دراسات وبحوث معمقة

لايبنتز “المونودلوجيا ونظرية الوميض”

لايبنتز “المونودلوجيا ونظرية الوميض”
– تشكَّلت فلسفة لايبنتز ( ١٦٤٦ – ١٧١٦ ) في أفق الفلسفة الديكارتية، وعُدَّت في ذلك شأنها شأن فلسفة سبينوزا، إحدى تشعبات الديكارتية، فالصلة بينهما تتمثل في الركائز والتصورات الأساسية، وأهمها فكرة الجوهر التي تُمثل العامل المشترك في جميع الفلسفات العقلية. وقد أثارت فكرة الجوهر اهتمام الفلاسفة المحدثين، فعارضها أصحاب التيار التجريبي، ونقضوا فكرة الجوهر، باعتبار أنه لا يعدو أن يكون مجموع صفات الشيء. وهذا ماقام به هيوم على سبيل المثال. أما ديكارت فقد جدد المفهوم القديم للجوهر، وأنتجه بصورة مختلفة عن أصله الأرسطي، فقد خلص إلى وجود جوهرين، وجاء سبينوزا فدمج الاثنين في جوهر مركب منهما هو الله.
ويبدو أن لايبنتز كان يراقب مسار الإفادة من فكرة الجوهر، وكيفية ظهورها في الفلسفة، ولم يتردد في جعلها مركز فلسفته وعمودها الفقري، واختار للجوهر مصطلحاً هو “المونادة”، وعرّفها بأنها : جوهر بسيط، ليست مادية، ولا شكل لها، ولا تتكون ولا تفنى. وما الكون إلا نسيج من المونادات المتراتبة، يبدأ بمونادات الأجسام الجامدة، فالمونادات النباتية، ثم الحيوانية، ثم البشرية، وصولاً إلى المونادة المركزية المطلقة التي تتوج سلسلة المونادات، ألا وهي الله.
– إذاً : يرى لايبنتز أن العالم نظام لامتناه ومتصل من المونادات، وكل منها تتغير حسب المبدأ الداخلي الخاص بها، والله هو المونادة الرئيسية، أي أنه الحد الأعلى في سلسلة المونادات اللامتناهية. وهو لا يختلف عن بقية المونادات إلا في كونه يمتلك من القوة أكثر مما تمتلكه أية مونادة أخرى. وهذا يقود إلى إشكالية الخلق، فالخلق لابد في هذه الحالة يكون نوعاً من الفيض أو الصدور، وهذا يتعارض مع العقيدة المـ ـــسيـ. ــحية القائلة بأن الله خلق العالم من عدم. وهنا يحاول لايبنتز تركيب نظرية جديدة في الخلق تأخذ بالاعتبار الخلق من عدم، والخلق فيضاً وصدوراً، وهي نظرية “الوميض” وفحواها أن الله والعالم من مادة واحدة، والكون باعتباره مونادات انبثق من المونادة الرئيسية التي هي الله في حالة تُماثل الوميض، وما إن خلقت إلا وانفصلت واستقلت، ولم تعد تعتمد عليه. ولا يبتعد هذا المفهوم كثيراً عن مفهوم وحدة الوجود الذي قال به سبينوزا. فالتعدد هنا والوحدة هناك، والأصل أن مونادات العالم قد ومضت عن الله المونادة الكبرى، فهي تشترك معه في نفس المادة، ولا قيمة معرفية لموضوع الوحدة والتعدد.
– تندرج فلسفة لايبنتز في صلب الفلسفة العقلية، فهو يُعرّف العقل بأنه الحقيقة المعروفة، أو العلة النهائية، أو الملكة الفكرية التي تدرك الروابط بين الحقائق. ويذهب إلى أن المعرفة الصحيحة يجب أن تتسم بصفتين : الكلية والضرورة، والغرض من المعرفة هو الوصول إلى مذهب شامل لكل العلوم محكم الترابط، برهاني، ومؤلف من حقائق كلية وضرورية، ويتضح مسعاه في إيجاد علم كلي بواسطة حساب فلسفي أو حساب كلي، يكون هو منهج البحث المناسب، لأن التجربة الحسية لايمكنها توفير الحقائق الضرورية الكلية، لأنها لا تقدم غير معارف مختلطة وجزئية، وعليه فلا يوجد غير التجربة الباطنية، فالذهن والعقل، ومبادئ المعرفة فطرية في الإنسان، أي أنها موجودة على سبيل الإمكان لا بالفعل.
ويمضي لايبنتز في بيان طبيعة الأحكام الضرورية التي هي عنده ( حقائق العقل ) مثل الرياضيات والميتافيزيقا
والمنطق والأخلاق، وتلك الحقائق تتعلق بارتباطات بين التصورات والماهيات، غير أنه ليس كل تصور خالٍ من التناقض شيئاً واقعياً بالضرورة، والماهيات تتجه نحو مزيد من الوجود وفقاً لواقعيتها وكمالها. والله يختار من بين عدد من العوالم الممكنة أحسنها، ويبرز إلى الوجود من بين مجموع الماهيات التي توجد في روحه على شكل تصورات غير متناقضة، تلك التي تكون ممكنة في خير عالم، والمبدأ الذي يعمل الله بمقتضاه هو مبدأ الأحسن أو الملائم.
وصورة هذا المبدأ في عقلنا هي مبدأ العلة الكافية، وهذا
المبدأ الأخير بالنسبة إلى مملكة الواقع له نفس الأهمية التي لمبدأ عدم التناقض بالنسبة إلى مملكة الممكن.
إنه الأساس في أحكامنا الصادرة عن العقل قبلياً على الوقائع. وهذه الأحكام لا تتصف بصفة الضرورة المطلقة، وافتراض عدم وجود أي واقعة هو أمر لا يتضمن في داخله أي تناقض. بيد أن كل واقعة هي ضرورية شرطياً أو فيزيائياً، أي أنها ضرورية في ارتباط نظام العالم، و مشروطة بعلة كافية هي السبب في وجودها. والأحكام التي تعبر عن هذا الارتباط ويمكن استنباطها بعضها من بعض وفقاً لمبدأ العلة الكافية، يسميها لايبنتز : حقائق الواقع، أو حقائق فيزيائية، أو حقائق ممكنة.
________________________
عبد الله ابراهيم، المركزية الغربية – إشكالية التكون و التمركز حول الذات، المركز الثقافي العربي، المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى