَّة، وهناك الاجتهادات اللَّاهوتيَّة التي ظهرت في الإسكندريَّة في القرون الثلاثة الأولى للميلاد لتفسير هذه العقيدة، ولاشكَّ في أنَّه قد تأثر بهذه الاجتهادات، وعلى رأسها اجتهاد زميله أوريجين الفيلسوف المسيحيّ([21]).
لكن تنبغي الإشارة إلى أنَّ هذا الثالوث الأفلوطينيَّ يختلف اختلافًا بيّنًا عن الثالوث المسيحيِّ أو الثالوثات الشرقيَّة القديمة. فقد أقام أفلوطين ثالوثه في عالمه المعقول على أساس عقلانيٍّ بحت، وبمقتضى فلسفته الفيضيَّة الجديدة. أما بالنسبة إلى التأثير الأفلاطونيِّ هنا فهو في اعتقادنا ضئيل، ضئيل، ذلك بأنَّ فكرة أفلوطين عن أقاليم العالم المعقول، ثم صدور العالم المحسوس عن تأمُّل النفس للأقنوم الأعلى عن طريق ما يسمّيه بمبدأ الطبيعة الذي يحوي الأصول أو المبادئ البذريَّة الأوليَّة Logoi spermatichoi لكائنات العالم الطبيعيِّ، هذه الفكرة مختلفة أشدَّ الاختلاف عن العالم المعقول لأفلاطون ومضمونه هو المُثل التي تشكِّل عنده عالمًا متميّزًا ووجودًا مستقلًّا عن العالم المحسوس من جهة، وعن الإله من جهة أخرى، فمنها وبواسطة فاعليَّة الصانع، تتشكَّل جميع كائنات العالم الطبيعيِّ حيث يتَّخذ الصانع من المثال نموذجًا يحتذيه حينما يصنع كائنات هذا العالم المحسوس، والتي هي في النهاية مجرَّد ظلال باهتة لمثلها الكائنة في العالم المعقول([22]).
في المقابل، نرى العالم المعقول عند أفلوطين يتمثَّل في تلك الأقانيم (المبادئ الثلاثة) التي ترتبط بعضها ببعض ارتباطًا لا ينقسم، كما ترتبط بالعالم المحسوس ارتباطًا يشكِّل جوهر عقيدته في وحدة الوجود، وذلك عن طريق فكرته الأصليَّة عن الفيض.
هنا تتوقَّف لنوضح أصول هذه الفكرة التي ميَّزت بشكل حاسم بين ميتافيزيقا أفلوطين وميتافيزيقا أفلاطون.
لقد ردَّها أرمسترونغ Armstrong إلى الرواقيَّة، وكذلك ريفو Rivaud؛ فقد رأى الأول أنَّ الخلفيَّة الفكريَّة التي كانت لدى أفلوطين حينما قال بتلك الفكرة هي خلفيَّة رواقيَّة وبالذات في المبدأ الرواقيِّ المتأخِّر حول انبثاق العقل عن تصوُّر إلهيٍّ أساسه النار المادّيَّة([23]). بينما رأى الثاني أنَّ ثمَّة تشابهًا بين طبيعيَّات الرواقيين وبين فكرة الفيض الأفلوطينيَّة بالنظر إلى فكرة الرواقيين عن نار زيوس الكائنة في كلِّ الأشياء، وامتداد العناية الإلهيَّة لديهم في أقل الموجودات الطبيعيَّة شأنًا([24]).
ولسنا بحاجة إلى بيان تهافت هذه الأفكار، ففكرة أفلوطين عن الفيض تنأى بنا تمامًا بطبيعتها عن ذلك التصوُّر المادّيّ للخلق عند الرواقيَّة. كما تنأى عن العناية الإلهيَّة عن الفكرة الرواقيَّة حيث أنَّ الاتصال بين المطلق والأشياء عنده يكون اتصالًا أساسه التأمُّل المستمرُّ الذي إن ميَّز بين الكائنات معقولة ومحسوسة من حيث مراتب الوجود فهو لا يميّز بينها كثيرًا من حيث ما فيها من ألوهيَّة مستمدَّة من كونها فيضًا عن المطلق (الواحد).
إذا أردنا البحث عن مصدر هذه الفكرة، فلابدَّ من العودة إلى التراث الشرقيِّ الذي كان سائدًا في الإسكندريَّة. وأول ما يقفز إلى الذهن حينذاك هو المصدر الغنوصيُّ الذي قال بأنَّ الأشياء ” تصدر” عن الواحد في نظام تنازليٍّ حتى نصل إلى المادَّة([25]). وحتى لو كان التشابه واضحًا بين الفكرة الأفلوطينيَّة والفكرة الغنوصيَّة، فإنَّ الأخيرة رمزيَّة غامضة، حيث إنَّ الغنوصيين لا يوضحون كيفيَّة ذلك الصدور، بل يلجأون على طريقتهم الرمزيَّة الأسطوريَّة فيصوّرون المسألة كالولادة تمامًا([26]).
في المقابل، تقوم فكرة أفلوطين، كما توضحها نصوصه، على أساس ” أنَّ الواحد كامل لأنَّه لا يبحث عن شيء، ولا يملك شيئًا، وليس بحاجة إلى أيِّ شيء “([27]). ولأنَّه كامل كمالًا مطلقًا يفوق كلَّ تصوُّر فهو ” قدرة خارقة “([28]) ولا يستطيع التقوقع داخل ذاته، وإبداعه يحدث بالضرورة([29])، وهكذا يبدع الإله الوجود بالفيض، وهو كالنبع الذي يفيض بمياهه على الأنهار كلِّها ولكنَّه مع هذا لا ينصب أبدًا([30]). إذن، جوهر عمليَّة الفيض هو الكمال المطلق للواحد، ذلك الكمال الذي من فرط لا نهائيَّته يصدر عنه غيره بالضرورة، وهذه فكرة غير مسبوقة بأيِّ صورة من الصور.
من جانب آخر، فإنَّ عملية الفيض التي تعني ضرورة الإيجاد أو الخلق، أساسها عمليَّة أخرى هي التأمُّل حيث إنَّ أول ما يفيض عن الإله (المطلق) الواحد هو ” الحياة اللَّا محدودة ” التي ما إن تفيض حتى ترتدّ إليه وتتأمَّله فتتَّخذ لها حدًا وصورة، وتصبح آنذاك كائنًا معينًا ذا كثرة في وحدة هي العقل([31]). فكأنَّ التأمُّل هنا هو المرادف للإيجاد أو للخلق، حيث صدر العقل عن المطلق نتيجة التأمُّل كما تصدر النفس الكلّيَّة عن العقل نتيجة تأمُّله للمطلق، وكذلك تنشأ كائنات العالم المحسوس نتيجة تأمُّل الوجود الأدنى للنفس أو ما يسمّيه أفلوطين مبدأ الطبيعة الذي هو ” صورة ثابتة وليس مركبًّا من مادَّة صوريَّة، كما أنَّه ليس بحاجة إلى العنصر المتغيّر أي للمادَّة “([32]). ولو سألنا كيف تنتج الطبيعة كائناتها لأجابت إن كان لها أن تسمع أو تجيب ” إنَّ كلَّ ما يحدث في الوجود هو موضوع لتأمُّلي الصامت وهو يناسب طبيعتي التي صدرت عن التأمُّل، والعنصر الذي يتأمَّل فيَّ ينتج موضوعًا للتأمُّل “([33]).
وهذه الفكرة الفريدة عن المرادفة بين فعل التأمُّل والخلق ليس لنا أن نشبِّهها بأيِّ فكرة يونانيَّة سابقة. صحيح أنَّ أفلاطون وأرسطو قد أعليا من شأن التأمُّل، فجعله الأول وسيلتنا لحدس عالم المثل والارتفاع منه إلى حدس مثال المثل (الإله – مثال الخير)([34])، فيما جعله الثاني المهمة الأولى والأساسيَّة للفيلسوف، فبه نصل إلى معرفة الإله، وبه نصل إلى حدس المبادئ الأولى، إنَّه الفعل الأكثر كمالًا، وهو الفعل الأكثر قداسة وألوهيَّة من بين أفعال البشر([35]).
بيد أنَّ هذا الإعلاء من شأن التأمُّل كان بالنسبة إلى فلاسفة اليونان فعلًا من أفعال الإنسان، وهو مقصور على الفيلسوف كونه وحده الذي يحقّق أسمى مرتبة للتأمُّل الإنسانيِّ وهو الذي يتشبَّه في هذا بالإله.
وفي اعتقادنا، أنَّ الأصل الأوحد لهذه الفكرة الأصليَّة عند أفلوطين هو النصُّ المنفيُّ حول تفسير نشأة العالم الطبيعيِّ عن الإله “بتاح” الذي كان لسان الآلهة وقلبهم حيث يقول كهنة “منف” في ذلك:
” إنَّه هو ” القلب ” الذي يسبِّب ظهور كلِّ (رأي ) يتمُّ، أمَّا اللسان فهو الذي يعلن ما يفكِّر فيه القلب. وهكذا تمَّ تشكيل جميع الآلهة. وفي الواقع ظهر جميع النظام الإلهيِّ بوساطة ما فكَّر فيه القلب وما أمر به اللسان .. (وهكذا نال العدل كل من) فعل الشيء المرغوب فيه، و(عوقب) الذي يفعل الأمر غير المرغوب فيه، وأعطيت الحياة لمن يؤمن بالسلم وأعطي الموت للخاطئ. وبهذا تمَّ كلُ! عمل وكلُّ مهنة، وعمل الأذرع، وحركة الأرجل، ونشاط كلِّ عضو في الجسم حسب الأمر الذي فكَّر فيه القلب والذي جاء عن طريق اللسان، والذي يعطي قيمة لكلِّ شيء “([36]).
انطلاقًا من ذلك، نرى مدى بيان هذا النصِّ الذي يرجع تاريخه إلى ألفي عام قبل نشأة الفلسفة اليونانيَّة، إذ يبيّن كيف أن ثمَّة عقلاً مسيطرًا خالقًا، عقلًا تصوّر مظاهر الطبيعة ثم أبدعها عن طريق ذلك التعقُّل وهذا التأمُّل. كما عبر بوضوح عن فكرة أفلوطين التي تقول ” إنَّ كلَّ الموجودات تصدر عن التأمُّل “. ويزداد هذا النصُّ أهميَّة حينما نجد أنَّه يعبِّر عن فكرة أفلوطين عن اللوغوس Logos التي تحيَّر المؤرّخون في البحث عن أصلها لديه، حيث فسَّرها بعضم بأنَّها تعني المبادئ باعتبار أنّ أشياء العالم الطبيعيِّ تصدر – كما قلنا – عن طريق ما سُمِّي لديه Logoi Spermatichoi أي المبادئ البذريَّة. وقد ردّوا هذه الفكرة إلى أصل رواقيٍّ، حيث أنَّ الفكرة التي لدى الإله عن الأشياء والتي يسعى لتحقيقها بخلق هذه الأشياء، هي أشبه ببذرة يتولَّد منها ذلك بالضرورة، ومن هنا أطلق الرواقيون على هذه الأفكار الفاعلة التي تنتج منها الأشياء اسم ” المبادئ البذريَّة”([37]).
غير أنَّ هذا الاصطلاح عند أفلوطين كان يستخدم بالنظر إلى ” مبدأ الطبيعة ” الذي يحوي تلك الأصول البذريَّة، ليوضح أساس الاتصال بين العالم المعقول والعالم المحسوس، باعتبار أنَّ النفس الكليَّة تنطوي على كلِّ المبادئ التي هي أصل نشأة الموجودات الحسّيَّة. وهو إن تأثَّر في الأخذ بهذا المبدأ بالرواقين، فلا يجب أن نغالي في هذا الاتجاه حيث أن فكرته عن اللوغوس مختلفة عن فكرتهم، فالفكر الرواقيُّ تمتزج فيه المادَّة بالعقل امتزاجًا لم يكن يرضى هو عنه، وقد نقدهم كثيرًا في هذا الشأن. وهو قال موضحًا ما يعنيه أنَّ ” قوام هذا القانون (الذي تخضع له كلُّ الموجودات) هو المبادئ البذريَّة الصادرة عن العالم المعقول والتي هي علل كلِّ الكائنات، وعلل حركات النفوس وقوانينها “([38]).
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الأشياء في تصوُّر أفلوطين قد تشكَّلت من فيض إلهيٍّ، وليست تلك الأصول البذريَّة إلَّا أفكارًا عقليَّة Noemate بحيث تكون هي القوَّة المصوَّرة للموجودات والتي تضفي عليها أشكالها وصورها المستمدَّة من العقل. وهذا التفسير يقرِّب الصلة بين فكرته وما ورد في النصِّ المنفيِّ للخلق، فالعالم قد نشأ من كلمة إلهيَّة أساسها تفكُّره وتأمُّله ورغبته في الإيجاد، فكان الإيجاد. والشبهة المادّيَّة هنا غير موجودة كما كانت عند الرواقيَّة، فالمادَّة عنده كما في النصِّ المصريِّ القديم لا تبدو إلَّا في الشيء المحسوس نفسه. أمَّا الأصل البذريُّ عند الرواقيين ففيه من المادَّة بقدر ما فيه من العقل، وهذا ما سبق أن أكَّدنا رفضه له.
إضافة إلى ما سبق، فإنَّ فكرة أفلوطين عن ” الطبيعة ” مختلفة عما تصوَّره فلاسفة اليونان، فهو كما يقول انج Inge قد أضاف معنى جديدًا للطبيعة؛ فحياة الطبيعة عنده هي ارتفاع إلى أعلى، وصعود نحو أنواع أرقى من النشاط، بينما كانت لدى الفلاسفة السابقين إمَّا مجموع الذرَّات الكونيَّة، كما قال الذريّون، أو المادَّة الحيَّة بعناصرها الأربعة كما قال الطبيعيّون الأوائل([39]).
ورغم طرافة هذه المقارنة من إنج، نؤكد أنَّ اختلاف فكرة ” الطبيعة ” عند أفلوطين عن مثيلتها لدى فلاسفة اليونان لا يبدو من هذه الزاوية فحسب؛ حيث إنَّه لم يسر في الطريق نفسه الذي سار فيه هؤلاء الفلاسفة في تصوُّرهم لفكرة الطبيعة. من هنا، لا وجه للمقارنة بينه وبينهم، فالحقيقة أنَّه لم يكن ينظر إلى الطبيعة كما كان هؤلاء ينظرون إليها بوصفها مجموع الموجودات، بل كان يفهمها دائمًا على أنَّها جوهر، أنَّها وجه من أوجه النفس الكلّيَّة أو قوَّة من قواها. وهذا ما يؤكِّد بصورة ما قوَّة الشبه بين فكرته عن الطبيعة والفكرة المصريَّة القديمة عنها. إنَّها عند المصريين صورة إلهيَّة بدت كثرتها المادّيَّة حسب الأمر الذي فكَّر فيه القلب (أي العقل) والذي جاء عن طريق اللسان، أما عند أفلوطين، فقد بدت هذه الكثرة المادّيَّة بفعل تأمُّل ” الطبيعة ” نفسها – بوصفها الدرجة الأدنى من النفس الكليَّة – للأقنوم الأعلى.
لقد أقر أفلوطين نفسه بوجه الشبه بين ما قاله قدامى الحكماء وبين ما يقوله هو حول الطبيعة حينما قال ” إنَّ القدامى من الحكماء، الذين أرادوا أن يتمثَّلوا الآلهة أمامهم بتشييد معابد وتماثيل، قد أحسنوا تفهُّم طبيعة الكون، فقد أدركوا أنَّ من اليسير دائمًا جذب النفس الكلّيَّة، وأنَّ من الأيسر بقاءها بتشييد شيء يمكنه تلقّي أثرها وقبول مشاركتها. والتمثيل التصويريُّ للشيء ميَّال دائمًا إلى تلقّي أثر نموذجه، فهو كمرآة تستطيع أن تتلقَّى صورته. وأنَّ الطبيعة، ببديع صفاتها، لتفطر الأشياء على صورة الموجودات التي تملك صورة مطابقة لمبدأ يعلو على المادَّة. وهكذا جعلت الطبيعة كلَّ شيء على صلة مباشرة بالألوهيَّة التي تولد على مثالها، والتي تتأمَّلها النفس الكليَّة وتسير في خلق الأشياء وفقًا لها، فمن المحال إذن أن يوجد شيء لا يشارك في تلك الألوهيَّة، ولكن لا يقلُّ عن ذلك استحالة أن تهبط تلك الألوهيَّة إلى عالمنا الأرضيّ”([40]).
ممَّا لاشكَّ فيه أنَّ هذا اعتراف أفلوطينيٌّ واضح بالمصدر الحقيقيِّ لفكرته الأصيلة عن الطبيعة، إنَّه الفكر المصريُّ القديم الذي استطاع أن يعبِّر عنه تعبيرًا فلسفيًّا أكثر نضجًا ونضارة. ولو أنعمنا النظر في ما سيقوله أفلوطين بعد ذلك، واضعين في الاعتبار ما سبق، من دون أن يقفز أفلاطون إلى مخيَّلتنا كالعادة، لازدادت دهشتنا من مصريَّة أفلوطين، فهو يضيف بعد حديثه السابق ” أجل، فالعقل الأعلى هو الشمس العاقلة، وتليه مباشرة نفس تعتمد عليه، مقرُّها في العالم المعقول كالعقل ذاته، غير أنَّ النفس تهب الشمس المحسوسة حدودها الخاصَّة التي تلائمها وبتوسُّطها يتمُّ الاتصال بين الشمس المحسوسة والشمس المعقولة، وينقل إلى الشمس المعقولة أماني الشمس المحسوسة بقدر ما تستطيع هذه أن تصل إلى الشمس المعقولة عن طريق النفس. إذ إنَّه لا شيء يبعد عن الآخر “([41]).
وغنيٌّ عن القول أنَّ هذا التشبيه – تشبيه الشمس – الذي ظنَّ المؤرّخون أنَّه التشبيه الأفلاطونيُّ، لهو تشبيه استقاه أفلوطين من أخناتون (الملك الفيلسوف) حيث نقرأ شيئًا شبيهًا بذلك في قصيدته التي وجهها إلى قوة الشمس (آتون)، باعتبارها رمز الإله الواحد لديه.
وإذا انتقلنا إلى نظرته للعالم المحسوس مبتعدين عما سبق أن بحثناه حول صلة هذا العالم بالعالم المعقول لديه، فسنجد أنَّ كثيرًا من آرائه حول العالم الطبيعيِّ والكواكب مستمدَّة من تأثُّره الشديد ببيئته الشرقيَّة المصريَّة بما فيها من احترام للسِّحر والتنجيم. ولا عجب، فقد كان هذا أمرًا غير معيب في عصره ليس بالنسبة إلى العامة فحسب من الناس، بل أيضًا بالنسبة إلى المثقفين منهم. كل الفرق أنَّ الفئة الأخيرة كانت تحاول أن تأتي بتبرير لما تؤمن به. فقد حرص أفلوطين على أن يربط بين اعتقاده في التنجيم وبين فكرة النظام الكونيِّ الدقيق، فدلالات النجوم في نظره أمر ضروريٌّ يقتضيه التسلسل العامُّ للقوى الكونيَّة، وليست النجوم في نظره أمرًا ضروريًّا يقتضيه التسلسل العامُّ للقوى الكونيَّة، وليست النجوم إلَّا وسائط طبيعيَّة تنقل بها القوى العليا إلى العالم. ومن دون الارتباط التامِّ بين كلِّ أجزاء الكون لا يكون للتنبُّؤ أيُّ معنى. فلمَّا كانت الحركات المفردة في داخل العالم تتوقَّف دائمًا على الكلِّ الشامل، ففي وسع المرء إذا عرف ما يتمُّ في أهمِّ أجزاء العالم من حركات أن يعلم ما يناظرها من حركات أخرى، وذلك مثلما يعرف الخير في الرقص إذا رأى موضعًا معيّنًا لأجسام الراقصين، ما يرتبط بهذا الوضع من حركات خاصَّة للأيدي والأرجل([42]).
وهكذا نلاحظ هنا كيف اقترن لدى أفلوطين الاتجاه اللَّاعقلانيُّ بالنظر العقليِّ الخالص، كما اختلطت لديه، نتيجة تأثُّره ببيئته الفكريَّة الشرقيَّة، النظرة الدينيَّة السائدة بما فيها من إيمان بالسِّحر والتنجيم، بالنظرة الفلسفيَّة الخالصة بما فيها من عقلانيَّة ودقة في التحليل.
يقول أفلوطين معبِّرًا عن حالة الاتحاد بالألوهيَّة:
” كثيرًا ما أتيقَّظ لذاتي تاركًا جسمي جانبًا، وإذ أغيب عن كلِّ ما عداي، أرى في أعماق ذاتي جمالًا بلغ أقصى حدود البهاء. وعندئذٍ أكون على يقين من أنَّني أنتمي إلى مجال أرفع، فيكون فعلي هو أعلى درجات الحياة، واتَّحد بالموجود الإلهي. وحين أصل إلى هذا الفعل، أثبت عليه من فوق كل الموجودات العقلية. ولكن بعد مقامي هذا مع الموجود الإلهيّ، حين أعود من معاينة العقل إلى الفكر الواعي، أتساءل: كيف يتمُّ هذا الهبوط الحاليُّ، وكيف أمكن أن ترد النفس إلى الأجسام مادامت طبيعتها كما بدت لي، وإن كانت في جسم “([43]).
هذه الفقرة توضح، من دون أدنى شك، مدى سموِّ التعبير الصوفيِّ عند أفلوطين حيث يكشف لنا فيها عن الطبيعة الحقيقيَّة للنفس الإنسانيَّة التي إن غيَّبت الجسم استطاعت أن تتَّحد بالوجود الإلهيّ. فالوجود الإلهيُّ حاضر دائمًا، وما علينا إلَّا أن نحاول التعرُّف عليه بالتقرُّب إليه والتشبُّه به. لقد اعتبر أنَّ انطفاء الشعور بذاتيَّة الفرد وماديَّته منتهى العمليَّة الاحتكاكيَّة التي يرقى إليها الإنسان عند انبلاج الحضور الإلهيِّ فيه، مؤكّدًا حدوث هذه الرؤية الباطنيَّة على غرار بعض المتصوِّفين المتطرِّفين. لكنه لم يجعل – مثل البراهمانيين الهنود – هذا الفناء نرفانيًّا، أي لم يعتبر حصول الاتحاد ذوبانًا مطلقًا للشخص الإنسانيِّ في براهمان، بل جعله اتّحادًا بين راءٍ ومرئيٍّ يحتفظ فيه كلٌّ منهما بهويَّته لأنَّه حتى إذا ما أدَّى الجذب الصوفيَّ إلى فقدان الشعور بذاتيَّة الفرد فإنَّ هذا الأمر يؤدّي كذلك إلى فقدانه الشعور بالذاتيَّة الإلهيَّة ككائن فرد قائم بذاته ليتساوى الاثنان، فلا يذوب الواحد على حساب الآخر، بل يتذاوبان في لقاء باطن يرفع الإنسان الزمنيَّ إلى الاحتكاك بالأزل، ويبرز احتكاك الله الأزليِّ بعالم الزمان”([44]).
الهوامش والمراجع:
([1]) أنظر د.عثمان أمين: الفلسفة الرواقيَّة، مكتبة الأنجلو المصريَّة، القاهرة 1971م، ص152-153.
.
([2]) نقلًا عن: د. عثمان أمين: المرجع السابق نفسه، ص153-154.
([3]) Diogenes Laeritus, Lives of Eminent Philosophers, Eng. Trans, By D. Hicks (M. A.), London, William Heinemann, New York, G. P Putnam’s, Without Date, VII-138, P. 241-243.
([4]) D. L., VII-139-140, Eng. Trans, p. 243-245.
([5]) د. عثمان أمين: المرجع السابق نفسه، ص163.
([6]) Zeller (F.): Outlines of the History of Greek Philosophy,Eng. Trans, By L. R. Palmer, Dover Publication inc – New York, 1980, p. 216-217.
([11]) D. L., VII-147, Eng. Trans, p. 251-253.
([13]) أنظر: د. عثمان أمين: المرجع السابق نفسه، ص166-167.
([14]) D. L., Op. Cit., 149, Eng. Trans, p. 253.
([15]) د.فؤاد زكريا: تقديم ترجمته العربيَّة للتساعيَّة الرابعة لأفلوطين، الهيئة المصريَّة العامَّة للتأليف والنشر بالقاهرة 1970م، ص39.
([16]) د. أميرة حلمى مطر: الفلسفة عند اليونان، دار النهضة العربيَّة بالقاهرة 1977م ، ص437.
([17]) أنظر: غسان خالد: أفلوطين – رائد الوحدانيَّة، منشورات عويدات ببيروت 1983م، ص13.
([19]) Zeller E. : Op. Cit. , p.294.
([20]) غسان خالد: أفلوطين، ص142-143.
Plato: Timaeus (pp. 30-34), English translation by D. LEE, Penguin Books, London, 1976, pp. 42-46 ;
وكذلك كتابنا: فكرة الألوهيَّة عند أفلاطون، دار التنوير ببيروت، الطبعة الأولى 1984م، ص127-139.
([23]) Armstrong A. H.: Preface of Hnglish translation to the Enncads, the loeb Edition, 1966, p. XVIII.
([24])Rivaud A.: Histoire de la Philosophue, T. L. Paris 1948, p. 524.
([25]) عبدالرحمن بدوي: خريف الفكر اليوناني، دار النهضة المصريَّة، الطبعة الرابعة 1975م، ص119.
([27]) Plotinus: The Six Enneads, trans by S. Mackenna and B. S. Lage. Williom Benton Publisher, Encyclopaedia Britannca 1952, (2) Ch. I. Eng. Trans, by Mackenna, p. 214.
([28]) Ibid., Enn, 5 (9) Ch. 16, p. 225.
([30]) Enn. 3 (8) pp. 129 f.f.
([31]) enn. 6 (7) ch. 17, p. 330.
([32]) أفلوطين: التساعيَّة الثالثة، المقالة الثانية، نقلًا عن ترجمة أميرة حلمي مطر بكتابها ” دراسات في الفلسفة اليونانيَّة “، دار الثقافة للنشر والتوزيع بالقاهرة 1980م، ص94.
([33]) نفسه، ت – م4 – عن ترجمة أميرة حلمي مطر في الكتاب نفسه، ص94.
Plato: Republic (pp. 510-511), Eng. Trans, by H. D. Lee, The Penguin Classics, London, 1962, pp. 275-278.
وكتابنا: الألوهيَّة عند أفلاطون، ص175-179.
([35]) أنظر : Aristotle: Metaphysics, B. I. ؛ وكذلك: Ethics B. 10 ؛ وأيضًا: كتابنا: نظرية المعرفة عند أرسطو، دار المعارف المصرية، بمصر 1985م، ص122.
([36]) جون ويلسون: الحضارة المصريَّة، ترجمة: د. أحمد فخري، مكتبة النهضة المصريَّة، ص118؛ وأيضًا: برستد: فجر الضمير، ترجمة: سليم حسن، مكتبة مصر، ص53 وما بعدها؛ وكذلك: عبدالعزيز صالح، فلسفات نشأة الوجود في مصر القديمة، مقال في مجلَّة “المجلَّة”، فبراير 1959م، ص33 وما بعدها؛ وكذلك كتابه: الشرق الأدنى القديم، ط3، مكتبة الأنجلو المصريَّة، 1982م، ص88-89.
([37]) فؤاد زكريا: المرجع نفسه، ص140.
([38]) أفلوطين: التساعيَّة الرابعة، المقالة الثالثة، فقرة 15، بترجمة د. فؤاد، ص141.
([39]) Inge: Op. Cit., Vol. I. p. 153-155.
([40]) أفلوطين: التساعيَّة الرابعة، م3 – فقرة 11، ترجمة: فؤاد زكريا، ص192.
([42]) فؤاد زكريا: المرجع نفسه، ص79.
([43]) أفلوطين: التساعيَّة الرابعة، م 80، ص323 من ترجمة فؤاد زكريا.
([44]) غسان خالد: المرجع السابق نفسه، ص267-268.
*************************